الاضراب الموحد – بارقة أمل لاستراتيجية وطنية جديدة

                                                                                                                                                                 د.منتصر جرّار

مدير عام مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية 

مسلسل التغول في القدس

دأبت الحركة الصهيونية ومنذ تأسيسها وبداية التخطيط لاحتلال فلسطين على العمل الجاد للسيطرة على الأرض والعمل على إحداث التغيير الجغرافي والعمراني في الأراضي المحتلة وخاصة مدينة القدس وما حولها وفي سباق مع الزمن من أجل تحقيق أهداف جيو-سياسية ، تتمثل بمنع إمكانية أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية ، ومن جهة أخرى لاجل إعادة صياغة تاريخ هذه المدينة من جديد عبر انتاج روايات صهيونية توراتية مزورة هدفها الأول والأخير هو ترسيخ فكرة أن القدس هي العاصمة اليهودية لإسرائيل .

وقد بدا هذا التوجه من خلال دعوة بن غريون إلى جلب أكبر عدد من اليهود إلى القدس الشرقية عام 1967 فور احتلالها من قبل إسرائيل، في محاولة لسباق الزمن لفرض واقع ديمغرافي واجتماعي يتوائم مع احتلال الأرض يؤثر بشكل مباشر على حياة المقدسيين ومستقبلهم على كافة المستويات .

وقد مرت مراحل السيطرة الصهيونية على القدس بعدة محطات حيث بدأت عام 1920-1948 وتركزت على بناء الأحياء اليهودية في ظل الانتداب البريطاني في منطقة غربي القدس ، أما المحطة الثانية فكانت ما بين عام 1948-1967 وهنا تمت السيطرة على العديد من البلدات الفلسطينية المحاذية للقدس إضافة الى احكام السيطرة على القدس الغربية ، وبعد احتلال القدس الشرقية عام 1967-1968 بدأ تأسيس المستوطنات هناك وكان الهدف الرئيسي هو التخطيط لعدم إمكانية تقسيم القدس بالمستقبل. واستمر برنامج البناء والحشد في القدس وحولها حتى العام 2010 حيث بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة على مباني الفلسطينيين بالقدس الشرقية ومنحها لمستوطنين ولجمعيات صهيونية-أمريكية ممولة بمصادر مادية مهولة .

 كل هذه المراحل والمحطات والتي تقدر بمئة عام من الاستعمار الاستيطاني الاحلالي أدت بشكل أو بآخر الى عدم مقدرة الفلسطينيين على تطوير مدينتهم والعيش بشكل طبيعي وممارسة حقوقهم الطبيعية، وبناء على ما ذكر فإن الهدف الأساسي من هذه الاجراءات في القدس ترمي إلى تغييرمسارات الجغرافيا الفلسطينية من خلال إزالة العديد من البلدات العربية حول القدس واستبدالها باسكانات وبلدات يهودية، اخراج اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من القدس ومحيطها بعد محاولات النهب والتضييق والهدم واستبدالهم بمواطنين يهود، التسابق مع الزمن بالسيطرة على الأحياء التاريخية والإرث والحضارة في محاولة لتحويلها الى يهودية الطابع ، إضافة الى سياسات السيطرة على النمو من خلال عدم منح تراخيص وهدم البيوت والتضييق على الأحياء العربية .

رمزية المدينة المقدسة

 تحمل مدينة القدس رمزية عالية في نفوس المسلمين والمسيحيين العرب وخاصة الفلسطينيين وفي كافة أماكن تواجدهم كونها عاصمتهم المستقبلية، وكونها أيضاً مدينة ذات طابع ديني وتاريخي وسياسي عميق، وبمجرد اقدام الاحتلال الإسرائيلي بالمساس بهذه المدينة المقدسة فإن الهم الوطني للمواطن الفلسطيني يتغلب على كافة الهموم الحياتية، وينطلق ليدافع عن هذا المكان المقدس والذي يربطه بالعادة بشرفه وعرضه، وكذلك تنطلق مشاعر القومية والدينية لدى الكثير من المسلمين عند حدوث أي مساس بالأماكن المقدسة .

