التغيير السياسي السوري وأثره على فلسطينيي سوريا

التغيير‭ ‬السياسي‭ ‬السوري‭ ‬وأثره‭ ‬على‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا

 

ماجد‭ ‬كيالي

 

مقدمة

عانى‭ ‬فلسطينيو‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬(الأب‭ ‬والابن)،‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬وتحكّم‭ ‬بسوريا‭ ‬وشعبها‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عقود‭ ‬(1970‭ ‬-‭ ‬2023)،‭ ‬وتأسس‭ ‬على‭ ‬سلطة‭ ‬عائلية‭ ‬مافيوية،‭ ‬ووراثية،‭ ‬وانتهاج‭ ‬سياسة‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬الشمولي،‭ ‬وضمنها‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬والفضاء‭ ‬العام،‭ ‬مع‭ ‬التلاعب‭ ‬بالشعارات‭ ‬والقضايا‭ ‬القومية‭ ‬والوطنية،‭ ‬وضمنها:‭ ‬الوحدة‭ ‬والحرية‭ ‬والاشتراكية،‭ ‬وفلسطين‭ ‬والمقاومة‭ ‬ومصارعة‭ ‬إسرائيل‭.‬

وقد‭ ‬تبين،‭ ‬في‭ ‬التجربة،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الشعارات‭ ‬للتوظيف،‭ ‬أي‭ ‬للتلاعب‭ ‬والابتزاز‭ ‬والاستهلاك‭ ‬والمزايدة،‭ ‬وتالياً‭ ‬للتغطية‭ ‬على‭ ‬سياساته،‭ ‬وإضفاء‭ ‬شرعية‭ ‬على‭ ‬سلطته،‭ ‬التي‭ ‬استباحت‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬وأضرّت‭ ‬بالشعب‭ ‬السوري،‭ ‬وبالفلسطينيين،‭ ‬كما‭ ‬بالشعارات‭ ‬والقضايا‭ ‬ذاتها‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬ثمة‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والدراسات‭ ‬والمقالات‭ ‬التي‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬حال‭ ‬مجتمع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وعلاقة‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬بقضية‭ ‬فلسطين،‭ ‬والحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ولديّ‭ ‬مساهمات‭ ‬عديدة‭ ‬فيها،‭ ‬لذا‭ ‬فإنني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬سأتجنب‭ ‬تكرار‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬سابقاً،‭ ‬ما‭ ‬أمكن،‭ ‬محاوِلاً‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن،‭ ‬واحتمالات‭ ‬المستقبل،‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬ملاحظات‭ ‬تأسيسية‭ ‬تميز‭ ‬وضعية،‭ ‬أو‭ ‬مكانة،‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬السوريين،‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬مجتمعات‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬اللجوء‭ ‬الأخرى‭.‬

على‭ ‬ذلك،‭ ‬يفترض‭ ‬بداية‭ ‬توضيح‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المسائل،‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمجتمع‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬أهمها:

‭ ‬أولاً،‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬600‭ ‬-‭ ‬700‭ ‬ألف‭ ‬فلسطيني،‭ ‬أي‭ ‬حوالي‭ ‬3‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬سكان‭ ‬سوريا،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يقطنون‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬واحدة،‭ ‬ما‭ ‬يضعف‭ ‬من‭ ‬وضعهم‭ ‬ومن‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬التواصل‭. ‬وعموماً‭ ‬فإن‭ ‬أغلبية‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬يقطنون‭ ‬في‭ ‬مخيمات‭ ‬متباعدة‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬دمشق‭ ‬وحلب‭ ‬وحمص‭ ‬وحماة‭ ‬ودرعا‭ ‬واللاذقية،‭ ‬لكن‭ ‬أغلبها‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬دمشق‭ ‬وريفها،‭ ‬أكبرها‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك،‭ ‬وكلها‭ ‬مجاورة‭ ‬لأحياء‭ ‬شعبية‭ ‬سورية،‭ ‬باستثناء‭ ‬مخيمي‭ ‬النيرب‭ ‬وحندرات‭ ‬قرب‭ ‬حلب،‭ ‬وخان‭ ‬الشيح‭ ‬وخان‭ ‬دنون‭ ‬والسبينة‭ ‬والست‭ ‬زينب‭ ‬قرب‭ ‬دمشق؛‭ ‬وهذا‭ ‬كله‭ ‬قبل‭ ‬العام‭ ‬2012،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬تشريد‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وتدمير‭ ‬بعض‭ ‬مخيماتهم،‭ ‬وأهمها‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك‭.‬

ثانياً،‭ ‬تعتبر‭ ‬وكالة‭ ‬غوث‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬(أونروا)‭ ‬المسؤولة‭ ‬عن‭ ‬تأهيل‭ ‬البنى‭ ‬التحتية،‭ ‬وتأمين‭ ‬الخدمات،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الصحة‭ ‬والتعليم‭ ‬(بالمرحلتين‭ ‬الابتدائية‭ ‬والإعدادية)،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬المخيمات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭.‬

ثالثاً،‭ ‬يعامل‭ ‬اللاجئ‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬معاملة‭ ‬السوري،‭ ‬باستثناء‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الترشيح‭ ‬والانتخاب‭ ‬والجنسية،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬عائد‭ ‬لمرحلة‭ ‬الخمسينيات،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬مجيء‭ ‬نظام‭ ‬الأسد،‭ ‬إذ‭ ‬بالعكس‭ ‬من‭ ‬رائج‭ ‬الكلام‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬(خاصة‭ ‬الابن)‭ ‬تم‭ ‬الالتفاف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الحقوق،‭ ‬مثل‭ ‬حق‭ ‬التملك،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سنفصله‭ ‬لاحقاً‭.‬

رابعاً،‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬يحمل‭ ‬بطاقة‭ ‬إقامة،‭ ‬ويحصل‭ ‬على‭ ‬وثيقة‭ ‬سفر‭ ‬للخارج،‭ ‬صلاحية‭ ‬السفر‭ ‬بها‭ ‬محدودة‭.‬

ويجدر‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬كانوا،‭ ‬في‭ ‬أغلبيتهم،‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬مخيمات‭ ‬بائسة،‭ ‬وعلى‭ ‬أطراف‭ ‬المدن‭ ‬وأريافها،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬الفقراء‭ ‬السوريين‭ ‬وجدوا‭ ‬فيها‭ ‬بيئة‭ ‬طبيعية‭ ‬لسكناهم؛‭ ‬تماماً‭ ‬مثلما‭ ‬وجد‭ ‬بعض‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الأغنياء‭ ‬مجالهم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحياء‭ ‬الراقية‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬السورية‭. ‬أيضاً،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬يوضّح‭ ‬أن‭ ‬اللاجئ‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬يعامل‭ ‬مثل‭ ‬السوريين،‭ ‬وأنه‭ ‬ضمن‭ ‬ذلك‭ ‬يخضع‭ ‬لما‭ ‬يخضع‭ ‬السوريون‭ ‬له،‭ ‬أيضاً،‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬النواحي‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والأمنية،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إجحافات‭ ‬أو‭ ‬تظلّمات‭.‬

 

ويمكن‭ ‬تمييز‭ ‬التجربة‭ ‬السياسية‭ ‬لفلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬مجتمعات‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬الأخرى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬النواحي‭ ‬الآتية:

 

1‭ ‬ـ‭ ‬اتسامها‭ ‬بالطابع‭ ‬السياسي‭ ‬المدني،‭ ‬المتمحور‭ ‬حول‭ ‬الأنشطة‭ ‬التنظيمية‭ ‬والإعلامية‭ ‬والجماهيرية،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬التجارب‭ ‬الأخرى‭ ‬(الأردن‭ ‬ثم‭ ‬لبنان)؛‭ ‬التي‭ ‬طغى‭ ‬فيها‭ ‬البعد‭ ‬العسكري‭ ‬(الناجم‭ ‬عن‭ ‬انتشار‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬و»الميليشياوية»)‭ ‬على‭ ‬بنى‭ ‬الفصائل،‭ ‬ما‭ ‬أثر‭ ‬سلباً‭ ‬على‭ ‬إطاراتها‭ ‬التنظيمية‭ ‬والشعبية‭ ‬ومضامين‭ ‬ثقافتها‭ ‬السياسية‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬طبيعة‭ ‬السلطة‭ ‬السورية،‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الأسد‭ ‬(الأب‭ ‬والابن)،‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بالقوة،‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬(بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مقاصدها)،‭ ‬كونها‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬هيمنة‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلحة‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬بواقع‭ ‬وجود‭ ‬دولة‭ ‬تحتكر‭ ‬السلاح،‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬بإقليمها‭. ‬

2‭ ‬ـ‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬تفشي‭ ‬ظاهرة‭ ‬«التفرغ»‭ ‬في‭ ‬الفصائل‭ ‬(بالقياس‭ ‬لتجربة‭ ‬لبنان‭ ‬وبعدها‭ ‬الضفة‭ ‬وغزة)،‭ ‬بالنظر‭ ‬لاندماج‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا‭ ‬بالحياة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وتوفر‭ ‬مصادر‭ ‬عمل‭ ‬للأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الفلسطيني‭. ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬التوضيح‭ ‬هنا‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يحسب‭ ‬لصالح‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬الذين‭ ‬التفّوا‭ ‬حول‭ ‬راية‭ ‬المقاومة،‭ ‬وانضووا‭ ‬في‭ ‬فصائلها،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬قناعات‭ ‬سياسية‭ ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬التمحور‭ ‬حول‭ ‬قضيتهم‭ ‬الوطنية‭. ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬الظاهرة‭ ‬برزت‭ ‬وتوسعت،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬بعد‭ ‬حرمان‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬الساحة‭ ‬اللبنانية‭ ‬(1982)،‭ ‬بسبب‭ ‬انتقال‭ ‬مقار‭ ‬معظم‭ ‬قيادات‭ ‬الفصائل‭ ‬وأجهزتها‭ ‬إلى‭ ‬دمشق،‭ ‬وتحول‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬للاستقطاب‭ ‬السياسي،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬للفصائل‭ ‬المعارضة‭ ‬لقيادة‭ ‬المنظمة‭ ‬(قيادة‭ ‬«فتح»)‭. ‬

3‭ ‬ـ‭ ‬بالنظر‭ ‬للأسباب‭ ‬التي‭ ‬تحدثنا‭ ‬عنها،‭ ‬فإن‭ ‬مجتمع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬المخيمات‭ ‬(على‭ ‬تباعد‭ ‬توزعها‭ ‬الجغرافي)‭ ‬لم‭ ‬يتأثر‭ ‬مباشرة،‭ ‬وبدرجة‭ ‬كبيرة،‭ ‬بالعمل‭ ‬السياسي‭ ‬الفصائلي‭ ‬(ودائماً‭ ‬بالقياس‭ ‬للتأثر‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بمجتمع‭ ‬مخيمات‭ ‬لبنان‭ ‬أو‭ ‬غزة)،‭ ‬وقد‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬تمركز‭ ‬العمل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬-‭ ‬العاصمة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬تمحورت‭ ‬البنى‭ ‬الفصائلية‭ ‬حول‭ ‬ذاتها،‭ ‬وحول‭ ‬بعضها،‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬«مجتمعات»‭ ‬فصائلية‭ ‬مكتفية‭ ‬بذاتها،‭ ‬بمعنى‭ ‬ما،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬المرجعية‭ ‬السياسية‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والموارد‭ ‬المالية‭ ‬(المتأتية‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬أصلاً‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬المعني)‭. ‬

4‭ ‬ـ‭ ‬كانت‭ ‬سوريا‭ ‬ساحة‭ ‬عمل‭ ‬واسعة‭ ‬لكل‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬على‭ ‬تعددها‭ ‬وتنوعها‭ ‬وتعارضاتها‭ ‬(لعل‭ ‬التنظيم‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬حظره‭ ‬نهائياً‭ ‬هو‭ ‬جبهة‭ ‬التحرير‭ ‬العربية‭ ‬التابعة‭ ‬لحزب‭ ‬البعث‭ ‬في‭ ‬العراق)‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬بدون‭ ‬التطرق‭ ‬للحساسية‭ ‬التي‭ ‬طبعت‭ ‬علاقة‭ ‬القيادة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬(وهي‭ ‬قيادة‭ ‬المنظمة‭ ‬وفتح‭ ‬والسلطة)‭ ‬بالقيادة‭ ‬السورية،‭ ‬والتي‭ ‬ازدادت‭ ‬توتراً،‭ ‬مع‭ ‬تداعيات‭ ‬الغزو‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬للبنان،‭ ‬وتفاقمت‭ ‬بعد‭ ‬توقيع‭ ‬اتفاق‭ ‬أوسلو‭ ‬1993،‭ ‬وأفضت‭ ‬إلى‭ ‬قطيعة‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬حظر‭ ‬تنظيم‭ ‬«فتح»،‭ ‬ووضع‭ ‬قيود‭ ‬على‭ ‬نشاط‭ ‬الفصائل‭ ‬المتحالفة‭ ‬معها،‭ ‬مقابل‭ ‬إطلاق‭ ‬حرية‭ ‬النشاط‭ ‬للفصائل‭ ‬المعارضة،‭ ‬بحيث‭ ‬باتت‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬ساحات‭ ‬المعارضة‭ ‬للتسوية‭ ‬والسلطة‭. ‬

