خلدون البرغوثي

صحفي وكاتب في الشأن الإسرائيلي

مع بدء العملية العسكرية الروسية أو الغزو في أوكرانيا طرحت إسرائيل نفسها وسيطا في الأزمة، وعرض رئيس حكومتها نفتالي بينيت على طرفي الأزمة الوساطة، ووصل الأمر إلى اعتبار صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أن الوسيط الرئيسي في المفاوضات بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فلودومير زيلينسكي هو رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، وأن الاتفاق المطروح بين الطرفين هو نتاج وساطة بينيت شخصيا.

مع ذلك قالت صحيفة هآرتس إن الاتفاق المعروض على زيلينسكي لا يمكن وصفه إلا بالاتفاق المذل، لكنه قد يجنب الأوكرانيين تدمير بلادهم حسب وصف الصحيفة.

إسرائيل بين الحرج الروسي والضغط الأميركي

تجنبت حكومة بينيت في بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا إدانة العملية العسكرية الروسية، لكنها أقدمت على هذه الخطوة متأخرة على لسان وزير خارجيتها يائير لبيد، وهي إدانة يبدو أن بينيت مهد لها لدى الكرملين، عبر اتصالاته مع الرئيس بوتين خلال بدايات مساعيه للتوسط. وهذا الأمر جعل روسيا تبلغ إسرائيل أن موسكو استوعبت الإدانة الإسرائيلية، وأن الموقف الإسرائيلي هذا لن يؤثر على التنسيق العسكري بين الجيش الإسرائيلي والقوات الروسية في سوريا، أي أنه لن يؤثر على الغارات التي تشنها إسرائيل على مواقع في العمق السوري. وتوقعت إسرائيل أنها قد تخرج بأقل الأضرار من تبعات الأزمة الروسية-الغربية، لذا أصدر لبيد تعليماته لباقي وزراء الحكومة الإسرائيلية بعدم الإدلاء بأية تصريحات تتعلق بالأزمة في أوكرانيا كي يحافظ على توازن الموقف الإسرائيلي. كما صدرت تعليمات لقادة الجيش في إسرائيل بتجنب إصدار أية تصريحات قد تفسرها موسكو في غير مصلحة إسرائيل.

لكن التوقعات الإسرائيلية كانت قاصرة كما يبدو، إذ سارعت أوكرانيا إلى انتقاد إسرائيل لتأخرها في إدانة روسيا، ثم تعرضت إسرائيل لانتقادات أميركية، بسبب موقف تل أبيب السابق بالامتناع عن تأييد قرار يدين روسيا في الأمم المتحدة، وتعرضت حكومة بينيت لضغوط أميركية كي تنضم للغرب بشكل فعلي في موقفه وإجراءاته العملية ضد روسيا. هذه التطورات وضعت وزير الخارجية الإسرائيلي لبيد مرة أخرى في الواجهة، فأعلن أن إسرائيل ستدعم القرار الأممي ضد روسيا، بل ذهب أبعد من ذلك عندما قال إن الحكومة الإسرائيلية ستشكل لجنة خاصة لدراسة الأثر السياسي والاقتصادي لإمكانية انضمام إسرائيل إلى رزمة العقوبات الغربية ضد روسيا، لكن يبدو أن هذا الإعلان كان فقط لكسب الوقت للبحث عن مخرج لإسرائيل من هذه الاستحقاقات الغربية. ودعا لبيد الوزراء الإسرائيليين إلى تجنب منح أي استثناء للمسؤولين الروس أو للشخصيات الروسية التي قد تطالها العقوبات حتى لو كانوا من حملة الجنسية الإسرائيلية. وجاء هذا الموقف ردا على طلب مؤسسة “ياد فاشيم” المسؤولة عن إحياء ذكرى الهولوكوست في إسرائيل، استثناء ملياردير روسي قدم ملايين الدولارات للمؤسسة من العقوبات الإسرائيلية.

في ظل معضلة إسرائيل وبسبب تميز علاقاتها مع طرفي الأزمة -روسيا والغرب-، فقد هربت إلى الوساطة بين الطرفين، ما دفع الغرب وتحديدا واشنطن إلى تجنب الضغط على بينيت لتصعيد الموقف الإسرائيلي تجاه روسيا، وبقيت خطوط التواصل بين بينيت وبوتين مفتوحة بشكل مباشر.

