
منصور أبو كريم :باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
سعت هذه الورقة إلى تحليل الهبّة الشعبيّة الشاملة في أسبابها الظاهرة والكامنة، وأبعادها ودلالاتها الوطنية والسياسية في سياق العمل والنضال الوطني الشامل، كما حاولت توضيح تداعياتها على مسار التسوية وعملية السلام، والأفق الذي منحته هذه الهبّة لترميم عملية السلام وفق مبدأ حل الدولتين، وأوضحت انعكاساتها على مسار العلاقة بين حركة حماس وإسرائيل خاصة عقب جولة التصعيد على جبهة غزة، في التصريحات الإسرائيلية التي بدأت تخرج من أركان الحكومة الإسرائيلية بضرورة انتهاج مقاربة مختلفة مع الوضع القائم في غزة عقب التوصل لوقف إطلاق النار. وحاولت استشراف مآلات الهبّة الشعبية الشاملة في ضوء ما انتجته من ديناميات فاعلة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
مقدمة
أدت الهبّة الشاملة التي اندلعت في شتى الأراضي الفلسطينية (فلسطين التاريخية) عقب الإعلان عن تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية في الأول من مايو 2021، والتي تصاعدت حدتها عقب محاولة الدولة القائمة بالاحتلال العسكري "إسرائيل" المسّ بالمسجد الأقصى وطرد عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، حيث شارك فيها كل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. هذه الهبّة والمواجهة الشعبية الشاملة ساهمت في إعادة التذكير بأهمية العمل الوطني الجمعّي، بعد أن استطاعت إسرائيل من خلال سياساتها المختلفة الوصول للتعامل مع الشعب الفلسطيني وفق منطق (المناطقية) عبر انتهاج سياسات مختلفة تجاه كل منطقة، في محاولة منها لعزل الشعب الفلسطيني وتفتيت قواه والسيطرة عليه بأدوات وأساليب وطرق مختلفة.
الهبّة والمواجهة الشاملة مع الاحتلال في أسبابها الظاهرة والكامنة ودلالاتها وانعكاساتها ومآلاتها أثارت العديد من التساؤلات الجوهرية المتعلقة بالأسباب الجوهرية والكامنة لاندلاع هذه الهبّة الشعبية الشاملة ودلالاتها في السياق الوطني والسياسي في ظل انغلاق أفق التسوية بعد وصول عملية السلام لطريق مسدود، إضافة أنها أثارت الكثير من التساؤلات المهمة حول تداعياتها على علاقة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بإسرائيل ومستقبل قطاع غزة تحت حكم حماس في ضوء الهبّة العسكرية التي اندلعت على جبهة غزة؟
أولاً: الأسباب الظاهرة والكامنة للهبّة الشاملة
جاءت الهبّة الشعبية العارمة التي انطلقت شاراتها الأولى من مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك وحي الشيخ جراح بعد أن حاولت حكومة نتنياهو العبث بالاستقرار الهش الذي ساد المدينة خلال الشهور الماضية. فقد حاول نتنياهو افتعال أزمة في مدينة القدس عبر السماح للمستوطنين بعودة اقتحام باحات المسجد الأقصى، بعد أن توقفت هذه المظاهر خلال السنوات الأخيرة لتوفير الهدوء لسهولة تمرير صفقة القرن في محاولة منه لإفشال خصومه السياسيين من تشكيل حكومة ائتلافية بعد أن تم تكليف يائير لبيد بتشكل الحكومة.
صحيح أن الأسباب الظاهرة لانطلاقة الهبّة الشعبية والجماهيرية في كل فلسطين التاريخية جاءت كنتيجة مباشرة لمحاولة إسرائيل تغير الواقع الديمغرافي في مدينة القدس وتغيير الواقع الزماني والمكاني في الحرم القدسي؛ لكن من المؤكد أن لهذه الهبّة في شموليتها واتساع دائرتها أسباب كامنة أخرى لا تقل أهمية أو خطورة عن تلك الأسباب المباشرة والظاهرة، وهي أسباب تتعلق أساساً بالسياسات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه الشعب الفلسطيني في كافة أمكان تواجده، تلك السياسات التي ترتكز على أسس التمييز والتفرقة العنصرية، والضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية على الشعب الفلسطيني في كل مكان.