5‭ ‬ـ‭ ‬شكل‭ ‬وعي‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سورية‭ ‬لمكانتهم‭ ‬كلاجئين‭ ‬الأساس‭ ‬لاحتضانهم‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬والانخراط‭ ‬فيها‭. ‬وفي‭ ‬تفحص‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظة‭ ‬بروز‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الانكفاء،‭ ‬أو‭ ‬اللامبالاة،‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬مجمل‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بحكم‭ ‬تنامي‭ ‬شعور‭ ‬عند‭ ‬اللاجئين‭ ‬بأن‭ ‬حركتهم‭ ‬الوطنية‭ ‬ابتعدت‭ ‬عنهم،‭ ‬بتركيزها‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬والقطاع،‭ ‬وبحكم‭ ‬تراجع‭ ‬مكانة‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬لصالح‭ ‬السلطة،‭ ‬وغياب‭ ‬الهيئات‭ ‬والمنظمات‭ ‬الشعبية‭ ‬الجامعة‭. ‬وتفيد‭ ‬هذه‭ ‬الملاحظة‭ ‬بأن‭ ‬انتقال‭ ‬ثقل‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬الداخل‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تهميش‭ ‬دور‭ ‬مجتمع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬اللجوء‭ ‬والشتات‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬الوطنية‭.‬

6‭ ‬ـ‭ ‬ثمة‭ ‬عوامل‭ ‬عديدة‭ ‬أخرى،‭ ‬غير‭ ‬المخيمات،‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬هوية‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬المتمايزة‭ ‬عن‭ ‬السوري،‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬أهمها:‭ ‬خضوع‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬لنظام‭ ‬تعليم‭ ‬خاص‭ ‬تديره‭ ‬وكالة‭ ‬تشغيل‭ ‬وغوث‭ ‬اللاجئين‭ ‬(الأونروا)،‭ ‬وعدم‭ ‬تمتّع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬بحقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬(أسوة‭ ‬بالفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬الأردن)،‭ ‬وظهور‭ ‬حركة‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ممثلة‭ ‬بمنظمة‭ ‬التحرير،‭ ‬وأيضاً،‭ ‬الخلافات‭ ‬السياسات‭ ‬السورية‭ ‬-‭ ‬الفلسطينية‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬ظلّ‭ ‬فلسطينيو‭ ‬سوريا‭ ‬ينظرون‭ ‬بعين‭ ‬القلق‭ ‬والحذر‭ ‬للخلافات‭ ‬السورية‭ ‬-‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المراحل،‭ ‬وهي‭ ‬أسهمت‭ ‬بتغذية‭ ‬حس‭ ‬الاستقلالية‭ ‬«الوطنية»‭ ‬عندهم،‭ ‬وزادتهم‭ ‬تمسّكا‭ ‬بكيانيتهم‭ ‬السياسية‭ ‬المتمثّلة‭ ‬بمنظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭.‬

على‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬ستحاول‭ ‬دراسة‭ ‬أثر‭ ‬التحولات‭ ‬السياسية‭ ‬الحاصلة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬(الأب‭ ‬والابن)،‭ ‬قبل‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬وبعدها،‭ ‬على‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬وحركتهم‭ ‬الوطنية،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬مكانتهم‭ ‬السياسية‭ ‬والحقوقية‭ ‬وعلاقتهم‭ ‬بالنظام‭ ‬الحاكم،‭ ‬كما‭ ‬سيبحث‭ ‬في‭ ‬الآثار‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تترتب‭ ‬على‭ ‬قيام‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭. ‬

 

أولاً‭.. ‬عهد‭ ‬نظام‭ ‬الأسد/‭ ‬قبل‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬

 

الحديث‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬يتعلق‭ ‬بنظام‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬«مواطنيه»‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اعتراف‭ ‬بحقوق‭ ‬المواطنة،‭ ‬ووفقاً‭ ‬لمعايير‭ ‬الولاء‭ ‬والطاعة،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬شعار‭ ‬معروف‭ ‬«سوريا‭ ‬الأسد‭ ‬إلى‭ ‬الأبد»،‭ ‬وعن‭ ‬نظام‭ ‬قيّد‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وحدّ‭ ‬من‭ ‬حركتها‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬كما‭ ‬حاول‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وإنشاء‭ ‬منظمات‭ ‬تابعة‭ ‬له،‭ ‬وهو‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬بطريقة‭ ‬وظيفية،‭ ‬تماماً‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬مع‭ ‬شعار:‭ ‬وحدة‭ ‬حرية‭ ‬اشتراكية،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الشعارات‭ ‬أبعد‭ ‬شيء‭ ‬عنه،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬بقضية‭ ‬فلسطين‭ ‬والمقاومة،‭ ‬إذ‭ ‬كلها‭ ‬شعارات‭ ‬طرحت‭ ‬للمزايدة‭ ‬والتلاعب‭ ‬والتغطية‭ ‬على‭ ‬مصادرة‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬وشرعنة‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬البلد،‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والموارد‭ ‬والشعب،‭ ‬بالقبضة‭ ‬الأمنية‭.‬

وللتذكير،‭ ‬فإن‭ ‬جبهة‭ ‬الجولان‭ ‬السورية‭ ‬باتت‭ ‬خارج‭ ‬الصراع‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬خمسين‭ ‬عاماً‭ ‬(منذ‭ ‬حرب‭ ‬تشرين/‭ ‬أكتوبر‭ ‬1973)،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬حظر‭ ‬العمل‭ ‬الفدائي‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحدود‭ ‬نهائياً،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬النظام،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬وسّع‭ ‬رقعة‭ ‬ضبطه‭ ‬للعمل‭ ‬الفدائي‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬الإمساك‭ ‬بالورقتين‭ ‬الفلسطينية‭ ‬واللبنانية‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معاً،‭ ‬بوسائل‭ ‬القوة‭ ‬والقسر‭ ‬والهيمنة‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬واللبنانيين‭.‬

هنا‭ ‬ثمة‭ ‬ملاحظتان،‭ ‬الأولى،‭ ‬أن‭ ‬التجمّع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬التاريخية،‭ ‬كان‭ ‬الأقل‭ ‬اعتمادية‭ ‬على‭ ‬المنظمة‭ ‬(أي‭ ‬على‭ ‬فصائلها‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬ومواردها‭ ‬المالية)،‭ ‬كما‭ ‬قدمنا،‭ ‬بحيث‭ ‬بدا‭ ‬أكثر‭ ‬«استقلالية»‭ ‬عن‭ ‬الفصائل،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬بدا‭ ‬الأكثر‭ ‬تمسّكا‭ ‬بكيانيّتها؛‭ ‬لكأن‭ ‬هذه‭ ‬الكيانية‭ ‬هي‭ ‬بمثابة‭ ‬«وطن»‭ ‬ثانٍ‭ ‬لهؤلاء‭ ‬اللاجئين،‭ ‬أو‭ ‬بمثابة‭ ‬رابطة‭ ‬وطنية‭ ‬لهم‭.‬

أما‭ ‬الملاحظة‭ ‬الثانية،‭ ‬فتفيد‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬التجمّع‭ ‬ظلّ‭ ‬يخضع‭ ‬لنوع‭ ‬من‭ ‬وصاية‭ ‬(أخرى)‭ ‬تفرضها‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬الرقابة‭ ‬والتشدّد‭ ‬الأمنيين‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السلطات‭ ‬السورية،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬التجمع‭ ‬خضع،‭ ‬أيضاً،‭ ‬لوصاية‭ ‬سياسية‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬الموالية‭ ‬للنظام‭ ‬السوري،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬تبرّم‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭. ‬والمؤسف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬بلغ‭ ‬ذروته‭ ‬مع‭ ‬وقوف‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الفصائل‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬النظام،‭ ‬الذي‭ ‬يقتل‭ ‬ويدمر‭ ‬ويشرد‭ ‬شعبه،‭ ‬وضمنه‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬والذي‭ ‬شمل‭ ‬تدمير‭ ‬بل‭ ‬وتجريف‭ ‬أجزاء‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك‭. ‬

على‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬سيرة‭ ‬الحقبة‭ ‬الأسدية‭ ‬مع‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين،‭ ‬وحركتها‭ ‬الوطنية،‭ ‬كانت‭ ‬معقدة‭ ‬وصعبة‭ ‬ومهينة‭ ‬ومكلفة‭ ‬جداً،‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬ولعل‭ ‬قدر‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أن‭ ‬صعودها‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬صعود‭ ‬سلطة‭ ‬«البعث»،‭ ‬والأحرى‭ ‬سلطة‭ ‬الأسد،‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬وفي‭ ‬المحصلة‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬عكس‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬التوتر‭ ‬الدائم‭ ‬بين‭ ‬معظم‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وخاصة‭ ‬«فتح»‭ ‬وبين‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬كما‭ ‬بين‭ ‬الزعيم‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الراحل‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬وحافظ‭ ‬الأسد،‭ ‬ووريثه‭ ‬بشار‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬بسبب‭ ‬تدخلات‭ ‬ذلك‭ ‬النظام،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الخيارات‭ ‬السياسية‭ ‬للحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬هيكلية‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬«فتح»،‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬انطلاقتها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬ضباط‭ ‬الجيش‭ ‬السوري،‭ ‬الذين‭ ‬أدخلوا‭ ‬إلى‭ ‬جسم‭ ‬الحركة‭ ‬الوليدة،‭ ‬وفرضوا‭ ‬عليها،‭ ‬مقابل‭ ‬السماح‭ ‬بفتح‭ ‬مكاتب‭ ‬ومعسكرات‭ ‬لحركة‭ ‬«فتح»،‭ ‬فيما‭ ‬عرف‭ ‬بحادثة‭ ‬الضابط‭ ‬السوري‭ ‬يوسف‭ ‬عرابي‭ ‬(1966)،‭ ‬المقرب‭ ‬من‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد،‭ ‬والتي‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬مقتله،‭ ‬مع‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مكاتب‭ ‬«فتح»‭ ‬في‭ ‬دمشق‭. ‬وقد‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬قيام‭ ‬النظام‭ ‬باعتقال‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬وكل‭ ‬قيادة‭ ‬وكوادر‭ ‬«فتح»‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬لعدة‭ ‬أشهر،‭ ‬لم‭ ‬يخرجوا‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تدخلات‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬العربية؛‭ ‬وهي‭ ‬قصة‭ ‬تم‭ ‬توثيقها‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬أصدرته،‭ ‬قبل‭ ‬ثلاثة‭ ‬أعوام،‭ ‬انتصار‭ ‬الوزير‭ ‬(أم‭ ‬جهاد)‭ ‬عنوانه:‭ ‬«رفقة‭ ‬عمر»‭.‬

وبعد‭ ‬فشل‭ ‬محاولة‭ ‬الأسد‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬«فتح»،‭ ‬أو‭ ‬احتوائها،‭ ‬حاول‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬«منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية»‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إنشاء‭ ‬فصيلين،‭ ‬هما‭ ‬«الصاعقة»‭ ‬والجبهة‭ ‬الشعبية-‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬(بقيادة‭ ‬أحمد‭ ‬جبريل‭ ‬سابقاً)،‭ ‬وكذلك‭ ‬عبر‭ ‬فرض‭ ‬إجراءات‭ ‬وقيود‭ ‬على‭ ‬الفصائل‭ ‬الأخرى،‭ ‬للتأثير‭ ‬عليها‭. ‬ومعلوم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بذلك‭ ‬إذ‭ ‬أنشأ‭ ‬جهازي‭ ‬مخابرات‭ ‬مختصين‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬الفصائل،‭ ‬والحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬هما‭ ‬«الضابطة‭ ‬الفدائية»‭ ‬و»فرع‭ ‬فلسطين»‭ ‬(الذي‭ ‬شمل‭ ‬نشاطه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيما‭ ‬بعد)،‭ ‬وبات‭ ‬من‭ ‬أقذر‭ ‬وأقسى‭ ‬فروع‭ ‬المخابرات‭. ‬وربما‭ ‬يفيد‭ ‬التذكير‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬القيادات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬دخل‭ ‬المعتقلات‭ ‬السورية،‭ ‬مثل‭ ‬أبو‭ ‬عمار‭ ‬وجورج‭ ‬حبش‭ ‬(تم‭ ‬تحريره‭ ‬بعملية‭ ‬خاصة)‭ ‬وأبو‭ ‬جهاد‭ ‬(خليل‭ ‬الوزير)‭ ‬وعزام‭ ‬الأحمد،‭ ‬وتوفيق‭ ‬الطيراوي،‭ ‬وسمير‭ ‬الرفاعي،‭ ‬وأبو‭ ‬طعان‭ ‬(قائد‭ ‬جهاز‭ ‬الكفاح‭ ‬المسلح‭ ‬في‭ ‬لبنان)‭. ‬

