أحمد عز الدين أسعد

 مقدمة

تسعى هذه الورقة إلى إثارة النقاش الأكاديمي والمجتمعي حول مسألة العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل “الخط الأخضر”، كون هذه الفئة الاجتماعية الفلسطينية لها تمايزاتها عن الفئات والطبقات الاجتماعية الفلسطينية الأخرى وهي متنوعة من الناحية السوسيولوجية والمناطقية والتحصيل الثقافي والعلمي، فهي تحوي فئة غير قليلة من خريجي الجامعات والمعاهد، والعمال المهرة، والحرفيين.

ترتبط هذه الفئة بطريقة بنيوية بالاقتصاد الإسرائيلي وبالمنظومة البيروقراطية والحياتية الإسرائيلية. يتصل العامل الفلسطيني في كثير من شؤون حياته، بالشأن الإسرائيلي أكثر مما هو بالشأن الفلسطيني، فالعطل الفلسطينية مثل (الإضرابات، تشييع الشهداء، الاحتجاجات) لا تمسه مباشرة، ما دامت سوق العمل الإسرائيلي مفتوحة له. فهو مهتم بالعطلة الإسرائيلية مثل (الأعياد، الإغلاق أو ما يسميه العمال “السيجر”). كذلك قد يتدرب العامل الفلسطيني على اللغة العبرية ويحاول إتقانها باللكنة الإسرائيلية “الاشكنازية” كونها تنم عن خبرته بالعمل والتعامل والتواصل مع المجتمع الإسرائيلي، كون العبرية لغة تواصله مع رب العمل الإسرائيلي والمهندسين والمراقبين وآخرين من الإسرائيليين الذين يزودون الورشة بالمواد الأولية للعمل، ويتراجع اهتمامه باللغة العربية، وتبدأ العبرية بالدخول في حديثه اليومي، خصوصاً أسماء الآلات والأماكن.

يؤدي هذا الوضع الراهن، إلى حالة اغتراب ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي يعاني منها العامل الفلسطيني، فالعامل يعاني العجز واللاقدرة كونه مرهوناً بالتصريح والموافقة الأمنية من أجل العمل. لا تدّعي هذه الدراسة الإحاطة بشكل كامل وشامل في موضوع اغتراب العامل الفلسطيني الذي يعمل داخل “الخط الأخضر”، وإنما تلقي بعض الضوء على بعض جوانب اغتراب العمال في خطابهم وسلوكهم في حياتهم اليومية في العمل، لعل هذه الدراسة تكون فاتحة لدراسات أخرى في هذا الإطار. أما بخصوص منهج الورقة فهي تقوم بشكل أساسي على المنهج الإثنوغرافي الأنثروبولوجي كون الباحث استقى كل معلوماته الأولية وأمثلته من خلال عمله بين العمال في الفترة الممتدة من عام 2013-2018، وكان يدون ملاحظاته بشكل يومي، من أجل إعداد دراسة عن خطاب العمال وسلوكهم.

 أولاً: وصف حال العمال الفلسطينيين في إسرائيل

تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن عدد العمال الفلسطينيين، في العام 2017، الذين يعملون في إسرائيل يتراوح ما بين 100 ألف إلى 110 آلاف عامل، من بينهم يعمل ما يقارب من 30-40 ألف عامل بدون تصاريح، ويعمل ما يقارب 30 ألف عامل في مستوطنات الضفة الغربية[1]. أي أن عدد العمال الفلسطينيين العاملين ضمن منشآت إسرائيلية مباشرة يتراوح ما بين 130-140 ألف عامل.

