د. محمد فايز فرحات*

شكلت العلاقة بين حركات التحرر الوطني الهندية والعربية مانعاً أمام تطور علاقات الهند بإسرائيل في ظل نشاط الهند بإطار حركة عدم الانحياز، إلى جانب رفض الهند مبدأ “الدولة الدينية” الذي شكل أساس قيام إسرائيل، إلا أن العلاقة بين الهند وإسرائيل شهدت تطورات دراماتيكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانطلاق عملية التسوية، وقيام الهند بإعادة رسم خارطة علاقاتها الدولية، إذ شهدت هذه المرحلة علاقات اقتصادية متصاعدة بين البلدين، خاصة في مجال التكنولوجيا العسكرية، إلى جانب تقارب على أساس ديني قام على قاعدة مناهضة “الإرهاب الإسلامي”.

ومنذ العام 2014، ازداد الترابط الهندي الإسرائيلي بصعود حزب (بهارتيا جاناتا) اليميني المتطرف على حساب حزب المؤتمر العلماني، وتعززت هذه العلاقات من خلال اتفاقيات اقتصادية وعسكرية عالية المستوى وزيارات متبادلة بين رئيسي وزراء الهند نارنيدا مودي، والإسرائيلي بنيامين نتنياهو. سياسياً، ظهر هذا التحول السياسي من خلال تحول موقف الهند في المؤسسات الأممية من مساند مطلق للحقوق الفلسطينية إلى متحفظ أو معارض، ومثال ذلك امتناع الهند عن التصويت على تبني تقرير مجلس حقوق الإنسان حول عمليات الجيش الإسرائيلي وانتهاكاته في غزة عام 2015.

 مقدمة

مرت العلاقات الهندية- الإسرائيلية بثلاث مراحل، كانت لكل منها سماتها. المرحلة الأولى، هي مرحلة ما قبل التسعينيات، واتسمت فيها علاقات البلدين بالمحدودية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، وذلك رغم اعتراف الهند بإسرائيل في أيلول (سبتمبر) عام 1950، وسعي إسرائيل الحثيث خلال هذه المرحلة إلى توسيع حجم ونطاق علاقاتها مع العالم الخارجي، لكنها لم تنجح في ذلك، وظل حجم التمثيل الدبلوماسي عند المستوى القنصلي. عوامل كثيرة تفسر محدودية العلاقات بين البلدين خلال هذه المرحلة، أبرزها العلاقات القوية بين حركات التحرر الوطني الهندية والعربية خلال مرحلة ما قبل الاستقلال، وتدعيم هذه العلاقات في مرحلة ما بعد الاستقلال في إطار حركة عدم الانحياز، وتباين الارتباطات الدولية لكل من الهند وإسرائيل، حيث مالت الأولى للارتباط بالمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، بينما مالت الثانية إلى الارتباط بالمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة. وقد مال “حزب المؤتمر” الذي تولى السلطة طوال هذه المرحلة إلى النظر إلى “المشروع الصهيوني” باعتباره امتداداً للاستعمار الغربي. فضلاً عن الموقف التاريخي للحزب من فكرة إنشاء دولة إسرائيل على أساس ديني، وهو نفس المبدأ الذي عارضه الحزب في شبه القارة الهندية، حيث كان يطرح بديل “دولة واحدة وأمتان”، في مواجهة رؤية الحركة الإسلامية التي تمسكت بفكرة التقسيم على دولتين على أساس ديني.

بالإضافة إلى ذلك، لعب العامل الداخلي المتمثل في وجود أقلية مسلمة كبيرة في الهند، دوراً مهماً ضبط الانفتاح الهندي على إسرائيل، وهو عامل كان له تأثيره المهم خلال السنوات الأولى من تأسيس الدولة الهندية لأسباب تتعلق بحرص حكومة حزب المؤتمر على إثبات جدارة نظرية “الدولة الواحدة والأمتان”، وجدارة نظرية “الديمقراطية العلمانية” كإطار سياسي للدولة الهندية الجديدة، ولأسباب تتعلق بقوة العلاقات الهندية- العربية خلال تلك المرحلة.

أضف إلى ذلك، أدى وجود أقلية يهودية محدودة داخل الهند إلى ضعف تعاطف حركة التحرر الوطني الهندية قبل الاستقلال مع المسألة اليهودية. ورغم تفهم القيادات الوطنية الهندية للطموحات اليهودية في إقامة وطن خاص بهم، إلا أن حزب المؤتمر انتقد اعتمادهم على “الإمبريالية” البريطانية لإنجاز هذا الطموح، الأمر الذي أدى إلى نظرة الحزب لدولة إسرائيل باعتبارها مشروعاً استعمارياً[1]. وقد استمر هذا الموقف من إسرائيل خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. ولم تنجح المساعدات العسكرية الإسرائيلية للهند خلال عقود الستينيات، خاصة في مرحلة المواجهات الهندية- الصينية، والحروب الهندية- الباكستانية، في تغيير التوجهات الهندية تجاه إسرائيل، كما لم تؤد معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979 إلى إدخال تغييرات جوهرية على هذه التوجهات[2].

المرحلة الثانية، تأسست مع الارتقاء بالتمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى مستوى السفارة في عام 1992، وامتدت حتى عام 2014. وبشكل عام، شهدت هذه المرحلة نقلات نوعية كبيرة في العلاقات بين البلدين، ووصولها إلى مستويات متقدمة في مختلف المجالات، وتجاوزها العديد من العقبات السياسية والثقافية التي حكمت هذه العلاقات خلال المرحلة السابقة. جاء هذا التحول نتيجة عددٍ من العوامل المهمة. أولها، التحول المهم الذي طال النظام العالمي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، الأمر الذي فرض على الهند إعادة النظر في طبيعة ارتباطاتها الدولية، في اتجاه الانفتاح على الولايات المتحدة الأميركية، حيث مثلت إسرائيل في هذا الإطار بوابة مهمة لإجراء هذا التحول.