الفكرة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬في‭ ‬المحصلة،‭ ‬أن‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬الإمساك‭ ‬بالورقة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬لتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬ورقة‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬المساومة‭ ‬مع‭ ‬القوى‭ ‬الدولية‭ ‬والإقليمية،‭ ‬وأيضاً‭ ‬لابتزاز‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬سعيه‭ ‬لتعزيز‭ ‬شرعيته‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الداخلي‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬الزعيم‭ ‬الراحل‭ ‬أبو‭ ‬عمار‭ ‬إلى‭ ‬إشهار‭ ‬شعار‭ ‬«القرار‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المستقل»،‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬النظام‭ ‬الأسدي‭ ‬تحديداً،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬دفعه،‭ ‬بعد‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬(1982)،‭ ‬إلى‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬تونس،‭ ‬مع‭ ‬نقل‭ ‬المقاتلين‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬الجزائر‭ ‬واليمن،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬دمشق،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬حفيظة‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭. ‬

وفي‭ ‬غضون‭ ‬ذلك،‭ ‬قد‭ ‬يفيد‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬الأسد‭ ‬الأب‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬هزيمة‭ ‬يونيو/‭ ‬حزيران‭ ‬1967‭ ‬وأنه‭ ‬بدل‭ ‬تحمله‭ ‬أو‭ ‬تحميله،‭ ‬المسؤولية‭ ‬عن‭ ‬الهزيمة،‭ ‬كوزير‭ ‬للدفاع‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬قفز‭ ‬في‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬إلى‭ ‬السلطة،‭ ‬في‭ ‬مناخات‭ ‬أحداث‭ ‬سبتمبر/‭ ‬أيلول‭ ‬1970‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬حيث‭ ‬تبوأ‭ ‬منصب‭ ‬الرئيس،‭ ‬محوّلاً‭ ‬النظام‭ ‬الجمهوري‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬وراثي‭.‬

وإلى‭ ‬محاولة‭ ‬النظام‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير،‭ ‬أو‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها،‭ ‬ودعمه‭ ‬إقامة‭ ‬بدائل‭ ‬عنها،‭ ‬تم‭ ‬تقييد‭ ‬أنشطة‭ ‬الفصائل‭ ‬السياسية‭ ‬والإعلامية،‭ ‬بحيث‭ ‬إن‭ ‬تشكيل‭ ‬نادي‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬أو‭ ‬إقامة‭ ‬معرض‭ ‬فني‭ ‬أو‭ ‬تأسيس‭ ‬حضانة‭ ‬للأطفال،‭ ‬كان‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬موافقة‭ ‬مسبقة‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬«الضابطة‭ ‬الفدائية»‭.‬

 

محطات‭ ‬الاصطدام‭ ‬الفلسطيني‭ ‬مع‭ ‬الأسد‭ ‬الأب

 

1-‭ ‬أتى‭ ‬الفريق‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭ ‬إلى‭ ‬سدة‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1970،‭ ‬بعد‭ ‬قيامه‭ ‬بانقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬على‭ ‬رفاقه،‭ ‬ونجم‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬وقتها،‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لمحاولات‭ ‬القيادة‭ ‬السورية‭ ‬دعم‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بوجودها‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬آنذاك‭. ‬فمنذ‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الموقف‭ ‬السوري‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وفق‭ ‬الاعتبارات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬أو‭ ‬المصلحية/‭ ‬القومية،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يتم‭ ‬وفقاً‭ ‬لاعتبارات‭ ‬براغماتية‭ ‬واستخدامية،‭ ‬قوامها‭ ‬تعزيز‭ ‬شرعية‭ ‬السلطة‭ ‬السورية‭ ‬وهيمنتها،‭ ‬وضمن‭ ‬ذلك‭ ‬سعيها‭ ‬لتعزيز‭ ‬مكانتها‭ ‬الإقليمية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإمساك‭ ‬بعدة‭ ‬أوراق‭ ‬ومنها‭ ‬بالخصوص‭ ‬الورقة‭ ‬الفلسطينية‭. ‬وفي‭ ‬المحصلة،‭ ‬فقد‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬اصطدام‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تمثلها‭ ‬حركة‭ ‬“فتح”‭ ‬-‭ ‬القائدة‭ ‬لحركة‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ولمنظمة‭ ‬التحرير-‭ ‬بالسياسات‭ ‬السورية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبرت‭ ‬عنه‭ ‬برفعها‭ ‬شعار‭ ‬“استقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الوطني‭ ‬الفلسطيني”‭. ‬وفي‭ ‬حينه‭ ‬عملت‭ ‬“فتح”‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬تلافي‭ ‬الضغوط‭ ‬السورية‭ ‬السياسية‭ ‬والعملية‭ ‬على‭ ‬كيانات‭ ‬المقاومة،‭ ‬وتحجيم‭ ‬القوى‭ ‬الممثلة‭ ‬للسياسة‭ ‬السورية‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية؛‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ترتب‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬احتكاكات‭ ‬سلبية‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬ومن‭ ‬يمثله‭ ‬أو‭ ‬يواليه‭ ‬فلسطينيّاً‭.‬

2-‭ ‬تأسيساً‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬بديهياً‭ ‬اصطدام‭ ‬السياسة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بالسياسة‭ ‬السورية‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬اللبنانية‭ ‬(1976)،‭ ‬إذ‭ ‬دخلت‭ ‬القوات‭ ‬السورية‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬مقدمة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬دعماً‭ ‬عسكريا‭ ‬سخياً‭ ‬-وغير‭ ‬متوقّع-‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬تسمى‭ ‬الجبهة‭ ‬الانعزالية،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬حلفائها‭ ‬الطبيعيين‭ ‬أو‭ ‬المفترضين‭ ‬في‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬اللبنانية‭. ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاصطدام‭ ‬لم‭ ‬يتوقّف‭ ‬على‭ ‬الأشكال‭ ‬السياسية،‭ ‬إذ‭ ‬شمل‭ ‬المصادمات‭ ‬العسكرية‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭. ‬وقد‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الاصطدام‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬نشوء‭ ‬ذاكرة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مشحونة‭ ‬بمأساة‭ ‬مخيم‭ ‬تل‭ ‬الزعتر،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬عانى‭ ‬من‭ ‬الحصار‭ ‬الشديد‭ ‬ثم‭ ‬تعرّض‭ ‬لمذبحة‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬تدمير‭ ‬المخيم‭ ‬وتهجير‭ ‬من‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬سكانه‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬لبنان‭. ‬وبالمحصلة‭ ‬فقد‭ ‬بات‭ ‬الوجود‭ ‬السوري‭ ‬مجاوراً‭ ‬للوجود‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬عزّز‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬سوريا‭ ‬إزاء‭ ‬قيادة‭ ‬المنظمة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬إزاء‭ ‬قيادة‭ ‬«فتح»،‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬توتّرات‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬الرئيسين‭ ‬الراحلين‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭ ‬وياسر‭ ‬عرفات‭. ‬

3-‭ ‬بعد‭ ‬غزو‭ ‬إسرائيل‭ ‬للبنان‭ ‬(1982)،‭ ‬وخروج‭ ‬قوات‭ ‬المنظمة‭ ‬وكياناتها‭ ‬السياسية‭ ‬منه،‭ ‬برز‭ ‬الخلاف‭ ‬السوري‭ ‬الفلسطيني‭ ‬مع‭ ‬ذهاب‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬ونقله‭ ‬قوات‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬إلى‭ ‬اليمن‭ ‬وتونس‭ ‬والجزائر‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬(كما‭ ‬قدمنا)،‭ ‬محاولة‭ ‬منه‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬استقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ولتجنّب‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬إسار‭ ‬القبضة‭ ‬السورية‭. ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬أدى‭ ‬-فيما‭ ‬أدى‭ ‬إليه-‭ ‬إلى‭ ‬دعم‭ ‬سوريا‭ ‬لانشقاق‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬“فتح”‭ ‬(1983)،‭ ‬وتمكين‭ ‬المنشقين‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مكاتب‭ ‬الحركة‭ ‬ومعسكراتها‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان،‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬شهدت‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الاقتتال‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬منطقتي‭ ‬البقاع‭ ‬وطرابلس‭. ‬وعلى‭ ‬العموم‭ ‬فقد‭ ‬توّجت‭ ‬سوريا‭ ‬ذلك‭ ‬بالطلب‭ ‬من‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬مغادرة‭ ‬الأراضي‭ ‬السورية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬اعتقال‭ ‬معظم‭ ‬كوادر‭ ‬“فتح”‭ ‬في‭ ‬البلد،‭ ‬مع‭ ‬دعم‭ ‬محاولات‭ ‬المنشقين‭ ‬وبعض‭ ‬المنظمات‭ ‬الأخرى‭ ‬لتأسيس‭ ‬إطارات‭ ‬بديلة‭ ‬عن‭ ‬المنظمة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أخفقت‭ ‬فيه‭ ‬هذه‭ ‬الفصائل‭ ‬بسبب‭ ‬رفض‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬لهذه‭ ‬المحاولات‭ ‬وارتيابهم‭ ‬منها،‭ ‬وتمسكهم‭ ‬باستقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الفلسطيني‭.‬

4-‭ ‬شهدت‭ ‬الفترة‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1985‭ ‬و1988‭ ‬حرباً‭ ‬شعواء‭ ‬شنّتها‭ ‬حركة‭ ‬«أمل»،‭ ‬اللبنانية‭ ‬على‭ ‬المخيمات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬(صبرا-‭ ‬شاتيلا-‭ ‬برج‭ ‬البراجنة)،‭ ‬بدعوى‭ ‬محاربة‭ ‬النفوذ‭ ‬العرفاتي‭ ‬فيها‭. ‬وكان‭ ‬مفهوماً‭ ‬أن‭ ‬حركة‭ ‬«أمل»‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تشنّ‭ ‬تلك‭ ‬الحرب،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬بالوحشية‭ ‬التي‭ ‬تبدّت‭ ‬فيها،‭ ‬لولا‭ ‬دفعها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭. ‬وعلى‭ ‬العموم‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬تدمير‭ ‬أجزاء‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬مخيمي‭ ‬صبرا‭ ‬وشاتيلا‭ ‬وبرج‭ ‬البراجنة،‭ ‬كما‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬مقتل‭ ‬مئات‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬وتدمير‭ ‬بيوتهم‭ ‬البائسة‭ ‬أصلا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أضيف‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المثقلة‭ ‬بمأساة‭ ‬مخيم‭ ‬تل‭ ‬الزعتر‭.‬

5-‭ ‬مع‭ ‬انطلاق‭ ‬عملية‭ ‬التسوية‭ ‬من‭ ‬مؤتمر‭ ‬مدريد‭ ‬(1991)‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬فيها‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬حصل‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التصادم‭ ‬السياسي‭ ‬بين‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬والقيادة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وقد‭ ‬تفاقم‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬مع‭ ‬عقد‭ ‬اتفاق‭ ‬أوسلو‭ ‬(1993)‭ ‬وإقامة‭ ‬السلطة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬(1994)‭. ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬فإن‭ ‬القيادة‭ ‬السورية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ضد‭ ‬عملية‭ ‬التسوية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬مدريد،‭ ‬وفي‭ ‬المفاوضات‭ ‬الثنائية‭ ‬مع‭ ‬الطرف‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬ظلت‭ ‬تأخذ‭ ‬على‭ ‬الرئيس‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬وقيادة‭ ‬المنظمة‭ ‬الذهاب‭ ‬نحو‭ ‬التسوية!‭ ‬

6‭ ‬ـ‭ ‬أيضا‭ ‬قام‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬باحتضان‭ ‬حركة‭ ‬«حماس»،‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بالصعود‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بعد‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الشعبية‭ ‬الأولى‭ ‬(1987‭ ‬-‭ ‬1993)،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬منظومة‭ ‬حركة‭ ‬«الإخوان‭ ‬المسلمين»‭ ‬(المحظورة‭ ‬أصلاً‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬آنذاك)،‭ ‬لاستثمارها‭ ‬في‭ ‬صراعه‭ ‬مع‭ ‬القيادة‭ ‬الرسمية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تأكد‭ ‬من‭ ‬عجز‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المتواجدة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬(الصاعقة،‭ ‬القيادة‭ ‬العامة،‭ ‬فتح‭ ‬الانتفاضة)‭ ‬عن‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭. ‬وعموما‭ ‬فقد‭ ‬استمرت‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬(مطلع‭ ‬2011)،‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬التي‭ ‬أيدتها‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬تلك‭ ‬الحركة،‭ ‬ما‭ ‬استعدى‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬عليها،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬انحسار‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬عادت‭ ‬حركة‭ ‬«حماس»‭ ‬مجددا‭ ‬لمحاولة‭ ‬التقارب‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬بدعم‭ ‬من‭ ‬إيران،‭ ‬وحزب‭ ‬الله،‭ ‬في‭ ‬مسعى‭ ‬لصوغ‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬«محور‭ ‬المقاومة‭ ‬والممانعة»‭.‬

