فيصل حوراني[*]

 من كانون الأول (ديسمبر) 1917 حتى أيلول (سبتمبر) 1918، استكملت القوات العسكرية البريطانية التي قادها الجنرال اللنبي احتلال أرض فلسطين وإجلاء قوات الإمبراطورية العثمانية عنها. وبهذا، بدأت في فلسطين المرحلة التي واجه فيها شعب البلد العربي الفلسطيني خطرين معاً: الاستعمار البريطاني والغزو الاستيطاني الصهيوني المدعوم من قبل هذا الاستعمار. هذه المرحلة امتدت حتى العام 1948، وانتهت بانسحاب القوات البريطانية من البلد وقيام دولة إسرائيل على ما شمل 78% من أرضه، وخضوع أو إخضاع الأجزاء الباقية، الحمَّة في الشمال وقطاع غزّة في الجنوب وضفة نهر الأردن الغربية في الشرق، لمصائر مختلفة.

هذه الدراسة تتوخى أن تعرض بالوصف والتحليل ليس كل ما جرى في فلسطين ولها بين 1918 و1948، بل، فقط، ما يتصل منه بمسألة الدولة الفلسطينية وكفاح الحركة الوطنية الفلسطينية لإنشاء هذه الدولة.

وفي العرض الذي سيكون شديد الإيجاز، تستند الدراسة إلى الدراسات التي أجراها كاتبها ونشرها في كتابه “جذور الرفض الفلسطيني 1918-1948” ومراجع هذا الكتاب، خصوصاً وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية والوثائق الأخرى ذات الصلة التي أُنشئت في تلك المرحلة. وستقدم الدراسة استخلاصات الكاتب حول الأسباب التي حالت دون تمكُّن الشعب العربي الفلسطيني من الظفر بحق تقرير المصير والاستقلال في دولة خاصة به، الاستخلاصات التي تضمنها الكتاب المذكور والأخرى التي اتضحت بعد نشره.

مـدخل:-

مثلها مثل بلاد الشام ومعظم بلاد شبه الجزيرة العربية وبلاد العرب الأخرى في شمال إفريقيا، شكلت فلسطين على مدى قرون متصلة جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وتوزعت ولاياتٌ متعددة مناطقها، دون أن تشكّل هذه المناطق كلها ولاية واحدة في أي وقت. وكان من هذه المناطق ما شكل ولاية متميزة، كما كان منها ما تبع ولايات أو متصرفيات مركزها في لبنان أو سورية أو شرق الأردن. وجدير بالتذكير أنّ حال فلسطين، من هذه الناحية، كان مماثلاً لهذا الحال في تاريخها كلّه، كما كان مماثلاً لحال بلاد كثيرة من بلاد الإمبراطوريات الإقطاعية في العالم كلّه.

فلسطين بحدودها المعاصرة نشأت على ما رسمه اتفاق سايكس–بيكو البريطاني–الفرنسي وتعديلاته القليلة اللاحقة. وهذه هي فلسطين التي أُخضعت للاحتلال البريطاني. ثم لم يلبث أن صبغت عصبة الأمم هذا الاحتلال بصبغة الانتداب الشهيرة، الصبغة التي لم تبدل طبيعة الوضع بما هو احتلال تم دون موافقة شعب البلاد.

وقبل احتلال فلسطين وانتدابها عليها، أعطت بريطانيا لقيادة الحركة الصهيونية وعدها الذي حمل اسم وعد بلفور، متعهدة فيه أن تدعم جهد هذه الحركة لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين. وفي الوقت ذاته، بفارق زمني ضئيل، أعطت بريطانيا ذاتها لوالي الحجاز شريف مكة، الحسين بن علي، وعدها بأن تدعم إقامة دولة عربية مستقلة تضم معظم أقطار شبه الجزيرة العربية المتطلعة إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، وبضمنها فلسطين. فعلت بريطانيا هذا لتشجيع الشريف حسين على المضّي في ما كان قد شرع فيه، وهو التحضير لثورة الاستقلال العربي، وأخفت عنه ما وعدت به الصهيونيين.

بعد هيمنة بريطانيا على فلسطين وشرق الأردن والعراق، وهيمنة حليفتها فرنسا على بقية بلاد الشام، التزمت الحكومات البريطانية المتعاقبة بوعد بلفور، وذهبت في التطبيق إلى أبعد مما أوحت به عباراته. أما وعدها للشريف حسين والثوار العرب الذين لعبوا دوراً مركزياً في إلحاق الهزيمة بالدولة العثمانية، فإن هذه الحكومات تجاهلته تجاهلا تاماً وسلكت في نحو يتناقض معه تناقضاً صارخاً.

من هنا، يجدر الانتباه إلى حقيقتين، كل منهما متصلة بالأخرى: الأولى أنّ فلسطين المعاصرة تشكلت مع بداية الاحتلال البريطاني ثم تقسمت مع نهايته. والثانية أنّ شعب فلسطين المعاصر بدأ تكوُّنه في ظل هذا الاحتلال واكتسب هويته الوطنية المتميزة من خلال الكفاح الوطني الذي ثابر عليه ضد الاستعمار والصهيونية معا، وأن جموع هذا الشعب الذي كان في قيد التكوين، تجزأت وتشتت نتيجة العدوان المزدوج، البريطاني والصهيوني، على أرضه وعليه، وأن استمراره في الكفاح بعد تشتيته عنى، من بين ما عناه، حرصه على التشبّث بهويته وسماته المشتركة، وعزمه على مقاومة محاولات إبادته وإلغاء وجوده الوطني.

ولعل من المفيد التذكير منذ البداية بأن شعب فلسطين لم يكفّ في أي وقت، خلال المرحلة موضوع الدراسة، عن السعي إلى الاستقلال في دولة حرّة. بدأ هذا السعي بما هو جزء من سعي الحركة العربية الواحدة التي تزعمها الشريف حسين لإنشاء الدولة العربية الكبيرة المستقلة. واستمر السعي ذاته بعد أن فشلت هذه الحركة أو أُفشلت، وبعد أن تمزقت كما تمزقت بلادها. وبهذا، صار على الحركة الوطنية الفلسطينية التي ولدت من رحم الحركة الواحدة أن تمضي وحدها. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف هذا السعي أبداً.

الحكم العسكري البريطاني لفلسطين

القوات البريطانية التي دخلت القدس في 11/12/1917 استقبلها الفلسطينيون بما هي قوات حليفة جاءت لتحرر بلاد العرب من حكم الأتراك. هذه القوات شكلت منذ دخولها القدس إدارة عسكرية سُميت الإدارة الجنوبية لمناطق العدو المحتلة. وقد وَضَعت حكومة بريطانيا على رأس هذه الإدارة مديراً عاماً يتبع القائد العام للقوات المحتلة الجنرال اللبني. ومع تقدم القوات البريطانية لاحتلال مناطق فلسطين الأخرى، شملت صلاحيات الإدارة العسكرية، هذه، كل فلسطين. وجرى هذا فيما أهل البلاد يظنون أن بريطانيا سوف تمنح وطنهم الاستقلال ليكون جزءاً من الدولة العربية الواحدة.

لكن، ما أن استتب الأمر للإدارة العسكرية، وحتى قبل استكمال احتلال البلاد، حتى أذنت الحكومة البريطانية لبعثة صهيونية يرأسها زعيمُ صهيونيّي بريطانيا حاييم وايزمن بزيارة مصر للالتقاء بالفلسطينيين المقيمين فيها، ثم بزيارة فلسطين. وكانت مصر خاضعة هي الأخرى، للاحتلال البريطاني. وقد أوصت الحكومة البريطانية إدارتها العسكرية في فلسطين بأن تفعل ما يلزم لتمكين بعثة وايزمن من أداء مهماتها. أما المهمّة فكانت هي هذه: أن تشكل البعثة الصهيونية حلقة الاتصال بين السلطات البريطانية وبين سكان فلسطين اليهود، وأن تسهل مجيء اليهود من الخارج إلى فلسطين، وأن تساعد في تعمير المستعمرات اليهودية، وبالإجمال أن تشرف على أمور اليهود(1). هذه المهمة المعلنة اقترنت بها مهمة خاصة تتصل بتنظيم الأوضاع الداخلية للفصائل الصهيونية المتعددة والتنسيق بينها(2).

في اللقاءات التي عقدتها البعثة في القاهرة، وكذلك في فلسطين، حاول وايزمن أن يبث تطمينات مضللة، هدفها صرف انتباه العرب عن الخطر الصهيوني بحجمه الحقيقي المحمول إلى البلاد في حماية القوات البريطانية. وركز وايزمن، بصورة خاصة، على الاستثمارات التي سيحملها اليهود لإعمار فلسطين لصالح سكانها العرب كما هي لصالح اليهود، ونفى أن يكون بين أغراض حركته إقامة حكومة يهودية.

نشاط هذه البعثة، مع الصلاحيات الممنوحة لها والتسهيلات التي قدّمتها الإدارة العسكرية، مثل الخطوة الأولى لمنح يهود البلاد واليهود الذين سيأتون إليها وضعاً يميزهم عن غالبية أهل البلاد، وذلك منذ كانت نسبة اليهود إلى مجموع السكان لا تتجاوز السبعة في المائة. ثم تواترت الخطوات الأخرى، وتكشّف الخطر الصهيوني المداهم المقترن بالاحتلال البريطاني، ولم تنفع التطمينات في إطفاء القلق الذي أجّجه النشاط الصهيوني، كما لم ينفع زعم البريطانيين أنهم يعاملون سكان البلاد جميعهم على قدم المساواة. وهذا هو ما أشار إليه الجنرال بولز رئيس الإدارة العسكرية في تقرير أرسله إلى حكومته حين قال: “لا جدوى من محاولة إقناع العناصر المسلمة والمسيحية من السكان بأننا نلتزم بما جاء في تصريحاتنا عند دخولنا القدس، بخصوص المحافظة على الوضع القائم، فإن الوقائع تشير إلى غير ذلك”(3). والوقائع التي أشارت إلى غير ذلك كانت كثيرة وراحت تتوالى مع مضيّ الوقت.

في 1/7/1920، حلّت محلّ الإدارة العسكرية إدارة سُميت المدنية، دون أن تتغير الطبيعة الاستعمارية للإدارة البريطانية في الحالتين. ومع هذا التغير في الاسم، حلّ هربرت صموئيل مندوباً بريطانياً سامياً. وكان هذا السياسي البريطاني قد اشتهر قبل ذلك بحماسه المفرط للأطماع الصيونية، فهو الذي رأى في وقوع فلسطين في القبضة البريطانية أن الفرصة قد سنحت لتنفيذ ما سماه أماني الشعب اليهودي القديمة. والواقع أن صموئيل لم يتستر على ما يقصده، بل أوضح مقصده بسفور تام، وهو إنشاء دولة يهودية في فلسطين. ولم يخف المندوب السامي البريطاني الأول اعتقاده “أن النفوذ البريطاني وجب عليه أن يقوم بدور مهم في تأسيس هذه الدولة”(4). وفي أول تصريحاته بعد أن تولى منصبه، قال من أصبح المسؤول عن تنفيذ السياسة البريطانية في فلسطين إنّ “سياسة حكومته التي جاء لتنفيذها هي تشجيع اليهود على أن تصبح لهم السيطرة على البلاد حتى يمكن إنشاء دولة يهودية فيها”(5).

جرى هذا فيما أهل البلاد يواجهون حدث انهيار الدولة العربية قصيرة العمر التي أعلن الثوار العرب، وبضمنهم فلسطينيون، تأسيسها في دمشق وولّوا فيصل بن الحسين ملكاً عليها. وبانهيار الدولة الواحدة، تمزقت الحركة العربية الواحدة، المطالِبة بالاستقلال، ووجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين لإنشاء حركتهم الخاصة. وقد انبنى أول ما أنشأه الفلسطينيون على تأسيس جمعيات سموها الجمعيات الإسلامية المسيحية، ليظهروا، بهذه التسمية، وحده عرب البلاد في مواجهة مشروع إقامة الوطن القومي اليهودي. الحركة التي رعتها هذه الجمعيات عقدت مؤتمرات دورية، مهمتها تجسيد مطاليب الشعب، ووضع السياسات التي تستهدف تحقيقها، وانتخاب اللجنة التنفيذية التي تنظم النشاط العام وتتولى تنفيذ السياسات التي تضعها المؤتمرات، أيّ القيادة العليا للحركة الوطنية.

