
البوابات الحديدية في الضفة الغربية...
أداة تحكم وسيطرة في الجغرافيا الفلسطينية
في سياق التصعيد المستمر للاحتلال الإسرائيلي، واعتبارًا من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهد قطاع غزة عمليات إبادة صلبة باستخدام القوة العسكرية المفرطة. في الوقت نفسه، تُنفذ ما يُعرف بالإبادة الناعمة في الضفة الغربية، حيث ظهرت هذه الإبادة من خلال مجموعة من الإجراءات والسياسات العسكرية والاستيطانية التي تهدف إلى تقطيع الجغرافيا السياسية الفلسطينية.
تتجلى هذه السياسات في فصل المحافظات والبلدات والقرى والمخيمات، مما يسهم في إنشاء نظام فصل بين مختلف المناطق الفلسطينية. وقد تصاعدت هذه الإجراءات الاحتلالية بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، مما يعكس استراتيجية تهدف إلى السيطرة على الأرض وفرض العقاب الجماعي على السكان، مما نتج عنه حالة من التشتت والفصل بين الفلسطينيين. هذا الوضع أعاق قدرتهم على ممارسة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحال دون التعاون والتفاعل الإيجابي بين المواطنين. كما زاد من تصاعد العنف وعطل محاولات تحقيق السلام والاستقرار، وفقًا لمخرجات المجتمع الدولي من مؤتمرات واعترافات بالدولة الفلسطينية وفق «حل الدولتين».
البوابات الحديدية
أقدم جيش الاحتلال على فصل المحافظات والمدن الفلسطينية من خلال البوابات الحديدية التي تنتهك الجغرافيا السياسية للدولة الفلسطينية وتفصلها عن بعضها البعض. لم تكتفِ بمئات الحواجز العسكرية التي تقطع التواصل الجغرافي بين محافظات الضفة الغربية والقدس، وإنما ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك حينما شرعت ببناء بوابات حديدية وبذلك لم تعد الحواجز مجرد نفاط تفتيش يمكن إزالتها أو إعادة تموضعها في مناطق أخرى، بل تحولت إلى أدوات تحكم وسيطرة بهدف شل الحياة الفلسطينية.
ازدادت البوابات الحديدية في الضفة الغربية وتعاظم استخدامها منذ بدء الاحتلال بارتكاب الإبادة الصلبة- بقوة النار- في قطاع غزة، حيث تزايدت الإجراءات الاستيطانية والفصل الجغرافي في الضفة الغربية، مما يحول المحافظات والمدن والقرى الفلسطينية إلى معازل في غضون ساعات. وبلغ تعداد البوابات والحواجز في الضفة الغربية والقدس (898) بكافة أشكالها وتصنيفاتها، وتزايد عدد البوابات الحديدية في الضفة الغربية إلى (224) بعد بدء الإبادة الجماعية بغزة. وفي سياق متصل رصد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان زيادة عدد البوابات الحديدية حيث أقام الاحتلال (17) بوابة حديدية إلكترونية مطلع العام 2025 بالإضافة إلى العديد من الحواجز ونقاط التفتيش.
لم يتوقف الاحتلال الدي أقام البوابات الحديدية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي «بوابات الكترونية» عند هذا الحد، وإنما تزايد عددها إلى ما يقارب (1000) بوابة تنتهك وحدة الأراضي بحسب وزارة الخارجية والمغتربين التي تنظر بخطورة بالغة إلى إقدام سلطات الاحتلال الإسرائيلي على تركيب المزيد من البوابات الحديدية، وآخرها تركيب بوابة عند مدخل بلدة العيزرية.
البوابات وفرض السيادة
تأتي البوابات الحديدية ضمن الخطة الاستراتيجية الاحتلالية الهادفة إلى محو الوجود الفلسطيني وزرع بدلًا منه الاستيطان والمستوطنين، حيث تعتبر البوابات الحديدية مؤشرًا واضحًا لفرض السيادة الكاملة على الضفة الغربية وحصر المجتمع السياسي الفلسطيني في معازل.
عبر عن تلك الاستراتيجية اليمين الديني الشعبوي في إسرائيل، فقد صرح وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش بأن العام 2025 هو عام «فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية»، معتبرًا فوز دونالد ترامب في رئاسة الولايات المتحدة فرصة ذهبية لفرض السيادة هي الطريقة الوحيدة لمنع إقامة الدولة الفلسطينية. وفي ذات السياق، لم يترك بنيامين نتنياهو أي فرصة محلية إعلاميًا وسياسيًا واجتماعيًا إلا وجدد رفضه لإقامة الدولة الفلسطينية والتي يعتبرها تهديد وجودي لإسرائيل، وفي أخر تصريحاته بعد الاعترافات المتزايدة بالدولة الفلسطينية لما يقوم به الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، قال نتنياهو: «لن تقام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن، الرد على المحاولات الأخيرة لفرض دولة إرهابية على أرضنا سيأتي بعد عودتي من الولايات المتحدة».
وعلى إثر تصريحات نتنياهو، حذّرت عدة دول أوروبية، الحكومة الإسرائيلية من اتخاذ خطوات أحادية الجانب، وفي مقدمتها ضمّ أراضٍ من الضفة الغربية، وذلك في أعقاب التوجّه المتزايد نحو الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية في تصريحات صحفية أدلت بها لشبكة BBC، قالت وزيرة الخارجية البريطانية، ايفيت كوبر، إنها بعثت برسالة واضحة لنظرائها في إسرائيل مفادها أن «الحكومة الإسرائيلية يجب ألا ترد على الاعترافات الدولية بمحاولة ضم الضفة الغربية”.