 

عهد‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين

 

خلف‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬كوريث،‭ ‬وفي‭ ‬عهده‭ ‬واصل‭ ‬سيرة‭ ‬والده،‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬الإمساك‭ ‬بالورقة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وادعاء‭ ‬المقاومة‭ ‬والممانعة،‭ ‬وفوق‭ ‬ذلك‭ ‬ففي‭ ‬عهده‭ ‬برزت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المداخلات‭ ‬السلطوية‭ ‬التي‭ ‬حدت‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬ومن‭ ‬حقوقهم‭ ‬المدنية،‭ ‬التي‭ ‬تساويهم‭ ‬بالسوريين‭.‬

ربما‭ ‬كانت‭ ‬أولى‭ ‬محاولات‭ ‬بشار‭ ‬الاصطدام‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬تمثلت‭ ‬بتلك‭ ‬المحاولة‭ ‬الصبيانية،‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬القمة‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬(2002)،‭ ‬للحؤول‭ ‬دون‭ ‬إلقاء‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬(المحاصر‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬إبان‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الثانية)‭ ‬لكلمته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المؤتمر،‭ ‬عبر‭ ‬قطع‭ ‬التيار‭ ‬الكهربائي‭.‬

وفي‭ ‬العام‭ ‬2007‭ ‬برزت‭ ‬حركة‭ ‬“فتح‭ ‬الإسلام”،‭ ‬كظاهرة‭ ‬مريبة‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬نشأتها،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬نمت‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬حركة‭ ‬“فتح‭ ‬الانتفاضة”‭ ‬المدعومة‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬قائدها‭ ‬شاكر‭ ‬العبسي‭ ‬كان‭ ‬نزيلا‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬المخابرات‭ ‬السورية،‭ ‬ما‭ ‬يضع‭ ‬علامات‭ ‬شكّ‭ ‬بشأن‭ ‬إمكان‭ ‬توظيفها‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬اللبناني‭ ‬-في‭ ‬ظروف‭ ‬الصراع‭ ‬السوري‭ ‬مع‭ ‬قوى‭ ‬14‭ ‬آذار-‭ ‬بعد‭ ‬اغتيال‭ ‬الحريري‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬اللبناني‭ ‬الأسبق‭ ‬(2005)‭. ‬وقد‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬افتضاح‭ ‬أمر‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬اللبناني‭ ‬شن‭ ‬بذريعتها‭ ‬حملة‭ ‬عسكرية‭ ‬مدمرة‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬تدمير‭ ‬المخيم‭ ‬وإجلاء‭ ‬سكانه‭ ‬منه،‭ ‬والقضاء‭ ‬على‭ ‬المجموعات‭ ‬العسكرية‭ ‬التابعة‭ ‬لهذه‭ ‬الحركة‭. ‬وهكذا‭ ‬تم‭ ‬تدمير‭ ‬مخيم‭ ‬آخر‭ ‬بعد‭ ‬تل‭ ‬الزعتر‭ ‬وأجزاء‭ ‬من‭ ‬مخيمات‭ ‬صبرا‭ ‬وشاتيلا‭ ‬وبرج‭ ‬البراجنة،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬حركة‭ ‬أمل،‭ ‬وقتها‭. ‬وفي‭ ‬المحصلة‭ ‬فقد‭ ‬جرى‭ ‬تدمير‭ ‬مخيم‭ ‬نهر‭ ‬البارد‭ ‬وتشريد‭ ‬سكانه،‭ ‬وبعد‭ ‬التدمير‭ ‬اختفى‭ ‬زعيم‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬شاكر‭ ‬العبسي‭ ‬بظروف‭ ‬غامضة،‭ ‬مع‭ ‬تسريبات‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المخابرات‭ ‬السورية‭ ‬أخذته‭ ‬أو‭ ‬أخفته‭.‬

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحقوق‭ ‬المدنية،‭ ‬مثلاً،‭ ‬فقد‭ ‬فوجئ‭ ‬فلسطينيو‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬(2008)‭ ‬بصدور‭ ‬قانون‭ ‬تملّك‭ ‬الأجانب‭ ‬الذي‭ ‬شمل‭ ‬اعتبارهم،‭ ‬أيضاً،‭ ‬بمثابة‭ ‬«أجانب»،‭ ‬مثلهم‭ ‬مثل‭ ‬الإماراتيين‭ ‬والقطريين‭ ‬والسعوديين‭ ‬والدنماركيين‭ ‬والصينيين‭ ‬وغيرهم،‭ ‬في‭ ‬سابقة‭ ‬فريدة!‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬ذلك‭ ‬ضعضعة‭ ‬الأساس‭ ‬القانوني‭ ‬لمكانة‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬المساوية‭ ‬للسوريين،‭ ‬وتقويض‭ ‬حق‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بتملك‭ ‬عقار‭ ‬لأغراض‭ ‬السكن،‭ ‬وحقه‭ ‬في‭ ‬توريثه‭ ‬لأبنائه‭. ‬وعموماً‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لهذه‭ ‬المخاوف‭ ‬مع‭ ‬مسارعة‭ ‬السلطات‭ ‬السورية‭ ‬للتوضيح‭ ‬بأن‭ ‬القانون‭ ‬المذكور‭ ‬لا‭ ‬يشمل‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬المسجّلين‭ ‬كلاجئين‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬بقي‭ ‬أن‭ ‬تملّك‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لعقار،‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذا‭ ‬القانون،‭ ‬يواجه‭ ‬مصاعب‭ ‬كثيرة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يحقّ‭ ‬للعائلة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬(وليس‭ ‬الفرد)‭ ‬تملّك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬منزل،‭ ‬أما‭ ‬الشاب‭ ‬أو‭ ‬الفتاة،‭ ‬الذين‭ ‬يتبعون‭ ‬عائلة‭ ‬لديها‭ ‬بيت‭ ‬ملك،‭ ‬فلا‭ ‬يحق‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬لها‭ ‬تملّك‭ ‬بيت‭ ‬آخر‭ ‬(بموجب‭ ‬طابو)‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬التقدّم‭ ‬بإثبات‭ ‬عقد‭ ‬زواج،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬إنشاء‭ ‬عائلة‭ ‬جديدة‭. ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬فإن‭ ‬تملّك‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لمنزل‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬موافقة‭ ‬موقّعة‭ ‬من‭ ‬وزير‭ ‬الداخلية،‭ ‬وهذا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬معاملات‭ ‬وفترة‭ ‬زمنية‭. ‬

أيضاً،‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬زواج‭ ‬فتاة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬شاب‭ ‬سوري‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تكتسب‭ ‬حق‭ ‬المواطنة،‭ ‬أي‭ ‬التسجيل‭ ‬في‭ ‬قيده‭ ‬المدني‭ ‬كسوري،‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تقديم‭ ‬طلب‭ ‬إلى‭ ‬الجهات‭ ‬المختصّة‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تبتّ‭ ‬في‭ ‬الطلب‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬إنجاب‭ ‬الفتاة،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬ظلّت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إنجاب‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة؛‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬تم‭ ‬فرضه‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حكم‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬أيضاً‭.‬

واضح‭ ‬أن‭ ‬التنويه‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المسائل‭ ‬يفيد‭ ‬بأنها‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تحصل‭ ‬سابقاً،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬للفلسطيني‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬مراتب‭ ‬عالية‭ ‬(وصل‭ ‬فلسطيني‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬وزير‭ ‬مرتين)‭ ‬كما‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬الوظائف‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬وأعلى‭ ‬الرتب‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬(ثمة‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬رتبة‭ ‬لواء‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬السوري)‭. ‬وكان‭ ‬يمكن‭ ‬للفلسطيني‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬الكلية‭ ‬الحربية،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬مديراً‭ ‬للتربية‭ ‬والتعليم‭ ‬أو‭ ‬رئيساً‭ ‬لجامعة،‭ ‬أو‭ ‬مديراً‭ ‬لـ‭ ‬«الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للإذاعة‭ ‬والتلفزيون»‭. ‬لكن‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬بشار،‭ ‬بات‭ ‬ذلك‭ ‬صعباً،‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬النمو‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وبسبب‭ ‬التحولات‭ ‬السياسية‭ ‬فيها،‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬الاصطدام‭ ‬مع‭ ‬قيادة‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير،‭ ‬ومناهضة‭ ‬عملية‭ ‬التسوية،‭ ‬وتعزيز‭ ‬القبضة‭ ‬الأمنية،‭ ‬وتوريث‭ ‬الحكم‭.‬

لكن‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬التنويه‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬(ومعها‭ ‬استثناء‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬الاكتتاب‭ ‬في‭ ‬أسهم‭ ‬المصارف‭ ‬الخاصّة‭ ‬في‭ ‬سوريا)‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬مستند‭ ‬في‭ ‬القانون‭ ‬السوري،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬إجراءات‭ ‬يجري‭ ‬إلزام‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬بالعمل‭ ‬بها،‭ ‬حيث‭ ‬القاعدة‭ ‬في‭ ‬الشرع‭ ‬السوري‭ ‬تتأسّس‭ ‬على‭ ‬المساواة‭ ‬في‭ ‬الحقوق‭ ‬بين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬والسوريين‭ ‬(باستثناء‭ ‬الجنسية‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية‭ ‬والنيابية)‭.‬

 

ثانياً‭.. ‬الفلسطينيون‭ ‬والنظام‭ ‬خلال‭ ‬الثورة‭ ‬السورية

 

مع‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭ ‬(2011)،‭ ‬صدرت‭ ‬تصريحات‭ ‬من‭ ‬مسؤولين‭ ‬سوريين‭ ‬تلقي‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬كما‭ ‬ساهمت‭ ‬بعض‭ ‬الفصائل‭ ‬الموالية‭ ‬للنظام‭ ‬بادعاء‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬مجرد‭ ‬مؤامرة‭ ‬على‭ ‬سوريا،‭ ‬والمقاومة،‭ ‬وأنها‭ ‬ستدافع‭ ‬عن‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬منطلقات‭ ‬وطنية‭ ‬وقومية‭.‬‭ ‬المشكلة‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬التصريحات،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الفصائل‭ ‬باتت‭ ‬تطالب‭ ‬بتسليح‭ ‬المخيمات،‭ ‬وإقامة‭ ‬لجان‭ ‬للدفاع‭ ‬الذاتي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬رفضته‭ ‬فصائل‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬قيادة‭ ‬المنظمة‭ ‬اتهمت‭ ‬جبريل‭ ‬بتوريط‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬فيما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬الفصائل‭ ‬المحسوبة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬معزولة‭ ‬جماهيرياً،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬المعادلات‭ ‬السياسية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬إسرائيل‭. ‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬لم‭ ‬يلحظ‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الكيانات‭ ‬السياسية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬أو‭ ‬إشارة‭ ‬لحض‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬السورية،‭ ‬وهذا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬حركة‭ ‬«فتح»‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬في‭ ‬خصومة‭ ‬مع‭ ‬النظام،‭ ‬وهي‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬العلني‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود،‭ ‬كما‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬«حماس»‭ ‬المتعاطفة‭ ‬مع‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬التي‭ ‬فضلت‭ ‬الخروج‭ ‬الهادئ‭ ‬لقياداتها‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬إشارة‭ ‬تفيد‭ ‬بالتعاطف‭ ‬مع‭ ‬الثورة‭ ‬السورية‭.‬

مع‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الأسد‭ ‬الابن‭ ‬استهدف‭ ‬معظم‭ ‬مخيمات‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬بالتدمير‭ ‬والتشريد‭ ‬والحصار،‭ ‬وأهمها‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك،‭ ‬أكبر‭ ‬تلك‭ ‬المخيمات،‭ ‬إذ‭ ‬شرد‭ ‬معظم‭ ‬سكانه،‭ ‬بعد‭ ‬حادثة‭ ‬قصفه‭ ‬بالطيران‭ ‬(17/12/2012)،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬أخضع‭ ‬لحصار‭ ‬مشدد،‭ ‬مع‭ ‬استخدام‭ ‬بعض‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬للأسف،‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬عام‭ ‬2012،‭ ‬مع‭ ‬تحويله‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬رماية‭ ‬لمدفعية‭ ‬النظام‭ ‬وطائراته،‭ ‬ولسلاح‭ ‬الجو‭ ‬الروسي‭ ‬أيضاً،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬المخيم‭ ‬يعيش‭ ‬وسط‭ ‬منطقة‭ ‬ساقطة‭ ‬عسكرياً؛‭ ‬وهي‭ ‬مأساة‭ ‬أضيفت‭ ‬إلى‭ ‬مآسي‭ ‬مخيمات‭ ‬لبنان‭ ‬تل‭ ‬الزعتر‭ ‬وصبرا‭ ‬وشاتيلا‭ ‬وبرج‭ ‬البراجنة‭ ‬ونهر‭ ‬البارد‭ ‬في‭ ‬لبنان‭.‬