تركزت المطاليب الوطنية، أول ما تركزت، ضد منح الجانب اليهودي أيّ وضع متميز، وضد إيلاء الحركة الصهيونية المسؤولية عنه. ثم لم تلبث أن اشتملت المطاليب على ما تجاوز الاعتراض السلبي، فبرزت المطالبة باستقلال فلسطين وإقامة حكم ديمقراطي برلماني فيها، بحيث يختار المواطنون حكامهم بأنفسهم بالانتخاب الحر. والواقع أن هذا المطلوب ظلّ، منذ حلول الاحتلال البريطاني حتى انتهائه، هو المطلوب الأكثر تواتراً والأشد ثباتاً، والأوسع شعبية بين المطاليب جميعها التي صاغتها المؤتمرات الفلسطينية العربية وتبنتها اللجان التنفيذية المتعاقبة.

وخلافاً لما هو شائع، لحظت مقررات المؤتمرات وبيانات اللجان التنفيذية ذات الصلة وأدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية بالإجمال دوراً ليهود البلاد في هذا الحكم، ونصت كلما اقتضى الأمر، على أن يكون لهؤلاء اليهود ما لأهل فلسطين العرب وعليهم ما عليهم. هنا، تجدر الإشارة إلى أن الذين أقرت لهم الحركة الوطنية الفلسطينية بحقوق المواطنة من اليهود هم أولئك اليهود الفلسطينيون الذين كانوا، حين وقوع الاحتلال البريطاني، متمتعين، أسوة  بأهل البلاد العرب، بالجنسية العثمانية. وكان هؤلاء يشكلون ما نِسبته سبعة بالمائة من مجموع أهل البلاد. أما اليهود الذين وفدوا إلى البلاد بوجود الاحتلال البريطاني، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية عدتهم غرباء، وكثيرا ما وُصفوا في أدبياتها بأنهم شذّاذ آفاق.

في مواجهة مطلوب الاستقلال وتأسيس  الحكومة البرلمانية، اتبعت الإدارة البريطانية، في طبعتها العسكرية وطبعتها المدنية، قبل أن يصدر صك الانتداب وبعد صدوره، السياسة التي اتسمت بالثبات على تنمية الوجود الاستيطاني اليهودي (الييشوف) وتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتسهيل انتقال أراضي العرب إلى المؤسسات اليهودية الصهيونية، كما اتسمت بالتضييق على الوجود العربي بأقسى وسائل التضييق، والقيام بكل ما يمكن القيام به لإضعافه ومنعه من الدفاع عن نفسه ضد المحاولات الجارية لإلغائه.

دعوة العرب إلى المشاركة في الحكم

أنشأ هربرت صموئيل حكومة في فلسطين يرأس الإدارات فيها بريطانيون متحمسون للصهيونية أو يهود صهيونيون. وخصّ صموئيل أعتى الصهيونيين بأكثر المناصب حساسية، خصوصاً إدارتي العدل والهجرة. وفي خطوة عدّها العرب محاولة لاستدراجهم إلى الإقرار بشرعية الاحتلال وإدارته، أصدر صموئيل قانون إنشاء مجلس استشاري يكون هو رئيسه المتمتع بصلاحيات تبيح له التحكم بما يصدر عن المجلس. وجعل القانون أعضاء المجلس عشرين، عدا رئيسه، عشرة من كبار موظفي إدارة المندوب السامي البريطانية يختارهم المندوب، وثلاثة يهود يختارهم هو أيضاً، وسبعة عرب يختارهم هو أيضاً، وأيضاً حظر القانون على هذا المجلس أن يناقش مجرد مناقشة المسألة الجوهرية، أي وجود الانتداب البريطاني ووعد بلفور والهجرة اليهودية، وأعطى للمندوب السامي ولحكومة بريطانيا حق تعطيل أي قرار يتخذه المجلس.

رفضت اللجنة التنفيذية العربية هذا المجلس. وأكد المؤتمر الفلسطيني العربي الثالث، حين انعقد في حيفا أواخر العام 1920، هذا الرفض. وكرّر المؤتمر الاحتجاج الذي سيتواتر بعد ذلك على إيلاء الجانب الصهيوني، ممثلا بالوكالة اليهودية، مسؤولية عامة عن اليهود وعن مصير البلاد. هنا يجدر التنويه بأن الموقف الفلسطيني لم يقتصر على الاحتجاج والرفض، وذلك خلافاً لما شاع وتُدوول مما روّجته المصادر الصهيونية والاستعمارية الأخرى. فالمؤتمر الثالث ذاته كرر المطالبة الفلسطينية المثابرة “بتشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي”(6). والوفد الذي شكله المؤتمر برئاسة رئيس اللجنة التنفيذية، للتفاوض في لندن مع الحكومة البريطانية، جعل أول مطاليبه في المفاوضات “إنشاء حكومة وطنية تكون مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب”(7). وكان مفهوما ومعلنا أن اليهود الفلسطينيين لهم، في تصور القيادة هذه، حق التصويت والحق في أن يشغلوا في مؤسسات الحكم الوطني نسبة من المقاعد تناسب نسبتهم إلى إجمالي المواطنين.

بعد سنة ونصف السنة من فشل مشروع المجلس الاستشاري، أقرت عصبة الأمم صك انتداب بريطانيا على فلسطين، فكرّس الصك سياسة بريطانيا القائمة على تطبيق وعد بلفور. هذا الصك ألزمت مادته الثالثة بريطانيا “بتشجيع الاستقلال المحلي على قدر ما تسمح به الظروف”(8). غموض النص جاء متعمدا، بأمل ألا يثير سخطاً شديداً لدى المعترضين على وعد بلفور، فلم يُذكر فيه صراحة من هم المعنيون بتشجيع استقلالهم، العرب أم اليهود. لكن صك الانتداب، إذ ألزم بريطانيا تنفيذ وعد بلفور وسجل نقاطا كثيرة لصالح الكيان اليهودي ولم يسجل مثلها للعرب، أظهر المقصود فعلا من وراء هذا الغموض. والواقع أن النص لم يذكر أهل البلاد بما هم شعب أو جماعة ذات كيان وطني متميز في أي من فقراته، بل اكتفى، حين اضطر إلى الإشارة إليهم، بتسميتهم فئات الأهالي الأخرى غير اليهودية، أو الطوائف الأخرى، أو ما إلى ذلك. ولم يرد في صك الانتداب أيّ ذكر لأي حقوق وطنية لهؤلاء، وما ورد فيه تحدث عن حقوق مدنية لهم أو دينية، فقط(9).

وفور إقرار صك الانتداب، صدر مرسوم ملكي بريطاني يتضمن دستوراً لفلسطين، وثبت الدستور ما جاء في الصك بشأن الوطن القومي اليهودي وتهيئة البلاد لإنشائه. وأَولى الدستور المندوب السامي صلاحيات واسعة، وأضاف إليها الصلاحيات التي أولاها للحكومة البريطانية، فثبت الوضع الذي كرس الهيمنة البريطانية على البلد، وذلك بعد أن ثبت الوضع الذي أباح لبريطانيا أن تنشئ، تحت رعايتها، وطناً قومياً يهودياً ضد رغبة أهل البلاد وبالرغم من مقاومتهم إنشاءه(10).

سمى الدستور الإدارة البريطانية حكومة فلسطين، ونص على إنشاء ما سماه مجلسا تنفيذيا يُسمى ملك بريطانيا أعضاءه، “ويحتفظ هؤلاء بمراكزهم في المجلس حسب مشيئة جلالته”(11). كما نص الدستور على إنشاء مجلس تشريعي، وأولى هذا المجلس صلاحية إصدار قرارات في الشؤون الإدارية والمعيشية، وأخضع تطبيق هذه القرارت لإدارة المندوب السامي. وحظر الدستور على المجلس التشريعي أن يصدر أي قانون يخالف صك الانتداب أو يوهن التزام بريطانيا بتطبيقه. أما أعضاء التشريعي، هذا، فجعلهم الدستور اثنين وعشرين، بالإضافة إلى المندوب السامي الذي تعينه حكومة بريطانيا والذي جعله الدستور رئيساً للمجلس. عشرة من الأعضاء الاثنين والعشرين أوجب الدستور أن يحصلوا على مقاعدهم بحكم مناصبهم، بما هم موظفون في الإدارة البريطانية المسماة حكومة فلسطين. وقد أبقى الدستور للمندوب السامي حق استبدال أي من هؤلاء بموظف آخر، إذا رأى هذا المندوب أن العضو غير قادر على حضور الجلسات. أما الأعضاء الإثنا عشر الآخرون فتنتخبهم طوائفهم، على أن يكون ثمانية منهم من المسلمين، واثنان من المسيحيين، واثنان من اليهود. وأعطى الدستور للمندوب السامي حق أن يفض المجلس أو يحلّه بمرسوم منه في أي وقت من الأوقات. وإلى هذا كله، احتفظ الدستور “لجلالة ملك بريطانيا وخلفائه من بعده، بعد استشارة المجلس الخاص، بسلطة إصدار التشريعات والقوانين التي يرونها ضرورية بين الآونة والأخرى”(12)، وذلك دون حاجة إلى أن يعلم بها التشريعي قبل إصدارها.

بهذا، كما بسواه مما يماثله، واصلت بريطانيا الختل:  عرض مشاريع لمشاركة العرب في مؤسسات حكم وتمثيل تحمل تسميات براقة، دون أن يتوفر لها أي أساس مما يمكن للعرب أن يركنوا إليه، وبهذا لم تُبق بريطانيا لهؤلاء سوى خيار الرفض، ومن ثم استغلال هذا الرفض لاتهام الفلسطينيين العرب بأنهم يأبون المشاركة في حكم أنفسهم بأنفسهم، ولتسويغ استمرار الاحتلال والمساندة المثابرة التي يوفرها للمشروع الصهيوني.

وفي غضون ذلك، وفي سعي لمواجهته، اعتمدت اللجنة التنفيذية العربية، ممثلة أهل البلاد، نهج التفاوض مع بريطانيا وسيلة لمنع تأسيس الوطن القومي اليهودي. مثّلت هذه اللجنة في واقع الأمر نخبا مدينية أفرزتها بنى اقتصادية واهنة، حملت تطلعات برجوازية في قيد التشكل، متخلفة وضعيفة ومحتاجة إلى التعاون مع بريطانيا، أو بالأصح، الاتكاء عليها من أجل تنمية ذاتها. من هنا، عرضت اللجنة التنفيذية في مفاوضاتها مع بريطانيا صيغة مساومة، بموجبها يقبل الفلسطينيون الانتداب البريطاني، على أن تُلغي بريطانيا وعد بلفور وتتخلى عن التزامها إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين.

عَرْض المساومة هذا لم يجتذب بريطانيا. فالدولة المنتدبة، صاحبة الإمبراطورية الاستعمارية التي لم تعد الشمس تغيب عنها، لم تكن في وضع تخشى معه أن تخسر الانتداب، والتزامها إنشاء دولة يهودية نبع من تقديرها لمصالحها هي في المقام الأول، وهذه كانت مصالح واسعة وأساسية لبقاء الإمبراطورية كلها.