العامل الثاني، تعلق التحول المهم الذي طال الصراع العربي- الإسرائيلي، مع عقد مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1991. وكان لهذا التطور تأثيره على تطور العلاقات الهندية الإسرائيلية من زاويتين: الأولى، إلغاء القيد السياسي والأخلاقي على صانع القرار الهندي بالانفتاح على إسرائيل، خاصة مع ارتباط مؤتمر مدريد بعملية سلام استقرت نسبياً لفترة، ونجاحها في إنتاج عدد من الاتفاقات، أبرزها اتفاق أوسلو في أيلول (سبتمبر) عام 1993 (بعد مرور أقل من عامين فقط على مؤتمر مدريد)، ومعاهدة السلام الأردنية- الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1994 (بعد مرور ثلاث سنوات على مؤتمر مدريد)، فضلاً عن بدء ما عُرف بالمفاوضات متعددة الأطراف، التي ركّزت على معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العابرة للحدود (من خلال خمس مجموعات عمل منفصلة: التنمية الاقتصادية الإقليمية، ومصادر المياه، والبيئة، واللاجئين، وضبط التسلح والأمن الإقليمي) والتي انطلقت في كانون الأول (ديسمبر) عام 1992، وحرصت الهند على المشاركة فيها. وأدت هذه التطورات إلى بناء درجة معقولة من الثقة لدى الأطراف الدولية في استقرار هذه العملية، من ناحية، والتفاؤل بإمكانية إنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي من ناحية أخرى. الثانية، هي نجاح إسرائيل في توظيف هذه التطورات في إقناع العديد من القوى الدولية المهمة -خاصة الهند والصين- بعدم جدوى ربط الانفتاح على إسرائيل بمسار الصراع العربي- الإسرائيلي.

وعلى العكس من مرحلة ما قبل التسعينيات، التي تميزت بالتركيز على عناصر الخلاف والتناقض بين البلدين، ركز الطرفان في هذه المرحلة على إعادة قراءة التاريخ بهدف التأكيد على التشابه القوي بين البلدين. فمن ناحية، تحدثت النخب السياسية عن أن كلاً من البلدين يواجه بيئة إقليمية عدائية ضده، وأن كلاً منهما يمثل طرفاً في صراع إقليمي اجتماعي ممتد ذي طبيعة دينية[3]. ثم جاءت أحداث أيلول (سبتمبر) عام 2001، في واشنطن ونيويورك، لتعمق من هذا الإدراك، وتضيف إليه بعداً جديداً، حيث تم التأكيد في هذا السياق على وجود تهديد مشترك يتمثل في “الإرهاب الإسلامي”. كما نظرت إسرائيل إلى القدرات النووية الباكستانية باعتبارها أحد مصادر تهديد الأمن القومي الإسرائيلي في حالة سيطرة الإسلاميين المتشددين في باكستان على المنشآت النووية هناك، أو في حالة تصديرها التكنولوجيات النووية إلى دول ذات علاقات عدائية مع إسرائيل في الشرق الأوسط (إيران أو سوريا)[4]. وأخيراً، وليس آخراً، ركّز الطرفان على أنهما يمثلان نموذجين لدول ذات أنظمة ديمقراطية علمانية في محيط إقليمي من دول ذات أنظمة سلطوية.

المرحلة الثالثة، الممتدة من عام 2014 وحتى الآن، وترتبط بتراجع حزب المؤتمر في الحياة السياسية الهندية، وتصاعد حزب بهاراتيا جاناتا. ورغم إمكانية اعتبار هذه المرحلة امتداداً للمرحلة السابقة، لكن عدداً من العوامل تؤسس لاعتبارها مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، شهدت خلالها مجموعة من التطورات المهمة في اتجاه تعميق هذه العلاقات، من ناحية، كما شهدت البيئة الإقليمية في جنوب آسيا والشرق الأوسط مجموعة أخرى من التطورات المهمة التي ستنعكس دون شك على مستوى العلاقات الهندية- الإسرائيلية.

أولاً: تحولات العلاقات الهندية الإسرائيلية في عهد “بهاراتيا جاناتا”

اتسمت المرحلة الأولى من حياة الدولة الهندية بسيطرة حزب المؤتمر الوطني- ذي التوجهات العلمانية- على السلطة لفترات طويلة ومتواصلة. فمن إجمالي حوالي 45 عاماً خلال المرحلة من تأسيس الدولة الهندية في عام 1947 حتى عام 1992 (تاريخ التحول في العلاقات الهندية- الإسرائيلية) تولى حزب المؤتمر السلطة منفرداً لمدة زادت على 39 سنة (انظر جدول رقم 1). وقد كان لسيطرة الحزب -بجانب عوامل أخرى- دور مهم في الإبقاء على علاقات الهند مع إسرائيل عند مستوى محدد.

لكن بدءاً من منتصف التسعينيات بدأ حزب المؤتمر في التراجع، لصالح أحزاب أخرى، على رأسها حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي Bharatiya Janata Party، ذو التوجهات اليمينية المتطرفة، بالإضافة إلى بعض الأحزاب الأخرى مثل “جاناتا دال”. ورغم عودة حزب المؤتمر الوطني إلى السلطة مرة أخرى، بين عامي 2004 و2014، لكن سرعان ما عاد حزب “بهاراتيا جاناتا” ثانيةً للسلطة في أيار (مايو) عام 2014، بقيادة ناريندرا مودي الذي أُعيد انتخابه مجدداً في أيار (مايو) عام 2019.

هذا التحول أوجد فرصة كبيرة لنقل العلاقات الهندية- الإسرائيلية إلى مستويات أكثر تقدماً، وإيجاد درجة أكبر من التفاهم بين النخبة الحزبية والسياسية الحاكمة في البلدين، في ضوء حالة التشابه السياسي والأيديولوجي القائمة بين الاثنين. فرغم الاختلاف الديني، لكن الحزبين الحاكمين (الليكود في إسرائيل، وبهاراتيا جاناتا في الهند) ينتميان إلى اليمين الديني والسياسي. ويرتبط كل منهما بتيارات دينية متشددة داخل المجتمع، ويميلان إلى تبني خطابات دينية وقومية متشددة وإقصائية.