وقد‭ ‬بيّنت‭ ‬الأحداث‭ ‬أن‭ ‬المخيمات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬لم‭ ‬تنخرط‭ ‬في‭ ‬الأشكال‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬الفعاليات‭ ‬الثورية‭ ‬الجارية،‭ ‬ولم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬لها،‭ ‬رغم‭ ‬تصاعد‭ ‬التحرّكات‭ ‬الشعبية،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬الأحداث‭ ‬المأساوية‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬يضمرون‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬المطالبة‭ ‬الشعبية‭ ‬بالتغيير‭ ‬والإصلاح‭ ‬السياسيين‭. ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الشعبي،‭ ‬والعفوي،‭ ‬لافت‭ ‬للانتباه،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬المزاج‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المعروف‭ ‬بمساندته‭ ‬أية‭ ‬تحرّكات‭ ‬راديكالية‭ ‬تتوخّى‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭. ‬

هكذا،‭ ‬فبالنسبة‭ ‬لتحديد‭ ‬مواقف‭ ‬الكيانات‭ ‬السياسية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬يمكننا‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬أربعة‭ ‬مواقف‭.‬‭ ‬الأول،‭ ‬وهو‭ ‬موقف‭ ‬المنظمة‭ ‬والسلطة‭ ‬وحركة‭ ‬فتح،‭ ‬وبعض‭ ‬المنظمات‭ ‬المتحالفة‭ ‬معها‭ ‬(مثل‭ ‬فدا‭ ‬وحزب‭ ‬الشعب‭ ‬وجبهتي‭ ‬النضال‭ ‬والتحرير)‭. ‬فهذه‭ ‬الكيانات‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬نأيها‭ ‬بذاتها‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬معتبرة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬شأن‭ ‬سوري،‭ ‬لا‭ ‬دخل‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬فيه،‭ ‬وفق‭ ‬مبدأ‭ ‬«عدم‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬لأي‭ ‬بلد‭ ‬عربي»‭. ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬أوساط‭ ‬هذه‭ ‬الكيانات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخفي‭ ‬تعاطفها‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬الشعب‭ ‬السوري،‭ ‬ومع‭ ‬تطلعاته‭ ‬المشروعة‭ ‬للحرية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬متضررة‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬سوريا‭ ‬السياسية،‭ ‬في‭ ‬مناهضتها‭ ‬لعملية‭ ‬التسوية،‭ ‬وفي‭ ‬دعمها‭ ‬لقوى‭ ‬المعارضة،‭ ‬وأنها‭ ‬عملياً‭ ‬كانت‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬العلني‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا‭. ‬

ولعل‭ ‬موقف‭ ‬القيادة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الرسمية‭ ‬(وهي‭ ‬قيادة‭ ‬المنظمة‭ ‬والسلطة‭ ‬وفتح)‭ ‬يستدعي‭ ‬التوقف‭ ‬حقّاً،‭ ‬فهذه‭ ‬القيادة‭ ‬على‭ ‬خصومة‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬وهي‭ ‬ممنوعة‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬العلني‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فهي‭ ‬ظلت‭ ‬متحفظة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬ما‭ ‬يفيد‭ ‬بأي‭ ‬تعاطف‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬الشعب‭ ‬السوري،‭ ‬وكل‭ ‬البيانات‭ ‬الصادرة‭ ‬كانت‭ ‬فقط‭ ‬تطالب‭ ‬بالنأي‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وعدم‭ ‬إقحام‭ ‬المخيمات‭ ‬بالشأن‭ ‬السوري،‭ ‬والمطالبة‭ ‬بعدم‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬السوري،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تسمى‭ ‬فصائل‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭.‬

والثاني،‭ ‬موقف‭ ‬«حماس»،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سوريا‭ ‬ساحة‭ ‬أساسية‭ ‬وحاضنة‭ ‬مهمة‭ ‬لها،‭ ‬إذ‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬معنيّة‭ ‬بثورات‭ ‬«الربيع‭ ‬العربي»،‭ ‬وضمنه‭ ‬صعود‭ ‬نفوذ‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬إطارها،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الثورات‭ ‬أوصلت‭ ‬عدداً‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬السلطة،‭ ‬وأعطتها‭ ‬شرعية‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية‭. ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬رأت‭ ‬«حماس»‭ ‬أن‭ ‬استمرار‭ ‬وجود‭ ‬قياداتها‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ربّما‭ ‬يشكل‭ ‬إضعافاً‭ ‬لها،‭ ‬وعامل‭ ‬ضغط‭ ‬عليها،‭ ‬وتضييعاً‭ ‬للفرصة‭ ‬السانحة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تمكّنها‭ ‬من‭ ‬تعزيز‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬نجاحها‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬(2006)‭ ‬لم‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬ذلك؛‭ ‬وبالنهاية،‭ ‬فقد‭ ‬اتخذت‭ ‬قرارها‭ ‬الصعب‭ ‬بشأن‭ ‬خروج‭ ‬قيادتها‭ ‬من‭ ‬سوريا‭. ‬ومع‭ ‬أنها‭ ‬خرجت‭ ‬بدون‭ ‬صخب،‭ ‬وبطريقة‭ ‬هادئة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يخفف‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬انتقالها‭ ‬من‭ ‬خندق‭ ‬إلى‭ ‬خندق‭ ‬آخر،‭ ‬غير‭ ‬الخندق‭ ‬الذي‭ ‬تعسكر‭ ‬فيه‭ ‬السياسة‭ ‬السورية‭. ‬

الموقف‭ ‬الثالث‭ ‬ويمكن‭ ‬تبيّنه‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬المنظمات‭ ‬المحسوبة‭ ‬على‭ ‬اليسار‭ ‬الفلسطيني‭ ‬(الجبهة‭ ‬الشعبية‭ ‬-‭ ‬الجبهة‭ ‬الديمقراطية)‭ ‬فهذه‭ ‬المنظمات‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬موقفاً‭ ‬واضحاً‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬يجري،‭ ‬وظلت‭ ‬مواقفها‭ ‬متأرجحة‭ ‬بين‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تأييدها‭ ‬للإصلاح‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وبين‭ ‬إشادتها‭ ‬بمواقف‭ ‬النظام‭ ‬المؤيدة‭ ‬للقضايا‭ ‬القومية‭ ‬وللمقاومة‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬غير‭ ‬الواضح‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الرسمي‭ ‬كان‭ ‬يفتح‭ ‬المجال‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬البلبلة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬هذه‭ ‬الكيانات،‭ ‬وعند‭ ‬المتعاطفين‭ ‬معها،‭ ‬وهي‭ ‬بلبلة‭ ‬تنتج‭ ‬مروحة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬المتناقضة،‭ ‬من‭ ‬تأييد‭ ‬الثورة‭ ‬السورية،‭ ‬بدون‭ ‬حساب،‭ ‬إلى‭ ‬تأييد‭ ‬النظام‭ ‬بصورة‭ ‬مطلقة‭ ‬واعتبار‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬مجرد‭ ‬مؤامرة‭ ‬خارجية‭.‬

أما‭ ‬الموقف‭ ‬الرابع،‭ ‬فيمكن‭ ‬تبيّنه‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬مجموعة‭ ‬الفصائل‭ ‬«المعارضة»‭ ‬للقيادة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الرسمية‭ ‬(لا‭ ‬سيما‭ ‬الصاعقة‭ ‬والجبهة‭ ‬الشعبية‭ ‬-‭ ‬القيادة‭ ‬العامة‭ ‬وفتح‭ ‬الانتفاضة‭ ‬وبعض‭ ‬الفصائل‭ ‬الصغيرة)،‭ ‬وهي‭ ‬عموما‭ ‬فصائل‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬وتتبنى‭ ‬مواقفه‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية‭. ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الفصائل‭ ‬تدين‭ ‬لسوريا‭ ‬بوجودها،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬تواجدها‭ ‬تقريباً‭ ‬في‭ ‬أية‭ ‬ساحة‭ ‬أخرى،‭ ‬وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬تمثيلات‭ ‬شعبية‭ ‬وازنة‭ ‬لها،‭ ‬وبحكم‭ ‬غياب‭ ‬أي‭ ‬دور‭ ‬نضالي‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬إسرائيل‭. ‬

ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الفصائل‭ ‬اتخذت‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬موقفاً‭ ‬معادياً‭ ‬للثورة‭ ‬السورية،‭ ‬ومشكّكاً‭ ‬بمقاصدها‭ ‬وبشرعيتها،‭ ‬معتبرة‭ ‬إياها‭ ‬مجرد‭ ‬صدى‭ ‬لمؤامرة‭ ‬خارجية،‭ ‬ومن‭ ‬فعل‭ ‬عصابات‭ ‬معزولة،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬تبنّت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬خطاب‭ ‬النظام‭ ‬نفسه‭. ‬وفي‭ ‬الواقع،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المنظمات‭ ‬لم‭ ‬تقدّم‭ ‬ولم‭ ‬تؤخّر‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬لأنها‭ ‬أصلاً‭ ‬منظمات‭ ‬معزولة‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الشعبي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬موقفها‭ ‬هذا‭ ‬ربما‭ ‬أثار‭ ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬عكسية،‭ ‬ضمنها‭ ‬التذمّر‭ ‬من‭ ‬مواقفها،‭ ‬والغضب‭ ‬إزاء‭ ‬انتهاج‭ ‬الحل‭ ‬الأمني‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النظام،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬محض‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬تعاطفهم‭ ‬مع‭ ‬ثورة‭ ‬السوريين‭.‬

في‭ ‬الغضون،‭ ‬فإنه‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2011،‭ ‬ونتيجة‭ ‬لتدهور‭ ‬الأوضاع‭ ‬الأمنية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬واستهداف‭ ‬المخيمات،‭ ‬فقد‭ ‬غادرت‭ ‬سوريا‭ ‬نسبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬إلى‭ ‬لبنان‭ ‬والأردن‭ ‬ومصر‭ ‬وتركيا‭ ‬والدول‭ ‬الأوروبية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬النزوح‭ ‬الداخلي؛‭ ‬نتيجة‭ ‬دمار‭ ‬مخيماتهم‭ ‬ومنازلهم‭ ‬وعدم‭ ‬السماح‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬النظام‭ ‬بالعودة‭ ‬إليها،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك،‭ ‬الذي‭ ‬أعدمت‭ ‬فيه‭ ‬الحياة‭ ‬نهائياً‭ ‬(وهو‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬جراء‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬التي‭ ‬شنتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬عليه)،‭ ‬إذ‭ ‬دمر‭ ‬هذا‭ ‬المخيم‭ ‬بنسبة‭ ‬80‭ ‬-‭ ‬90‭ ‬بالمئة‭ ‬مع‭ ‬تقويض‭ ‬ونهب‭ ‬بناه‭ ‬التحتية،‭ ‬وتعفيش‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬صالح‭ ‬فيه‭ ‬(أبواب‭ ‬وأنابيب‭ ‬وأسلاك‭ ‬كهرباء‭ ‬وملابس‭ ‬وأثاث،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬نافع)،‭ ‬عبر‭ ‬وكلاء‭ ‬يعملون‭ ‬تحت‭ ‬إشراف‭ ‬أجهزة‭ ‬نافذة،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬إجلاء‭ ‬كل‭ ‬سكان‭ ‬المخيم،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقطن‭ ‬فيه‭ ‬حوالي‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬فلسطيني‭.‬

في‭ ‬المحصلة،‭ ‬فقد‭ ‬لقي‭ ‬4300‭ ‬من‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المخيمات،‭ ‬مصرعهم‭ ‬بالرصاص،‭ ‬أو‭ ‬نتيجة‭ ‬القصف،‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬التعذيب‭ ‬في‭ ‬معتقلات‭ ‬النظام‭ ‬أو‭ ‬الموت‭ ‬جوعاً‭ ‬(بخاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حصار‭ ‬النظام‭ ‬لمخيم‭ ‬اليرموك‭ ‬منذ‭ ‬أواخر‭ ‬العام‭ ‬2012)،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬زج‭ ‬حوالي‭ ‬3000‭ ‬فلسطيني‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬قتل‭ ‬العشرات‭ ‬منهم‭ ‬تحت‭ ‬التعذيب‭.‬

 

ثالثاً‭.. ‬التحول‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬وأثره‭ ‬على‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا‭ ‬

 