هبة باب العمود

قام المقدسيون بالتصدي للاعتداءات الإسرائيلية بالخمس سنوات الأخيرة بعد ان زادت وتيرتها، فمن هبة مواجهة البوابات الالكترونية إلى هبة باب الرحمة وأخيراً هبة باب العمود في رمضان الماضي 2021 ، وقد قامت هذه الهبات جميعها بعد المساس بالأماكن المقدسة، ومحاولة تغيير الأمر الواقع، ومن جهة أخرى بعد تمادي المستوطنين في اقتحامهم لباحات وساحات الحرم القدسي بحماية شرطة وجيش الاحتلال، في الوقت الذي يتم فيه التضييق على سكان المدينة ووضع البوابات الحديدية والتفتيش والاعتقال والهدم بحجة عدم الترخيص، وقد زاد التوتر بشكل أوسع عندما قرر الاحتلال اخلاء 27 عائلة فلسطينية من بيوتهم بحي الشيخ جراح والادعاء أن ملكيتها تعود للمستوطنين اليهود . كل هذه الأسباب كانت كفيلة لاطلاق شرارة الهبة الشعبية الأخيرة ضد الاحتلال ومستوطنيه ، حيث انتقلت الأحداث من القدس إلى الداخل المحتل عام 1948 لتبدأ هبة شعبية وطنية عفوية في المدن العربية ناجمة عن سياسات التمييز العنصري واعتداءات المستوطنين ومنع المسلمين من الذهاب إلى القدس لتأدية الصلوات والعبادات في شهر رمضان المبارك .

التصعيد في غزة

مارس الاحتلال الصهيوني بزعامة رئيس حكومته نيتنياهو أبشع المجازر في قطاع غزة من خلال استهداف المدنيين وهدم الأبراج والمباني السكنية وتدمير البنية التحتية  ، متجاهلا كل المؤسسات والمواثيق والأعراف الدولية، في محاولة لتقوية حضوره أمام شعبه ولتسويق نفسه في الانتخابات الإسرائيلية الحالية أو القادمة وهذا ما أصبح يتكرر في كل انتخابات إسرائيلية ، حيث أصبح الفلسطينيون هم المادة الإعلامية المستخدمة في التنافس اليميني اليميني المتطرف والاشد تطرفا في إسرائيل ، وأمام هذا البطش أصبح لا بد من استحداث وسائل للضغط على هذا المحتل وعدم السماح له بالاستفراد مرة في غزة ومرة في الضفة أو القدس أو فلسطيني الداخل .

هل ستتحول هذه الهبة لانتفاضة

هناك احتمالية أن تحدث هذه المرة انتفاضة فلسطينية ثالثة تشارك فيها كل الأراضي المحتلة في القدس والضفة وأراضي 48، وستكون مدعومة من قطاع غزة رغم الانفصال الجغرافي، وهذا يمكن أن يحدث لعدة أسباب أهمها هو الشعور المشترك بالهوية والتضامن والتلاحم الاجتماعي والاتفاق على قدسية هذه الانتفاضة، من جهة أخرى هناك إرادة سياسية على المستوى السياسي الرسمي والمتمثل بالرئيس ورئيس الحكومة والقيادة الفلسطينية بكسر هذه العنجهية والاستفزاز والاعتداءات المتواصلة على مقدساتنا وشعبنا، هناك شعور قومي ديني مشترك تجمع عليه جميع شرائح المجتمع يتمثل بقدسية مدينة القدس وضرورة لجم اعتداءات المستوطنين وكسر سياسات التمييز العنصري  بحق أبناء شعبنا، وآخر هذه الأسباب هو وجود حاضنة شعبية عربية وإسلامية ودولية للحقوق الفلسطينية وخروج الشعوب بمسيرات تندد باعتداءات إسرائيل على الشعب الفلسطيني وتطالب باعطاؤه حقوقه المشروعة .