جدول رقم (1): رؤساء وزراء الهند منذ الاستقلال في عام 1947، وانتماءاتهم الحزبية

م رئيس الوزراء الحزب السياسي الفترة الزمنية المدة
1 جواهر لال نهرو المؤتمر الوطني 15/8/1947- 27/5/1964 16 سنة+ 286 يوماً
2 غولزاري لال نادا

Gulzarilal Nada

المؤتمر الوطني 27/5/1964-9/6/1964 13 يوماً
3 لال بهادور شاستري المؤتمر الوطني 9/6/1964- 11/1/1966 سنة واحدة+ 216 يوماً
4 غولزاريلال نادا المؤتمر الوطني 11/1/1966- 24/1/1966 13 يوماً
5 إنديرا غاندي المؤتمر الوطني 24/1/1966- 24/3/1977 11 سنة+ 59 يوماً
6 مورارجي ديساي جاناتا Janata 24/3/1977- 28/7/1979 عامان+ 126 يوماً
7 شاران سينغ جاناتا+ المؤتمر الوطني 28/7/1979- 14/1/1980 170 يوماً
8 إنديرا غاندي المؤتمر الوطني 14/1/1980- 31/10/1984 4 سنوات+ 291 يوماً
9 راجيف غاندي المؤتمر الوطني 31/10/1984- 2/12/1989 5 سنوات+ 32 يوماً
10 في بي سينغ جاناتا دال 2/12/1989- 10/11/1990 343 يوماً
11 شاندرا شيخار Samajwadi Janata party+ المؤتمر الوطني 10/11/1990- 21/6/1991 223 يوماً
12 بي في ناراسيمها المؤتمر الوطني 21/6/1991- 16/5/1996 4 سنوات+ 330 يوماً
13 آتال بيهاري فاجبايي بهاراتيا جاناتا 16/5/1996- 1/6/1996 16 يوماً
14 هاراداناهالي دوده ديفي كودا جاناتا دال 1/6/1996- 21/4/1997 324 يوماً
15 إندرا كمار كجرال جاناتا دال 21/4/1997- 19/3/1998 332 يوماً
16 آتال بيهاري فاجبايي بهاراتيا جاناتا 19/3/1998- 22/5/2004 6 سنوات+ 64 يوماً
17 مانموهان سينغ المؤتمر الوطني 22/5/2004- 26/5/2014 10 سنوات+ 4 أيام
18 ناريندرا مودي بهاراتيا جاناتا 26/4/2014- الآن

 

وبجانب التوجه لتعميق العلاقات مع إسرائيل، استتبع صعود “بهاراتيا جاناتا” إدخال تغييرات مهمة على المواقف التاريخية والتقليدية للهند من القضية الفلسطينية. فرغم أن الانفتاح على إسرائيل وتدشين مرحلة ما بعد التسعينيات تم في عهد حكومة حزب المؤتمر بقيادة “ناراسيمها”، إلا أن الهند ظلت متمسكة بمواقفها التقليدية من القضية الفلسطينية. لكن صعود “بهاراتيا جاناتا” استتبعته إعادة نظر في هذه المواقف التقليدية. ففي عام 2015، امتنعت الهند -بجانب أربع دول فقط أخرى- عن التصويت على تبني تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة حول عمليات الجيش الإسرائيلي ضد غزة من 8 تموز (يوليو)– 26 آب (أغسطس) عام 2014، التي استمرت سبعة أسابيع، وراح ضحيتها أكثر من ألفي فلسطيني عدد كبير منهم من الأطفال[5]. وفي الاتجاه ذاته، أيدت الهند في 6 حزيران (يونيو) عام 2019 الموقف الإسرائيلي داخل المجلس الاقتصادي والاجتماعي الرافض لطلب “المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان” (شاهد) الحصول على العضوية الاستشارية للمجلس. ونجح مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة في تمرير طلب إعادة التصويت على طلب المؤسسة مرة أخرى رغم موافقة لجنة الاعتماد عليه، وهو ما انتهى برفض الطلب بأغلبية 28 صوتاً مقابل موافقة 15 دولة على طلب العضوية، وامتناع 5 أعضاء عن التصويت، وتغيب 6 أعضاء آخرين[6]. وقد بررت وزارة الخارجية الهندية هذا الموقف بالحاجة إلى التدقيق في الطلب المقدم ودراسة حالة المؤسسة الفلسطينية، لكنه تبرير عكس في الحقيقة حجم التقارب بين الموقفين الهندي والإسرائيلي، والتماهي الهندي مع الموقف الإسرائيلي من المؤسسة[7].

هذه المواقف الهندية تمثل مقدمة لاحتمالات تحول أكبر في الموقف الهندي من القضية الفلسطينية في ظل سيطرة حزب “بهاراتيا جاناتا”، وهو تحول لا يمكن فهمه بمعزل عن العوامل التي وقفت وراء تحولات مرحلة ما بعد التسعينيات السابق الإشارة إليها والتي ما زالت قائمة في جوهرها.

العامل الأول، يتعلق بالتحولات السياسية داخل الهند، والمتمثلة في تراجع حزب المؤتمر ذي التوجهات الليبرالية العلمانية، وتصاعد حزب “بهاراتيا جاناتا” ذي التوجهات اليمينية الدينية، على نحو ما سبقت الإشارة إليه.

العامل الثاني، يتعلق بما أثبتته خبرة مرحلة ما بعد التسعينيات من وجود مجالات للتعاون المشترك بين البلدين، أسست بدورها لتطور رؤى مشتركة، ومصالح متبادلة يمكن الدفاع عنها. هذه المجالات تركزت في أربعة مجالات أساسية، هي: إدارة المياه، والزراعة، وتجارة السلاح والصناعات العسكرية، وأخيراً الحرب على الإرهاب. هذه السمة افتقدتها -إلى حد كبير- العلاقات العربية- الهندية. فعلى الرغم من وجود مصلحة عربية- هندية مشتركة لمحاربة الإرهاب -على سبيل المثال- لكن هذه المصلحة لم تتم ترجمتها إلى رؤية أو سياسات مشتركة، لعوامل عديدة، أبرزها حساسية هذه المسألة بالنسبة للعلاقات العربية- الباكستانية. فحتى مع نجاح الدول العربية في تبني سياسات محايدة إلى حد كبير في علاقاتها مع الهند وباكستان، لكن الداخل الباكستاني وإقليم كشمير ما زالا يمثلان بالنسبة للهند الساحة الأساسية لأي مواجهة حقيقية مع الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن تحول الهند إلى هدف رئيسي لبعض التنظيمات الإرهابية العاملة داخل الأراضي الباكستانية، أو داخل القسم الواقع تحت السيطرة الباكستانية من إقليم كشمير، الأمر الذي وضع سقفاً أو قيوداً عملية على أي تعاون عربي- هندي في هذا المجال في إقليم جنوبي آسيا. على الجانب الآخر، فإن إسرائيل تتمتع بهامش حركة كبير في تعاونها مع الهند في هذا المجال. بل، وجدت إسرائيل في هذا التعاون فرصة كبيرة لدعم مواقفها من الإرهاب بشكل عام، والتنظيمات الفلسطينية بشكل خاص. ويناقش القسم الثاني من هذه الدراسة نماذج لمجالات التعاون الهندي الإسرائيلي.