 كما بلغ حجم العمالة الفلسطينية في إسرائيل والمستوطنات وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 195.4 ألف عامل عام 2000، وتراجع الحجم إلى 45.7 ألف عام 2002، وارتفع إلى 74.7 ألف عام 2008. والغالبية من العمال في إسرائيل والمستوطنات هم من الذكور حيث يمثلون 97.4% أما الإناث فهن 2.6%. أما نسبة العاملين من صغار السن الشباب في المرحلة 15-24 فهي تنخفض داخل إسرائيل وترتفع في المستوطنات. ونسبة المتزوجين من مجموعة العاملين في إسرائيل والمستوطنات بلغت 78.6%. ويعمل ما نسبته 98.5% في إسرائيل والمستوطنات من حملة الهوية الفلسطينية من سكان الضفة الغربية (البطاقة الخضراء). ويعتبر العمل في مجال البناء والتشييد هو سوق العمل الأساسية للعمال الفلسطينيين بنسبة 44.3%، ثم قطاع التجارة والمطاعم والفنادق بنسبة 19.5%، ثم التعدين والمحاجر والصناعة التحويلية 16.1%، والخدمات وفروع أخرى 10.4%، أما الزراعة 6.9%، والنقل والتخزين والاتصالات 2.8%[2].

بينت ليلى فرسخ بعض سمات عمال الضفة الغربية وقطاع غزة المستخدمين في إسرائيل، وأشارت إلى أن غالبيتهم ذكور بينما النساء هي نسبة قليلة، أقل من 2% من القوى العاملة، وغالبية العمال الفلسطينيين في إسرائيل هم عمال مياومة، وغالبيتهم يعود بعد العمل إلى منزلهم؛ أي أن العامل الفلسطيني عامل مرن لا يرُهِق الاقتصاد الإسرائيلي، وغالبية العمال هم من المناطق الريفية ومن مخيمات اللاجئين، أما من ناحية الفئات العمرية، فيتبين أن فئة 15-24 كانت أكثر من 40% من أفراد القوى العاملة، وتركيز العمالة الفلسطينية هو في قطاع البناء[3].

في حين بين محمود خليفة ما عملته السياسية الاقتصادية الإسرائيلية من استغلال للعمال الفلسطينيين، والعمل على تدمير اقتصاد الأراضي المحتلة عام 1967، وجعل اقتصادها تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي ودمجه فيه، وتم السماح للعمال الفلسطينيين بالعمل في إسرائيل لتسهيل عملية الدمج الاقتصادي. وتعتبر إسرائيل المستفيد الأول من العمال الفلسطينيين من حيث اقتطاعات الأجور واستخدامهم وسيلة لدمج الأراضي المحتلة، والضغط عليها، وانتقال العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل له آثار سلبية على الاقتصاد الفلسطيني؛ إذ إنه يتأثر بالتقلبات والأزمات التي تحدث في الاقتصاد الإسرائيلي، إضافة إلى حدوث اختناقات في سوق العمل الفلسطيني[4].

بينما أشارت فرسخ إلى العوامل التي ساهمت في هجرة العمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل، من خلال تحليلها جدلية علاقة العمل والأرض؛ بين إسرائيل من جهة والضفة الغربية وقطاع غزة من جهة أخرى، فقد كانت هجرة العمال نتيجة خاصية الاحتلال الإسرائيلي وتأثيره في التنمية الاقتصادية الفلسطينية، واستيعابه القوة العاملة، نتيجة عوامل بنيوية حصلت في الضفة الغربية وقطاع غزة في الفترة 1967-2000، ما حتم على الفلسطيني دخول الاقتصاد الإسرائيلي وبناء المستعمرات، وما زاد التغيير البنيوي اهتمام إسرائيل بدعم سيطرتها على الأرض الفلسطينية، وهذا مما منع الاقتصاد الفلسطيني من الاستقلال بذاته واستيعاب قوته العاملة. وتقول فرسخ إن هناك التقاء في إسرائيل ما بين سياسات الأرض والعمل والدولة وهذا اللقاء هو ما يؤدي إلى “استعمال إسرائيل لعمالة فلسطينية في مصادرة أراضي الفلسطينيين”. أما بخصوص سمات العمل الفلسطيني في إسرائيل، فتؤكد فرسخ أنها تتركز في قطاع البناء الإسرائيلي، أما نمو القوة العاملة في إسرائيل فمرده إلى ضعف خيارات التشغيل داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب تأثير سياسات الاستيطان والتجارة الإسرائيلية وارتفاع الأجور في اقتصاد ذوي رأس مال مكشوف أو بسبب انعدام فرص التشغيل محلياً[5].