بديهي‭ ‬أن‭ ‬التحول‭ ‬السياسي‭ ‬المفاجئ‭ ‬والسريع‭ ‬والكبير‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬سيؤثر‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وعلى‭ ‬كياناتهم‭ ‬السياسية،‭ ‬وعلى‭ ‬نظرتهم‭ ‬لمكانتهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد،‭ ‬ودورهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬العملية‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بالنظر‭ ‬لأهمية‭ ‬سوريا‭ ‬التاريخية‭ ‬والجغرافية‭ ‬والسياسية‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وقضيته‭ ‬وحركته‭ ‬الوطنية،‭ ‬بخاصة‭ ‬أن‭ ‬تأثيراته‭ ‬الكبيرة‭ ‬والعميقة‭ ‬شملت‭ ‬معظم‭ ‬بلدان‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬وتفاعلات‭ ‬الأطراف‭ ‬الدولية‭ ‬والإقليمية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭. ‬

على‭ ‬ذلك،‭ ‬فما‭ ‬يهمنا‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬رؤية‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭ ‬الكبير‭ ‬فلسطينياً،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬التعقيدات‭ ‬والمشكلات‭ ‬والمداخلات،‭ ‬التي‭ ‬يتمثل‭ ‬أهمها‭ ‬في‭ ‬الآتي:

‭ ‬أولاً،‭ ‬إن‭ ‬مجتمع‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬مجتمعات‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬هامشيّاً‭ ‬في‭ ‬تأثيره‭ ‬على‭ ‬المعادلات‭ ‬السياسية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬السائدة،‭ ‬بحكم‭ ‬انتهاء‭ ‬ظاهرة‭ ‬الكفاح‭ ‬المسلح‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬منذ‭ ‬أربعة‭ ‬عقود،‭ ‬وتحول‭ ‬مركز‭ ‬الفعل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬والقطاع‭ ‬بعد‭ ‬إقامة‭ ‬السلطة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬(1994)،‭ ‬وبحكم‭ ‬خضوعهم‭ ‬للدولة‭ ‬التي‭ ‬يعيشون‭ ‬بين‭ ‬ظهرانيها،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬بات‭ ‬اللاجئون‭ ‬الفلسطينيون،‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬حسابات‭ ‬الفعل‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬-‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مجتمع‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان‭ ‬والعراق،‭ ‬جرى‭ ‬تحطيمه‭ ‬أو‭ ‬تفكيكه‭ ‬بقسوة،‭ ‬وعبر‭ ‬تهجير‭ ‬أعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬أجنبية،‭ ‬يصعب‭ ‬الإحاطة‭ ‬بها‭ ‬لغياب‭ ‬إحصائيات‭ ‬موثقة‭. ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اختفاء‭ ‬مخيمات‭ ‬بأكملها،‭ ‬كلياً‭ ‬أو‭ ‬جزئياً،‭ ‬مثل‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك‭ ‬وحندرات‭ ‬والسبينة‭ ‬ودنون،‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬وصبرا‭ ‬وشاتيلا‭ ‬ونهر‭ ‬البارد‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬طرد‭ ‬معظم‭ ‬فلسطينيي‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الميليشيات‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬اشتغلت‭ ‬كذراع‭ ‬إقليمية‭ ‬لإيران،‭ ‬إثر‭ ‬إسقاط‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬(2003)؛‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬معه‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬اختفاء،‭ ‬أو‭ ‬ضمور،‭ ‬مجتمع‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬الخريطة‭ ‬الجغرافية‭ ‬والسياسية‭.‬

ثانياً،‭ ‬إن‭ ‬القيادة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وفصائلها‭ ‬الأساسية‭ ‬(وتحديداً‭ ‬«فتح»‭ ‬و»حماس»)،‭ ‬مشغولة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬بوضعها‭ ‬كسلطة،‭ ‬إذ‭ ‬الأولى‭ ‬مشغولة‭ ‬بمحاولة‭ ‬تعزيز‭ ‬مكانة‭ ‬كيانها‭ ‬السياسي،‭ ‬وحث‭ ‬الجهود‭ ‬لإقامة‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬والقطاع،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬استعصاء‭ ‬سياسي‭ ‬تسببه‭ ‬إسرائيل،‭ ‬مدعومة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬تحاول‭ ‬قضم‭ ‬مكانة‭ ‬السلطة‭ ‬سياسياً‭ ‬وإدارياً‭ ‬وجغرافياً‭ ‬أيضاً،‭ ‬عبر‭ ‬الاستيطان‭ ‬وعبر‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭. ‬أما‭ ‬الثانية،‭ ‬فهي‭ ‬تواجه‭ ‬ظروفاً‭ ‬جد‭ ‬صعبة‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬التي‭ ‬شنّتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬إثر‭ ‬عملية‭ ‬«طوفان‭ ‬الأقصى»،‭ ‬وما‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬تحويل‭ ‬القطاع‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬للعيش،‭ ‬مع‭ ‬تشريد‭ ‬مليونين‭ ‬من‭ ‬سكانه‭ ‬كنازحين،‭ ‬يفتقدون‭ ‬المأوى‭ ‬والمورد،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تقويض‭ ‬قدرات‭ ‬«حماس»‭ ‬العسكرية‭ ‬والمادية،‭ ‬مع‭ ‬السعي‭ ‬لشطبها‭ ‬من‭ ‬المعادلات‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬ترتب‭ ‬لليوم‭ ‬التالي‭ ‬للحرب‭. ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الوضع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬غير‭ ‬جاهز،‭ ‬وغير‭ ‬قادر،‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬همّ‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬القريب،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬رغب‭ ‬بذلك‭. ‬وقد‭ ‬شهدنا‭ ‬سابقة،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬الضعيف‭ ‬للفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬التنكيل‭ ‬بهم‭ ‬وتهجير‭ ‬معظمهم،‭ ‬بدون‭ ‬إبداء‭ ‬أي‭ ‬موقف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬أيضاً،‭ ‬بعد‭ ‬الاجتياح‭ ‬(1982)،‭ ‬في‭ ‬استهداف‭ ‬مخيماتهم،‭ ‬وتصعيب‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬العيش،‭ ‬والحد‭ ‬من‭ ‬فرصهم‭ ‬على‭ ‬العمل،‭ ‬والضغوط‭ ‬الموجهة‭ ‬عليهم‭ ‬لدفعهم‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تستطيع‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬فعل‭ ‬شيء،‭ ‬علماً‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تفعل‭ ‬شيئاً‭ ‬لتحسين،‭ ‬أو‭ ‬لترشيد،‭ ‬القوانين‭ ‬المدنية‭ ‬اللبنانية‭ ‬بخصوصهم،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬إبان‭ ‬وجودها‭ ‬كقوة‭ ‬قادرة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭. ‬

ثالثاً،‭ ‬بخصوص‭ ‬فصائل‭ ‬«اليسار»‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬قوة،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬ضعيفة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬النواحي،‭ ‬وحتى‭ ‬إنها‭ ‬تكاد‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬لنفسها‭ ‬مكانة‭ ‬فيما‭ ‬يحدث،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬نكصت‭ ‬عن‭ ‬طبيعتها‭ ‬بسكوتها،‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬الأسد،‭ ‬بما‭ ‬فعله‭ ‬بشعبه،‭ ‬وحتى‭ ‬بما‭ ‬فعله‭ ‬في‭ ‬المخيمات‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬اليرموك،‭ ‬وتالياً‭ ‬لذلك‭ ‬إنكارها‭ ‬مشروعية‭ ‬الثورة‭ ‬السورية،‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬الضبابية‭ ‬في‭ ‬مواقفها،‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الوقوف‭ ‬في‭ ‬صف‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬(الساقط)‭ ‬والتماهي‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬محور‭ ‬«المقاومة‭ ‬والممانعة»‭ ‬الذي‭ ‬تتزعمه‭ ‬إيران،‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬وتهجير‭ ‬السوريين،‭ ‬لذا‭ ‬فهي‭ ‬بعد‭ ‬التغيير‭ ‬السوري‭ ‬المفاجئ‭ ‬باتت‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬من‭ ‬أمرها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ضعفها‭ ‬وانحسار‭ ‬شعبيتها‭. ‬

رابعاً،‭ ‬بالنسبة‭ ‬للفصائل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محسوبة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬وموالية‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬المتطابقة‭ ‬مع‭ ‬سياساته،‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الخط،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تتمتّع‭ ‬برصيد‭ ‬شعبي‭ ‬أصلاً،‭ ‬وغير‭ ‬مؤثّرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأصعدة،‭ ‬وتأثيرها‭ ‬الوحيد‭ ‬ناجم‭ ‬عن‭ ‬النفوذ‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تمنحه‭ ‬إياها‭ ‬السلطات‭ ‬السورية،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الكيانات‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬مكاناً‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬السوري‭ ‬الجديد،‭ ‬على‭ ‬الأغلب،‭ ‬إذ‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬قبولاً‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬السوريين،‭ ‬الذي‭ ‬يأخذ‭ ‬عليها‭ ‬وقوفها‭ ‬الصريح‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬النظام،‭ ‬الذي‭ ‬قتل‭ ‬واعتقل‭ ‬ألوفاً‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وحاصر‭ ‬بعض‭ ‬المخيمات‭ ‬ودمرها،‭ ‬باعتبارها‭ ‬كانت‭ ‬شريكة‭ ‬له،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬السلطات‭ ‬الجديدة‭ ‬لن‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬بالعمل،‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭. ‬

خامساً،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بحركة‭ ‬«فتح»‭ ‬(وهي‭ ‬قيادة‭ ‬السلطة‭ ‬والمنظمة)‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬لن‭ ‬يؤثر‭ ‬سلباً‭ ‬في‭ ‬وجودها،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬بعكس‭ ‬ذلك،‭ ‬نظراً‭ ‬لسوابقها‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬الذي‭ ‬دفعت‭ ‬أثماناً‭ ‬كبيرة‭ ‬له،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬حرمها‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬العلني‭ ‬بين‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬طوال‭ ‬قرابة‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬(1983‭ ‬-‭ ‬2013)،‭ ‬وأغلق‭ ‬معسكراتها‭ ‬وانتزع‭ ‬ملكية‭ ‬مقراتها،‭ ‬بل‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬بيوت‭ ‬بعض‭ ‬قادتها‭. ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬رغم‭ ‬التنكيل‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬(سجن‭ ‬معظم‭ ‬كادراتها‭ ‬لعدة‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬الثمانينيات)،‭ ‬ورغم‭ ‬منعها‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬العلني،‭ ‬ورغم‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬المحتلة‭ ‬(1967)،‭ ‬بعد‭ ‬عقد‭ ‬اتفاق‭ ‬أوسلو‭ ‬(1993)،‭ ‬ما‭ ‬نجم‭ ‬عنه‭ ‬إزاحة‭ ‬حق‭ ‬العودة،‭ ‬لصالح‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬والقطاع،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ظلت‭ ‬بالنسبة‭ ‬للاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الحركة‭ ‬التي‭ ‬أطلقت‭ ‬الكفاح‭ ‬المسلح،‭ ‬ونافحت‭ ‬عن‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وتحدّت‭ ‬بعناد‭ ‬سياسة‭ ‬الوصاية‭ ‬السورية؛‭ ‬وبديهي‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لنهوض‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬يتطلب‭ ‬روافع‭ ‬أو‭ ‬متطلبات‭ ‬ذاتية‭ ‬أخرى،‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬تبدو‭ ‬الحركة‭ ‬بطبيعة‭ ‬بنيتها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تلبيتها،‭ ‬لمواكبة‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬

سادساً،‭ ‬أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بحركة‭ ‬«حماس»،‭ ‬فهي‭ ‬تواجه‭ ‬مأزقاً‭ ‬كبيراً،‭ ‬بعدة‭ ‬مستويات،‭ ‬نتيجة‭ ‬التغيرات‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬السوري،‭ ‬بخاصة‭ ‬أنها‭ ‬حاولت‭ ‬التطبيع‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬سابقاً،‭ ‬وأيضاً‭ ‬نتيجة‭ ‬التغيرات‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬يتمثل‭ ‬بانهيار‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬«محور‭ ‬المقاومة‭ ‬والممانعة»،‭ ‬وأفول‭ ‬مكانة‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬راهنت‭ ‬عليها،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الحركة،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬حرج‭ ‬وصعب،‭ ‬مع‭ ‬السلطات‭ ‬السورية‭ ‬الجديدة‭. ‬وفي‭ ‬المحصلة،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬تواجه‭ ‬استحقاقات‭ ‬كبيرة،‭ ‬تتطلب‭ ‬منها‭ ‬مراجعة‭ ‬خطاباتها‭ ‬وأحوالها‭ ‬وعلاقاتها،‭ ‬إن‭ ‬بدفع‭ ‬من‭ ‬الأكلاف‭ ‬الباهظة،‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬بها‭ ‬عملية‭ ‬«طوفان‭ ‬الأقصى»‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬فيها‭ ‬إسرائيل‭ ‬ضالتها‭ ‬لإنزال‭ ‬كارثة‭ ‬بالفلسطينيين،‭ ‬وكذلك‭ ‬بدفع‭ ‬من‭ ‬أفول‭ ‬أو‭ ‬اختفاء‭ ‬حلفائها،‭ ‬السابقين‭ ‬(إيران،‭ ‬وحزب‭ ‬الله،‭ ‬والنظام‭ ‬السوري)‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬الفاعلين‭ ‬الإقليميين،‭ ‬ونسبة‭ ‬لتراجع‭ ‬قدراتها‭ ‬وإمكانياتها‭ ‬ومواردها‭ ‬العسكرية‭ ‬والمادية‭. ‬