مع هذا وفي سياقه، مع التزامها منهج التفاوض ومثابرتها على عرض المساومة، ثابرت القيادة العربية، أيضا، على المطالبة باستقلال فلسطين في دولة ذات نظام حكم برلماني، على أن يكون لبريطانيا علاقة بهذه الدولة تصون مصالحها. ولم تتراجع القيادة عن هذا المطلوب في أي ظرف من الظروف. وفي الغضون، عملت القيادة كل ما في وسعها، منذ 1920 حتى منتصف ثلاثينات القرن المنصرم، لإحباط مشاريع المجالس التنفيذية والاستشارية والتشريعية التي كررت الإدارة البريطانية عرضها. وأفلحت القيادة في تجنُّب المشاركة في هذه المجالس. وحين كان الرفض العربي لأي من هذه المجالس غير كاف وحده لإحباطه، كان الرفض الصهيوني يُكمل المهمة: يرفض العرب عرض بريطانيا لأنه يعطيهم أقلّ مما يستحقون، ويرفض الصهيونيون العرض ذاته لأنهم يطمعون في الظفر بأكثر مما يعطيهم، ولأنهم، إلى هذا، يدركون أن بريطانيا لن تتخلى عن دعمها إياهم، حتى لو رفضوا عرضها.

عرضٌ من نوع آخر رفضه الجانب العربي. فالمزايا التي خصّت الإدارة البريطانية بها الوكالة اليهودية ظلت، على الدوام، موضوع شكوى من العرب. ومع تفاقم الشكوى، عرضت الإدارة على القيادة الفلسطينية تأسيس وكالة عربية تمثل العرب لدى هذه الإدارة وتتكلم باسمهم. هذا العرض اشتمل، ككل العروض، على كثير من الختل وقليل جداً، فقط من المغريات، فرفضته القيادة، كما رفضه الجمهور. وكان للرفض مسوغات كثيرة، لعل أوجهها إباء أهل البلاد الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من سكانها أن يعاملوا معاملة الغرباء الذين وفدوا إليها دون رضاهم هم، وضآلة الصلاحيات وكذلك الإمكانيات التي ستتوفر لهذه الوكالة العربية إزاء الاحتلال، إذا قيست بما هو متوفر، فعلا، للوكالة اليهودية. ومع رفضها فكرة الوكالة، كرّرت القيادة مطلوبها الدائم: الاستقلال والحكم الوطني البرلماني الذي يُمثَّل اليهود الفلسطينيون في مؤسساته بنسبة السبعة بالمائة الشهيرة.

تطور الييشوف واشتداد السخط العربي

مع اقتراب العشرينات من نهايتها، كان أهل البلاد قد اكتشفوا أبعاد الخطر الصهيوني، خصوصاً ما ينطوي عليه من أطماع تنذر بأن يفضي إلى إلغاء وجودهم الوطني ذاته. وكان بعض النخب قد اكتشف الصلة العضوية بين الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني. وعلى الجانب الآخر، كان الييشوف قد نما ومضى قدماً في ترسيخ أقدامه كيانا متميزا يشكل القاعدة التي ستتحول إلى دولة لليهود. وبهذا وذاك، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية التي أفرزتها صيغة الجمعيات الإسلامية المسيحية قد وهنت وراحت تتفكك، لأن طريق نهجها القائم على التفاوض مع بريطانيا كان قد انسد. وبهذا كلّه، صار على الشعب الذي تتهدده أخطار ماحقة لا تهيؤه بناه القائمة لمجابهتها أن يبحث عن صيغة جديدة لحركته الوطنية وبرنامج ونهج جديدين وأساليب كفاح جديدة.

حصيلة التطور الذي جرى في السنوات العشر التي انقضت منذ بدء الاحتلال البريطاني لفلسطين، سلبيُّ هذا التطور وإيجابيّه، جسّدتها مداولات المؤتمر العربي الفلسطيني السابع الذي انعقد في القدس، في حزيران/يونيو1928، والذي كان الأخير في سلسلة المؤتمرات التي نظمتها الجمعيات الإسلامية المسيحية. هذا المؤتمر جعل أول قراراته تجديد المطالبة بتأسيس حكومة وطنية برلمانية، ودعا حكومة الانتداب “إلى التوقف عن سن أي  قوانين بانتظار أن تتشكل هذه الحكومة”(13). وقد عكست قرارات المؤتمر ومداولاته نفاد صبر الجمهور. وجاء في برقية وجهها المؤتمر إلى عصبة الأمم “أن سكان فلسطين لا يطيقون ولن يطيقوا أن يصبروا على نظام الحكم الاستعماري المطلق، وأنهم يطلبون، بكل ما لهم من حقوق، تأسيس هيئة تمثيلية تضع دستوراً لفلسطين يضمن تأسيس حكومة برلمانية”(14). وفي المذكرة التي وجهتها اللجنة التنفيذية المنتخبة من المؤتمر، وهي التي ستصبح آخر لجان تلك المرحلة، جرى التأكيد، مجدداً، على أن الحكم البرلماني هو “الحل الوحيد للمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني عرب فلسطين منها”(15).

وفي إجابته على هذه المطاليب، استبعد وزير المستعمرات البريطاني تأسيس الحكومة التي يطالب أهل البلاد بتأسيسها. وقال الوزير، بصريح العبارة، “إنّ واجب حكومته الرئيسي ينطلق من تسهيل الاستيطان اليهودي في تلك البلاد”(16).

هبّة البراق، في تشرين الثاني/نوفمبر 1929، مثلت نقطة الانتقال البارزة من مرحلة في الكفاح الوطني الفلسطيني إلى مرحلة أخرى انتهى فيها التعويل على المفاوضات وحدها، وانفتح الباب أمام التوجه إلى الثورة المسلحة الشاملة. وفي فترة الانتقال بين المرحلتين، تغلبت القناعة التي عبرت عنها رسالة وجهتها اللجنة التنفيذية إلى لجنة التحقيق في أحداث الهبّة، حين جزمت أنه “لا يستقر صلح ولا يكون سلام في فلسطين ما لم يُلغ وعد بلفور وتوضع العلاقات العربية – البريطانية على أساس احترام مصالح العرب أصحاب البلاد الحقيقيين وإعادة حريتهم لهم”(17).

لجنة التحقيق البريطانية التي اشتهرت باسم لجنة شو لاحظت هي ذاتها أن شعب فلسطين متحد في مطالبته بحكومة وطنية، وأن اتحاده هذا سيشتد “حين تقع أي قلقلة كبيرة تشتمل مسائل قومية كبيرة”(18). وما انتهت لجنة شو إليه صاغته في تقرير رفعته إلى حكومتها البريطانية. فأسخط التقرير الجانب الصهيوني الذي أثار موجة احتجاج شديدة. الاحتجاج الصهيوني المقترن بتوافق المصالح البريطانية الصهيونية حمل رئيس حكومة بريطانيا ذاته على تقديم تطمينات للصهيونيين، فأعلن هذا الرئيس أن حكومته “ستستمر في إدارة شؤون فلسطين بمقتضى صك الانتداب”(19).

آخر وفود التفاوض الفلسطيني مع بريطانيا أوجز مطاليب الشعب الفلسطيني في اثنين: الأول هو توقيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين وانتقال أراضي العرب إلى أيدي اليهود؛ والثاني هو تأليف حكومة ديمقراطية يتمثل فيها عناصر سكان فلسطين جميعهم بنسبة كل منهم إلى مجموع السكان، الأمر الذي رفضته بريطانيا. وقد عاد الوفد خائباً، وهو الذي كان الرابع في سلسلة الوفود الفلسطينية للتفاوض. وقال موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية ورئيس الوفد، عاكساً الخيبة المتكررة، إن الحكومة البريطانية “بينت بصراحة عدم استعدادها لقبول تأسيس حكومة ديمقراطية في فلسطين”(20).

مع تكرر الرفض البريطاني والصهيوني، ومع اشتداد السخط الشعبي العربي على نهج القيادة القائم على التساوم عبر مفاوضات لا تجلب أي منفعة، اتسع انحياز النخب إلى المزاج الشعبي المتحمس للكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني، واشتد الدفع باتجاه الجهر بأن بريطانيا هي أصل الداء وأسّ البلاء. وإلى هذه الفترة تنتسب المحاولات الأولى التي قادها الشيخ عزّ الدين القسام، حتى دون موافقة القيادة الوطنية، لتأسيس الجماعة المسلحة الأولى المنظمة وتثقيفها على أساس أن الاحتلال البريطاني هو حامل المشروع الصهيوني وحاميه ومسهل تنفيذه، فهو، إذاً، العدو الذي لا بد من توجيه حربة المقاومة ضدّه، وليس مساومته.

في مواجهة اشتداد السخط العربي على البريطانيين ووهن موقف متبعي نهج المساومة وعجز هؤلاء عن لجم التوجه الشعبي نحو التشدد، أصدرت حكومة بريطانيا ما اشتهر باسم الكتاب الأبيض للعام 1930. ومع أن إصدار هذا الكتاب أريد له أن يمتص سخط العرب، فإن الحكومة البريطانية أكدت فيه، بما لا يدع أي مجال لأي التباس في الفهم، ثوابت السياسة البريطانية جميعها إزاء فلسطين، كما تجسدت في وعد بلفور وصك الانتداب.أما محاولة امتصاص السخط فعكستها، كالعادة، عبارات مخاتلة. وفي ما وصفه الكتاب بأنه سير في مسألة منح فلسطين درجة من الحكم الذاتي، تكرر العرض القديم، بطبعة أريد لها أن تكون محسنة، دون تحسّن في الجوهر: تشكيل مجلس تشريعي، ينطلق عموماً من الأسس ذاتها التي انطلق منها العرض السابق الذي سبق أن رفضه العرب منذ العام 1922. وجديد العرض المكرر تمثل في تحذير العرب من محاولة إحباط هذا العرض كما أحبطوا سابقه، وتهديدهم بأن حكومة جلالته ستتخذ ضدهم التدابير اللازمة جميعها لقمع محاولتهم. وقد دعت حكومة جلالته العرب “إلى الاعتراف بحقائق الحالة”(21)، أي حقائق الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال ونمو الييشوف.

وقتها، كان جمهور البلاد ونخبه قد شاهدوا بأمهات الأعين إلى أي حدّ نما الييشوف وكيف تسلّح وتشكلت له قوى مقاتلة، ولم يكونوا بحاجة إلى من يحذرهم من تجاهل هذا الواقع. والواقع أن كثيرين من قادة الجمهور مالوا إلى الترحيب بالكتاب الأبيض هذا، لأنهم، كما وصفهم واحد من أبرزهم، ظنوا ” أنه قد يكون بادرة لعودة الإنجليز إلى شيء من الحق، وقد تكون فيه ضمانة لكيان العرب الذي أخذ تيار الهجرة [اليهودية إلى البلاد] وبيوع الأراضي يهدّده بالخطر القاضي”(22).

اللجنة التنفيذية قدّمت ردها المفصل على الكتاب الأبيض في أواخر العام 1930. وفي معرض تأكيد حق أهل البلاد في تأسيس حكومة وطنية، وفي تناولها بنود الكتاب الأبيض الخاصة بالدستور، لم تبد اللجنة رفضاً للمجلس التشريعي، غير أنها لم تجهر بقبولها إيّاه. وقد اكتفت اللجنة بوصف العرض المتجدد بأنه ناقص لا يوافق رغبات الأمة وأمانيها. ويقول شاهد عيان آخر، هو أحمد الشقيري، إن الكتاب الأبيض مثّل خطوة على الطريق، حين نصّ على تأسيس مجلس تشريعي، ووضع قيوداً على الهجرة وبيع الأراضي. ويسوغ هذا الشاهد الميل إلى قبول الكتاب الأبيض بواقع الحال: “كنّا بحاجة إلى وقف النمو الصهيوني ريثما نستطيع أن نجد لنا سبيلاً للخلاص”(23).