سياسيا-أمنيا

تعتبر إسرائيل روسيا شريكا استراتيجيا لها، في ظل المعادلة الدولية، والإقليمية، فروسيا ذات العلاقات المتميزة مع سوريا وإيران، هي نفسها روسيا التي تمنح طائرات سلاح الجو الإسرائيلي -عبر آلية التنسيق الأمني بينهما المعمول بها منذ عام 2015-، حرية العمل في الأجواء السورية، وتوجيه ضربات لمواقع عسكرية سورية، أو لما تصفها بالميليشيات الموالية لإيران في سوريا، بما فيها حزب الله اللبناني. وحسب تقديرات المراسل العسكري لصحيفة “هآرتس” يانيف كوبوفيتش، فإن تصاعد الموقف الإسرائيلي ضد روسيا قد يدفع موسكو إلى منع إسرائيل من شن ضربات في سوريا، بل قد يذهب الكرملين إلى أبعد من ذلك، عبر تقديم أنظمة دفاعية متطورة للنظام السوري، قد تشكل تهديدا مباشرا لإسرائيل.

ويمكن اعتبار تجديد روسيا موقفها الرافض للنشاط الاستيطاني في الجولان السوري المحتل واعتباره انتهاكا لاتفاقية جنيف 1949، والتأكيد على عدم اعتراف روسيا بسيادة إسرائيل في الجولان، رسالة مباشرة لإسرائيل بأن لا تتمادى في موقفها من روسيا، بعد اضطرار تل أبيب إلى إدانة موسكو رضوخا للضغط الأميركي في بداية الأزمة.

ومع اقتراب مجموعة 5+1 من التوقيع على اتفاق نووي دولي جديد مع إيران، يبدو أن إسرائيل التي فقدت قدرتها في التأثير على المجموعة وبالتالي على شروط الاتفاق مع إيران، ترى في روسيا فرصة لتعطيل الاتفاق، لهذا زار بينيت موسكو والتي بوتين، لتتحدث موسكو لاحقا عن إمكانية طلبها استثناء العلاقات الاقتصادية الروسية-الإيرانية من العقوبات الدولية، كشرط روسي للتوقيع على الاتفاق مع إيران، ما سيصب في النهاية لصالح إسرائيل. واشنطن سارعت إلى الإعلان عن أن رفض روسيا التوقيع على الاتفاق النووي سيدفع باقي مجموعة 5+1 إلى البحث عن بديل لها للتوقيع على الاتفاق، في خطوة استباقية قد تحبط الجهد الإسرائيلي لتعطيله.

إسرائيل وأوكرانيا.. تبادل مصالح مشروط

بالمقابل شهدت إسرائيل وأوكرانيا مؤخرا تقاربا في العلاقات على المستوى السياسي والعسكري، فقد تحدث السفير الأوكراني في إسرائيل يفغن كورنيتشوك أواخر العام الماضي عن إمكانية أن تعترف كييف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتنقل سفارتها إليها، لكن الاعتراف الأوكراني كان مشروطا بتطوير العلاقات الدفاعية والأمنية بينهما، وهي علاقات يقول موقع Al-Monitor إن الكرملين كان يراقبها عن كثب، ما دفع إسرائيل إلى الطلب من المسؤولين الأوكرانيين عدم الظهور أمام وسائل الإعلام للحديث عن هذه التطورات تجنبا للحرج مع روسيا، حسب موقع “أخبار إسرائيل” باللغة الروسية. ولتجنب الحرج مع روسيا رفضت إسرائيل تزويد أوكرانيا بالسلاح حتى الدفاعي منه، وركزت على تقديم المساعدات الإنسانية بشرط أن لا تتضمن مواد قابلة للاستخدام المدني والعسكري بما في ذلك الوقود.

اقتصاديا.. خسائر ومكاسب

حسب صحيفة “ذي ماركر” الإسرائيلية المختصة بالشؤون الاقتصادية تشكل الأزمة الحالية تهديدا لاستثمارات ولشركات إسرائيلية تعمل في كل من روسيا وأوكرانيا، خاصة في مجالات العقارات والاستيراد، وهذه الاستثمارات تقدر بمليارات الدولارات. كما تعتمد صناعة الماس في إسرائيل بشكل أساسي على روسيا وقد تتعرض لضربة كبيرة إذا فرضت إسرائيل عقوبات على روسيا. فيما تشير صحيفة “جلوبس” الاقتصادية الإسرائيلية إلى أن العقوبات الغربية تشكل تهديدا للاستثمارات الروسية في قطاع التكنولوجيا في إسرائيل، وقد يضطر المستثمرون الروس إلى بيع استثماراتهم أو منح مسؤولية إدارتها لمجالس أمناء.