‭ ‬سابعاً،‭ ‬تبقى‭ ‬ضرورة‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مزاج‭ ‬معظم‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الناشطين‭ ‬سياسياً‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬من‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة،‭ ‬منحاز‭ ‬إلى‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬الفارط‭ ‬لطالما‭ ‬استهدف‭ ‬تلك‭ ‬«الوطنية»،‭ ‬وحاول‭ ‬تقزيم‭ ‬شأنها‭ ‬وتقييدها‭. ‬ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬«الوطنية»‭ ‬تتمثل‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬«فتح»،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬فصيل‭ ‬آخر،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬تطابقاً‭ ‬تاماً‭ ‬بين‭ ‬توجهات‭ ‬هؤلاء‭ ‬مع‭ ‬السياسات‭ ‬التي‭ ‬تنتهجها‭ ‬قيادات‭ ‬«فتح»‭. ‬لكن‭ ‬مشكلة‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يشكلون‭ ‬المزاج‭ ‬العام‭ ‬للاجئين‭ ‬غير‭ ‬المنتمين‭ ‬إلى‭ ‬الفصائل،‭ ‬افتقارهم‭ ‬لإطارات‭ ‬عمل‭ ‬منظمة،‭ ‬ولمنابر‭ ‬يمكنهم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ذاتهم،‭ ‬وافتقادهم‭ ‬للشرعية‭ ‬والإمكانيات‭ ‬اللازمة‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ما‭ ‬يضعف‭ ‬من‭ ‬تأثيرهم،‭ ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬من‭ ‬المنتظر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬القطاع‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬الأكثر‭ ‬استفادة‭ ‬من‭ ‬التغييرات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬سوريا‭.‬

ثامناً،‭ ‬وبشأن‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬فهي‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أكدت‭ ‬أن‭ ‬علاقتها‭ ‬الرئيسية‭ ‬ستكون‭ ‬مع‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬كممثل‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬وقضيته،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬إيجابي‭ ‬مبدئياً،‭ ‬ويفترض‭ ‬تعميقه،‭ ‬وتعزيزه،‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬التوترات‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬وهذه‭ ‬فرصة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التأسيس‭ ‬لعلاقات‭ ‬فلسطينية‭ ‬-‭ ‬سورية‭ ‬سليمة،‭ ‬بعد‭ ‬قرابة‭ ‬ستة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬المداخلات‭ ‬الصعبة‭ ‬والتوترات‭ ‬المكلفة‭. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الأحوال،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬القيادة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وهي‭ ‬قيادة‭ ‬المنظمة‭ ‬والسلطة‭ ‬و»فتح»،‭ ‬وبين‭ ‬القيادة‭ ‬السورية‭ ‬ممثلة‭ ‬بالرئيس‭ ‬السوري‭ ‬أحمد‭ ‬الشرع،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وفد‭ ‬رسمي‭ ‬زار‭ ‬دمشق‭ ‬برئاسة‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الفلسطيني‭ ‬محمد‭ ‬مصطفى‭ ‬(يناير‭ ‬2025)،‭ ‬كبداية‭ ‬لعلاقة‭ ‬رسمية‭ ‬منتظمة‭. ‬أيضا‭ ‬فإن‭ ‬السفارة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬تواصل‭ ‬عملها‭ ‬كالمعتاد‭ ‬باعتبارها‭ ‬ممثلاً‭ ‬للسلطة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وهذا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬مكتب‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بمهامه‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬في‭ ‬دمشق‭. ‬ولعل‭ ‬الإشارة‭ ‬المهمة،‭ ‬التي‭ ‬وجهتها‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة،‭ ‬أيضاً،‭ ‬تتمثل‭ ‬بوضع‭ ‬يدها‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬مقرات‭ ‬ومعسكرات‭ ‬الفصائل‭ ‬الموالية‭ ‬للنظام‭ ‬السوري‭ ‬(الصاعقة،‭ ‬القيادة‭ ‬العامة،‭ ‬فتح‭ ‬الانتفاضة)،‭ ‬ومطالبتها‭ ‬كل‭ ‬الفصائل‭ ‬بتسليم‭ ‬الأسلحة‭ ‬التي‭ ‬لديها،‭ ‬وقيامها‭ ‬باعتقال‭ ‬وملاحقة‭ ‬المتورطين،‭ ‬من‭ ‬الفصائل،‭ ‬بالمشاركة‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬السوريين‭ ‬والفلسطينيين‭. ‬وباختصار،‭ ‬فثمة‭ ‬وضعية‭ ‬جديدة‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬تفترض‭ ‬من‭ ‬فصائل‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التكيف‭ ‬معها‭ ‬والاستثمار‭ ‬فيها،‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ومجتمع‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا‭.‬

‭ ‬تاسعاً،‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إليه‭ ‬هنا،‭ ‬أيضاً،‭ ‬أن‭ ‬سياسة‭ ‬النظام‭ ‬الجديد‭ ‬تشي‭ ‬بالتعامل‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬بمساواتهم‭ ‬مع‭ ‬السوريين،‭ ‬إن‭ ‬باستعادة‭ ‬حقوقهم‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬قيام‭ ‬النظام‭ ‬الفارط‭ ‬بالانقلاب‭ ‬عليها،‭ ‬كما‭ ‬بالتعامل‭ ‬معهم‭ ‬بضمهم‭ ‬إلى‭ ‬القيود‭ ‬المدنية‭ ‬السورية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬لديهم‭ ‬قيود‭ ‬كلاجئين‭ ‬فلسطينيين‭ ‬يتبعون‭ ‬لمؤسسة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬التطور‭ ‬الآخر‭ ‬اللافت،‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬ذكره‭ ‬هنا،‭ ‬يتعلق‭ ‬بإنهاء‭ ‬الخدمة‭ ‬العسكرية‭ ‬الإلزامية،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يسقط‭ ‬الخدمة‭ ‬الإلزامية‭ ‬عن‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬وتاليا‭ ‬حل‭ ‬جيش‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطيني‭ ‬أيضاً،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬فربما‭ ‬تفضي‭ ‬الأحوال،‭ ‬على‭ ‬الأرجح،‭ ‬إلى‭ ‬منح‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬مكانة‭ ‬المواطنة،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬وضع‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬الأردن؛‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬ويسهل‭ ‬عليهم‭ ‬حياتهم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتعارض‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬احتفاظهم‭ ‬بهويتهم‭ ‬الوطنية،‭ ‬وبانتمائهم‭ ‬لقضية‭ ‬شعبهم‭.‬

عاشراً،‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬دور‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬مستقبلا،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭ ‬الجديدة،‭ ‬بخاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الأحوال‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬فيها‭ ‬سوريا،‭ ‬ستركز‭ ‬جهودها‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬والأمني‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬وبناء‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬وضمن‭ ‬ذلك‭ ‬معالجة‭ ‬التركة‭ ‬الثقيلة‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬الرئيس‭ ‬الفارّ،‭ ‬كأولوية‭ ‬يحتاج‭ ‬إليها‭ ‬الشعب‭ ‬السوري‭ ‬للنهوض‭ ‬بأوضاعه،‭ ‬وربما‭ ‬إن‭ ‬سوريا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ ‬لاستعادة‭ ‬عافيتها،‭ ‬إن‭ ‬سارت‭ ‬الأمور‭ ‬بطريقة‭ ‬ناجعة،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬مقدرات‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭ ‬باتت‭ ‬متهالكة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬منها‭ ‬قامت‭ ‬إسرائيل‭ ‬بتدمير‭ ‬معظمه،‭ ‬في‭ ‬غارات‭ ‬متوالية‭ ‬شنتها‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬النظام‭ ‬مباشرة،‭ ‬لذا‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الحكمة،‭ ‬ولا‭ ‬بأي‭ ‬شكل،‭ ‬ولا‭ ‬تحت‭ ‬أي‭ ‬مبرر،‭ ‬الطلب‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الجديد‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الصعيد،‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬المنظور‭. ‬

حادي‭ ‬عشر،‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬الانتباه‭ ‬إليه،‭ ‬أن‭ ‬التغيير‭ ‬الحاصل‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وعند‭ ‬فلسطينيي‭ ‬سوريا،‭ ‬يفترض‭ ‬ربطه‭ ‬بالتغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬الانقلابية‭ ‬الحاصلة‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬تبعاً‭ ‬للتداعيات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬«طوفان‭ ‬الأقصى»،‭ ‬وتالياً‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬التي‭ ‬شنتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬وعلى‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وما‭ ‬نجم‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬إسقاط‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وتاليا‭ ‬انحسار‭ ‬نفوذ‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬مكانة‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬مدعومة‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬التطورات‭ ‬والتغيرات،‭ ‬التي‭ ‬ضمنها‭ ‬سعي‭ ‬إسرائيل‭ ‬الحثيث‭ ‬للهيمنة‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬إلى‭ ‬البحر،‭ ‬ستؤثر‭ ‬كثيرا‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وخياراتها‭ ‬السياسية‭ ‬والكفاحية،‭ ‬كما‭ ‬ستؤثر‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭. ‬ومن‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬التطورات،‭ ‬والتغيرات،‭ ‬ستفضي‭ ‬إلى‭ ‬انهيار،‭ ‬أو‭ ‬أفول،‭ ‬الخيار‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬إسرائيل‭ ‬عربيا‭ ‬وفلسطينيا،‭ ‬لانعدام،‭ ‬أو‭ ‬للافتقار،‭ ‬لإمكانياته‭ ‬ومتطلباته،‭ ‬وأيضا‭ ‬بالنظر‭ ‬لتكلفته‭ ‬العالية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬يكاد‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬طرف‭ ‬عربي‭ ‬أو‭ ‬فلسطيني‭ ‬يدعو‭ ‬إليه‭ ‬بشكل‭ ‬جاد،‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬الراهنة،‭ ‬وفي‭ ‬المدى‭ ‬المنظور؛‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬الخضوع‭ ‬لإرادة‭ ‬إسرائيل،‭ ‬أو‭ ‬لسياساتها،‭ ‬أو‭ ‬صرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أشكال‭ ‬الكفاح‭ ‬الممكنة‭ ‬وفقا‭ ‬للوضع‭ ‬الراهن‭ ‬فلسطينيا‭ ‬وعربيا‭ ‬ودوليا‭. ‬وقد‭ ‬يفيد‭ ‬هنا‭ ‬التذكير‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬إبان‭ ‬قصفها‭ ‬لمواقع‭ ‬الجيش‭ ‬السوري،‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬الأسد،‭ ‬قامت‭ ‬بقصف‭ ‬معسكرات‭ ‬ومقرات‭ ‬لفصائل‭ ‬فلسطينية،‭ ‬واغتيال‭ ‬قياديين‭ ‬فلسطينيين،‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان‭.‬

هكذا،‭ ‬ثمة‭ ‬مجال‭ ‬للجزم‭ ‬بأن‭ ‬وضع‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وضمنه‭ ‬نشاط‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير،‭ ‬سيتحدد‭ ‬بحسب‭ ‬شكل‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬سينشأ،‭ ‬بعد‭ ‬المرحلة‭ ‬الانتقالية،‭ ‬إذ‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬ستختفي‭ ‬بعض‭ ‬الفصائل،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬وجودها‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬الساقط،‭ ‬وإن‭ ‬بقيت‭ ‬فهي‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬فاعلة‭ ‬أو‭ ‬ملحوظة،‭ ‬لا‭ ‬رسمياً‭ ‬ولا‭ ‬شعبياً،‭ ‬وربما‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تحظى‭ ‬بأية‭ ‬شرعية‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬قانونية‭ ‬أو‭ ‬مجتمعية‭ ‬(وهذا‭ ‬يشمل‭ ‬منظمات‭ ‬(الصاعقة،‭ ‬القيادة‭ ‬العامة،‭ ‬فتح‭ ‬الانتفاضة)،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الحالي‭ ‬حل‭ ‬حزب‭ ‬«البعث»،‭ ‬كما‭ ‬حل‭ ‬كل‭ ‬أحزاب‭ ‬الجبهة‭ ‬التقدمية‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬والأحرى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬سيشمل‭ ‬الفصائل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشتغل‭ ‬وفقا‭ ‬للوظيفة‭ ‬السورية،‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭.‬

