
وحدة تقدير الموقف مركز الأبحاث الفلسطيني
في خطوة دبلوماسية جماعية ضد الإجراءات الاحتلالية والإبادة المرتكبة بحق الفلسطينيين اعترفت مجموعة من الدول بالدولة الفلسطينية، وخاصة الدول الغربية الكبرى وسط رفض إسرائيلي- أمريكي وبذلك نالت فلسطين اعترافًا من 159 دولة من أصل 193. وبالرغم من الرفض الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا لتسوية الصراع وفقًا لقرارات الشرعية الدولية يبقى «حل الدولتين» الحل المقبول دوليًا لتسوية الصراع وإحلال السلام. إذ تعزز الاعترافات الدولية المكانة الدولية لفلسطين في مواجهة السياسات الإسرائيلية الرامية إلى المحو والإبادة.
اعتراف المجتمع الدولي... فلسطين 194
استوفت فلسطين جميع الشروط القانونية والسياسية لتكون دولة، وحصلت في العام 2012 على اعتراف أممي «دولة مراقب، غير عضو في الأمم المتحدة» بتصويت 138 دولة. وهو ما أهلها لمكانة دولية تسمح لها بالانضمام إلى العديد من المنظمات والاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وبعد ذلك توجهت فلسطين إلى المحاكم الدولية لمقاضاة الاحتلال، حيث توجهت للمحكمة الجنائية الدولية في العام 2015، وفتحت الجنائية تحقيقًا في الحالة الفلسطينية في العام 2021، وأمام الدائرة التمهيدية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
وفي ذات السياق، اعتمدت الجمعية العامة في 12 أيار/مايو 2024 قرارًا يدعم طلب فلسطين للحصول على العضوية الكاملة ويوصي مجلس الأمن بإعادة النظر بطلب فلسطين بالحصول على العضوية الكاملة، وهو قرار يعبر عن الإرادة الدولية، لكنه لا يمنح فلسطين العضوية الكاملة، بل يؤكد على تأهيلها لأن تكون دولة. وبالرغم من الموقف الدولي الداعم لإقامة الدولة الفلسطينية وانضمامها كعضو كامل في الأمم المتحدة، إلا أن «الفيتو» الأمريكي حرم الفلسطينيين من الدولة في الأمم المتحدة سابقًا، ومنح الاحتلال استمرارية ارتكاب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني. حيث استخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» لإسقاط مشروع قرار تقدمت به الجزائر لمجلس الأمن منتصف العام 2024، في حين أيد القرار 12 عضوا في المجلس. وبذلك تعرقل الولايات المتحدة الأمريكية العضوية الكاملة للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة لتصبح الدولة رقم 194.
اعتراف الدول بالدولة الفلسطينية
يمثل اعتراف الدول الغربية (فرنسا، بريطانيا، كندا، أستراليا، البرتغال) خطوة محورية في تثبيت «حل الدولتين» ويضع حدًا للادعاءات الاسرائيلية ومزاعمها التي تصف الضفة الغربية أنها «أراضٍ متنازع عليها»، ويدحض المزاعم القائمة على تفسيرات دينية ووعود إلهية.
من جانب آخر، يكتسب اعتراف (بريطانيا) أهمية تاريخية فهي الدولة التي ساهم وزير خارجيتها آرثر بلفور في إشعال صراع مستمر منذ أكثر من قرن بوعده المثير للجدل عام 1917. إن تصحيح هذا الخطأ، ولو بعد عقود، وهو ما أشار إليه وزير خارجية بريطانيا السابق ديفيد لامي David Lammy في خطابه بالأمم المتحدة في كلمته «تتحمل بريطانيا مسؤولية خاصة لدعم حل الدولتين». والحقيقة الراسخة هي اعتراف دولي واسع بالدولة الفلسطينية سواء على مستوى الدول الكبرى صاحبة حق النقض «الفيتو» مثل بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين. أو القوى الاقتصادية كمجموعة العشرين G20، وهو ما سيؤثر إيجابًا في دعم القضية الفلسطينية سياسيًا واقتصاديًا في السياسة الدولية الراهنة والمستقبلية.