سياسات إسرائيل العنصرية ولدت ما يعرف بالغبن والغضب في النفس الفلسطينية، وأدت إلى تراكم مشاعر الغضب والضيق مما يحدث سواء تلك السياسات التي تمارس ضد سكان القدس أو التي تمارس داخل إسرائيل نفسها ضد المواطنين العرب، خاصة عقب قانون القومية العنصري، والذي حول العرب الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي لأقلية من الفئة الثانية داخل المجتمع الإسرائيلي، أو تلك السياسات التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، كل تلك السياسات والإجراءات والتضيق الأمني والسياسي والمعيشي ولدت شعور متراكم من الضيق والغبن والغضب لدي الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
لقد أسهمت أحداث القدس في انفجار بركان الغضب المتراكم في صفوف الفلسطينيين في إسرائيل الذين يعانون من تواطؤ الشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية والنظام السياسي لمنع محاربة الجريمة المنظمة والعنف الذي أغرق المجتمع وأنهكه من الداخل[1]. زيادة شعور الضيق والغبن ترافق مع تدمير إسرائيل مسار التسوية السياسية، وهو المسار الذي كان يعول عليه أغلبية الشعب الفلسطيني في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية؛ يرتكز على أساس قرارات الشرعية ومبدأ الأرض مقابل السلام ومبدأ حل الدولتين.
لقد أدى انتهاء مسار التسوية لغياب الأمل لدى الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وإقامة دولته المستقلة، ما ساهم في تراكم بركان الغضب لدى الشعب الفلسطيني، ، بالإضافة لما راكمته سياسات إدارة ترامب السابقة التي حاولت فيها نسف مرتكزات القضية الفلسطينية في دفع مشاعر الغضب إلى الانفجار مع أول احتكاك، لذلك جاء تفجر بركان الغضب شامل وكبير، شارك فيه كل فئات الشعب الفلسطيني بأدوات وأساليب مختلفة، الأمر الذي جعل هذه الهبّة مختلفة في أبعادها ودلالاتها وشموليتها قوية وعميقة، كانعكاس لحالة الغضب والضيق من السياسات الإسرائيلية المتعاقبة وسياسات إدارة ترامب التصفوية، كما أنها شكلت نقطة تحول في مسار الشعب الفلسطيني بعد أن تعامل مع الاحتلال الإسرائيلي كشعب واحد في إطار ما بات يعرف بوحدة ( الأرض، والشعب والقضية) وفي هذا تأكيد على وحدة المصير والهدف لدى الشعب الفلسطيني بغض النظر عن أمكان تواجده.
ثانياً: دلالات الهبّة الشاملة
الدلالات العميقة التي يمكن استخلاصها من الهبّة الشاملة التي اندلعت بين الشعب الفلسطيني و"إسرائيل" في القدس واللد والرملة ورهط وأم الفحم ويافا وحيفا وعكا، ورام الله والخليل وغزة، بعدما دخل أبناء الشعب الفلسطيني الرازخ تحت الاحتلال في مواجهة شاملة ومفتوحة مع سلطات الدولة القائمة بالاحتلال العسكري وقطعان المستوطنين؛ لتعيد هذه المواجهة التأكيد من جديد على وقوع الشعب الفلسطيني تحت احتلال عنصري كولونيالي، يمارس السيطرة والإرهاب والتميز بحق الشعب الخاضع للاحتلال بأدوات وأساليب مختلفة.
بالرغم كل ما يتوفر للمؤسسة الاستعمارية الإسرائيلية معارف عن الشعب الفلسطيني من خلال مراكز البحوث والجامعات والكوادر الأكاديمية قبل نشأة هذا الكيان وبعده، شملت هذه المعارف أنماط الحياة في المدن والمناطق الفلسطينية والمشكلات القائمة، بهدف تحقيق السيطرة والاحتواء وتنفيذ الأهداف الإسرائيلية، إلا أن التجربة الإسرائيلية كشفت عن زيف وسطحية وغرور الأنثروبولوجيا الاستعمارية الإسرائيلية، وأكدت فشل المعرفة التي نجمت عنها حول اتجاهات وشخصية الشعب الفلسطيني، الغير قابل للاحتواء أو السيطرة أو التوجيه.