ما يمكن استنتاجه أن غالبية العمال الفلسطينيين في إسرائيل هم من الضفة الغربية بالدرجة الأولى، وهم من المناطق الريفية ومخيمات اللاجئين، وغالبيتهم من الذكور، ويتركزون بشكل أساسي في قطاع التشييد والبناء، ويليه قطاع الخدمات الفندقية والتجارة. ويفضل رأس المال الإسرائيلي العمالة الفلسطينية؛ كون العمال الفلسطينيين يصنفون كعمالة مرنة، حيث يعمل العمال في الصباح ويعودون مساءً إلى منازلهم، وفائض عملهم يخدم رأس المال الإسرائيلي الاستعماري، ونفقات الفلسطينيين ومصاريفهم يعود نفعها وأرباحها إلى الاقتصاد الإسرائيلي، الذي أَلَحقَ الاقتصاد الفلسطيني به وجعله تابعاً له ومرتبطاً بشكل بنيوي بالاقتصاد الإسرائيلي.

ثانياً: “التصريح” بوصفه رباط عمل كاثوليكيّاً

يحتاج العامل الفلسطيني الذي يرغب بالعمل داخل فلسطين المحتلة إسرائيل إلى بطاقتين: الأولى؛ تتمثل في “البطاقة الممغنطة” وهي بطاقة ذكية توجد فيها المعلومات الأساسية للعامل الفلسطيني (الاسم الرباعي، رقم الهوية، تاريخ الميلاد، صورة شخصية، العنوان، تاريخ الإصدار والانتهاء). وعند ذهاب العامل إلى مكاتب “التنسيق والارتباط الإسرائيلية” التابعة لما يسمى “الإدارة المدنية” يتم أخذ بصمات أصابعه، وإصبع الإبهام في اليدين اليمنى واليسرى والأصابع الأربعة الأخرى مرة واحدة، ويتم أخذ بصمات كلتا اليدين، وتلتقط كاميرا مثبتة على جدار الغرفة الصغيرة بصمات عين العامل، ويشار إلى أن تلك الكاميرا مثبتة على مستوى متدنٍّ حتى يضطر العامل إلى الانحناء قليلاً من أجل أخذ الصورة؛ وهذا السلوك الذي يمارس من قبل المنظومة الإسرائيلية الأمنية والبيو-سياسية؛ حتى يكون العامل في وضع ضعيف ومتأرجح أمام عيون كاميرا الاحتلال وجنوده ومجنداته. ويدفع العمال مقابل هذه البطاقة رسوماً تتراوح ما بين 130- 170 شيقلاً (ما يقارب 40 دولاراً). وتصبح البطاقة الممغنطة هي أداة تعريف المواطن أمام كاميرات البوابات الإلكترونية التي وضعت على المحاسيم[6] التي تمت إعادة تأهيلها وفق متطلبات الأمن الجديدة (محسوم قلنديا، قلقيلية، 300 شمال بيت لحم.. إلخ). بعد أخذ بصمة عين العامل تفتح البوابة لمرور العامل، وعلى أطراف البوابة مجسات بعد مرور أول شخص تغلق تلك البوابات تلقائياً، وهذا النمط من منظومة السيطرة والهيمنة كوسيلة تقنية أمنية هو فصل عنصري؛ حيث لا يرى العامل أو المواطن الفلسطيني الجندي الإسرائيلي الموجود في غرف زجاجية يراقب حركة الفلسطينيين من خلال شاشة وكاميرات.

