د. نايف جراد
ليس غريبا على الروائي والكاتب الكبير اللبناني المولد، الفلسطيني الانتماء، أن يكون وفيا للفلسطينيين ولفلسطين الكفاح والنضال التحرري والإنساني، فالثقافة بالنسبة إليه، كما قال في لقاء معه، نظمه مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، مساء أول أمس، الخامس والعشرين من أغسطس، هي التزام أخلاقي وحب. فمن خلال سرده لتجربته الشخصية مع مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، الذي تأسس عام 1965، ومن موقفه الراهن من قضية فلسطين وقضية لبنان بخاصة وقضايا العرب بعامة، يتضح أنه كان ولا يزال ينظر إلى الفعل الثقافي كفعل تحرير، غير منفصل عن فعل البندقية، فهو مشروع ثوري تحرري انساني، لا بد للمثقف فيه من أن يتماهى مع الضحايا، وأن يتصرف بصفته ضميرا حرا ومستقلا، يعبر عمن لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، ويشكل أداة وصوتا لهم. ومن هذا المنطلق، وبخيار واعي، عاد الياس خوري من باريس ليلتحق بالثورة الفلسطينية، ليعيش بين أهله، اللبنانيين والفلسطينيين، ولينذر نفسه لقضية فلسطين، قضية الحرية والعدالة والإنسانية. وقد تعزز وتبلور موقفه هذا من خلال التجربة الغنية في مركز الأبحاث، الذي قال عنه، أنه كان “مدرسة تعلمنا فيها البحث، وأن الثقافة هي في خدمة الشعب، والناس”.
مركز الأبحاث كمدرسة، كما قال خوري، جاء كجزء لا يتجزأ من وظيفة الثورة الفلسطينية مع انطلاقتها آنذاك، الساعية لاستعادة الهوية والثقافة واللغة، حيث المد القومي وارهاصات الوطنية الفلسطينية، وحيث بيروت التي مثلت آنذاك المركز الثقافي العربي، فقد تعامل المركز على أنه جزء من “صنع ثورة”، كانت وقتذاك في بيروت أشبه “بجامعة للمناضلين العرب”، ولهذا تمتع العاملون في المركز بروح من الاستقلالية، وبروح نقدية، للذات والثورة والقيادة. وحيث عمل في مركز الأبحاث مفكرون وكُتّاب ومؤرخون وباحثون كبار وواعدين، أمثال جلال صادق العظم، وهيثم الأيوبي، وهادي العلوي، وصبري جريس وأسعد عبد الرحمن، وأحمد خليفة، وفيصل دراج، ونزيه قوره، ومحمود درويش وسميح شبيب، والياس خوري وغيرهم، وحيث الصرامة والدقة التي تمتعت بها إدارة المركز من قبل مديره آنذاك، أنيس صايغ، كان من الطبيعي أن يشكل المركز بالنسبة لخوري ولغيره مدرسة يتعلم فيها الانسان الكتابة والبحث، وأن يشكل الفعل الثقافي بالنسبة إليه التزاما أخلاقيا وحبا للناس. ومن الطبيعي أن يتعزز ذلك أيضا بوجود كاتب مبدع آنذاك كغسان كنفاني، الذي مثل برأي خوري “أول الكلام” وكان “كتلة من لهب” نشأ خوري كما قال على كتاباته فكان بمثابة “الأب الأدبي” له ولغيره من الأدباء.
إن روح الاستقلال والنقد، التي تحدث عنها خوري، جاءت من قناعة وايمان، بان المقاومة الفلسطينية آنذاك كانت تشكل مشروعا ثوريا يحتمل التأويل والاجتهاد، ولذا فإن لا أحدا يتأله في الثورة، لا أحد يستطيع ان يقمع، وحيث قد يحدث صدام ما بين الثقافة والسلطة، فإن ما يحمي الثقافة هو أن يبقى المثقفون صامدين، لا يتركوا الساح في اللحظات السوداء، لحظات التراجع، مؤكدا ان ما يحمي الكاتب والمثقف هو الالتزام الأخلاقي والحب.
وقد ظهر هذا الالتزام الأخلاقي والحب لدى الياس خوري في كل انتاجه الثقافي، سواء في عمله في مركز الأبحاث او مركز الدراسات او في صحيفة السفير أو في مجلة الكرمل او صحيفة النهار، وغيرها من المنابر. وقد تجلى ذلك واضحا في اعماله النقدية وقصصه وكتاباته المسرحية والأدبية عموما، وفي رواياته بشكل خاص، والتي ترجمت الى العديد من اللغات، بدءا من رواية “عن علاقات الدائرة” عام 1975 وحتى رواية “أولاد الغيتو – اسمي آدم” عام 2016، مرورا برواياته الشهيرة “رحلة غاندي الصغير” و”مملكة الغرباء” و”باب الشمس”. وتعبيرا عن حبه للناس والتعبير عنهم، عن انحيازه للضحايا، والتزامه الأخلاقي والإنساني، كانت شخوص أبطال رواياته أناس حقيقيين، أمثال المناضل الشهيد علي أبو طوق، أحد مؤسسي وقادة كتيبة الجرمق الذي استشهد عام 1987 دفاعا عن المخيمات، وزميلته في المدرسة نبيلة سلباق برير، التي تعرف في بيتها على فلسطين، والتي قتلت على حاجز لحركة أمل، وقامت الكتائب اللبنانية؛ شريكة شارون في مجزرة صبرا وشاتيلا، بقتل عائلتها، وكذلك أهالي مخيمات تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، واهالي مدينة اللد الذين تعرضوا لجريمة إبادة على يد الحركة الصهيونية.
ردا على هذه الحالة المتردية للعرب، وبعد أن انتقد الياس خوري، ما أسماه بانكسار التواصل بين فلسطين والثقافة العربية بعد أوسلو، مشيرا الى ما يقوم به الإسرائيليون من محاولات للتواصل مع مثقفين عرب، يرى خوري ضرورة العمل من أجل إعادة ربط فلسطين ونضالات الشعوب العربية على المستويات الثقافية والفكرية والسياسية، ربط الألم الفلسطيني وآلام العرب وخاصة في المشرق العربي”، منوها إلى ضرورة خلق قوة تضامن فلسطينية عربية تجسد التأييد المتبادل بين الفلسطينيين والعرب، وتعيد الاعتبار لقضية فلسطين كقضية عدالة وتحرر وديمقراطية. وهو عمل برأي خوري يجب ان لا يكون عملا فرديا، بل جماعيا، وأن يكون ممأسسا ومستمرا، يخلق مداّ ثقافيا متواصلا، يقوم بدور الثقافة كعملية خلق وابداع تمكن من الإمساك بذاك الخيط المستمر لتعميم روح المقاومة في مواجهة الجرائم المرتكبة بحق الانسان الفلسطيني والعربي، التي وصلت حد انتهاك إنسانية الانسان.
بهذا الالتزام الأخلاقي وحب الناس، الذي عبر ويعبر عنه الياس خوري، يمكن القول إنه يجسد حقا نموذج “المثقف العضوي”، الذي تحدث عنه المفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي، ذاك المثقف الناقد للثقافة التقليدية، والمقدم تصورا للعالم يتطابق مع وظيفة القوى الجديدة الساعية في إطار السيرورة التاريخية لمواجهة الظلم والاستغلال والاستبداد، منتصرة لإنسانية الانسان.
- المصدر وكالة معا الإخبارية