ترجمات: وهم الشرق الأوسط الجديد

وهم الشرق الأوسط الجديد

The Fantasy of a New Middle East
 

مجلة Foreign Affairs الأمريكية

بقلم مارك لينش،

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن
 

(31 أكتوبر 2025)

ترجمة وتحرير: يسار أبو خشوم

 

يتناول هذا المقال الموسّع، تحليلا نقديّا للسياسة الإسرائيلية بعد حرب غزة ومحاولاتها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط بالقوة. ويحاجج الكتاب بأن الاعتقاد الإسرائيلي بإمكانية فرض نظام إقليمي جديد عبر التفوق العسكري هو وهم خطير، لأن الاستقرار لا يمكن أن يتحقق دون الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، وإدراك التحولات في مواقف الدول العربية والولايات المتحدة، وتراجع مكانة إسرائيل في النظام الدولي. فيما يلي ترجمة تلخيصيّة للمقال:

يتبدّل الشرق الأوسط بسرعة غير مسبوقة، لكن هذا التحوّل لا يسير في الاتجاه الذي تتخيله إسرائيل أو الولايات المتحدة. فبعد أن أنهت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحرب في غزة وأفرجت عن الأسرى الإسرائيليين، ساد الاعتقاد بأن مرحلة جديدة من السلام تقترب، وأن المنطقة قد تدخل عصرا من الاستقرار يعيد صياغة العلاقات العربية الإسرائيلية على أسس واقعية. غير أن هذا الأمل لم يلبث أن تلاشى أمام الحقائق الميدانية والسياسية؛ فإسرائيل تواصل سياسة فرض الوقائع بالقوة، وتسعى إلى بناء «نظام شرق أوسطي جديد» يرسّخ هيمنتها العسكرية، متجاهلة أن القوة وحدها لا تكفي لبناء الشرعية أو ضمان الأمن. يعكس اختزال الصراع في حسابات التفوق العسكري وهما خطيرا، لأن الواقع الإقليمي تغيّر، ولأن العالم لم يعد يقبل بالمنطق الإسرائيلي القديم القائم على الردع والاحتلال والعقاب الجماعي. ما كان ممكنا قبل عقدين لم يعد قابلا للحياة اليوم، وإسرائيل تجد نفسها أمام نظام دولي وإقليمي يتحرك من حولها في اتجاه مغاير تماما لما كانت تخطط له.

تحولات النظام الإقليمي

منذ نهاية الحرب الباردة، حافظت المنطقة على توازن هشّ يقوم على هيمنة أميركية مطلقة وانقسام واضح بين محورين: محور تدعمه واشنطن ويضم إسرائيل ومعظم الدول العربية وتركيا، ومحور تقوده إيران وحلفاؤها. ظلّ هذا التوازن، رغم الاضطرابات المتواصلة، صامدا أمام حروب كبرى كغزو العراق والانتفاضات العربية، بل حتى أمام انهيار عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية. لكنّ السنوات الأخيرة أظهرت أن هذا النظام يقترب من نهايته. فالحرب على غزة مثّلت لحظة كاشفة، ليس فقط لحدود القوة الإسرائيلية، بل أيضا لتغيّر المزاج العربي الذي بدأ يستعيد مركزية القضية الفلسطينية بوصفها مسألة أخلاقية وسياسية لا يمكن تجاوزها. فالمشاهد المروّعة للدمار في غزة أيقظت الوعي الشعبي العربي من سباته، وأحرجت الأنظمة التي سارعت سابقا نحو التطبيع. وقد أعادت السعودية طرح مبادرة السلام العربية التي تربط أي اعتراف بإسرائيل بقيام دولة فلسطينية مستقلة، في خطوة تعبّر عن إدراك متجدد بأن أمن المنطقة واستقرارها لا يمكن أن يتحققا دون حلّ جذري للقضية الفلسطينية.

وفي مقابل ذلك، لم تستطع روسيا المنهكة أو الصين الصاعدة أن تقدّما بديلا حقيقيا للهيمنة الأميركية. لكنّ النفوذ الأميركي نفسه لم يعد مطلقا كما كان، فقد تراجع بفعل الكوارث الاستراتيجية التي خلّفها غزو العراق والأزمة المالية العالمية، وبفعل تآكل الثقة العربية في التزامات واشنطن. ومع انكفاء الولايات المتحدة النسبي، بدأت الدول العربية تبحث عن توازنات جديدة وعن مساحة أوسع من الاستقلالية، ولم تعد ترى في إسرائيل بوابة إلى واشنطن أو ضمانة للأمن. بل على العكس، صار كثير من القادة العرب ينظرون إلى سلوك تل أبيب المتفلت كعامل تهديد لاستقرارهم الداخلي، وليس كدرع واقٍ من النفوذ الإيراني. وهكذا تفقد إسرائيل تدريجيا موقعها في المعادلة الإقليمية، بعدما كانت تتخيّل نفسها اللاعب المحوري الوحيد القادر على إعادة تشكيل الشرق الأوسط.