ففي العديد من المحطات والمواقف، تمكن الشعب الفلسطيني بنضاله الباسل من كشف وتعرية المستعمر الإسرائيلي، وإبراز جهله العميق بطبيعة الشعب الفلسطيني ودوافعه وقيمه المتراكمة عبر العصور، والتي تحدد طريقة استجابته وتصديه للاستعمار الإسرائيلي، ففي عام 1987 وإبان نشوب الانتفاضة الفلسطينية الأولى فوجئت إسرائيل بتفجيرها واستمرارها وهي التي كانت قد توصلت استنتاجات أن الشعب الفلسطيني قَبِل بالاحتلال الإسرائيلي كما كانت تزعم.[2]
لربما من أكثر الدلالات عمقاً وتأثيرًا التي حدثت مع تفجر بركان الغضب وانتقال شرارة الأحداث لكل فلسطين التاريخية (من البحر للنهر) أنها أعادت التأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وسلطاته العنصرية، وأكدت وحدة (الهدف والمصير) في مواجهة سياسات الاحتلال، لذلك اتسعت كرة النار بسرعة فائقة، ودخلت قوى شبابية جديدة على خط الصراع والهبّة، كان الاحتلال قد حاول بطرق مختلفة تغيب وعيها الوطني والقومي عبر تسهيل تجارة السلاح والمخدرات والجريمة المنظمة.
خلال الهبّة تورطت إسرائيل في حملة متعددة الجبهات: محاربة حماس والمنظمات الأخرى في قطاع غزة، والقتال الديني والعسكري. التوتر الوطني في القدس، واضطرابات في البلدات والمدن المختلطة بين اليهود والعرب الفلسطينيين في إسرائيل، وخطر تفشي فيروس كورونا، التوتر في الضفة الغربية، وانطلاق صواريخ من الساحة الشمالية[3].
من المؤشرات الواضحة على دلالات هذه الهبّة أن القدس عادت قاطرة النضال الفلسطيني وحجر الزاوية فيه، حيث أصبحت عنوان وحدة الشعب الفلسطيني، في غزة والقدس والضفة والفلسطينيون في الداخل وفى الشتات، بعد أن أصبحت الهبّة عارمة وشاملة، فقد امتدت لمواجهة العنصرية والتمييز الذي تمارسه الشرطة والمؤسسات الإسرائيلية، ففي المدن المختلطة تفجر الصراع القومي، وبرزت العنصرية والتمييز وأصبحت التهديدات الداخلية للمناعة الإسرائيلية ربما أشد خطورة من التهديدات الخارجية[4].
لقد أكدت الهبّة الشاملة على فشل كل السياسات الإسرائيلية المتعاقبة التي حاولت فيها سلطات الاحتلال "أسرلة" الشعب الفلسطيني وتغيب هويته الوطنية سواء في داخل القدس أو في مناطق 48، كما أنها أكدت على فشل اليمين الديني الحاكم في إسرائيلي على تغيب المسألة الفلسطينية بعدما أعتقد أنه استطاع تحييد المسألة الفلسطينية من المشهد الإسرائيلي. كما أثبتت هذه الهبّة فشل المقاربات الإسرائيلية السابقة التي حاولت من خلالها دولة الاحتلال التعامل مع الشعب الفلسطيني ضمن إطار (مناطقية) فجة، (قدس، ضفة، غزة، 48) والتي كانت تهدف منها لعزل الجماهير العربية في داخل إسرائيل وكي وعيهم الوطني عبر تسهيل تجارة المخدرات والسلاح، أو عبر سياسة الحصار والحروب في عزل غزة على باقي الأراضي الفلسطينية.
الاضطرابات الإسرائيلية على المستويين السياسي والمجتمعي -فضلًا عن الاقتصادي- ظهرت خلال المواجهة؛ إذ اندلعت الهبّة الحالية وسط حالة غير مسبوقة من التصدع داخل المجتمع الإسرائيلي بشقيه من اليهود والفلسطينيين من عرب 48، اشتدت رحاها مع أحداث حي الشيخ جراح واقتحام المسجد الأقصى، وما أنتجه ذلك من صدامات عنيفة بين الفلسطينيين من جهة واليهود وقوات الاحتلال من جهة أخرى، وخاصة في مدن اللد وحيفا وعكا[5].