في الوقت ذاته، بالتناقض مع هذا الميل إلى أخذ الواقع بعين الاعتبار، كانت القيادة تواجه تصاعد ضغوط الرأي العام الشعبي والأوساط الراديكالية الوطنية الدافعة نحو التشدّد. ولم يكن هذا مما يلائم فهم القيادة لمصالح الفئات التي جاءت منها. من هنا، يرد القول بأن ميل القيادة إلى قبول الكتاب الأبيض حفزت عليه رغبتها في التفلّت من هذه الضغوط. بهذا الصدد، يقول إميل الغوري القائد المطلع على أدق التفاصيل إن العرب لم يرفضوا الكتاب الأبيض هذا، بالرغم من أن بريطانيا توقعت أن يرفضوه. ويشهد الغوري، كما شهد سواه، بأن أبيض 1930 لم يأت بالنسبة للعرب بأي جديد، ولم يكن تنفيذ ما عرضه هذا الكتاب ليؤدي إلى تعديل الوضع، ما دام قد بنى على وجود الانتداب ووعد بلفور، كليهما. وفي تفسيره ميل القيادة إلى القبول، يقول الشاهد المتميز، بوضوح ما بعده وضوح، إن أعضاء القيادة شاءوا “أن يُظهروا حسن نيّتهم وأن يمدوا أيديهم للتعاون مع الحكومة البريطانية”(24).

رفض الكتاب الأبيض جاء من الجانب الصهيوني فحمل الحكومة البريطانية إلى التراجع عنه. وبهذا، غاضت الآمال التي بنتها القيادة الفلسطينية على ما رأته في الكتاب من إشارات إيجابية. وواصلت الحركة الوطنية، التي كانت تشهد آنذاك بوادر تبدلات كبيرة في بنيتها وسياستها، الدعوة المثابرة إلى تأسيس الحكم الوطني البرلماني. ومع اطراد التبدل، انتهى الأمر في العام 1935 إلى إعلان اللجنة التنفيذية إصرارها على المطاليب التي صاغتها المؤتمرات العربية الفلسطينية: “الاستقلال ضمن الوحدة العربية، وتأسيس حكومة نيابية، ورفض الصهيونية رفضاً باتاً، وكذلك رفض الهجرة اليهودية وانتقال الأراضي”، كما ورد في الرسالة التي وجهتها اللجنة التنفيذية في ذلك العام إلى لجنة الانتدابات في عصبة الأمم(25).

ومع اطراد الميل إلى التشدد ومعاداة بريطانيا وليس الصهيونية وحدها، تخطت الحركة الوطنية الفلسطينية متعددة القوى والمواقف والآراء صيغة الجمعيات الإسلامية المسيحية والمؤتمرات التي تنظمها هذه الجمعيات. وأنشأت الحركة أحزابها السبعة. وبدأت هذه الأحزاب التداول لإيجاد صيغة جديدة تجمعها في قيادة موحدة تصوغ السياسة الوطنية العامة وتديرها. وكانت هذه، بالطبع، صيغة أرقى من السابقة وأكثر تعبيرا عن التقدم في تقوية السمات المشتركة لشعب كان ما يزال في قيد التكوين. ومع بروز الدعوة إلى الثورة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني والييشوف معاً، وفي محاولة لوقف التطور في هذا الاتجاه، قدّم المندوب السامي، في الأيام الأخيرة من العام 1935، عرضاً جديداً لتأسيس مجلس تشريعي. واشتمل العرض أن يضم المجلس ثمانية وعشرين عضواً، منهم خمسة موظفين في الإدارة التي يرأسها المندوب السامي، وأحد عشر عضوا معينا من غير الموظفين (ثلاثة مسلمين بينهم بدوي ومسيحيان وتاجران وأربعة يهود)، واثنا عشر عضوا ينتخبهم الجمهور (سبعة مسلمين ومسيحيان وثلاثة يهود)، على أن يكون رئيس المجلس غير فلسطيني.

هذا العرض قيّد عمل المجلس المقترح بالقيود ذاتها التي قيدت المجالس المقترحة سابقاً، خصوصاً حظره أن يتناول المجلس، ولو بالمناقشة، أي موضوع يتعارض مع التزام بريطانيا صك الانتداب، ورهنه نفاذ قرارات المجلس بموافقة المندوب السامي عليها، وإيلاءه هذا المندوب حق إصدار القوانين التي يرفض المجلس إقرارها. وإلى هذه القيود كلها، أولى العرض لرئيس المجلس، الذي هو غير فلسطيني، حق منع مناقشة أي مشروع قرار “إذا رأى هذا الرئيس أنه يشكك بصحة الانتداب أو يمس كرامة الحاكم والحكومة البريطانيين أو كرامة الدول المجاورة أو أي دولة أخرى في العالم مرتبطة بعلاقات ودية مع بريطانيا”(26).

إزاء هذا العرض، اجتمع قادة الأحزاب الفلسطينية ووجهوا إلى المندوب السامي رداً يكرر الموقف من العرض السابق، عدم الرفض وعدم الجهر بالقبول، ويحتال لتطوير العرض بالمطالبة بتأسيس حكم برلماني، طبقا لميثاق عصبة الأمم والمادة الثانية من صك الانتداب الذي صاغته العصبة. غير أن بريطانيا رفضت هذا المطلوب، وتشبّثت بعرضها دون تعديل. الرفض الحاسم للعرض جاء، كما في كل مرة مماثلة، من الجانب الصهيوني. كان الييشوف قد نما نمواً كبيراً بعد تسلم النازيين السلطة في ألمانيا. وكان المؤتمر الصهيوني العام التاسع قد انعقد في سويسرا، قبل تقديم العرض بوقت قصير، وأعاد تأكيد الرفض الصهيوني للمجلس التشريعي المشترك في فلسطين. فاستندت القيادة الصهيونية إلى قرار المؤتمر ورفضت العرض المكرر. ومع نمو الييشوف واتساع التأييد العالمي لقيام دولة في فلسطين تؤوي اليهود، نمت واتسعت مطامع الصهيونيين، ولم يعد هؤلاء في وارد القبول بما هو أقلّ من دولة خاصة باليهود، دون مشاركة العرب. وقد عبّر عن هذه المطامع ما ورد في حيثيات رفض المؤتمر الصهيوني عرض المجلس التشريعي، حين رأى في هذا المجلس “مؤسّسة تُعرِّض للخطر نموّ الوطن القومي اليهودي”(27).

الثورة المسلحة – التقسيم

تواترت وقائع مقاومة فلسطينية مسلّحة ضد الاحتلال البريطاني والاستيطان الصهيوني منذ تكشفت أهدافهما والصلة بينهما، أي منذ أوائل العشرينات. تمثلت هذه المقاومة في هجمات متفرقة وأُخرى مبتورة وهبّات متقطعة تحدث لسبب أو لآخر من الأسباب الناجمة عن وجود الاحتلال ونمو الييشوف. وقد غالى بعضهم في التمجيد، فأطلق اسم ثورة على بعض هذه الأحداث. أما ما يستحق اسم ثورة مسلحة أو الاسم الذي أطلق عليه وهو الثورة الوطنية الكبرى، فإنه هذا الذي بدأت وقائعه في العام 1936 بالإضراب الكبير ثم استمر حتى أواسط 1939.

ثورة فلسطين الوطنية جاءت متأخرة سنوات كثيرة عن ثورات الأقطار العربية الأخرى القريبة منها. فمصر ثارت ضد الاحتلال البريطاني ثورتها الكبرى في العام 1919، والعراق في العام 1920، وسورية في العام 1925. تأخُّر الثورة الفلسطينية المسلحة هذا له أسبابه التي ليس من مهمة هذه الدراسة تقصّيها. أما ما يجدر قوله عن هذا التأخر، مما له صلة بموضوع الدراسة، فهو تأثيره في تفويت فرصة ممارسة ضغط جدّي على بريطانيا يدعم المطاليب التي رفعتها القيادة الفلسطينية عبر المفاوضات.

إلى هذا، ومع التنويه بكل ما تستحقه هذه الثورة من تمجيد، أدى اللجوء المتأخر إلى السلاح إلى تأبيد الانفصال بين أهل البلاد وحركتهم الوطنية، من جهة، وبين الييشوف المدعوم من بريطانيا وقيادته الصهيونية، من جهة أخرى. هذا الانفصال العام تكرس، كما سبق، في وقت صار الييشوف دولة لا ينقصها إلا الإعلان عن قيامها، وصار الجانب العربي ضعيفا في نحو يصعب معه وقف هذا المسار، بكفاح مسلح أو بغيره. وما تجدر الإشارة إليه هو أن الييشوف نما، ليس لأن الشعب الفلسطيني قصر في مواجهة نموّه، وليس لأن القيادة الفلسطينية اتبعت سياسات خاطئة، بل لأن حجوم القوى، المحلية والإقليمية والعالمية التي نمّت الييشوف كانت أكبر من أن يتغلب عليها شعب في قيد التكوين خارج من ظلام القرون العثمانية لتوّه، ومفصول، لتوّه أيضا، عن محيطه العربي الذي بدا عاجزا عن تقديم العون اللازم له.

بكلمات أخرى: في العام 1936، حزمت القيادة الفلسطينية أمرها، فأجازت انطلاق الثورة المسلحة، أو لنقل أنها كفّت على لجم التوق الشعبي للجوء إلى السلاح، ثم لم تلبث أن تولت تنظيم العمل المسلح.

واجهت بريطانيا كل مقاومة فلسطينية مسلّحة بعنف شديد ندر أن لجأت إلى مثيله في أي من مستعمراتها الأخرى. وحين عجز القمع البريطاني عن لجم انطلاقة الثورة الكبرى، استخدمت بريطانيا خبرتها الطويلة في المخاتلة، وجنّدت كل ما لها من نفوذ في بلدان المحيط العربي، من مملكة عبد العزيز بن سعود في الجنوب، إلى إمارة عبد الله بن الحسين في الشرق، إلى مملكة فيصل بن الحسين في العراق، إلى غيرها، فوجه حكام هذه البلدان نداءهم الشهير لعرب فلسطين داعين إلى وقف الثورة والركون إلى حسن نوايا بريطانيا وإفساح المجال للتفاوض معها. وقد أجملت حكومة العراق دوافع هذا النداء في حزمتين: “روابط الأخوّة مع عرب فلسطين من ناحية، وعلاقات الصداقة والتحالف مع الحكومة البريطانية من ناحية أخرى”(28). أما أمير شرق الأردن فكان الأوضح في الإفصاح عن الدوافع التي أملت موقفه، وذلك حين ذكر هذا الأمير هذه الدوافع في رسالة وجهها إلى المندوب السامي البريطاني وقال فيها إن موقفه ينطلق من ثلاث نقاط: الحرص على “توفيقكم [أنتم البريطانيين]، وسلامة العرب، وعدم حرمان اليهود من مكتسبهم”(29). وقد وجه الأمير للمندوب السامي نصيحة ثمينة حين حثه على “اتقاء ثورة النفوس بما يحملها على القناعة بأنها تعامل بالعدل والمساواة”(30)، أي بما يخلق القناعة، وليس بما يحقق المطلوب. النداء العربي لقي استجابة فورية من القيادة الفلسطينية، هي التي سيقت أغلبيتها إلى تأييد الثورة المسلحة سوقاً لا يتفق لا مع مصالحها ولا مع رغبتها ولا مع فهمها لطبيعة الصراع على فلسطين ومتطلباته.

المراهنة التي أوقفت الثورة أثمرت شيئا واحداً: تشكيل لجنة تحقيق بريطانية، هي هذه التي اشتهرت باسم لجنة بيل. وقائع تحقيقات هذه اللجنة، التحقيقات الطويلة في واقع الأمر، والتقرير الذي أجمل النتائج والتوصيات التي رفعتها اللجنة إلى الحكومة البريطانية، هذا كله منشور ومتداول في مراجع عديدة، بالعربية والعبرية والإنجليزية وبغيرها، وليس من مهمة هذه الدراسة تقصّي تفاصيله. ما يهم، هنا، هو النتيجة التي انتهت إليها اللجنة، حين استنتجت أن من المتعذر على بريطانيا أن تفي بالتزامها تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين مع التزامها الآخر أن لا تفعل ما يضّر بالمصالح المدنية والدينية للعرب الذين تسميهم الطوائف غير اليهودية. لجنة بيل وضعت يدها على الحقيقة التي طالما نبه العرب إليها: التناقض بين هذين الالتزامين، حتى لو لم يتطلع العرب إلى ما هو أبعد من الحقوق المدنية والدينية، هم الذين تطلعوا في الواقع إلى الاستقلال في ظل حكم وطني، أكثر مما تطلعوا إلى أي شيء آخر.