وفيما يعمل في الشركات التكنولوجية الأوكرانية نحو 30 الف مبرمج إسرائيلي، قد تدفع الأزمة الحالية الشركات الأوكرانية إلى البحث عن بدلاء لهم من دول أخرى مثل هنغاريا ونيبال لتخفيف النفقات لديها.

وحسب المحللين الإسرائيليين فإنه في حالة عدم إقدام إسرائيل على الانضمام إلى رزمة العقوبات الغربية ضد روسيا، فإن هذه العقوبات ستفرض قيودا على الشركات الإسرائيلية التي ستواصل العمل مع شركاء لها في روسيا، وقد تواجه عراقيل في العمل مع الشركاء الأوروبيين والأميركيين، وربما قد تتم مقاضاة الشركات الإسرائيلية أمام المحاكم الأميركية.

في سياق متصل، قد تواجه إسرائيل مثل باقي دول العالم التي تستورد القمح والنفط تضخما في ظل إمكانية ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة في ظل الأزمة، مع ذلك تجد إسرائيل فرصة لتسويق الغاز في أوروبيا في ظل إمكانية وقف تدفق الغاز الروسي غربا.

مع ذلك قد توفر الأزمة الروسية الأوكرانية فرصة اقتصادية لإسرائيل من جانب آخر، إذ يتوقع أن يهرب كبار المستثمرين اليهود من أوكرانيا إلى إسرائيل مع تركيزها على دعوة يهود أوكرانيا للهجرة إليها، بالمقابل تبرز مؤشرات عن مساعي لخروج الكثير من اليهود من روسيا أيضا إلى إسرائيل، في ظل الإجراءات القانونية الأخيرة التي فرضها الكرملين خاصة ضد حرية التعبير والتي تشدد الخناق القانوني ضد كل من يعارض العملية العسكرية الروسية، وستجد إسرائيل في انتقال ثروات هؤلاء واستثماراتهم وخبراتهم إليها فرصة اقتصادية أيضا.

داخليا

لم تتضح حتى الآن مواقف الإسرائيليين من أصول روسية وأوكرانية حول الأزمة، ويبدو أن هناك حالة تريث أو تجنب للخوض فيها بين الطرفين، في ظل الأزمة الإنسانية التي يواجهها الأوكرانيون، بمن فيهم عشرات آلاف اليهود، فضلا عن آلاف الإسرائيليين الذين يعيشون في أوكرانيا. مع ذلك يبدو أن الموقف الشعبي الإسرائيلي يميل بشكل واضح لصالح أوكرانيا ضد روسيا، فقد حجبت روسيا بث قناة إسرائيلية وموقعا إخباريا يبثان باللغة الروسية ومنعت الروس من الوصول إليهما. فيما بين استطلاع للقناة 12 العبرية أن 53 في المئة من الإسرائيليين يعتبرون أن الموقف الإسرائيلي الرسمي المتعاطف مع أوكرانيا وغير المضاد لروسيا في الوقت هو موقف سليم.

توقعات مرهونة بتطورات الأزمة

يبقى الموقف الإسرائيلي مرهونا بنتائج الوساطة الإسرائيلية وإمكانيات حل الأزمة، لكن في حالة فشل جهود هذه الوساطة، وتصاعد الوضع الميداني-العسكري في أوكرانيا، وتعمق العقوبات الدولية ضد روسيا، قد تجد إسرائيل نفسها من جديد أمام ملزمة بتحديد موقف واضح من الأزمة، وهذا ما سيضطر بينت لمواجهته أمام البيت الأبيض بشكل خاص.

بالمجمل، ستلقي هذه الأزمة بظلال قد تكون غير مسبوقة على إسرائيل، لخصها وزير الاستخبارات اليعازر شتيرن في مقابل صحفية بالقول: “إن المتغيرات السريعة تؤكد وجهة النظر القائلة إن على إسرائيل أن تعمل بمبدأ الاعتماد فقط على نفسها في الدفاع عن نفسها”. فهل تقود مخرجات هذه الأزمة إلى تحولات جذرية في العقيدتين السياسية والأمنية الإسرائيليتين؟

 

للتحميل اضغط هنا