كما أنّ من الدلالات المهمة التي يجب التوقف عندها في سياق تناولنا لهذه الهبّة الشاملة، هو قناعة الجميع بأهمية الحل السلمي والتأكيد على ضرورة العودة لترميم عملية السلام ومسار التسوية لخلق أمل جديد لدى الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال، وما أكدته من مركزية القضية الفلسطينية على المستوى الدولي والإقليمي، وإعادة احياء البعد القومي والعربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، وعودتها كأولوية لدى المواطن العربي والنظام السياسي الدولي والإقليمي والعربي، بعد أن أظهرت الأحداث مدى تأثر قضايا الأمن والاستقرار الدولي والإقليمي بما يجري من أحداث وتطورات في الأراضي الفلسطينية.
لا شك أنّ عودة الاهتمام الدولي والإقليمي بالقضية الفلسطينية وعودة التأكيد على أهمية مسار التسوية، ووحدة الشعب الفلسطيني وتوحده في مواجهة العدوان على القدس والشيخ جراح وغزة خلال العدوان الإسرائيلي يؤكد وجود دلالات وتحولات عميقة أحدثتها الهبّة الشاملة ومازالت سوف تحدثها خلال الأسابيع والشهور القادمة، على المستويات السياسية والأمنية محلياً وإقليماً ودولياً.
ثالثاً: تداعيات الهبّة الشاملة
من أهم القضايا التي بات الجميع يؤكد عليها أن الظروف والمعطيات السياسية والأمنية ما بعد الهبّة الشاملة لن تكون استمرار لما قبلها، سواء على جهة علاقة السلطة الفلسطينية وحركة فتح بإسرائيل في الضفة الغربية، أو علاقة حركة حماس وحكمها في غزة بإسرائيل عقب انتهاء جولة التصعيد العسكرية على جبهة غزة.
على مسار التسوية السياسية
من الملفت أن الهبّة الشاملة أعادت طرح المسألة الفلسطينية على طاولة بحث المجتمع الإسرائيلي واحزابه وتكتلاته الحزبية والأيديولوجية بعد أن حاولت كتلة اليمين الديني الحاكم في إسرائيل على مدار العقد الماضي تغيب المسألة الفلسطينية من وعي المواطن الإسرائيلي والقوى السياسية الأخرى، بعدما أقنعت الجميع بحسم المسألة الفلسطينية نهائياً، سواء عبر سياسات الاستيطان والتهويد أو عبر مسار التطبيع المجاني الذي يتفاخر به نتنياهو باعتباره تجاوزًا للقضية الفلسطينية، كما أنها أعادت التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية على الساحتين الدولية والإقليمية.
أعاد التصعيد الجاري بروز القضية الفلسطينية على الساحة العالمية بعد أن توارت عن الأنظار إثر نحو 10 سنوات من الحرب المستعرة في الإقليم، وأكد حقيقة للمجتمع الدولي مفادها أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لن يكون ممكنًا التعامل معه من منطلق إدارة الوضع القائم، وأن الاتفاقات التي وقعتها إسرائيل مع عدد من الدول العربية لم تؤدِ إلى تخفيف حدة النزاع أو وجود دولة إسرائيلية أكثر أمنًا، وأن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط لن يتأتى إلا بحل جذري وعادل للقضية الفلسطينية يراعي حقوق الفلسطينيين التاريخية[6].
عودة مركزية القضية الفلسطينية للمجتمع الدولي والنظام السياسي العربي والإقليمي ظهرت من خلال التحركات السياسية التي برزت خلال جولة التصعيد الأخيرة على جبهة غزة، وعقب وقف إطلاق النار مباشرة، وزير خارجية الاتحاد الأوروبي "جوزيب بوريل" أكد على ضرورة العودة إلى مسار المفاوضات والتسوية وفق مبدأ حل الدولتين، وشدد بيان التكتل على أن "الحل السياسي وحده هو الذي سيحقق السلام الدائم وينهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي برمته"[7]. وأيضًا وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" أكد على ضرورة بذل المزيد من الجهود لتهيئة الظروف بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لإعادة إطلاق عملية سلام حقيقية، مؤكدًا على أن المفاوضات يجب أن تؤدي الى تحقيق حل الدولتين.