استنتاج لجنة بيل لم يحمل اللجنة الملكية إلى التوصية بالتخلي عن وعد بلفور أو طيّ مسألة تأسيس الوضع القومي اليهودي. فتوصية كهذه لم يكن ممكنا أن تصدر عن لجنة بريطانية حكومية، كما لم يكن واقع الحال المتجسد على الأرض يجعل صدورها ممكناً. ما أوصت به اللجنة، مما يتصل بالموضوع الذي نتناوله، هو تقسيم فلسطين إلى ثلاث كيانات: دولة يهودية، ودولة عربية، ومنطقة تبقى تحت سلطة بريطانيا تشمل مدينة القدس ومحيطها أو ما يطابق ما أطلقت إسرائيل عليه بعد العام 1967 اسم القدس الكبرى.

في رؤية كاتب هذه السطور للمسألة، لم تنبع التوصية بالتقسيم من فراغ، بل أملتها ثلاث حقائق لم يكن بوسع أحد تجاهلها: الأولى، والأهم، جسدها اعتزام بريطانيا مواصلة هيمنتها على البلاد بالمقدار الذي تسمح به الظروف. والثانية، جسدها نمو الييشوف، خصوصاً في ظل صعود النازية في أوروبا، والتأييد والدعم اللذين حظي بهما المشروع الصهيوني من جهات عدة، قوية ونافذة، في العالم. والثالثة جسدها عجز الطرفين البريطاني والصهيوني عن إلغاء الوجود العربي في البلاد، حتى مع قدرتهما على إضعافه، وتشبّث أهل البلاد بالاستقلال في وطنهم. وبالإجمال: فكرة التقسيم “أطلقها، في واقع الأمر، واقع الحال المتحقق في البلاد في ضوء منجزات المشروع الصهيوني والسياسة البريطانية المنحازة له، وفي ضوء حاجة بريطانيا لتهدئة الأحوال في فلسطين على نحو يضمن استمرار أكبر قدر من نفوذها وتوفير أكبر قدر من مصالحها”(31).

من هنا، ومع تهاونها في تبني توصيات لجنة بيل الأخرى أو تنفيذها، سارعت حكومة بريطانيا إلى إعلان تبنيها التوصية بالتقسيم. وإذا لم يتم التقسيم في ذلك الوقت، فلأن الظروف المحلية والمحيطة والدولية لم تكن قد نضجت لتنفيذه. بين هذه الظروف، يشار هنا، إلى الرفض الفلسطيني العربي والرفض اليهودي الصهيوني للتقسيم.

في العام 1936، رفض الصهيونيون حيثيات الاقتراح بالتقسيم كما أوصت به لجنة بيل. أما الفلسطينيون العرب فرفضوا فكرة التقسيم من أساسها، رفضوا الاقتراح جملة وتفصيلاً، ولقي رفضهم تأييداً حاسماً في دنيا العرب. ولم يكتف الفلسطينيون بالرفض وحده، بل سارعوا إلى استئناف الثورة المسلحة بزخم أشد، ضد التقسيم هذه المرة. وكانت الثورة الفلسطينية المسلحة في إبان زخمها حين تواترت الظروف التي دفعت باتجاه الحرب العالمية الثانية، ما بلبل رد الفعل البريطاني فوزعه بين ممارسة أشد القمع ضد الثوار وشعبهم وبين العمل لتهدئة الثائرين حتى تتفرغ بريطانيا لمواجهة التطورات العالمية المحدقة بها.

حيثيات الرفض العربي للتقسيم كثيرة، غير أن في الإمكان إدراجها في حزمتين: الأولى تنطلق من التصميم على الحيلولة دون تمتع اليهود بكيان خاص من أي نوع أو درجة في فلسطين، وبضمن ذلك رفض الإقرار بأي شرعية لوجود الييشوف ناهيك بالموافقة على تحوله إلى دولة. والثانية تنطلق من التطلع الثابت إلى الاستقلال أسوة بثبات تطلع الأقطار العربية الأخرى إليه واقترابها في ذلك الوقت من تحقيقه، العراق الذي اعترفت بريطانيا باستقلاله، وسورية التي عقدت في ذلك العام اتفاقها الشهير مع فرنسا تمهيداً للظفر بالاستقلال الكامل، ومصر التي عقدت اتفاقية 1936 مع بريطانيا وظفرت بانحسار الوجود البريطاني العسكري عن معظم أراضيها وحصره في منطقة قناة السويس.

وحين اتضح لبريطانيا أن لا مجال لمواجهة صعود النازية ومطامعها بغير الحرب التي سيترتب على بريطانيا هذه أن تنهمك فيها بكليتها، صارت هذه البريطانيا بحاجة ماسة إلى تهدئة الأوضاع في مستعمراتها كلها، خصوصاً فلسطين التي هي مركز القلب بالنسبة للعالم العربي ومركز تأثير مهم بالنسبة للعالم الإسلامي كلّه. وبدافع تلبية هذه الحاجة، شكلت بريطانيا لجنة جديدة ترأسها سير جون وودهيد أوكلت إليها مهمة إعادة النظر في تفاصيل اقتراح التقسيم، خصوصاً المناطق التي أوصى الاقتراح بأن تظل تحت سلطة بريطانيا. وأوصت الحكومة البريطانية اللجنة الجديدة “بأن تأخذ في الاعتبار ما تشير به الطوائف في فلسطين وشرق الأردن”(32).

اللجنة العربية العليا، هذه التي شكلتها الأحزاب الفلسطينية قبيل اندلاع الثورة المسلحة لتحل محل اللجنة التنفيذية قائدةً للحركة الوطنية، رفضت التعامل مع لجنة وودهيد، لأن عمل اللجنة البريطانية، باستناده إلى فكرة التقسيم، “مضرٌّ بالوطن والحياة العربية”، وقررت “مقاطعتها وعدم الاتصال بها”، ودعت “كلّ عربي في فلسطين وخارجها إلى ذلك”(33). ولم يشذ أي فلسطيني عن قرار المقاطعة، بمن في ذلك الأعضاء الذين يمثلون المعارضة ضد الأغلبية داخل اللجنة التنفيذية.

ومع أن لجنة وودهيد رأت أن تخطيط حدود الدولتين المقترحتين لا يراعي توزيع السكان في البلاد المقترح تقسيمها ولا يراعي الاعتبارات العسكرية والاقتصادية، ودعت إلى تعديل هذه الحدود، فإن هذا لم يطفئ الرفض العربي للجنة وللتقسيم، كما أنه لم يطفئ الاعتراض اليهودي الصهيوني على حيثيات هذا التقسيم. وبالاتكاء على ما انتهت إليه لجنة وودهيد، أعلنت الحكومة البريطانية، في 9/11/1938، أن المصاعب السياسية والإدارية والمالية، التي ينطوي عليها اقتراح إنشاء دولة عربية مستقلة وأخرى يهودية مستقلة، هي عظيمة بدرجة تجعل هذا الحل غير عملي. وجاء قرار الحكومة أن “تواصل حكومة جلالته الاضطلاع بمسؤولياتها في حكم فلسطين بأجمعها”(34). ومع إعلانها طيّ اقتراح التقسيم، وبسبب استمرار حاجتها إلى إطفاء التوتر، وجهت بريطانيا دعوة فورية إلى ممثلين عرب عن فلسطين والدول المجاورة، وممثلين يهود عن الوكالة اليهودية، للالتقاء معها في لندن والتداول حول السياسة الممكنة.

ملابسات انعقاد مؤتمر لندن وتفصيلاته، بما فيها التفصيلات ذات الصلة بالموضوع الذي نتصدى هنا لعرضه، أطول وأعقد من أن يمكن استيفاؤها حين يتوجب الإيجاز. من هنا، سيقتصر الحديث على الأهم من النقاط الهامة المتصلة بالمؤتمر. فهذا المؤتمر شهد أول مفاوضات غير مباشرة، معلنٍ عنها، بين عرب بينهم ممثلو الشعب الفلسطيني وبين ممثلي الوكالة اليهودية التي كانت الذراع الفعال للصهيونية من أجل التوسع داخل فلسطين. رعت بريطانيا هذا المؤتمر ولعبت فيه دوراً مزدوجاً: أدارت المفاوضات بين الجانبين، من جهة، وتفاوضت مع كل منهما على انفراد من جهة أخرى. في المستوى الأول، عجزت بريطانيا عن إيصال الجانبين المتعاديين، الفلسطيني العربي، واليهودي الصهيوني، إلى تفاهم مشترك حول أي نقطة من النقاط التي تناولتها المفاوضات. وانتهى المؤتمر على هذا المستوى إلى فشل لم يمكن تداركه بعد ذلك أبداً. وعلى المستوى الثاني، فشلت بريطانيا في إقناع الفلسطينيين العرب بحسن نواياها تجاههم، وكان فشلها في هذا المجال ذريعاً، تماماً كما فشلت في حمل الجانب الصهيوني إلى تقليص مطامعه.

صحيح أن بريطانيا حظيت بالتفاهم مع بعض مندوبي الدول العربية على نقاط تخصّ مستقبل فلسطين، لكن هذا التفاهم تم مع أطراف هي، في الأساس، من الأطراف المعدودة تابعة لبريطانيا. ولهذا السبب، وكذلك لغيره، بدا هذا التفاهم أقرب إلى التواطؤ. ولم يستطع تفاهم بريطانيا مع عربها أن يؤثر على الموقف الفلسطيني، إلا في أدنى الحدود. وحتى في هذه الحدود الدنيا، لم يتأثر بموقف عرب بريطانيا سوى قلّة من الفلسطينيين، قلّة لم تستطع تبديل القرار.

لقد عرض الجانب البريطاني على الجانب العربي أن تقوم في فلسطين دولة وصفها بأنها من طبيعة اتحادية، أي دولة تضم كيانين متمايزين عربياً ويهودياً. فلما اعترض العرب على صفة اتحادية هذه، فإنّ بريطانيا أبدت استعدادها للتداول بشأن هذا الاعتراض. غير أن هذا لم يلغ افتقار العرض البريطاني إلى ما يلبي المطاليب الفلسطينية العربية التي لا تصير الدولة دولة دون تلبيتها. ومما أوهن قيمة العرض اشتراط بريطانيا أن تسبق إقامة هذه الدولة فترة انتقالية غير محددة المدة يكون حكم البلاد خلالها في يد بريطانيا وتجري بعدها إقامة الدولة الموعودة بالتدريج. وفي محاولة لتخفيف الأثر الضار لرفضها تحديد مدة الفترة الانتقالية، أظهرت الحكومة البريطانية أنها “تأمل أن يتسنى الفراغ من هذه المراحل كلها في عشر سنوات”(35). وإلى هذا، قدّمت الحكومة وعوداً بالتضييق على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ثم بوقفها بعد خمس سنوات، واتخاذ ترتيبات بصدد انتقال الأراضي إلى أيدي اليهود(36).