ثانياً: مجالات التعاون الرئيسية

حظي التعاون العسكري بين البلدين باهتمام كبير من جانبهما. وجاءت في مقدمة هذا التعاون تجارة السلاح، حيث أضحت الهند سوقاً رئيسية لصادرات السلاح الإسرائيلية. ساعد إسرائيل في ذلك البيئة الصراعية في إقليم جنوب آسيا (الصراع التاريخي بين الهند وباكستان، وانتشار التنظيمات الإرهابية في جنوبي آسيا بشكل عام)، فضلاً عن العلاقات الهندية- الصينية التي يتوقع أن تشهد مزيداً من التوتر خلال السنوات المقبلة على خلفية العلاقات الإستراتيجية الصينية المتنامية مع عدد من دول جنوبي آسيا، خاصة باكستان وميانمار وسيريلانكا، في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، بمكونيها البري والبحري، وسعي الصين إلى ضم أفغانستان إلى “ممر الصين- باكستان الاقتصادي”، الأمر الذي يدشن مع الوقت لحالة من الاستقطاب الصيني- الهندي في المنطقة[8].

ووفقاً لبيانات SIPRI (معهد ستوكهولم الدولي للسلام)، استحوذت الهند على أكثر من 50% من إجمالي صادرات إسرائيل من السلاح خلال السنوات (2014-2018). انظر جدول رقم (2). وتأتي أنظمة الدفاع الصاروخي في مقدمة المبيعات الإسرائيلية للهند. ففي عام 2017، على سبيل المثال، أبرمت شركة “إسرائيل لصناعات الفضاء” Israel Aerospace Industries (IAI) (شركة مملوكة للدولة) أكبر صفقة عسكرية إسرائيلية على الإطلاق، شملت توقيع عقد بقيمة ملياري دولار تقريباً لتزويد الجيش الهندي والبحرية الهندية بأنظمة دفاع صاروخي. وفي العام التالي مباشرة، فازت الشركة بعقد قيمته 777 مليون دولار مع شركة “بهارات للإلكترونيات- المحدودة” Bharat Electronics Limited (BEL) (المملوكة للدولة الهندية) لتزويد الهند بصواريخ دفاع “أرض- جو” طويلة المدى من طراز “Barak-8”.

جدول رقم (2): تطور حجم مبيعات السلاح الإسرائيلي إلى الهند في الأعوام (2000-2018)

بالمليون دولار أميركي

السنة إجمالي صادرات السلاح الإسرائيلي صادرات السلاح الإسرائيلي إلى الهند
2000 404 43
2001 469 83
2002 574 95
2003 409 148
2004 609 196
2005 510 247
2006 406 206
2007 544 95
2008 383 36
2009 758 73
2010 654 112
2011 538 156
2012 455 161
2013 420 119
2014 393 157
2015 721 312
2016 1441 767
2017 1254 715
الإجمالي 10942 3719

Source: Stockholm International Peace Research Institute, SIPRI Arms Transfers Database, Available at: https://www.sipri.org/databases/armstransfers (accessed on September 20, 2019).

وقد اكتسبت سوق السلاح الهندية أهمية إضافية بالنسبة لإسرائيل من زاوية أخرى؛ فقد ارتبطت تجربة صادرات السلاح الإسرائيلية بتركزها في أسواق اتسمت بسيطرة النظم السياسية السلطوية، مثل نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا، ونظام سوموزا Somoza في نيكاراغوا، ونظام بينوشيه Pinochet في تشيلي، ونظام ماركوس Marcos في الفلبين، ونظام دوفاليير Duvalier في هاييتي، ونظام موبوتو Mobutu في زائير، وغيرها من النظم السلطوية في أفريقيا وأميركا اللاتينية[9]، الأمر الذي انعكس سلباً على صورة الصناعات العسكرية الإسرائيلية خلال تلك المرحلة. ومن ثم، مثّل فتح السوق الهندية أمام صادرات السلاح الإسرائيلية مدخلاً مهماً لتغيير هذه الصورة السلبية، وذلك بالنظر إلى اعتبار الهند واحدة من الديمقراطيات الكبيرة والمهمة داخل الدول النامية.

بالإضافة إلى صادرات السلاح، حدث تلاقي مصالح كبير بين البلدين في مجال إدارة المياه، وتحديداً بين الخبرة الإسرائيلية في هذا المجال، من ناحية، وأزمة المياه في الهند من ناحية أخرى، التي ترتبط في جزء منها بأزمة إدارة المياه، ونقص المياه النظيفة. ومن المؤشرات المهمة على الأهمية المتزايدة التي باتت توليها الحكومة الهندية لقضية إدارة الموارد المائية إطلاق “المعهد القومي لتحويل الهند”National Institute for Transforming India في يونيو عام 2018 (بالتعاون مع وزارات الموارد المائية، ومياه الشرب والصرف الصحي، والتنمية الريفية) “المؤشر المركب لإدارة المياه” Composite Water Management Index (CWMI)، كمؤشر سنوي لتنمية الوعي العام بمشكلة ندرة المياه في البلاد، ولقياس كفاءة إدارة المياه على المستويين القومي والمحلي، خاصة في ظل وقوع مسألة إدارة المياه ضمن سلطات الحكومات المحلية[10].

وتأخذ أزمة المياه في الهند أبعاداً عدة، فمن ناحية، هناك مشكلة ندرة في المياه؛ ففي الوقت الذي يبلغ فيه عدد سكان الهند حوالي 17% من سكان العالم، لكنها تستحوذ على 4% فقط من حجم المياه العذبة في العالم. ومن ناحية ثانية، هناك أزمة معقدة لإدارة الموارد المائية، ليس فقط بسبب ندرة المياه العذبة المتاحة والفجوة المتزايدة بين حجم الطلب والعرض المتاح، ولكن بسبب الإهدار الشديد في استخدام المياه، وحجم المياه الضخم المتدفق إلى شبكات الصرف الصحي المحدودة الكفاءة، ما نتج عنه في النهاية ارتفاع نسبة الأشخاص الذين يعانون من أمراض لها علاقة بندرة المياه أو بسوء إدارتها. ووفقاً للبيانات الصادرة عن تقرير “المؤشر المركب لإدارة المياه” لعام 2018، فإن معدل الأفراد الذين يعانون في الهند من أمراض لها علاقة بالمياه غير الآمنة أو الصرف الصحي كان في عام 2016 أعلى 40 مرة من المعدل السائد في الصين، وأعلى 12 مرة من المعدل السائد في سيريلانكا. ووفقاً للتقرير ذاته، فإن 820 مليون نسمة في الهند يواجهون ضغط ندرة المياه بدرجة تتراوح بين مرتفعة “high water stress” إلى شديدة الارتفاع “extreme water stress”. لكن أكثر المؤشرات تعبيراً عن حجم أزمة إدارة المياه في الهند هو وفاة حوالي 200 ألف شخص سنوياً بسبب المياه غير الكافية أو غير الآمنة[11].