ومع كل ذلك، يرى خبراء القانون والساسة الأوروبيون أن الاعتراف يعتبر بيانًا أخلاقيًا وسياسيًا قويًا، لكنه لن يغير شيئا على أرض الواقع. وذلك بفعل الصراع الطويل، يبقى الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي لا تمتلك حدودًا دولية، ولا عاصمة، ولا جيش، بسبب الاحتلال العسكري للضفة الغربية والقدس، وتدميره لقطاع غزة منذ عامين. مع أن قرارات الشرعية الدولية واتفاقات التسوية- مثل اتفاق أوسلو- تؤكد حق فلسطين في إقامة مستقلة، وتوضح شكل حدودها الجغرافية وعاصمتها القدس، ولكن القوة المادية لا تزال هي المسيطرة على الأرض، ومع ذلك، لا يمكن للإحتلال إلغاء الحق الفلسطيني في تقرير مصيره بموجب قرارات الشرعية الدولية وأحكام القانون الدولي.”
دوافع الاعتراف الدولي
هنالك مجموعة من العوامل المترابطة في البيئة الدولية الراهنة التي دفعت دول العالم للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ويمكن إجمال هذه العوامل بما يلي:
- السياسة الاستعمارية الإسرائيلية، ورفضها للتسوية السياسية، واستراتيجيتها لتغيير معالم الدولة الفلسطينية ومنع إقامتها عبر الاستيطان والقيود المفروضة على الفلسطينيين، والإبادة المرتكبة في قطاع غزة، دفعت الى اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية للحفاظ على تطبيق «حل الدولتين»، إذ شهد العالم أجمع رفض الدول للمبررات التي تقدمها إسرائيل للرأي العام الدولي، وأظهر انسحاب العديد من الوفود الحاضرة في الاجتماع الثمانين للجمعية العامة حين اعتلى نتنياهو المنبر لإلقاء كلمته.”
- «حل الدولتين» مشروع أوروبي، حل الدولتين القائم على قرار التقسيم 181 في العام 1947 هو مشروع أوروبي بالأساس، وتدافع أوروبا عن مشروعها لإحلال السلام في المنطقة العربية. ففي السابق تشكلت اللجنة الرباعية في العام 2002 لإحياء العملية السلمية أوروبيًا، باقتراح رئيس الوزراء الإسباني خوسيه ماريا أثنار نتيجة اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000. وفي الوقت الراهن، عقدت فرنسا بالشراكة مع المملكة السعودية «مؤتمر نيويورك» لإحياء عملية السلام وتنفيذ «حل الدولتين» وعدم السماح لإسرائيل بتصفية القضية الفلسطينية، وتبعتها عدة دول أوروبية تدعم المشروع نفسه.
- الشرعية الدولية والقانون الدولي، تشكل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية جزءا من المجتمع الدولي الذي أصدر القرارات الأممية في «الجمعية العامة، مجلس الأمن» على مدار تاريخ الصراع، وانتصارًا للقانون الدولي والشرعية الدولية، اعترفت بالدولة الفلسطينية.
دلالات الاعتراف الدولي
- ترسيخ الحق الفلسطيني: يرسخ الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية الحق الفلسطيني بإقامة دولته وتقرير مصيره، ويحول النقاش الدولي من مسألة أحقية الشعب الفلسطيني في إقامة دولته إلى مسألة دولة تحت الاحتلال يجب إنهاؤه وفقًا للتسوية السياسية القائمة على حل الدولتين. وترى وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية أن اعتراف الدول يمثل اعترافا بالحقوق العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، بما يضمن حماية حل الدولتين من المخاطر التي تتهدده نتيجة استمرار جرائم الإبادة والتجويع والتهجير والضم التي ترتكبها سلطات الاحتلال ضد شعبنا.