هذه الوعود أغوت وفود معظم الدول العربية المشاركة في المؤتمر، وضغطت هذه الوفود كي تغوي الوفد الفلسطيني بقبولها، وأفلحت، كما مرّ أعلاه، في إغواء بعض أعضائه. سبب الغواية نسبه واحد من هؤلاء، هو عوني عبد الهادي، إلى اعتقاده “أن مهمة السياسي هي أن يعرف ما هو ممكن وما هو غير ممكن، وأن السير على سياسة خذ وطالب أفضل من التعنّت غير المجدي”(37). إزاء هذا، طلب الوفد الفلسطيني، مع مطاليب أخرى، أن تحدد بريطانيا مدّة فترة الانتقال. غير أن بريطانيا أبت أن تفعل هذا، وقالت إن مدة الفترة الانتقالية ستتحدد في ضوء نجاح التجربة التي ترمي إلى تحقيق تعاون بين العرب واليهود. فانضاف، بهذا الرفض البريطاني وتعليله، سبب جديد كي يرفض الوفد الفلسطيني العرض المخاتل. وقال متحدث باسم هذا الوفد إن العرض “يعطي اليهود الفرصة لإقامة العراقيل في طريق فترة الانتقال بشكل يؤخر إنشاء الدولة المستقلة”(38).

فشِل مؤتمر لندن. غير أن بريطانيا واصلت حثّ العواصم العربية، خصوصاً القاهرة، على العمل لتليين الموقف الفلسطيني. ولتسهيل ذلك، قدّمت بريطانيا تعديلات على بنود عرضها لم تمس جوهر العرض. فأرسلت القاهرة التعديلات إلى الحاج أمين الحسيني الذي لم يكتف بها. وهكذا، فشلت، كذلك، محاولة الحصول على الموافقة الفلسطينية عبر الضغوط العربية.

ولأن بريطانيا كانت تتعجل تهدئة التوتر، وعمل ما يلزم كي لا يتعاون العرب تحت ضغط الحالة في فلسطين مع دول المحور في الحرب التي صارت آنذاك على الأبواب، فقد أخذت حكومة بريطانيا على عاتقها تقديم مبادرة لتسوية توخت أن تبدو شاملة، وتوقعت أن تسترضي العرب، دون أن تلزمها هي أي التزام أكثر مما تريد. المبادرة، هذه، جسّدها ما صار أشهر كتب بريطانيا البيضاء مما يتصل بالشأن الفلسطيني، وهو الكتاب الأبيض للعام 1939، هذا الذي أصدرته حكومة بريطانيا في 17 أيار (مايو) من ذلك العام، والذي حمل عنوان: بيان خطة سياسية خاصة بفلسطين.

في جوهره، اشتمل الكتاب الأبيض العرض الذي قدّمته بريطانيا في مؤتمر لندن والتعديلات التي أدخلتها عليه بعد ارفضاض المؤتمر، وبضمنها، بل من أهمها، الموافقة على تحديد مدّة الفترة الانتقالية بعشر سنوات، وتنحية صفة الاتحادية عند ذكر الدولة الفلسطينية المقترحة، دون التزام واضح بأنها لن تكون اتحادية. وهكذا، نص الكتاب الأبيض على اعتزام بريطانيا العمل في المستقبل لتشكيل حكومة فلسطينية مستقلة ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة تصون مصالح بريطانيا التجارية والحربية، على أن يساهم العرب واليهود في هذه الحكومة في نحو يضمن المصالح الأساسية لكل من الطرفين. هذه الحكومة نص الكتاب الأبيض على أن يتم تشكيلها بالتدريج خلال عشر سنوات، ويسبق التشكيل فترة انتقالية، على أن تحتفظ حكومة بريطانيا خلال الفترة الانتقالية بمسؤولية حكم البلاد(39).

الحاج أمين يرفض وحده

لدراسة الكتاب الأبيض، انعقد في دار الحاج أمين الحسيني في لبنان اجتماع ضمّ أعضاء اللجنة التنفيذية لم يغب عنه أحد سوى ممثلي حزب الدفاع، حزب الأقلية المعارضة الأكثر ميلاً إلى التفاهم مع بريطانيا. هذا الاجتماع حضره، إلى هؤلاء، الدكتور عزّت طنوس، وهو من كان رئيس المكتب العربي في لندن الذي أدار المفاوضات غير الرسمية بشأن الكتاب الأبيض مع وزير المستعمرات البريطاني بين يدي إصدار الكتاب. لهذا الاجتماع أهمية خاصة في تاريخ الاجتماعات الفلسطينية القيادية، أهمية ذات دلالة حاسمة في واقع الأمر. مع هذا، لم يطلع الرأي العام في حينه على مداولات الاجتماع الذي وقف فيه أعضاء اللجنة التنفيذية الحاضرون جميعهم، في جهة، ووقف الحاج أمين الحسيني، وحده، في جهة أخرى، ثم تغلبت وجهة نظر الزعيم على وجهة نظر مجموع أعضاء القيادة.

لقد مال الحاضرون جميعهم، باستثناء الحاج أمين، إلى القبول بالكتاب الأبيض. وكان هذا استطراداً للميل الذي بدأ في مؤتمر لندن. أما الحاج أمين فكان حاسماً في رفضه، وقد قدّم حيثياته المنطلقة من الشك في نيّة بريطانيا المضمرة وراء هذا الكتاب. ودار نقاش في جلسات اتصلت على مدى أسبوعين حاجج الحاضرون فيها زعيمهم دون أي يتمكنوا من ثنيه عن رفضه.

غني عن البيان أن أعضاء القيادة التي كان اسمها قد صار آنذاك اللجنة العربية العليا، على ما لكل واحد منهم من أهمية خاصة، لم يكونوا في وضع يبيح لهم أن يقرروا أمراً يرفضه الزعيم، هم الذين يعرفون مكانته عند الجمهور وقدرته على التحريض ضد ما لا يوافق عليه. للخروج من المأزق وكسر حلقة النقاش المقفلة، اقترح أحدهم  أن يعود الدكتور طنوس إلى لندن ويطلب من الحكومة البريطانية أن توافق على المطلوب الأساسي الذي جعله الحاج أمين شرطاً لقبوله الكتاب الأبيض، أي أن توافق بريطانيا منذ الآن على الشروع فوراً في تشكيل الحكومة المقترحة ولا ترهن الشروع في تشكيلها بفترة السنوات العشر أو بأي فترة انتقالية. كان الحاج أمين خلال النقاش الذي امتد لأسبوع ثالث قد أجاز أموراً كثيرة لا يستسيغها، فقبل أن يتمثل الجانب اليهودي في الحكومة بنسبة الثلث، متخلياً عن التشبث بنسبة السبعة بالمائة وحدها، وقبِل ما إلى ذلك من أمور، لكنه تشبّث بمطلوب الشروع في تشكيل الحكومة فوراً ورفْضِ إرجائه، هو الذي لا يثق بوعود بريطانيا(40).

في لقائه مع وزير المستعمرات البريطاني، سمع د.طنوس الإجابة التي كان هو يتوقعها: حكومة جلالته غير قادرة على تعديل أي شيء في الكتاب الأبيض، خصوصاً إذا كان مما يستفزّ اليهود. وقال الوزير لزائره الفلسطيني: “سيكون مؤسفاً إن رفضت اللجنة الفلسطينية سياسة جهدت الحكومة البريطانية في إقامتها ضد صعوبات كبرى. وإذا أضعتم هذه الفرصة الذهبية، فلن تعود أبداً”(41). وقد حمل د.طنوس الرد إلى القيادة الفلسطينية التي عادت إلى الاجتماع. وجرت مناقشات أخرى بقي موقف الحاج أمين فيها على حاله، وقد تعزز بالرفض البريطاني. وصار واضحاً، كما قال أحد شهود الاجتماع، أن الحاج أمين “كان لديه مخطط آخر لمستقبل فلسطين، ولم يعرف أحد، في ذلك الوقت، أنه كان بنى مخططه على نصر الألمان النهائي أو على أي شيء آخر”(42).

سيطول الحديث لو شئنا أن نعرض الحيثيات التي استخدمها الحاج أمين والأخرى التي استخدمها الحاضرون الآخرون. غير أن ثمة ما ينبغي قوله بشأن مراهنة الحاج أمين على احتمال انتصار دول المحور في الحرب.

لم يكن شك الزعيم الفلسطيني في صدق بريطانيا بغير أساس. فالرجل الذي خبر وقائع الختل البريطاني المتلاحقة على مدى عقدين سابقين، لم يكن من شأنه أن يُنحي الشك بأن بريطانيا أرادت بالكتاب الأبيض أن تهدئ العرب ليس أكثر، وأنها صاغت التزاماتها بموجبه في عبارات وتفاصيل يكتنفها الغموض الذي سيسهِّل عليها التفلّت منها في المستقبل. هذا الشك لا صلة له  برهان الزعيم الفلسطيني على أي انتصار لطرف آخر.

لقد قدمت الحركة الوطنية الفلسطينية في عهد زعامة موسى كاظم الحسيني، بما هي ممثلة لفئات فلسطينية راغبة في التعاون مع بريطانيا، كل ما يعكس الرغبة العميقة في هذا التعاون، وعرضت حتى أن تقبل الانتداب، أي الاحتلال، إذا قبلت بريطانيا التخلي عن وعد بلفور والكفّ عن تأسيس الوطن القومي اليهودي. وفي عهدها التالي، بزعامة الحاج أمين الحسيني، قبلت الحركة، هذه، أن يصبح لليهود الذين وفدوا إلى فلسطين حقوقاً تشمل حق الاحتياز على ثلث المقاعد في حكومة البلاد، إذا قبلت بريطانيا الاستجابة لمطلب استقلال فلسطين وهي موحدة. وبريطانيا هي التي رفضت، عملياً، طيّ موضوع الوطن القومي اليهودي، فأحبطت بهذا كل فرصة للعيش المشترك في دولة واحدة بين العرب واليهود. والكتاب الأبيض الذي بدا كأنه خارج هذا السياق لم يقدم أي ضمانات عملية تسوّغ أي اعتقاد بأن بريطانيا بدّلت هدفها فعلاً. هنا، يمكن القول إن التفاهمات التي كان الحاج أمين قد عقدها مع دولتي المحور، إيطاليا الفاشية ثم ألمانيا النازية، قد لعبت دوراً في رفضه هو الكتاب الأبيض. لكن من غير المؤكد في أي نحو من الأنحاء أنه كان الدور الحاسم.

والواقع أن ما رفضته الزعامة الفلسطينية في العام 1939 لم يكن استقلال فلسطين في دولة واحدة يشترك عرب البلاد واليهود الوافدون إليها في مؤسساتها، بل كان رفضاً لوعود بريطانية بهذا الشأن افتقرت إلى ما يُعزّز صِدْقيّتها.

صعود الفاشية في ايطاليا واليابان، والصعود الصاروخي للنازية في ألمانيا، وإرغامها دولتين عُظمَيين هما بريطانيا وفرنسا على مساومتها ودولة ثالثة هي الاتحاد السوفياتي على عقد ميثاق عدم اعتداء معها، هذا كله اقترن بموقف يعلن معارضة ألمانيا لأطماع الصهيونيين في فلسطين، فصار من شأنه أن ينشئ آمالاً، هي هذه التي عزّزت الرفض الفلسطيني للكتاب الأبيض. والواقع أن الرفض الفلسطيني وازاه رفض صهيوني بات، فطوت بريطانيا الكتاب بأعجل مما فتحته.

وأيّا ما كان عليه الأمر، فإن الثورة المسلحة التي امتدت عملياتها بين أواسط 1936 وبين أواسط 1939 تلاشت بتأثير عوامل قد يخرجنا الحديث عنها كلها عن حديث الدولة، فيكفي أن نشير إلى نوعين منها: العوامل المتصلة بالبنية الداخلية للمجتمع الفلسطيني آنذاك، والأخرى المتصلة بشدّة القمع البريطاني وازدياد قوّة الييشوف.