ولا تقتصر تأثيرات مشكلة ندرة المياه على الآثار المباشرة السابقة، لكنها تضم مجموعة من التأثيرات الأخرى غير المباشرة لا تقل خطورة على المدى البعيد، مثل ارتفاع معدل التصحر، واختلال التوازن البيئي، وتقييد عمليات التنمية الصناعية والتوسع العمراني، الأمر الذي سيعمق الأزمة في حالة بقاء الأوضاع على ما هي عليه. على سبيل المثال، من المتوقع وصول عدد سكان الحضر في الهند بحلول عام 2030 إلى 600 مليون نسمة، الأمر الذي سيجعل تلبية احتياجاتهم المائية تحدياً ضخماً. وهناك الآن 5 مدن هندية ضمن أكبر 20 مدينة في العالم تحت ضغط المياه، حيث تأتي “دلهي” في المرتبة الثانية بهذه القائمة. أضف إلى ذلك أن هناك 8 ملايين طفل دون سن الرابعة عشرة في المناطق الحضرية في الهند معرضون للخطر بسبب قلة إمدادات المياه. ومنذ عام 2014، لم تتمتع أي مدينة هندية رئيسية بكامل سكانها بخدمة النفاذ إلى المياه الآمنة على مدار اليوم طوال الأسبوع[12].

هذه الأزمة المعقدة دفعت الحكومة الهندية إلى السعي للاستفادة من الخبرات الدولية المهمة في هذا المجال، وهو ما أعطى إسرائيل ميزة نسبية إضافية لدى الهند بالنظر إلى الخبرات والتكنولوجيات المهمة التي طورتها الشركات الإسرائيلية العديدة العاملة في هذا المجال، فضلاً عن الخبرة الإسرائيلية المشابهة للحالة الهندية.

في هذا السياق، تلعب إسرائيل دوراً مهماً في نقل وتسويق تكنولوجيات وأنظمة تنقية المياه وتطهيرها للجانب الهندي، خاصة من خلال “جسر الابتكار الهندي الإسرائيلي” The Indian-Israeli Innovation Bridge الذي يعمل كآلية هندية- إسرائيلية مشتركة لمساعدة الشركات الإسرائيلية على النفاذ إلى السوق الهندية في مختلف القطاعات، خاصة الرعاية الصحية والزراعة وإدارة المياه[13].

ولتوسيع ومأسسة التعاون في هذا القطاع، وقع البلدان في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2016 مذكرة تفاهم حول إدارة وتنمية الموارد المائية. وفي تموز (يوليو) عام 2017 (أثناء زيارة رئيس الوزراء الهندي لإسرائيل) وقع الجانبان مذكرتي تفاهم، الأولى بشأن “الحملة الوطنية للحفاظ على المياه في الهند”، والثانية حول تحسين إدارة الموارد المائية في منطقة “جال نيجام” Jal Nigam بولاية “أوتار براديش” Uttar Pradesh. وفي تموز (يوليو) عام 2018 بدأ خبراء شركة “ميكوروت” Mekorot -الناقل الوطني للمياه في إسرائيل- في مساعدة ولاية البنجاب في شمال الهند على تطوير مواردها المائية وإدارتها. وقامت العديد من الشركات الإسرائيلية المتخصصة في هذا المجال، ببناء محطات تحلية المياه، من ذلك -على سبيل المثال- قيام شركة IDE Technologies الإسرائيلية المتخصصة في تكنولوجيا تحلية المياه ببناء العديد من محطات التحلية في الهند، منها محطة في “نيميلي” Nemelli بولاية “تاميل نادو” في عام 2013، بطاقة 100 مليون لتر يومياً، وهي ثاني أكبر محطة لتحلية المياه في الولاية، حيث كانت الشركة ذاتها قد قامت ببناء محطة في “جامناجار” Jamnagar بطاقة 160 ألف متر مكعب يومياً. من ذلك أيضاً الاتفاق الذي تم بين مجموعة Tahal Group الإسرائيلية وحكومة ولاية “كارناتاكا” Karnataka لتصميم وبناء وتشغيل نظام لمد خدمة المياه النظيفة إلى 131 قرية بالولاية، بقيمة 74 مليون دولار، والمشروع المشترك بين شركة “أكوايز” Aqwise الإسرائيلية، و”شركة تريفيني للهندسة والصناعات” Triveni Engineering & Industries Ltd الهندية لتوفير مياه الشرب النظيفة بمنطقة “أجرا” Agra بولاية “أوتار براديش” لخدمة حوالي مليوني نسمة من سكان الولاية من خلال معالجة المياه المستمدة من نهر “يامونا” Yamuna[14].

ويرتبط بهذا المجال تنامي التعاون بين البلدين في قطاع الزراعة، حيث تحظى محاولات الاستفادة من الخبرات الإسرائيلية في هذا القطاع باهتمام كبير من جانب الحكومة الهندية. في هذا السياق، وقع البلدان في أيار (مايو) عام 2006 خطة عمل شاملة للتعاون في هذا المجال. ويتم تنفيذ المشروعات الثنائية من خلال “مركز التعاون الدولي” MASHAV التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، و”مركز التعاون الدولي للتنمية الزراعية” CINADCO التابع لوزارة الزراعة والتنمية الريفية الإسرائيلية. ويعتمد الطرفان على تنفيذ خطط ومشروعات التعاون من خلال خطط عمل مدتها 3 سنوات. وتستهدف كل خطة تطوير الزراعة في مجموعة من الولايات الهندية وتطوير زراعة محاصيل محددة.