كما أن الرئيس الأمريكي "جو بايدن" لم يكن بعيدًا عن هذه التحركات التي فرضتها التطورات السياسية والأمنية في المشهد الفلسطيني الإسرائيلي، فخلال اتصاله بالرئيس عباس أكد بايدن على التزام الولايات المتحدة بحل الدولتين، وأهمية إعطاء أمل للشعب الفلسطيني في تحقيق السلام. وشدد الرئيس الأميركي على معارضة إدارته لأية إجراءات أحادية الجانب مثل الاستيطان، وإجلاء الفلسطينيين من بيوتهم في الشيخ جراح والقدس الشرقية[8].
البيت الأبيض أكد أن الرئيس بايدن كرر دعمه للخطوات التي تمكن الشعب الفلسطيني من التمتع بالكرامة والأمن والحرية والفرص الاقتصادية التي يستحقها، وسلط الضوء على القرار الأمريكي الأخير باستئناف المساعدة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك المساعدات الاقتصادية والإنسانية لصالح الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما أكد التزامه القوي بحل الدولتين المتفاوض عليه باعتباره أفضل سبيل للتوصل إلى حل عادل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني[9].
إحدى أهم تجليات الهبّة الشاملة والتصعيد على جبهة غزة كان وضع القضية الفلسطينية على سلم أولويات المجتمع الدولي بعد فترة شهدت تراجعاً من قبل النظام الدولي والإقليمي لها، نظرًا لحالة عدم الاستقرار الدولي الإقليمي خلال العقد الماضي. كما أنها أعادت التذكير بأهمية خلق مسار سياسي تفاوضي يتركز على قرارات الشرعية الدولية ومبدأ حل الدولتين بعدما حاولت إدارة ترامب البعث به، لتوفير الهدوء والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بعد أن أكدت هذه الهبّة الربط القوي والمباشر بين استمرار حلقة العنف الناتج عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وبين الأمن والاستقرار الدولي والإقليمي.
على مسار علاقة إسرائيل بحركة حماس بغزة
بات من حكم المؤكد أن الهبّة الشاملة وجولة التصعيد على جبهة غزة سوف تلقي بتداعياتها على السياسات الإسرائيلية تجاه القطاع بشكل عام وتجاه حكم حركة حماس على وجهة التحديد، خاصة في بعد أن وسعت فصائل المقاومة في غزة دائرة قصفها للمدن الإسرائيلية ووضعت منطقة غوش دان والمدن الكبرى تحت خط النار.
منذ بداية المعركة على جبهة غزة ظهرت عدة مؤشرات على حدوث تحولات جوهرية في السياسات الإسرائيلية تجاه القطاع وتجاه حكم حركة حماس، ظهرت من خلال تصريحات نتنياهو ووزير دفاعه، فقد أكد نتنياهو أكثر من مرة على ضرورة تقيم السياسات الإسرائيلية السابقة تجاه غزة التي حاولت من خلالها حكومته شراء الهدوء بالمال على جبهة عبر الأموال القطرية والمساعدات الدولية، إلا دخول غزة على خط الهبّة المندلعة في القدس أحدثت تحولات جوهرية في السلوك الإسرائيلي تجاه غزة، والإصرار على ضرورة انتهاج مقاربة جديدة للتعامل مع حماس وقطاع غزة.
التغير في معادلة غزة قد يكون ناتج عن نجاح الفصائل الفلسطينية في إلحاق أضرار في العمق الإسرائيلي، والتي ظهرت مع إصابة صواريخ المقاومة لأهداف حيوية في المدن والمستوطنات الإسرائيلية، منها مطاري بن جوريون ورامون[10]. ففي مرحلة ما بعد نهاية الحرب عاد نتنياهو للحديث بلغة القوة متحسباً للانتقادات التي ظهرت من المعارضة الإسرائيلية والتي اتهمته بأنه وافق على إنهاء المعركة قبل تصفية ترسانة حماس الصاروخية، وأنه لم يشترط عودة أسرى إسرائيليين لدى حماس منذ سنوات. وقد رد نتنياهو على ذلك بقوله: «قتلنا أكثر من 200 مخرب بينهم 25 مسئولاً وقادة ميدانيون، ومن لم تتم تصفيته يعرف أن يدنا طويلة. دمرنا جزءاً كبيراً من شبكة أنفاق حماس ولا تستطيع حماس أن تستغله مجدداً[11].