وبطيّ الكتاب الأبيض هذا، انطوت آخر محاولة بريطانية لجمع العرب واليهود في مؤسسة حكم تهيمن هي عليها. ولم يبق في الساحة إلا قوىً دوافعها، وكذلك أهدافها، غير متطابقة: قوة الاحتلال البريطاني وقد تعززت حاجة بريطانيا إلى إطالة أمد هيمنتها على فلسطين تحت أي مسمّى؛ وقوة طمع الصهيونيين في إنشاء دولة يهودية تهيمن هي على البلاد وتحول دون إنشاء دولة عربية فيها؛ وقوة أهل البلاد العرب المتشبثين بحق فلسطين في الاستقلال في دولة واحدة لا يكون لمواطنيها من اليهود حقوق تميّزهم عن مواطنيها العرب أصحاب الغالبية الكاسحة، ولا يكون فيها لليهود الذين وفدوا إليها بحماية الاحتلال البريطاني أي حق سوى حق مغادرتها والعودة إلى البلاد التي جاءوا منها، العودة التي لخصها الشعار الشهير: من البحر جاءوا وإلى البحر يعودون. ومع وجود القوى الثلاث وتنازعها، بقي الصراع وبقيت أسبابه ووسائله.

نتائج الحرب العالمية الثانية، هذه التي أنتجت معسكراً اشتراكياً كبيراً يقوده الاتحاد السوفياتي، والتي دفعت إلى المقدمة الولايات المتحدة الأميركية لقيادة المعسكر الرأسمالي وقلصت دور بريطانيا في هذا المجال، النتائج هذه، بما اقترن بها من تداعيات، عزّزت حرص بريطانيا على إدامة أمد هيمنتها على مستعمراتها، خصوصاً فلسطين ومصر الواقعتين على طرفي قناة السويس ومشارف النفط. وفي الغضون، نما الييشوف كما لم ينم من قبل. أما الجانب الفلسطيني فوهنت قوته كما لم تَهِنْ من قبل، حتى لقد عجزت أحزابه عن تشكيل قيادة موحدة للحركة الوطنية، فتولت جامعة الدول العربية تشكيل الهيئة العربية العليا لفلسطين كي تكون هي هذه القيادة.

ما حصل بعد ذلك جاء تحصيل حاصل لهذه التطورات وما يماثلها من تطورات دفعت في الاتجاه ذاته: تجديد فكرة تقسيم البلاد إلى ثلاثة كيانات، في وقت لم يعد بمقدور العرب أن يحولوا دون نشوء الدولة الصهيونية. وهكذا، صدر في العام 1947 قرار التقسيم الشهير، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه المرة، وأيد الاتحاد السوفياتي التقسيم الذي ظل يعارضه حتى ذلك العام. وفي الواقع، أيد السوفيات التقسيم، لأنهم اعتقدوا أن بريطانيا تسعى لإدامة وجودها في فلسطين واستغلال الصراع العربي- الصهيوني لتقوية هذا الوجود، فرأوا في حل التقسيم وسيلة لإضعاف بريطانيا. وسوّغ السوفيات تأييدهم للتقسيم، بعد أن ظلوا طيلة سنوات الصراع الماضية دعاة الحل الذي يقيم دولة واحدة في فلسطين، بواقع أن سوء الحال بين الجانبين العربي واليهودي بلغ حداً يتعذر معه أن يعيشا معاً في دولة واحدة، فصار لا بدّ من تقسيم البلد. وتوسم السوفيات أن إدراج موضوع الوحدة الاقتصادية بين الدولتين المقترحتين في قرار التقسيم قد ينشئ، بمضي الوقت، الظرف الذي يعيد الاعتبار لحل الدولة الواحدة.

رفضت القيادة الفلسطينية مشروع التقسيم الجديد، الدولي، كما رفضت سابقه، البريطاني، موردةً لرفضها المسوغات ذاتها تقريباً. أما القيادة الصهيونية، المعتمدة على قوة الييشوف المتحققة على الأرض، وقوة التأييد الدولي لليهود، فإنها اتبعت إزاء القرار موقفاً براغماتياً، فأعلنت قبولها القرار، وأضمرت استثمار الظروف، وبضمها الرفض العربي له، كي تقيم الدولة اليهودية على مناطق أوسع مما خصها به هذا القرار وتُجلي السكان العرب عن هذه المناطق. وقد جرى ما جرى في العام 1948، وانتهى الأمر في العام 1949 بامتداد إسرائيل على 78 بالمائة من أرض فلسطين وإلحاقها الهزيمة بجيوش الدول العربية القليلة التي كانت آنذاك مستقلة. لقد تدخلت هذه الدول بادعاء كبير: منع قيام الدولة اليهودية، لكنها تصرفت في نحو أدى إلى منع قيام الدولة العربية الفلسطينية، وحدها.

وفي الغضون، أُبعد عرب فلسطين عن الميدان، وحُظر على قيادتهم أن تتولى أي شأن من شؤونهم، بما في ذلك الشؤون المدنية والإدارية، وصارت جامعة الدول العربية، بكل ما يحتدم داخلها من منافسات وتناقضات بين دولها، هي متولية مصير فلسطين والشعب الفلسطيني.

ومع توالي الانهيارات التي جسدت النكبة، وبعد أن بلغت هذه الانهيارات تمامها، جددت القيادة الفلسطينية اهتمامها بإنشاء حكومة وإعلان الاستقلال. حدث هذا في مسار مضى بين مسننات الخلافات العربية. وخلال هذا المسار، تكتلت دول مصر وسورية والسعودية، ضد مساعي العرش الأردني لضم الجزء من فلسطين، الذي لم تسيطر إسرائيل عليه، إلى مملكته. هذا الاهتمام حفزت عليه، أيضاً، حاجة هذه الدول إلى وجود طرف فلسطيني يتولى الحديث باسم شعب فلسطين، ويناوئ العرش الهاشمي، ويكون في الوقت ذاته أضعف من أن يفعل ما قد يحرج هذه الدول المهزومة في الحرب أو يؤلب الجمهور العربي ضد أنظمة الحكم فيها. وقد تقاطعت حاجة الدول العربية هذه مع رغبة الهيئة العربية العليا الفلسطينية في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بين أنقاض النكبة. والواقع أن اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية حاولت في أيلول/سبتمبر 1948 أن تشكل هي حكومة فلسطينية، وناقشت مشروع قرار تشكيلها. غير أن اعتراض مملكة شرق الأردن أحبط المحاولة، ما جعل دول الأغلبية تحثّ الهيئة العربية العليا لفلسطين على القيام بالمهمة.

وفي خطوة تُذكِّر بصحوة ما قبل الموت، دعت الهيئة العربية إلى عقد مؤتمر وطني فلسطيني ليعلن استقلال فلسطين وتشكيل حكومة لها. ولما كان الجيش الأردني ومعه جيش العراق المؤيد للأردن هما الموجودين في ما صار الضفة الغربية، فقد تقرر أن ينعقد هذا المؤتمر في غزّة التي يوجد فيها الجيش المصري.

انعقد المؤتمر في 1/10/1948. وفي اليوم ذاته، انعقد بتأثير النفوذ الأردني مؤتمر مواز في عمان، في حركة قُصد بها التشويش على مؤتمر غزّة وتبهيت الدعوة إلى الاستقلال الفلسطيني. ولم يغفل مؤتمر عمان أداء ما ندب له. فهذا المؤتمر قرر تفويض الملك الأردني التحدث باسم فلسطين، وأدان القيادة الوطنية الفلسطينية وناسها المجتمعين في غزّة بلغة هابطة، وافتتح المسار الذي انتهى في نهاية مطاف لم يطل أمده إلى جعل الضفة جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية(43).

أما مؤتمر غزّة فكان، بالقياس إلى ضخامة المهمة التي أُعلن أنه انعقد من أجلها، ضعيفاً من كل النواحي. وقد جسد المؤتمر آخر صورة للخطاب السياسي الفلسطيني الذي انتهى إلى الانفصال عن واقع الحال انفصالاً شبه تام. وأصدر مؤتمر غزّة إعلاناً باستقلال فلسطين، وشكل حكومة اختار لها هذا الاسم: حكومة عموم فلسطين. وبهذا وذاك، سجّل عاقدو مؤتمر غزّة أنهم يرفضون أي مصير لفلسطين لا ينطلق من الإقرار بوحدتها وحق أهلها العرب، دون اليهود، في حكمها. ووضع المؤتمر للدولة التي أعلن استقلالها نظاماً مؤقتاً أراد له أن يصير بمثابة دستور مؤقت لهذه الدولة(44).

هذه الحكومة لم تتمتع بأي صلاحية تذكر، وقد انتهى الأمر بأن تلاشى وجودها بمضي الوقت وصارت عاجزة حتى عن دفع أجرة الشقة التي انحصر فيها وجودها في القاهرة. والواقع أن وجود هذه الحكومة انتهى كلياً دون إعلان عن نهايته(45). أما إعلان الاستقلال فقد بقي حبراً على ورق، وأما النظام الذي وضعه المؤتمر، فإن معظم واضعيه نسيه والتحق إما بالإدارة الهاشمية وإما بالإدارة المصرية لقطاع غزة، أو بسواهما هنا هناك في دنيا العرب.

استنتاجات:-

مسيرة قاسية وشائكة كانت هذه المسيرة التي قطعتها الحركة الوطنية الفلسطينية بين العامين 1918 و1948، أي بين عام انطلاقتها وبين عام انتكاسها. وقد حاولنا، هنا، رصد أهم محطات هذه المسيرة مما يتعلق بسعيها لتأسيس دولة فلسطينية مستقلة. وجرى هذا الرصد بإيجاز أوجبته طبيعة هذه الدراسة.

وبالإيجاز ذاته، وللغرض ذاته، ستُختم الدراسة بتعداد ما استخلصه كاتبها بشأن الأسس التي استندت إليها سياسات الحركة الوطنية هذه وأوجه سلوكها، الأسس التي سبّبت العجز عن تحقيق الأهداف الوطنية، خصوصاً العجز عن تحقيق هدف الاستقلال وإنشاء الدولة الفلسطينية.

أول هذه الأسس، ولعله أكثرها تأثيراً في الحيلولة دون النجاح، تجسد في هذا التناقض المريع بين رفض المشروع الصهيوني وبين التمسك بنهج التعاون مع بريطانيا منفذّة المشروع وحاميته. مبعث هذا التناقض ناجم من وهن بنية المجتمع الفلسطيني، البنية التي حددها مزيج من بقايا البداوة، والإقطاع، انضافت إليه أطر حديثة النشوء شبه رأسمالية أو رأسمالية ضعيفة محتاجة إلى الاتكاء على دولة رأسمالية قوية لتضمن وجودها وتطورها.

الأساس الثاني المتصل بسابقه تمثل في تأخر الوعي على طبيعة الاستعمار والرأسمالية المنتقلة إلى طورها الامبريالي، وعلى طبيعة الصهيونية وصلتها العضوية بهذا الطور وصعودها مع صعوده.

الثالث عكسه إصرار القيادة الوطنية على التشبث بسعيها لإقناع بريطانيا بالتخلي عن دعمها للمشروع الصهيوني، وتَوهُّم هذه القيادة أن بريطانيا ستخشى أن تفقد مصالحها في بلاد العرب إن واظبت على هذا الدعم، وتَصوُّر القيادة أن بريطانيا ستختار الانحياز إلى العرب إذا خُيّرت بين الاحتفاظ بمصالحها عندهم وبين الاحتفاظ بمصالحها عند الصهيونيين، وجهل هذه القيادة دلالة ما كان ماثلاً للعيان، وهو احتياز بريطانيا على الفوائد التي تتوخاها عند الطرفين، دون حاجة إلى التخلي عن دعم المشروع الصهيوني.

الأساس الرابع تمثل في إغفال الحركة الوطنية الفلسطينية أن تقدم ذاتها بما هي ممثلة لأهل البلاد جميعهم، عربهم ويهودهم، وما اقترن بهذا الإغفال من إحجامها عن القيام بأي مبادرة من أي نوع أو حجم للاتصال بأي فئة من فئات اليهود، بما في ذلك يهود السبعة بالمائة من السكان، اليهود الذين أقرت أدبيات الحركة الوطنية النظرية ذاتها بأنهم مواطنون فلسطينيون. وما أكثر الأضرار التي نجمت من هذا الإغفال!