ظاهرة‭ ‬أخرى،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنتج‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجري،‭ ‬تتمثل‭ ‬بإمكان‭ ‬وجود‭ ‬ظروف‭ ‬تتيح‭ ‬تنامي‭ ‬ظاهرة‭ ‬المستقلين،‭ ‬والمنابر‭ ‬المستقلة،‭ ‬بخاصة‭ ‬مع‭ ‬انتشار‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وعبر‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المبادرات‭ ‬والتجمعات‭ ‬الشبابية‭ ‬ومنظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭. ‬ويجدر‭ ‬التوضيح‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬«المستقلين»‭ ‬يشمل‭ ‬الأفراد‭ ‬الناشطين‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬والجماهيري،‭ ‬بشتى‭ ‬أنواعه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ارتباط‭ ‬مباشر‭ ‬بفصيل‭ ‬معين‭. ‬ومعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأفراد‭ ‬ينشطون‭ ‬بشكل‭ ‬طوعي،‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬وعيهم‭ ‬لدورهم‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬الوطنية،‭ ‬متوخّين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة،‭ ‬أي‭ ‬مصلحة‭ ‬القضية‭ ‬والشعب؛‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ارتهان‭ ‬للمصالح‭ ‬والمواقف‭ ‬الفصائلية،‭ ‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬القطاع‭ ‬الأبرز‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناشطين‭ ‬المستقلين‭ ‬كانوا‭ ‬سابقا‭ ‬من‭ ‬المنتمين‭ ‬تحديدا‭ ‬لحركة‭ ‬«فتح»‭ ‬والجبهتين‭ ‬الشعبية‭ ‬والديمقراطية‭.‬

وكانت‭ ‬المخيمات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬شهدت،‭ ‬كما‭ ‬غيرها،‭ ‬انتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬تشكيل‭ ‬نشطاء‭ ‬لمنظمات‭ ‬مجتمع‭ ‬مدني‭ ‬(على‭ ‬تنوع‭ ‬مهامها‭ ‬وموضوعاتها‭ ‬وأنشطتها)،‭ ‬للتعويض‭ ‬عن‭ ‬قصور‭ ‬الفصائل،‭ ‬وكبديل‭ ‬عن‭ ‬العزوف‭ ‬عن‭ ‬الانتماء‭ ‬إليها،‭ ‬وتلبية‭ ‬ميل‭ ‬قطاع‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬للانخراط‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬والنشاط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الطوعي‭. ‬وقد‭ ‬تشكلت‭ ‬هذه‭ ‬اللجان‭ ‬بداية‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬دعم‭ ‬الانتفاضة،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬ظهرت‭ ‬لجان‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والهوية،‭ ‬ثم‭ ‬ظهرت‭ ‬لجان‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬العودة‭. ‬وكما‭ ‬قدمنا‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬لم‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬فثمة‭ ‬لجان‭ ‬أيضا‭ ‬تعنى‭ ‬بالأنشطة‭ ‬الثقافية‭ ‬أو‭ ‬الرياضية‭ ‬أو‭ ‬بالخدمات‭ ‬الصحية‭. ‬

وقد‭ ‬بينت‭ ‬التجربة‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬مشكلات‭ ‬تحيط‭ ‬بعمل‭ ‬هذه‭ ‬اللجان،‭ ‬من‭ ‬ضمنها،‭ ‬مثلاً،‭ ‬محاولات‭ ‬الفصائل‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬انتشارها،‭ ‬وعدم‭ ‬التعاون‭ ‬معها،‭ ‬والنظر‭ ‬إليها‭ ‬بصورة‭ ‬تنافسية،‭ ‬لا‭ ‬تكاملية،‭ ‬حيث‭ ‬وصل‭ ‬الأمر‭ ‬ببعض‭ ‬الفصائل‭ ‬حد‭ ‬تشكيل‭ ‬هيئات‭ ‬مماثلة‭ ‬لهذه‭ ‬اللجان،‭ ‬تعمل‭ ‬تحت‭ ‬رعايتها‭. ‬أيضاً،‭ ‬تعاني‭ ‬هذه‭ ‬اللجان‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬الإمكانيات،‭ ‬ومن‭ ‬القيود‭ ‬المحددة‭ ‬للنشاط‭ ‬الجماهيري،‭ ‬ومن‭ ‬ضغوط‭ ‬الشرعية‭ ‬الفصائلية‭. ‬وعلى‭ ‬صعيدها‭ ‬الداخلي،‭ ‬تعاني‭ ‬هذه‭ ‬اللجان‭ ‬والهيئات،‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬كثيرة،‭ ‬من‭ ‬افتقادها‭ ‬للخبرات‭ ‬والكادرات‭ ‬المجربة،‭ ‬ومن‭ ‬العمل‭ ‬بطريقة‭ ‬مزاجية‭ ‬وعفوية‭ ‬وعاطفية،‭ ‬كما‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬انعدام‭ ‬بنائها‭ ‬على‭ ‬قواعد‭ ‬قانونية‭ ‬ومؤسسية‭ ‬وديمقراطية،‭ ‬وضعف‭ ‬التنسيق‭ ‬بينها‭.‬

وعليه،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نخلص‭ ‬من‭ ‬مراجعة‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬زمن‭ ‬العمل‭ ‬الفصائلي‭ ‬(بأشكاله‭ ‬السائدة)،‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬الستينيات،‭ ‬ربما‭ ‬أوشك‭ ‬على‭ ‬الأفول،‭ ‬بما‭ ‬له‭ ‬وما‭ ‬عليه،‭ ‬بحكم‭ ‬أسباب‭ ‬ذاتية‭ ‬وموضوعية‭. ‬وفي‭ ‬حين‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النتيجة‭ ‬تستثني‭ ‬وضع‭ ‬«فتح»‭ ‬و»حماس»‭ ‬وتصب‭ ‬في‭ ‬صالحهما،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬المنظور،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬إلا‭ ‬بسبب‭ ‬قدرة‭ ‬هاتين‭ ‬الحركتين‭ ‬على‭ ‬الاستقطاب،‭ ‬بحكم‭ ‬نفوذهما‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬(في‭ ‬الضفة‭ ‬وغزة)،‭ ‬وقدرتهما‭ ‬على‭ ‬التوظيف،‭ ‬وأيضاً‭ ‬بحكم‭ ‬إمكانياتهما‭ ‬المادية‭ ‬الكبيرة‭ ‬وموقعهما‭ ‬في‭ ‬السلطة‭.‬

عموماً،‭ ‬فإن‭ ‬التجربة‭ ‬السياسية‭ ‬لفلسطينيي‭ ‬سوريا‭ ‬ليست‭ ‬تجربة‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬اتجاهات‭ ‬السياسة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬مع‭ ‬تحول‭ ‬مركز‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬والقطاع،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬تكتسب‭ ‬أهميتها‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬مع‭ ‬التجربة‭ ‬السياسية‭ ‬العامة‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني‭.‬

على‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬التوصية‭ ‬به‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬إعادة‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬لمعناها‭ ‬ومبناها،‭ ‬وضمن‭ ‬ذلك‭ ‬استعادة‭ ‬وحدانية‭ ‬الشعب‭ ‬والأرض‭ ‬والقضية،‭ ‬وملاءمة‭ ‬خياراتها‭ ‬السياسية‭ ‬والكفاحية‭ ‬مع‭ ‬قدرات‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬والمعطيات‭ ‬العربية‭ ‬والدولية،‭ ‬ما‭ ‬يمكّنها‭ ‬من‭ ‬تعزيز‭ ‬صمود‭ ‬شعبها‭ ‬في‭ ‬أرضه،‭ ‬وتعزيز‭ ‬وحدته‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج،‭ ‬واستثمار‭ ‬موارده‭ ‬وتضحياته،‭ ‬بما‭ ‬يراكم‭ ‬باتجاه‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬الممكنة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرحلة،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬فعله‭ ‬إزاء‭ ‬مجتمع‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬بخاصة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ولبنان،‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬اختبرها‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬اللاجئون،‭ ‬الذين‭ ‬حملوا‭ ‬راية‭ ‬الكفاح‭ ‬الوطني‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬والسبعينيات‭ ‬والثمانينيات،‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الإقدام‭ ‬على‭ ‬مراجعة‭ ‬نقدية،‭ ‬لخياراتها‭ ‬ومسيرتها‭ ‬الكفاحية‭ ‬واستنباط‭ ‬الدروس‭ ‬المناسبة‭ ‬منها‭. ‬

تبقى‭ ‬كلمة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها‭ ‬بخصوص‭ ‬الإشكالية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بنظام‭ ‬الأسد‭ ‬الساقط،‭ ‬التي‭ ‬التبست‭ ‬على‭ ‬فلسطينيين‭ ‬كثر،‭ ‬بخاصة‭ ‬في‭ ‬الداخل،‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬وغزة‭ ‬و48،‭ ‬ممن‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تماماً،‭ ‬ولا‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬السوري،‭ ‬وأمثاله،‭ ‬وتنطلي‭ ‬عليهم‭ ‬تلاعباته‭ ‬واستخداماته‭ ‬لقضية‭ ‬فلسطين‭ ‬وشعارات‭ ‬المقاومة‭ ‬والممانعة‭ ‬التي‭ ‬ليست‭ ‬لها‭ ‬أية‭ ‬مصداقية‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع،‭ ‬والتي‭ ‬تستخدم‭ ‬فقط‭ ‬للهيمنة‭ ‬على‭ ‬شعبه،‭ ‬ومصادرة‭ ‬حقوقه‭ ‬وحريته‭ ‬وموارده‭. ‬طبعاً‭ ‬ثمة،‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء،‭ ‬فلسطينيون،‭ ‬متأدلجون،‭ ‬يظنون‭ ‬أن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬هي‭ ‬القضية‭ ‬المركزية‭ ‬لكل‭ ‬شعوب‭ ‬العالم،‭ ‬كأن‭ ‬شعب‭ ‬سوريا،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬آخر،‭ ‬ليست‭ ‬له‭ ‬قضية،‭ ‬أو‭ ‬كأن‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والعدالة‭ ‬تخص‭ ‬شعباً‭ ‬معيناً‭ ‬دون‭ ‬غيره،‭ ‬وكأن‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬تغطي‭ ‬على‭ ‬حقيقة‭ ‬سجن‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬الأبدي‭ ‬للشعب‭ ‬السوري،‭ ‬أو‭ ‬تبررها،‭ ‬وكأن‭ ‬نظاماً‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الاستبداد‭ ‬والفساد،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬إسرائيل‭. ‬أيضاً‭ ‬ثمة‭ ‬فصائل‭ ‬فلسطينية‭ ‬استمرأت‭ ‬العيش‭ ‬على‭ ‬الشعارات،‭ ‬وعلى‭ ‬ماضيها،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حاضرها‭ ‬وهي‭ ‬لعبت‭ ‬الدور‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬تمكين‭ ‬نظام‭ ‬الأسد،‭ ‬وتالياً‭ ‬النظام‭ ‬الإيراني،‭ ‬من‭ ‬ركوب‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬حفاظاً‭ ‬على‭ ‬مكانتها‭ ‬وعلى‭ ‬تمويلها،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬هذان‭ ‬النظامان‭ ‬بالشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬قضيته‭ ‬العادلة‭ ‬والمشروعة‭ ‬بطريقة‭ ‬استخدامية‭ ‬ووظيفية‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬هي‭ ‬قضية‭ ‬حرية‭ ‬وكرامة‭ ‬وعدالة،‭ ‬وهذه‭ ‬القضايا‭ ‬لا‭ ‬تتجزأ،‭ ‬وهي‭ ‬تصح‭ ‬على‭ ‬قضية‭ ‬السوريين،‭ ‬أيضاً،‭ ‬الذين‭ ‬كابدوا‭ ‬لـ‭ ‬55‭ ‬عاماً،‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬الاستبداد‭ ‬والفساد،‭ ‬الذي‭ ‬حول‭ ‬الجمهورية‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬وراثي،‭ ‬والذي‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬شعبه‭ ‬كأنه‭ ‬قوة‭ ‬احتلال،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الاستعانة‭ ‬بقوات‭ ‬أجنبية،‭ ‬وميليشيات‭ ‬طائفية‭ ‬مسلحة،‭ ‬ضد‭ ‬شعبه،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬سلطته،‭ ‬ووأد‭ ‬تطلّع‭ ‬السوريين‭ ‬نحو‭ ‬الحرية‭ ‬والتغيير‭ ‬السياسي‭.‬

قضايا‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والعدالة‭ ‬واحدة،‭ ‬والضحايا‭ ‬يتعاطفون‭ ‬مع‭ ‬الضحايا‭...‬

 

التغيير السياسي السوري .pdf