المتغير المحسوب في مستقبل علاقة إسرائيل بحركة حماس بدأت معالمها في البروز مع التغير في سياسات إسرائيل تجاه حكم الحركة في القطاع، بيني غانتس، وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي أكد: "لا حصانة لقادة حركة حماس، فما في ذلك الضيف والسنوار"، فانا لم أبرم اتفاق حماية مع أي منهم، وليس لدي أي التزام بعدم تعرضهم للأذى". وأضاف غانتس خلال تصريحاته لإذاعة جيش الاحتلال، مساء الأحد 23 مايو 2021: "لحين عودة الأسرى والمفقودين "الإسرائيليين"، سنسمح بمرور المستلزمات الإنسانية الأساسية فقط لغزة، إجراءات أكثر محدودية مما كانت عليه عشية المعركة الأخيرة، ولن نسمح بتوسيع مساحة الصيد"[12]. وفي ذلك بروز معالم تغيير جوهري في السياسات الإسرائيلية يمكن من خلال نشهد تعطيل لحركة المعابر التجارية على حدود غزة، ومنع تدفق الأموال القطرية لغزة مرة أخرى ما قد ينعكس على الحالة الإنسانية المتردية أصلًا في القطاع خلال السنوات الماضية.
من المرجّح أن تغير إسرائيل الطريقة التي يتم بها تحويل الأموال القطرية إلى غزة بعد التصعيد على جبهة غزة، فقد ذكرت قناة "كان العبرية" أن نقاشات دارت حول هذا الموضوع في الأيام الأخيرة على المستوى السياسي، لبحث الآليات المناسبة، من منطلق الرغبة في تعزيز السلطة الفلسطينية على حساب حماس.
ووفقا للقناة يجرى نقاش حول الموضوع مع وزير الجيش الإسرائيلي بني غانتس، ومن المتوقع أيضًا مناقشة مماثلة مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقال غانتس خلال إيجاز للصحفيين إنهم "يدرسون كيفية تحويل الأموال القطرية، نريد تقديم طريقة أفضل لتحويل الأموال، ومراقبة المشروع، ونحن نعمل حاليًا على الآليات والمقترحات ذات الصلة، وأضاف غانتس: "سننتهج سياسة تقوي السلطة الفلسطينية وتدمج كل اللاعبين الدوليين، من الولايات المتحدة، عبر الدول الأوروبية، عبر دول المنطقة في عملية إعادة الإعمار[13].
بحسب مسؤول أمني إسرائيلي، أكدت صحيفة هآرتس إن "المستوى السياسي في إسرائيل يعتزم تغيير سياسته تجاه قطاع غزة وحماس"، وأن "أي طلب لنقل بضائع عن طريق كرم أبو سالم، أو جثث مخربين ماتوا في مستشفيات في إسرائيل ومواطنين يريدون العودة إلى غزة سيُرفض". وتابع المسؤول الأمني أنه "حسبما فهمنا، فإن إسرائيل تعتزم تغيير قواعد اللعبة مع غزة، وتم نقل رسائل بهذه الرؤية إلى الوسطاء المصريين[14].
كما أصدر معهد الأمن القومي الاسرائيلي للدراسات الأمنية التابع لجامعة تل أبيب، دراسة يحدد فيها استراتيجية اسرائيل لمرحلة ما بعد المعركة، وتوصي نتائج الدراسة على إسرائيل أن تعمل على انتهاج السياسة التالية[15]:
1- العمل على اعادة الصدارة للسلطة الفلسطينية في القرار الفلسطيني، وتعزيز العلاقة مع اجهزة أمن السلطة الفلسطينية لاعتقال أكبر عدد ممكن من قيادات حماس في الضفة الغربية، وذلك استعدادًا لمرحلة ما بعد عباس.
2- العمل على دفع الأردن لاستبعاد المتشددين الإسلاميين" من هيئات الوصاية الهاشمية في الاقصى.
3- وضع شروط متشددة لدخول المساعدات الى غزة لإبقاء قدرة المقاومة على اعادة بناء قدراتها في الحد الادنى.
4- استمرار السياسات الإسرائيلية التي تؤكد عدم الإستجابة لشروط وقف إطلاق النار على أساس التخلي عن موضوع الشيخ جراح والأقصى.
5- ربط مفاوضات ما بعد المعركة بموضوع الجنود الإسرائيليين الأسرى وجثث جنود آخرين لدى المقاومة وتوقف إرسال البالونات الحرارية من حدود غزة لغلافها الاستيطاني.