ولربما من أهم المؤشرات الأساسية لحدوث انتفاضة شعبية هو حالة الانسجام والتي بدأت تظهر من خلال التنسيق المشترك للخطوات العملية على الأرض والتي بدأت بشكل متزامن بمسيرات واحتجاجات داخل القرى والمدن العربية بالداخل المحتل والقدس والضفة الغربية إضافة إلى دخول قطاع غزة المفصول جغرافيا بسبب إجراءات الاحتلال بطريقته الخاصة لوقف تجاوزات الاحتلال وبطشه الانتقامي من أبناء شعبنا في الداخل المحتل والقدس والضفة .

الإضراب الموحد

دعت لجنة المتابعة العربية العليا الى أن يكون يوم الثلاثاء 18/5/2021 يوم اضراب شامل في الأراضي المحتلة عام 1948 ، ليتم تبني هذا الاضراب في الضفة الغربية والقدس من قبل القوى الوطنية والجهات الرسمية الحكومية  ليكون أول اضراب موحد منذ العام 1936، والذي كان من أهم مطالبه إيقاف الهجرة اليهودية الى فلسطين وسن تشريع يمنع تسريب الأراضي الفلسطينية وتشكيل حكومة وطنية، ولكن ما يجب فعله هو تجنب نقاط الضعف في اضراب ال 1936 والعمل على تنفيذ اضراب ناجح يوصل الصوت الفلسطيني وبنفس الوقت يوجع الاحتلال الإسرائيلي والمصالح الإسرائيلية وتعطيل وشل الحركة في كل المواقع ، واذا ما نجح هذا الاضراب فانه سيؤسس ويقوي احتمالية قيام حركة مقاومة مدنية ( شعبية) تحمل طابع الاستدامة وتحقق الأهداف المرجوة من أي حراك أو مقاومة وهو انهاء الظلم والاحتلال .

وهنا يستوجب وضع أهداف واضحة قابلة للتحقيق تحظى بتأييد واسع ولعل من أهم النماذج في هذا السياق هو نموذج المقاطعة الاقتصادية للاحتلال والبدء بمنع دخول منتجات الاحتلال للأسواق الفلسطينية، ولعلنا نذكر أن من أهم أسباب فشل الثورة عام 1936 هو ان التأثير الاقتصادي للاضرابات كان محدوداً وبصورة جزئية، والمهم بعد ذلك هو اشراك كافة القطاعات وخصوصاً مؤسسات المجتمع المدني ورجال الأعمال والمؤسسات الحكومية ذات الصلة من أجل تكثيف الجهود والنشاطات والمحافظة على ديمومتها، ومن المهم أيضاً أن يتم العمل على انهاء الانقسام بشتى السبل من أجل توحيد القنوات مع دول العالم لتدعيم النضال .

هل هناك أمل بالمستقبل ؟

يمكن استغلال هذه اللحمة الجماهيرية الفلسطينية والعربية والتأييد العالمي بإعلان استراتيجية وطنية للمقاومة الشعبية لاستعادة الحقوق الفلسطينية يشارك بها الكل الفلسطيني وهنا يجب أن يتم انهاء الانقسام وأن تتم الوحدة الوطنية لوضع قيادة سياسية وميدانية تقود النضال الوطني على الأرض، والهدف من ذلك هو كسر سياسة الأمر الواقع وسياسات التغول الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، وهذا سيدفع بالتأكيد إلى أن يصبح هذا الاحتلال احتلالاً مكلفا سواءً من الناحية الاقتصادية أو الدبلوماسية، والعمل على فضح عنجهية هذا المستعمر من خلال توسيع العمل لبناء شبكة عالمية عريضة لفضح ممارساته العنصرية، ويعتبر هذا من أهم أساليب المقاومة الشعبية الهادف الى كسب التأييد العالمي، من هنا سيشعر السياسيون في العالم بأن هذا الاحتلال لا بد من زواله وأن هناك صعوبة في استمراره وربما أن تجربة جنوب افريقيا هي خير برهان على نجاح العمل المشترك .

 

 

الاضراب الموحد – بارقة أمل لاستراتيجية وطنية جديدة