- دعم وحماية الدولة الفلسطينية، تتعرض أراضي الدولة الفلسطينية لإبادة ناعمة في الضفة الغربية والقدس، وإبادة مباشرة في قطاع غزة، بالإضافة إلى الإجراءات الاحتلالية الهادفة إلى تدمير مؤسسات الدولة كالحصار المالي والمؤسسي، والاغلاقات والمعازل، والاقتحامات المتكررة، وهو ما يدفع الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية بالوقوف إلى جانب استحقاقاتها ودعمها سياسيًا وماليًا لتكون قادرة على مواصلة بناء مؤسسات الدولة للقيام بأدوارها.
- العزلة الدولية للاحتلال تعظم الاعترافات الدولية، لا سيما الغربية تجاه إسرائيل وحكومتها الائتلافية المتطرفة التي تهدد بالضم والتوسع دون أي اعتبار للشرعية الدولية، مما يعزز الانطباع الدولي بأن السياسات الأحادية لإسرائيل تعيق التسوية السياسية. وقد اعترف نتنياهو بالعزلة الدولية في مؤتمر لوزارة المالية قائلاً: «إسرائيل تواجه نوعًا من العزلة قد يستمر لسنوات، وليس لديها خيار سوى الاعتماد على نفسها»، وأضاف «اقتصاد إسرائيل سيحتاج إلى التكيف ذاتيًا وأقل اعتمادًا على التجارة الخارجية». وهاجم رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد نتنياهو وحكومته بسبب تحطيم مكانة إسرائيل الدولية بفعل انعدام المسؤولية وسياسة الهواة والغطرسة التي تنتهجها.
- اختلاف المجتمع الدولي مع الولايات المتحدة. تدعم الولايات المتحدة إسرائيل وترفض المواقف الأوروبية الداعمة لإقامة الدولة الفلسطينية، وتفرض قيودا على السلطة الوطنية بمنع وصول ممثليها إلى مقر الأمم المتحدة. في المقابل، ترى الدول الأوروبية أن السلطة الفلسطينية مجبرة، في ظل الأفعال الإسرائيلية على الأرض على حماية «حل الدولتين».
وقد مثل «مؤتمر نيويورك» الذي عقد في الأمم المتحدة عمق الانقسام بين أمريكا وأوروبا حول كيفية معالجة الصراع في الشرق الأوسط، إذ أوضحت استراتيجية فرنسا بأن الدبلوماسية قادرة على تقديم بديلًا قابلًا للتطبيق بالشراكة مع المملكة السعودية، وإمكانية التوصل إلى حل دائم في شكل دولتين لأن استراتيجية إسرائيل لم تسفر إلا عن مزيد من المعاناة للفلسطينيين وحتى تعريض «الرهائن الإسرائيليين» للخطر.
تظل الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الوحيد في البيئة الدولية التي تقدم دعمًا غير محدود لإسرائيل، وتعزز استراتيجيتها التوسعية في ممارسة سياسة الإبادة ضد الفلسطينيين ومنع إقامة دولتهم. يتضح هذا الدعم بشكل جلي خلال ولايتي دونالد ترامب الرئاسية السابقة والحالية، حيث اتجهت سياسة الولايات المتحدة نحو إقرار مواقف وسياسات مواتية لإسرائيل متجاهلةً البيئة الدولية والقانون الدولي.
الخلاصة
إن الاعترافات الواسعة بالدولة الفلسطينية، رغم عدم قدرتها حاليًا على تحقيق إقامة الدولة الفلسطينية على أرض الواقع، تسفر عن مجموعة من النتائج الفورية. من أبرز هذه النتائج هو توافق سياسات الدول المعترفة بفلسطين في الساحة الدولية مع التزاماتها الداعمة لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، فضلاً عن رفض التعاطي مع السياسات الإسرائيلية التي تسعى إلى محو هذا الحق من خلال الاستيطان وفرض السيادة.
أما بالنسبة للنتائج المستقبلية، فإن سياسات التصويت في المحافل الدولية للدول التي تعترف بفلسطين لن تتعارض مع أي توجه أممي أو قانوني تسعى السلطة الفلسطينية لتحقيقه لمحاسبة الاحتلال ومقاضاته.