ويقترح الجيش الإسرائيلي ورئيس أركانه تغيير طريقة تحويل الأموال القطرية الى غزة، كما يقترح أن يكون الرد بقوة على كل خرق لوقف إطلاق النار، ضمن سياق ممارسة الضغوط الأمنية والسياسية على فصائل غزة لخنقها خلال المرحلة المقبلة.
من الواضح أن إسرائيل بدأت منذ دخول غزة وحركة حماس على خط المعركة في القدس بانتهاج مقاربة جديدة مع غزة مختلفة تماماً عن المقاربة السابقة، فمن المنتظر بناء على هذه السياسات الإسرائيلية وضع عقبات وشروط إسرائيلية ودولية على إعادة الإعمار وفتح المعابر في مشهد قد يعيد إنتاج العقوبات الجماعية والحصار الشديد التي كانت تفرضه إسرائيل على غزة عشية سيطرة الحركة على قطاع غزة صيف عام 2007، ما ينذر بتدهور شديد في الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية المتردية أصلًا.
رابعاً: مآلات الهبّة الشعبية الشاملة
أهم التساؤلات المطرحة على مدار البحث في سياق تفكيك أبعاد ودلالات هذه الهبّة يتعلق باستشراف مستقبل هذه الهبّة في المنظور القريب والبعيد، خاصة أن دخول غزة على خط الهبّة على إطلاق الصواريخ على إسرائيل أدى لسحب البساط والتركيز الإعلامي عما يجري في القدس والمدن الفلسطينية الأخرى، وساهم في لفت الأنظار عن التحركات الشعبية التي جرت في مدينة القدس وضواحيها.
البحث الجدي في مآلات هذه الهبّة يتركز على قدرة هذه المواجهة الشعبية على خلق الديناميات الشعبية والسياسية لاستمرار هذه الهبّة واتساع دائرتها كما حدث في انتفاضة الحجارة عام 1987 لكي تشكل حالة جماعية ونضالية مستمرة تدفع بمزيد من الاهتمام الدولي والإقليمي العربي والإسلامي وتساعد في استمرار جهود الولايات المتحدة على ترميم مسار التسوية، أو بدأ مسار جديد يكون قادر على منح التسوية السياسية مزيد من الفرص للتوصل لحل على أساس مبدأ حل الدولتين كما حدث في العام 1991 عندما انطلقت عملية السلام كنوع من رد الفعل عن انتفاضة الحجارة وحرب الخليج الثانية.
لا شك أن عوامل استمرار هذه الهبّة واتساعها يتوقف على قدرة القوى السياسية في استثمار اللحظة التاريخية والتوحيد وإنهاء الانقسام أو على أقل تقدير تشكيل حكومة وحدة وطنية تكون قادرة على توحيد الصف الوطني والإشراف على جهود إعادة الإعمار، والاستعداد للدخول في مسار تفاوضي جديد برعاية أمريكية وأوروبية يكون ذات جدوى وذات معني، وهذه أمور قد يصعب التوصل إليها في ظل إلا في حالة وجود توافقات دولية وإقليمية على استيعاب حركة حماس ضمن حكومة وحدة وطنية.
مآلات هذه الهبّة في ضوء الوضع الفلسطيني الداخلي والعربي والإقليمي لا يبشر باستمرارها بنفس القوة واتساع دائرتها، رغم استمرار حالة الغضب الشعبي والسياسي من السياسات الإسرائيلية المتراكمة، والتي ساهمت في تفجر بركان الغضب الفلسطيني وانتشار وتوسع كرة النار بسرعة كبيرة، ما يجعل سيناريو بقائها بنفس القوة والوتيرة أمر محدود جدا، لكن هذا الأمر لا يمنع من توفر كل الظروف والمعطيات في عودة تفجر الأوضاع مرة أخرى وبنفس القوة والوتيرة والشمولية، إذا لم يكن هناك تحرك دولي يساهم في إعادة الأمل للشعب الواقع تحت الاحتلال، وضغوط دولية وأمريكية تمنع إسرائيل من العبث مجددًا بالقدس والحرم القدسي الشريف.
خاتمة
جاءت الهبّة الشعبية الشاملة التي شارك فيها كل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده عميقة في أسبابها ودلالاتها وتداعياتها على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومسار التسوية بعد أن ساهمت في منح هذا المسار دفعة قوية للأمام في ظل الاهتمام الدولي والأمريكي بسرعة ترميم عملية التسوية السياسية وفق مبدأ حل الدولتين.