والخامس تمثل في قصور الحركة الفلسطينية عن إدراك أهمية البحث عن تحالفات مع القوى والتيارات اليهودية المناوئة للصهيونية، وأسوأ منه القصور عن إدراك أهمية التحالف مع القوى العالمية أو الدول التي تعادي الصهيونية أو الأخرى التي لا تؤيدها. لقد كان القصور في هذا المجال صارخاً بمقدار ما هو خطير. وقد زادت خطورة هذا القصور باقترانه بمحاولة نشدان عون بريطانيا.

سادس الأسس، تجسّد في المبالغة في تصوُّر حجوم الاهتمام العربي والإسلامي بفلسطين وتصوُّر فعالية المساندة التي قد تقدمها بلدان العالمين العربي والإسلامي لشعبها.

والسابع تمثل في ما أولته القيادة الفلسطينية لحكام الدول العربية المحيطة من حق التدخل في صياغة السياسة الفلسطينية وتنفيذها. وهذا هو ما أظهر كم أغفلت هذه القيادة واقع الحال. وواقع هذا الحال أظهر أن الحكام هؤلاء كانوا حريصين على أن لا تتحول قضية فلسطين إلى عامل يعكر صفو حاجتهم هم ومن يمثلونهم إلى معونة الدول التي تسند المشروع الصهيوني. ولم يكن غريباً أن ينتهي الأمر إلى أن يُصادر هؤلاء الحكام حق القيادة الفلسطينية في صياغة السياسة الفلسطينية، ويستأثروا هم به؛ فتبعية هؤلاء للدول الامبريالية، وبريطانيا خصوصاً، كانت قد استفحلت فاشتدت خشيتهم من أن يحرض الفلسطينيون جماهير البلدان التي يحكمونها ضدهم.

الأساس الثامن، جسده تهيب القيادة الوطنية استخدام المقاومة المسلحة في وجه الاحتلال البريطاني، وتهيبها، بصورة عامة، استخدام السلاح، واستمرار هذا التهيب لسنوات طويلة، هي السنوات التي نما فيها الييشوف.

والتاسع هو انطلاق غالبية قيادة الحركة الوطنية من قناعتها بأن عدو عرب فلسطين تجسده الصهيونية وأتباعها اليهود وحدهم، وتأخُّرِ هذه القيادة في الاقتناع بأن الاحتلال البريطاني هو العدو الأول الذي يدعم الصهيونية.

يضاف إلى ما تقدم، حقيقة أن مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية، كبيرها مثل صغيرها، كانت كلها نخبوية تكتفي بالاتكاء على تأييد الجمهور أو استثمار مواقفه، ولا تحاول تنظيم حاجاته إلا في أوقات التأزم، أي بعد أن يكون أوان تنظيمها بكامل فعاليتها قد فات.

أما الأساس العاشر، وهو الأشد صلة بموضوع الدولة، فتجسد في كون الحركة الوطنية، وهي التي لم تغفل الحديث في أي وقت عن ضرورة تشكيل حكومة وطنية، لم تول أهميةً كافية لمسألة تشكيل مؤسسات تقوم عليها السلطة الوطنية. وقد نجم هذا من غياب التصور الصحيح لما يمكن أن يلعبه وجود سلطة وطنية من دور في الدفع نحو الاستقلال وبناء الدولة. فاقم خطر غياب هذا التصور أن الحركة الوطنية الفلسطينية تشتّتت بين تطلعها إلى جعل فلسطين جزءاً من وحدة سورية كبرى، أو عربية أكبر، أو إسلامية أكبر فأكبر، وبين حاجتها إلى مساومة بريطانيا لعلها توافق على إنشاء كيان فلسطيني وطني.

هنا، ينبغي أن لا يفوتنا التأكيد، مجدداً، على أن أوجه الخلل والعجز والقصور، إن ساعدت في تسهيل مهمة أعداء الشعب الفلسطيني، فإنها ليست هي التي سببت نكبته. فهذا الشعب كان موجوداً في وطنه، وكان من شأنه، حتى مع ضعفه، أن يبقى فيه وأن ينشأ له كيان مماثل لما نشأ في الأقطار العربية الأخرى، لو لم يتعرض للعدوان المزدوج الاستعماري والصهيوني معاً. ما أحدث النكبة، وهو ذاته ما يبقيها، هو التحالف غير القابل للانفصام بين الصهيونية وبين الدول الإمبريالية، وتَعرُّض الشعب الفلسطيني لعدوان قوى هائلة الحجوم لم يكن بإمكانه التفوق عليها حتى لو أمكن أن ينشئ حركة وطنية مبرأة من العيوب.

وما كان صحيحاً في تلك العقود من القرن الماضي ظل صحيحاً حتى الآن: وجود حركة وطنية فلسطينية قادرة على رسم سياسة صحيحة واتباع سلوك صائب أمر ضروري، من أجل تخفيف الكوارث الحالّة أو التي قد تَحلّ بهذا الشعب المُرغَم على مواصلة الدفاع عن وجوده، ومن أجل صيانة هذا الوجود. أما التغلّب على الأعداء، فإنه يتطلب وجود محيط عربي مسعف، هو في واقع الأمر غير موجود حتى الآن، كما يتطلب تبديلاً في الوضع الدولي يسقط قدرة الدول الإمبريالية، في طور الإمبريالية المعولم، على الهيمنة على العالم. وبين الواقع القائم وبين التطور المأمول توجد فسحةُ زمن كافية لتصويب مسيرة الحركة الوطنية، حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من الاحتفاظ بفسحة الأمل اللازمة لبقائه ذاته.

الحواشي

  1. خيرية قاسمية، النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه 1908-1918، بيروت: مركز الأبحاث – م.ت.ف.، 1976، ص37-39.
  2. صبري جريس، “تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين (1917-1923)، في ظل الحكم العسكري البريطاني، كانون الثاني 1917 – حزيران 1920″، شؤون فلسطينية، العدد 95، تشرين الأول (أكتوبر) 1979، ص26-28.
  3. عادل حامد الجادر، أثر قوانين الانتداب البريطاني في إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، بغداد: وزارة التعليم العالي – جامعة بغداد، ومركز الدراسات الفلسطينية، 1976، ص41 و42.
  4. الوثائق العربية في قضية فلسطين، المجموعة الأولى 1915- 1946، القاهرة: جامعة الدول العربية – إدارة فلسطين، ص92.
  5. المصدر ذاته.
  6. عبد الوهاب الكيالي (جمع وتصنيف)، وثائق المقاومة الفلسطينية العربية ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية (1918-1938)، بيروت وبغداد: مؤسسة الدراسات الفلسطينية وصندوق فلسطين، 1968، ص11.
  7. المصدر ذاته، ص26.
  8. سمير أيوب(جمع وإعداد)، وثائق أساسية في الصراع العربي الصهيوني، ج2، بيروت: صامد للطباعة والنشر والتوزيع، 1984، ص9.
  9. نص صك الانتداب متوفر في مراجع لا حصر لها؛ انظر، على سبيل المثال: المصدر ذاته، ص91-102.
  10. نص هذا الدستور في: المصدر ذاته، ص138-145.
  11. المصدر ذاته.
  12. المصدر ذاته.
  13. المصدر ذاته، ص145.
  14. ملف وثائق فلسطين، ج1، القاهرة: وزارة الإرشاد القومي – الهيئة العامة للاستعلامات، 1969، ص112.
  15. المصدر ذاته، ص115.
  16. المصدر ذاته، ص200.
  17. الكيالي (جمع وتصنيف)، مصدر سبق ذكره، ص195.
  18. المصدر ذاته؛ وكذلك: ملف وثائق فلسطين، ج1، مصدر سبق ذكره، ص415.
  19. أورده: كامل محمود خلّة، فلسطين والانتداب البريطاني 1922-1939، بيروت: مركز الأبحاث- م.ت.ف.، 1974 ، ص204.
  20. الكيالي (جمع وتصنيف)، مصدر سبق ذكره، ص184.
  21. نص الكتاب الأبيض للعام 1930 في: ملف وثائق فلسطين ج1، مصدر سبق ذكره، ص423-439؛ انظر، خصوصاً، ص139.
  1. محمد عزّة دروزة، حول الحركة العربية الحديثة، ج3، صيدا وبيروت: المكتبة العصرية، 1959، ص74 و 75.
  2. أحمد الشقيري، أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية، بيروت: دار العودة، 1969، ص124.
  3. أورده: خلّة، مصدر سبق ذكره، ص316؛ عن: اميل الغوري، المؤامرة الكبرى، اغتيال فلسطين وسحق العرب، ط1، بغداد: الناشر غير مذكور، 1962، ص37.
  4. الكيالي (جمع وتصنيف)، مصدر سبق ذكره، ص352.
  5. خلّة، مصدر سبق ذكره، ص221-223؛ أنظر، كذلك: عيسى السفري، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، الكتاب الأول، يافا: مكتبة فلسطين الجديدة، 1937، ص87.
  6. أورده: صبري جريس: “السنوات الخمس السمان في تاريخ الوطن القومي اليهودي، تسهيلات بريطانية لليهود وقمع للعرب”، شؤون فلسطينية، العدد 140-141، تشرين الثاني/كانون الأول (نوفمبر/ ديسمبر) 1984، ص41.
  7. أنظر ما رواه بهذا الصدد عوني عبد الهادي، في: خيرية قاسمية (إعداد)، عوني عبد الهادي، أوراق خاصة، بيروت: مركز الأبحاث – م.ت.ف.، 1974، ص75 و76.
  8. المصدر ذاته.
  9. المصدر ذاته.
  10. فيصل حوراني، جذور الرفض الفلسطيني، 1918-1948، رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2003، ص344.
  11. أورده: خلّة، مصدر سبق ذكره، ص462.
  12. أورده: المصدر ذاته، عن: المقطم (القاهرة)، 31/3/1938.
  13. النص الكامل لبيان الحكومة البريطانية بهذا الخصوص في: ملف وثائق فلسطين، ج1، مصدر سبق ذكره، ص266-264.
  14. أورده: خلّة، مصدر سبق ذكره، ص475.
  15. المصدر ذاته.
  16. أنظر ما أورده بهذا الصدد: قاسمية ( إعداد)، مصدر سبق ذكره، ص114-115.
  17. المصدر ذاته.
  18. نص الكتاب الأبيض في: ملف وثائق فلسطين، ج1، مصدر سبق ذكره، ص717-727؛ أنظر، خصوصاً، ص720-722.
  19. أوفى ما نشر عن هذا الاجتماع من تفاصيل أورده: عزّت طنوس، الفلسطينيون، ماضٍ مجيد ومستقبل باهر، الجزء الأول، بيروت: مركز الأبحاث – م.ت.ف.، 1982؛ أنظر، خصوصاً، ص232 و251؛ وانظر، كذلك: حوراني، مصدر سبق ذكره، ص367-368.
  20. طنوس، مصدر سبق ذكره، ص254.
  21. المصدر ذاته.
  22. المعلومات والوثائق المتصلة بهذا التطور متوفرة في مراجع كثيرة؛ انظر، على سبيل المثال، ما أورده: عيسى الشعيبي، الكيانية الفلسطينية، الوعي الذاتي والتطور المؤسساتي، 1947- 1977، بيروت: مركز الأبحاث – م.ت.ف.، 1979، ص 23 و24.
  23. لمزيد من التفاصيل، انظر، على سبيل المثال: عزة دروزة، القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها، ج 4، صيدا: المكتبة العصرية، بلا تاريخ للنشر، ص 211.
  24. لمزيد من التفاصيل عن قرارات مؤتمر غزّة، انظر، على سبيل المثال: فيصل حوراني، العمل العربي المشترك وإسرائيل، الرفض والقبول، 1944-1967، نيقوسيا (قبرص): شرق برس، شباط/فبراير 1989، ص 16 وما بعدها؛ وانظر، كذلك: حوراني، جذور الرفض الفلسطيني…، مصدر سبق ذكره، ص 424-427.

[*] كاتب وباحث، مقيم في فيينا.