تُعدُّ البوابات أداة حيوية للتحكم والسيطرة في الجغرافيا الفلسطينية، مما يعيق بشكل مباشر إقامة الدولة الفلسطينية ويفرض قيودًا صارمة على التواصل بين محافظاتها. في الوقت نفسه، تستمر إسرائيل في فرض السيطرة والسيادة على المناطق الفلسطينية بشكل غير معلن، مما يعزز حالة من الغموض وعدم الاستقرار. تترك هذه السياسات آثارًا وتداعيات سلبية متعددة على المجتمع الفلسطيني.
التأثيرات والتداعيات
إعاقة التنقل والحركة، تمثل البوابات الحديدية انتهاكًا صارخًا للاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان، خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي نصت عليها المادة (12) وخلافًا لكل القوانين الدولية والحقوقية تعيق سلطات الاحتلال بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة (OCHA) أدت زيادة عدد البوابات الحديدية وإغلاق الطرق إلى إعاقة حركة تنقل المواطنين والوصول للخدمات الأساسية وأماكن عملهم.
تدمير الاقتصاد الفلسطيني، ألحقت البوابات الحديدية خسائر اقتصادية في المجتمع الفلسطيني واقتصاده المتهالك بفعل تخريب المستوطنين والإجراءات والقيود العسكرية في الضفة بالإضافة إلى القرصنة المالية التي تتعرض إليها السلطة الفلسطينية. وقد رصد معهد أبحاث السياسات الاقتصادية (ماس) الخسائر الاقتصادية الكبيرة بسبب الحواجز والاغلاقات اليومية في شمال ووسط الضفة الغربية، إذ انخفضت حركة النقل منذ أكتوبر 2023 وحتى مارس 2025 بنسبة 51.7% بالإضافة إلى زيادة في وقت الوصول للمتنقلين بين المحافظات الفلسطينية بنسبة 77.9 %، وهو ما أثر بشكل مباشر على عدد ساعات العمل اليومية، إذ قدرت عدد ساعات العمل الضائعة يوميا بـ 191.146 وهو ما يكلف الاقتصاد الفلسطيني خسائر بقيمة 16.8 مليون دولار/ شهريا.
تعطيل التعليم، أثرت البوابات الحديدية في المنظومة التعليمية في الضفة الغربية وعرقلة تحرك الكادر التعليمي والطلبة بانتظارهم ساعات طويلة على البوابات الحديدية. وهو ما اضطر العديد من الجامعات الفلسطينية إلى التحول نحو التعليم الالكتروني في فترات عدة خلال العامين الدراسيين الماضي والجاري.
الفصل الجغرافي، عملت البوابات الحديدية على فصل التواصل الجغرافي والتنقل بين المحافظات والمدن الفلسطينية بالضفة الغربية، والذي يؤثر على تفسخ النسيج الاجتماعي والثقافي بين المحافظات ومدنها وقراها.
سياسات عقابية، منذ مطلع العام الحالي يخضع الفلسطينيون لمرور عبر مئات البوابات والحواجز، التي تخضع لأهواء جيش الاحتلال في الضفة الغربية والقدس، الأمر الذي يزيد من معاناة المواطنين، وقد تخضع لاشتراطات المستوطنين الذي يقتحمون الأراضي فتغلق الطرقات بالبوابات لتأمين عبثهم بممتلكات الفلسطينيين. تفتح البوابات الحديدية وتغلق وفقًا لقرارات عسكرية غامضة دون أي التزام بزمن محدد أو أي مسوغ قانوني وإنساني لتتحول إلى سياسات عقابية ضد الفلسطينيين. وهو ما كشفت عنه هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عندما وثقت إغلاق كافة البوابات الحديدية والحواجز بالضفة الغربية يوم 13 حزيران/ يونيو 2025 في إشارة إلى التحكم والسيطرة الاحتلالية.
العزل والإخضاع، تمثل البوابات الحديدية إحدى أدوات التحكم والسيطرة في الحياة اليومية للفلسطينيين، وتمثل نموذجًا لنظام السيطرة الاستعماري المبني على العزل والإخضاع، والتي تحول الضفة الغربية إلى مجموعة من المعازل غير المترابطة تنعدم معها فرص إقامة الدولة الفلسطينية. وقد وصفت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينيين البوابات بأنها تعمل على تقسيم الضفة الغربية المحتلة إلى أجزاء متناثرة لا رابط بينها، وتحويل التجمعات الفلسطينية إلى سجون حقيقية مغلقة يُمنع الدخول إليها أو الخروج منها إلا بإذن من الاحتلال. كما وتعتدي بشكل فج على حق المواطنين في التنقل والوصول إلى مصادر رزقهم والمراكز الصحية والتعليمية.
الخلاصة
فاقمت البوابات الحديدية الأزمات الفلسطينية في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعمقت الأعباء على السلطة الفلسطينية ومواطنيها لجعل الحياة ضمن نطاق الأزمات المفتعلة لإجبارهم على الهجرة بصمت وتفريغ الأرض كما يصنع في قطاع غزة علنًا، وهو ما دفع الحكومة الفلسطينية عبر وزارة الخارجية للمطالبة بإجراءات دولية حقيقية عاجلة لإجبار الاحتلال على تفكيك تلك البوابات وإزالتها، ووقف إجراءاته أحادية الجانب غير القانونية، وتوفير الحماية الدولية لشعبنا قبل فوات الأوان.