لا شك أن الهبة الشعبية الشاملة وجولة التصعيد الأخيرة أحدثت مجموعة من التحولات الرئيسية والمهمة، كان أهمها عودة الاهتمام بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية بالنسبة للنظام الدولي والإقليمي، من خلال التأكيد على سرعة ترميم مسار التسوية، عبر إعادة تفعيل الدور الأمريكي والتخصير لانطلاقة عملية سلام بناء على قرارات الشرعية الدولية ومبدأ حل الدولتين.
وكما أنها ساهمت في توحد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بما يؤكد وحدة الهدف والمصير للشعب الفلسطيني، والاعتراض على سياسيات العزل العنصرية التي تنتهجها الدولة القائمة بالاحتلال العسكري، ناهيك أنها أحدثت تحولات جوهرية في علاقة إسرائيل بقطاع غزة وحركة حماس، وأدت للبدء في انتهاج سياسيات إسرائيلية جديدة لا تقوم على شراء الهدوء بالمال، وإنما تقوم على أساس تقويض حكم الحركة وممارسة ضغوط سياسية وأمنية واقتصادية عليها.
هذه التحولات وغيرها جاءت نتيجة مباشرة للهبة الشعبية الشاملة، وانعكاس لجولة التصعيد الأخيرة على جبهة غزة، وهي تحولات كفيلة بإعادة تدوير الزوايا الحادة في المعادلة الفلسطينية الداخلية، وبث الروح من جديد في مسار التسوية من جديد، كما أدت إلى إعادة تقييم إسرائيل سياساتها تجاه قطاع غزة، ما ينذر بدخول الأوضاع الإنسانية والأمنية في قطاع غزة في منعرج جديد.
[1] تقدير موقف، الهبّة الشعبيّة في صفوف الفلسطينيّين في إسرائيل: مَحْو الخطّ الأخضر، المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية (مدى الكرمل)، حيفا 25 مايو 2021، ص 2.
[2] عبد العليم، محمد، عودة القضية الفلسطينية إلى الصدارة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة 18 مايو 2021.
[3] Udi Deke, Operation Guardian of the Walls: Envisioning the End, INSS Insight, May 19, 2021.
[4] عبد العليم، محمد، عودة القضية الفلسطينية إلى الصدارة، مرجع سابق.
[5] الحرب على غزة 2021.. الملامح والنتائج المتوقعة بعد وقف إطلاق النار، المرصد المصري للدراسات، القاهرة 20 مارس 2021، متاح
[6] الحرب على غزة 2021.. الملامح والنتائج المتوقعة بعد وقف إطلاق النار، مرجع سابق.
[7] ما هي أبرز ردود الفعل الدولية حول التوصل إلى هدنة في غزة بين إسرائيل وحماس؟، قناة فرنسا 24، 21 مايو 2021، متاح:
[8] اتصال هاتفي بين الرئيس عباس والرئيس بايدن، وكالة الانباء الفلسطينية وفا، نشر بتاريخ 15 مايو 2021 متاح
[9] Readout of President Joseph R. Biden, Jr. Call with Palestinian Authority President Mahmoud Abbas, The White House. MAY 15, 2021
[10] الحرب على غزة 2021.. الملامح والنتائج المتوقعة بعد وقف إطلاق النار، المرصد المصري للدراسات، القاهرة 20 مارس 2021، متاح
[11] تقدير موقف: تداعيات ما بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة 23 مايو 2021.
[12] غانتس: سنسمح بمرور المستلزمات الأساسية فقط لغزة ولن نوسع مساحة الصيد، دنيا الوطن، غزة فلسطين 23 مايو 2021، متاح
[13] تأجيل زيارة العمادي.. إسرائيل تناقش تغيير طريقة تحويل الأموال القطرية إلى غزة، وكالة معا الإخبارية، 24 مايو 2021، متاح:
[14] إسرائيل تواصل اغلاق معابر غزة وتسمح بإدخال مساعدات فقط، وكالة معا الإخبارية، 24 مايو 2021، متاح:
[15]Udi Deke, Operation Guardian of the Walls: Envisioning the End, INSS Insight, May 19, 2021.