ثالثاً: المحدد الباكستاني في العلاقات الهندية- الإسرائيلية

على العكس من التطورات المتسارعة التي طالت العلاقات العربية- الإسرائيلية، من جانب، وعلاقات القوى الآسيوية مع إسرائيل (خاصة الهند وباكستان)، من جانب آخر، ظلّت العلاقات الباكستانية- الإسرائيلية دون تطور. هذه العلاقات المحدودة بين الجانبين ساهمت بشكل كبير في تطور العلاقات الهندية- الإسرائيلية. فمن ناحية، أدى غياب العلاقات الرسمية بين باكستان وإسرائيل إلى تحرير العلاقات الإسرائيلية- الهندية من أية قيود أو حسابات تتعلق بالصراع الهندي- الباكستاني. من ناحية ثانية، أدى غياب هذه العلاقات إلى توفير فرصة كبيرة للهند لطرح باكستان كعدو مشترك للبلدين، خاصة في ضوء ما مثلته تنظيمات السلفية الجهادية من مصدر تهديد مشترك بالنسبة للبلدين، ونجاح الهند في التأكيد على وجود علاقات دعم قوية بين الدولة الباكستانية وهذه التنظيمات[15].

ولا شك أن حدوث تحول في العلاقات الباكستانية- الإسرائيلية سيكون له تأثيره السلبي المتوقع على حجم وطبيعة العلاقات الهندية- الإسرائيلية، خاصة في مجالي التعاون العسكري ومواجهة الإرهاب، إذ من شأن ذلك أن يضعف بعض الأسس التي قامت عليها العلاقات الهندية- الإسرائيلية في هذين المجالين.

كانت هناك بعض المؤشرات المحدودة خلال العقود السابقة حول إمكانية حدوث هذا التحول في العلاقات الباكستانية- الإسرائيلية، لكن هذا التحول لم يحدث[16]. ثم عادت القضية لتكون موضع جدل داخل باكستان خلال الفترة الأخيرة. ومن المؤشرات المهمة في هذا المجال، سماح الحكومة الباكستانية -المدعومة من الجيش الباكستاني- لبعض وسائل الإعلام القريبة من الدولة بحرية غير مسبوقة لمناقشة إمكانية إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

وإذا كان قرار عدد من القوى الآسيوية -خاصة الصين والهند- بإعادة النظر في حجم وطبيعة علاقاتها بإسرائيل قد جاء عقب بدء “عملية السلام” في الشرق الأوسط في أوائل تسعينيات القرن الماضي، فإن باكستان قد تُقدِم هي الأخرى على إعادة النظر في طبيعة وحجم علاقاتها مع إسرائيل تحت تأثير ما يُعرف بـ”صفقة القرن”، وعملية التطبيع المتسارعة في علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل، بل التعاون الخليجي- الإسرائيلي على خلفية الوزن النسبي المتزايد للتهديد الإيراني، الأمر الذي قد لا تجد معه باكستان مبرراً لبقائها بعيداً عن هذا التوجه العام. لكن الأهم أيضاً أن هذا القرار قد يكون مدفوعاً بحسابات المصلحة الوطنية الباكستانية. ذلك أن هذا القرار -في حالة اتخاذه ووفقاً للحسابات الباكستانية الراهنة- قد يكون مدخلاً لضبط العلاقات الباكستانية- الهندية، ووضع سقف لهذه العلاقات، آخذاً في الاعتبار أن العمليات العسكرية الهندية ضد باكستان أو ضد التنظيمات الإرهابية في إقليم كشمير، تضمنت استخدام أسلحة إسرائيلية[17].

أضف إلى ذلك أن مثل هذا القرار قد يمثل عاملاً مهماً في الحد من الضغوط التي تتعرض لها باكستان من وقت لآخر من جانب الولايات المتحدة الأميركية. كما يمكن الحديث في هذا السياق عن وجود فرصة لتطوير مصالح باكستانية- إسرائيلية مشتركة، خاصة فيما يتعلق بإيران، حيث يمكن الحديث عن وجود مصلحة باكستانية في عدم وجود قوة نووية على حدودها، الأمر الذي يدعم وجود مصلحة باكستانية- إسرائيلية مشتركة في عدم تحول إيران إلى قوة نووية، ويفتح فرص التعاون والتنسيق بين باكستان ودول الخليج العربي وإسرائيل في هذا المجال. يدعم هذا التوجه الباكستاني المحتمل أيضاً وجود تنافس باكستاني إيراني داخل أفغانستان.

لكن مع أهمية هذا التغيّر المحتمل في “المحدد” الباكستاني في مسار العلاقات الهندية- الإسرائيلية، والحجج التي يمكن أن تقف وراء القرار الباكستاني لتغيير مسار العلاقات الباكستانية- الإسرائيلية، تظل احتمالات حدوث هذا التحول محدودة لأسباب عديدة، يتعلق بعضها بالدور المهم الذي يلعبه اللوبي الهندي داخل الولايات المتحدة الأميركية في تعميق العلاقات الهندية- الإسرائيلية[18]، وتعميق حالة العداء المشترك لباكستان وربطها بالتنظيمات الإرهابية في جنوب آسيا ودورها السلبي داخل أفغانستان، فضلاً عن علاقاتها الإستراتيجية المتنامية مع الصين. ويتعلق البعض الآخر بالمكاسب الضخمة التي تحققها إسرائيل في علاقاتها مع الهند، خاصة في مجال صادرات السلاح والعقود المتنامية في مجال إدارة الموارد المائية والزراعة على نحو ما سبق تناوله.

وعلى العكس من الحسابات الباكستانية المحتملة بشأن تأثير قرار الانفتاح على إسرائيل -حال اتخاذه- تذهب بعض التحليلات إلى أن إسرائيل تلعب دوراً بارزاً في استمرار حالة الصراع الهندي- الباكستاني، لارتباط ذلك بالحفاظ على سوق السلاح الهندية. على سبيل المثال، ذهب روبرت فيسك إلى أن إسرائيل أصبحت جزءاً من “تحالف” غير معلن مع الهند في مواجهة باكستان. وأشار فيسك إلى مصدرين أساسيين يدعمان هذا “التحالف”. المصدر الأول، هو المكاسب الإسرائيلية المتحققة من مبيعات السلاح للهند. والمصدر الثاني -ويرتبط بالأول- يتعلق بتشكل ما سماه فيسك “مجمعاً صناعياً عسكرياً” في البلدين باتت لديه مصلحة في تعميق العلاقات الهندية- الإسرائيلية خاصة في مجالات الدفاع[19]. ومن المؤشرات المهمة على حالة “التحالف” تلك، إشارة الإعلام الهندي بشكل صريح أثناء تغطية العمليات العسكرية الجوية الهندية ضد أحد المعسكرات التابعة لجماعة “جيش محمد” داخل منطقة “بالاكوت” Balakot في إقليم “خيبر باختونخوا” الباكستاني (فبراير عام 2019) إلى استخدام الطيران الهندي القنابل الذكية الإسرائيلية الصنع SPICE-2000 (التي تقوم بإنتاجها شركة “رافائيل” Rafael)[20]، وهو ما دفع الحكومة الهندية إلى شراء المزيد من هذه القنابل[21].