غطرسة القوة وانكشاف الوهم

تعيش إسرائيل اليوم في فخّ غطرستها العسكرية. فهي تتصرّف كقوة قادرة على فرض إرادتها على الجميع، وتعتقد أن الردع المتواصل والاغتيالات الجوية يمكن أن يصنعا شرق أوسط جديداً يخضع لمعادلتها الأمنية. لكن الوقائع أثبتت العكس. فحملاتها المتكرّرة من بيروت إلى دمشق وطهران لم تمنحها تفوّقا استراتيجيا، بل عززت صورتها كقوة مدمّرة تفتقر إلى الرؤية السياسية. فبعد اغتيال قادة حزب الله وحماس، وتدمير مواقع في إيران وسوريا واليمن، لم يتحقق أي من الأهداف الكبرى: لم تسقط الجمهورية الإسلامية، ولم تُقتلع المقاومة، ولم يتحقق الأمن الموعود. ومع ذلك، تواصل إسرائيل سياسة الهروب إلى الأمام، غير مدركة أن التفوق العسكري بلا أفق سياسي لا ينتج سوى الكراهية والعزلة.

تعتمد تل أبيب في بقائها على دعم أميركي غير محدود، من الذخيرة إلى التمويل إلى الحماية الدبلوماسية. جيشها غير قادر على خوض حرب طويلة دون الإمدادات الأميركية، واقتصادها لا يحتمل استنزافا مستمرا. أما مجتمعها السياسي فقد انقسم عموديا بعد حرب غزة بين من يدعو إلى مراجعة الذات ومن يغرق في خطاب الانتقام والإنكار. ومع ذلك، يواصل نتنياهو اللعب بالنار، متكئا على حكومته اليمينية المتطرفة وعلى وهم «الهيمنة الكاملة» في لحظة لم تعد تتيحها موازين القوى. لقد تجاوزت إسرائيل مرحلة الردع إلى مرحلة الغطرسة، معتقدة أن العالم سيصمت إلى الأبد أمام جرائمها، لكنها تكتشف اليوم أن صور غزة المدمّرة كانت نقطة تحوّل في الوعي العالمي، وأن صورتها التي رُسمت لعقود كدولة ديمقراطية تحوّلت إلى رمز للوحشية والاحتلال.

انحسار الدعم الأميركي وتبدّل الشرعية

لا يأتي التحول الأخطر بالنسبة لإسرائيل من الخارج فقط، بل من داخل الولايات المتحدة نفسها. فالتعاطف التقليدي مع إسرائيل لم يعد كما كان؛ إذ بات الرأي العام الأميركي، خصوصا بين الديمقراطيين والشباب، يميل إلى التعاطف مع الفلسطينيين، ويرى في السياسات الإسرائيلية تجاوزا لكل الحدود الأخلاقية. تسارَع هذا التحوّل مع مشاهد القصف والمجاعة في غزة، ومع تصاعد الأصوات داخل الكونغرس التي تطالب بمراجعة المساعدات العسكرية. حتى داخل الحزب الجمهوري، بدأت تيارات «أميركا أوّلا» تعتبر أن التحالف المطلق مع إسرائيل لا يخدم المصالح الأميركية. وفي ظل هذه البيئة، لم تعد تل أبيب تملك شيكا على بياض كما اعتادت، بل تواجه لأول مرة احتمال فقدان الغطاء السياسي الذي حماها لعقود.

هذا التآكل في الدعم الأميركي يرافقه تراجع حاد في شرعية إسرائيل الإقليمية. فالدول العربية التي كانت ترى في إيران الخطر الأكبر باتت تعتبر أن تل أبيب نفسها أصبحت تهديدا للأمن القومي العربي، بعد محاولتها اغتيال قادة فلسطينيين في الدوحة وتهديدها بترحيل الفلسطينيين إلى الأردن ومصر. لقد تحوّل «الخطر الإيراني» إلى هاجس ثانوي أمام سلوكٍ إسرائيلي منفلت من أي ضوابط. كما أن عجز إسرائيل عن ترجمة انتصاراتها العسكرية إلى واقع سياسي ملموس جعلها تفقد أحد أهم عناصر الردع: الثقة في قدرتها على تحقيق السلام. وهكذا، بدل أن تفرض قيادتها الإقليمية، بات يُنظَر إليها كقوة جامحة تعيش على حافة الانفجار الدائم، وتثير مخاوف حتى لدى حلفائها.

خاتمة

الوهم الذي تبنيه إسرائيل حول «شرق أوسط جديد» يصاغ بالقوة الجوية وبالاغتيالات العابرة للحدود هو حلم مريض لا يمكن أن يتحقق. فالقوة بلا رؤية، والردع بلا شرعية، لا يصنعان قيادة ولا يبنيان استقرارا. لا يُفرض السلام الحقيقي بالقنابل، بل يُبنى على العدالة والتفاهم والاعتراف المتبادل. كل ما فعلته إسرائيل في العقدين الأخيرين هو أن دمّرت ما تبقّى من ثقة في نواياها، وأعادت المنطقة إلى منطق الصراع الوجودي الذي ظنّ كثيرون أنه انتهى. وإذا لم تغيّر اتجاهها نحو تسوية عادلة تضمن الحقوق الفلسطينية وتعيد الاعتبار للقانون الدولي، ستجد نفسها محاطة بجدران من العزلة والغضب، في عالم لم يعد يرحم من يتوهم أن الأمن يُشترى بالدمار. لا يمكن لإسرائيل أن تدمّر طريقها إلى السلام، لأن السلام لا يُصنع من رماد المدن بل من إرادة العدل والاعتراف بالآخر.

ترجمات: وهم الشرق الأوسط الجديد