ومن المؤشرات المهمة التي يمكن طرحها في هذا السياق أيضاً استحضار نتنياهو أثناء زيارته الأولى للهند في يناير عام 2018 لهجمات مومباي التي وقعت في نوفمبر عام 2008، والتي اتهمت الهند تنظيمات جهادية باكستانية بتنفيذها وحصولها على دعم من الجيش الباكستاني. استحضار نتنياهو لهذه الهجمات، بعد حوالي عشر سنوات من وقوعها، يشير ليس فقط إلى أهمية مواجهة الإرهاب (الإسلامي) باعتباره موضوعاً مهماً للتعاون المشترك بين البلدين، لكنه ينطوي أيضاً على تبنٍ ضمني للرواية الهندية حول علاقة باكستان بالتنظيمات الإرهابية، ما يعني انحيازاً واضحاً للجانب الهندي في الصراع الهندي- الباكستاني، والذي مثل الإرهاب والتنظيمات الإرهابية أحد أبعاده ومجالاته الأساسية.

وفي مقابل وجهة النظر تلك التي عبر عنها روبرت فيسك، هناك وجهة نظر أخرى تحذر من وضوح الأبعاد الدينية في علاقات البلدين، وترى أنه ليس من مصلحة إسرائيل تجذر هذا البعد في علاقاتها مع الهند. عبر عن هذه الرؤية “شائيري مالهورتا” Shairee Malhotra[22].

خلاصة القول، إنه بقدر ما إن واقع العلاقات الهندية- الباكستانية، والعلاقات الباكستانية- الإسرائيلية يخدم العلاقات الهندية- الإسرائيلية، إلا أن حدوث تغيّر في المسار الحالي للعلاقات الباكستانية- الإسرائيلية في اتجاه تطبيع علاقات البلدين، سيؤثر بلا شك على حجم العلاقات الهندية- الإسرائيلية. ورغم أن هناك جدلاً راهناً داخل باكستان حول هذه المسألة، يبدو أنه حصل على ضوء أخضر من الحكومة الباكستانية والجيش، لكن هذا لا يعني أن مثل هذا القرار بات جاهزاً، رغم ما يستند إليه من حجج قوية لدعم المصالح الباكستانية، إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي يُثار فيها هذا الجدل. وحتى في حالة اتخاذ هذا القرار، ليس من المتوقع أن يحظى بتعاطٍ إسرائيلي بالنظر إلى العوامل السابق الإشارة إليها، الأمر الذي يعني في التحليل الأخير أن هذا “المتغير” الباكستاني سيظل مؤجلاً لفترة قادمة، وستظل حالة العلاقات الباكستانية- الإسرائيلية الراهنة عاملاً معززاً وداعماً للعلاقات الهندية- الإسرائيلية.

خاتمة

مرت العلاقات الهندية- الإسرائيلية بمراحل ثلاث، شهدت العلاقات الثنائية خلالها اتجاهاً تصاعدياً في اتجاه تطوير وتعميق هذه العلاقات، واتجاهها نحو مزيد من التحرر من العلاقة مع العالم العربي كضابط أو محدد لهذه العلاقات. فقد تراجع الوزن النسبي لهذا المحدد بشكل ملحوظ عقب بدء “عملية السلام” في بداية تسعينيات القرن العشرين، ويتوقع أن يشهد مزيداً من التراجع خلال المرحلة المقبلة على خلفية تسارع عمليات التطبيع العربي مع إسرائيل، والإعلان المرتقب لصفقة القرن. بالإضافة إلى هذا العامل، لعبت مجموعة من العوامل الأخرى دورها في تكريس التحولات النوعية في العلاقات الهندية الإسرائيلية، أبرزها تطور قائمة من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، ونجاح الطرفين في مأسسة هذه العلاقات، فضلاً عن عدم حدوث تحول في طبيعة العلاقات الباكستانية الإسرائيلية رغم إثارة جدل متكرر داخل باكستان حول هذه المسألة من وقت لآخر. ويظل التحول داخل الخريطة السياسية والحزبية الهندية، والمتمثل في تراجع حزب المؤتمر وصعود حزب “بهاراتيا جاناتا” هو العامل الأهم الذي يدشن لما يمكن وصفها بالمرحلة أو الموجة الثالثة في تطور العلاقات الهندية الإسرائيلية. عنوان هذه المرحلة سيكون المزيد من التماهي والتوافق في المواقف والتوجهات السياسية، واحتمالات مراجعة المواقف التقليدية للهند من القضية الفلسطينية، وأخيراً تعميق العلاقات العسكرية ومجالات التعاون بين البلدين.

للتحميل اضغط هنا

الهوامش:

*خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ورئيس برنامج الدراسات الآسيوية بالمركز.

[1] انظر مقتطفات من أحاديث للمهاتما غاندي في عام 1921، وجواهر لا نهرو في عام 1974 حول تلك المسألة في:

Kumaraswamy, P. R., “Israel- India Relations: Seeking Balance and Realism”, Israeli Affairs, Autumn- Winter 2004, Vol. 10, Issue 1-2, p. 255-256.

[2] Inbar, Efraim, “The Indian- Israeli Entente”, Orbis, Winter 2004, pp. 89-90.

[3] لمزيد من التفصيل انظر:

Wald, Shalom Salomon and Arielle Kandel, INDIA, ISRAEL, AND THE JEWISH PEOPLE Looking Ahead, Looking Back 25 Years after Normalization (Jerusalem: The Jewish People Policy Institute, 2017),

http://Bit.ly/2XNFDcQ (accessed on October 2, 2019).

[4] للتعرف على وجهة نظر إسرائيلية في هذا المجال، انظر:

Inbar, Efraim, “The Indian- Israeli Entente”, Orbis, Winter 2004, pp. 92-93.

[5] Wermenbol, Grace,A Passage to India: Israel’s Pivot East”, Atlantic council, JULY 24, 2019. Available at: http://bit.ly/33ksPfj

[6] “الأمم المتحدة ترفض منح جمعية فلسطينية صفة مراقب”، موقع الترا فلسطين، 9 يونيو 2019. الرابط:

http://bit.ly/2OJwqyk (accessed on September 21, 2019).

[7] لمزيد من التفاصيل انظر:

Indian Ministry of External Affairs, “QUESTION NO.2096 POLICY APPROACH ON PALESTINE”, July 11, 2019, by RAJYA SABHA, UNSTARRED QUESTION NO.2096 TO BE ANSWERED ON 11.07.2019. Available at: http://bit.ly/2R332pB (accessed on September 11, 2019).

[8] لمزيد من التفاصيل انظر:

– Kugelman, Michael, “The China- Pakistan Economic Corridor: What it is, How it is Perceived, and Implications for Energy geopolitics”, in Erica Downs, Mikkal E. Herberg, Michael Kugelman, Christopher Len, and Kaho Yu, Asia’s Energy Security and China’s Belt and Road Initiative, The National Bureau of Asian Research, NBR Special Report, no. 68, Nov. 2017, pp. 17- 19.

Available at:

http://bit.ly/35BSRMG (accessed on Sep. 22, 2019).

– Husaun, Khurram, “Exclusive: CPEC Master Plan Revealed”, DWAN (Pakistan), Jun 21, 2017. Available at:

https://www.dawn.com/news/1333101 (accessed on 20 Feb. 2018).

[9]  Swamy, Raja, “The Case against Collaboration between India and Israel”, Monthly Review, 30/08/2006. http://www.mrzine.monthlyreview.org/swamy300806.html

[10] لمزيد من التفصيل انظر:

The National Institute for Transforming India (NITI) Aayog, Composite Water Management Index (CWMI), New Delhi, June 2018. Available at: http://pibphoto.nic.in/documents/rlink/2018/jun/p201861401.pdf (accessed on September 20, 2019).

[11] National Institute for Transforming India (NITI Aayog(, COMPOSITE WATER MANAGEMENT INDEX, New Delhi, August 2019, P. i. Available at: https://niti.gov.in/sites/default/files/2019-08/CWMI-2.0-latest.pdf (accessed on September 20, 2019).

[12] Ibid., p. 16.

[13] لمزيد من التفصيل حول هذه الآلية انظر:

Bajaj, Kashika, “Meet the Six Startups from India-Israel Innovation Bridge Challenge”, Inc 42, 03 Aug. 2018. Available at: http://bit.ly/2Dh3gRR (accessed on October 2, 2019).

[14] لمزيد من التفصيلات حول العقود والمشروعات التي تنفذها الشركات الإسرائيلية داخل قطاع المياه والزراعة في الهند انظر:

“Bilateral Trade Relations”, Embassy of India in Israel website. Available at:

https://www.indembassyisrael.gov.in/pages?id=nel5a&subid=vbmOe

[15] لمزيد التفصيلات حول حالة العلاقات الباكستانية الإسرائيلية والجدل الدائر بشأنها داخل باكستان وإسرائيل، انظر:

  1. R. Kumaraswamy, Beyond the Veil: Israel –Pakistan Relations, Tel Aviv University, Jafee Center for Strategic Studies, Memorandum no. 55, March 2000, p. 20.

[16] لمزيد من التفصيل انظر المرجع السابق.

[17] انظر على سبيل المثال:

Inbar, Efraim, “Israel Would Welcome Ties With Pakistan. Should India Worry?”, Top of Form

Bottom of Form

Haaretz, Sep 07, 2019. Available at: http://bit.ly/2sbQpxN  (accessed on Sep. 25, 2019).

[18] طرح مستشار الأمن القومي الهندي براجيش ميشرا Brajesh Mishra في حكومة آتال بيهاري فاجبايي أثناء حضوره العشاء السنوي الثامن والتسعين “للجنة اليهودية الأميركية” American Jewish Committee (AJC) في الثامن من مايو 2003 بالولايات المتحدة الأميركية مشروعاً لإنشاء محور ثلاثي يضم بجانب الهند كلا من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. وقد حدد ميشرا الهدف الرئيسي للمحور في محاربة الإرهاب الدولي، مؤكدا أن هذا المحور بما يضمه من ثلاث ديمقراطيات كبيرة هو الأكثر فعالية وقدرة على مواجهة الإرهاب (الإسلامي) المتصاعد. وقد ركز ميشرا بشكل خاص على أن المحور المقترح يضمن تجاوز العقبات الخاصة بضرورة الاتفاق على تعريف محدد للإرهاب، وتجاوز الفرضيات الخاصة بضرورة التمييز بين الإرهاب والمقاومة المشروعة، وذلك استنادا إلى الأرضية المشتركة بين الدول الثلاث، خاصة كونها دولاً ديمقراطية تتبنى قيماً تقوم على التسامح والليبرالية والتعددية. ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون للهند في سبتمبر من عام 2003 لتشكل محاولة أخرى للترويج لفكرة هذا المحور.

لمزيد من التفصيلات حول هذه الفكرة التي طرحها ميشرا ويدافع عنها اللوبي الهندي واللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الأميركية انظر:

Ministry of External Affairs, Media Center, “Address by Shri Brajesh Mishra, National Security Advisor at the American Jewish Committee Annual Dinner”, May 08, 2003. Available at:

http://bit.ly/33mi3oX  (accessed on October 2, 2019).

[19] Fisk, Robert, “Israel is playing a big role in India’s escalating conflict with Pakistan”, The Independent, 28 February 2019. Available at: http://bit.ly/37IoaHA (accessed on September 15, 2019).

[20] انظر على سبيل المثال:

– Goswami, Dev, “SPICE-2000: Know all about the Smart bomb Indian Air Force used for Balakot Airstrike”, India today, March 5, 2019. Available at:

 http://bit.ly/2XLrVaz

– Judah Ari Gross and Agencies, “India used Israeli arms for strike inside Pakistan — report”, The Times of Israel, 26 February 2019. Available at: http://bit.ly/34mlVYl (accessed on September 11, 2019).

[21] Israel Hayom Staff, “Indian Air Force to buy SPICE bombs from Israeli defense contractor Rafael”, Israel Hayom, June 11, 2019. Available at: http://bit.ly/2rnYkIb (accessed on September 30, 2019).

[22] انظر على سبيل المثال:

“The India-Israel relationship is not ideological, but it is being framed as such: Shairee Malhotra”, Interview by Praveen Donthi, The Caravan, 14 March 2019. Available at: http://bit.ly/37ChdHO  (accessed on September 10, 2019).