أما البطاقة الثانية فهي ما تسمى “تصريح العمل” ولونه برتقالي، ليتميز عن التصاريح الأخرى مثل تصاريح الاحتياجات الخاصة (بحث عن عمل، زيارة عائلة، أغراض طبية، تجاري، تصريح أعياد.. إلخ)، ويحصل العامل على التصريح إذا كان ملفه الأمني وفق التصنيف الإسرائيلي “نظيفاً” هو وأقاربه بالدرجة الأولى وأحياناً الثانية والثالثة، ويحتاج العامل إلى رب عمل (مقاول، سمسار، شركة، مصنع.. إلخ) من أجل إصدار التصريح له. وإن عملية إصدار التصريح للعامل من قبل رب العمل الفلسطيني (المقاول) أو صاحب العمل الإسرائيلي “المعلم” (صاحب المشروع/ الشركة) هو بمثابة رباط عمل كاثوليكي لا انفصال فيه؛ يعامل العامل الحاصل على ذلك التصريح الذي يسوقه المقاول المتعاقد من الباطن ورب العمل كمنة كبيرة على العامل، يلتزم بموجبها العامل بشروط وظروف العمل الصعبة ويحرم من الإجازات؛ وإذا أخذ العامل يوم عطلة أو استراحة أو تأخر عن العمل يخصم رب العمل أو المقاول مبلغ 100 شيقل (30 دولاراً) ثمن أجرة التصريح في ذلك اليوم، مع العلم أن كلفة التصريح من قبل المشغل لا تتجاوز 700 شيقل في الشهر على العامل الواحد يدفعها رب العمل لمكتب العمل الإسرائيلي، لكن يحتسب التصريح على العامل بمبلغ يتراوح من 2000-2700 شيقل. ويقوم مقاولون وسماسرة فلسطينيون أيضاً بجعل مسألة التصريح تجارة رابحة؛ يتم قبض ثمن التصريح قبل استلام العامل له، وأحياناً كل ستة شهور دفعة واحدة. وما يدفع العامل إلى شراء التصريح بهذا المبلغ المرتفع هو محاولة الانفكاك عن العلاقة الكاثوليكية في العمل مع المقاول الفلسطيني الذي يتوسط في إصدار التصريح للعامل؛ كون تلك العلاقة يسودها الاستغلال والمعاناة والجشع، وعند شراء العامل للتصريح من مقاول أو سمسار يكون حر الاختيار في اختيار رب العمل ومكانه، ويمكن للعامل التفاوض في شأن الأجر اليومي. يتمثل دور المقاول والسمسار في التوسط لإصدار التصريح للعامل كون رب العمل الإسرائيلي لا يعرف العمال ويحتاج إلى كمبرادور/ وسيط وهو (المقاول/ السمسار) ويكون رب العمل الإسرائيلي مسؤولاً عن المقاول أو السمسار وهذه الفئة مسؤولة عن العمال.

يجعل كل من نظام التصاريح والبطاقة الممغنطة والمحاسيم الحياة اليومية للعامل الفلسطيني صعبة وشاقة، فالعامل يحتاج التوجه إلى الحاجز/ المحسوم في ساعات ما قبل الفجر منذ الثانية أو الثالثة صباحاً، ويضطر إلى الانتقال بسيارات مزدحمة وأحياناً سيارات غير مخصصة لنقل العمال؛ أي سيارات شخصية “البرايفت مثل: الكادي والسكودا والفورد.. إلخ”. كما يمضي العامل ساعات طويلة على المحسوم حتى يتسنى له عبور مسافة المحسوم التي لا تتجاوز في أقصى حالاتها 50 متراً، ويتحكم الجندي الإسرائيلي في حركة العبور ويضبط إيقاعها وفق مزاجه الشخصي، ويحتاج العامل بعد المحسوم إلى قصة معاناة أخرى في الوصول إلى مكان العمل، وفي الغالب ظروف العمل غير ملائمة للسلامة العامة وغير صحية، رغم ما يقوم به مكتب العمل الإسرائيلي من حملة دعاية وعلاقات عامة يصورها في ذهن العمال أنه حريص على سلامتهم العامة وأمنهم وحياتهم. ويعاني العامل من هجمة شرسة من قبل صاحب العمل أي المقاول الفلسطيني والمراقبين (سواء فلسطينيين أو إسرائيليين) وسيد العمل الإسرائيلي ومن هدر حقوقه كالإجازات والعطل والتأمين الصحي وتعويضات إصابات العمل.. إلخ.

ثالثاً: مفهمة الاغتراب وجدلية السيد والعبد

يرتبط مفهوم الاغتراب لدى هيغل بحالة اللاقدرة أو العجز التي يعانيها الإنسان عندما يفقد سيطرته على مخلوقاته ومنتوجاته وممتلكاته، ويتم توظيفها لصالح غيره. وكما حول كارل ماركس متأثراً بفيورباخ مفهوم الاغتراب من مفهوم فلسفي إلى مفهوم اجتماعي– اقتصادي، وقد قلب ماركس هيغل رأساً على عقب باتباعه منهج الاقتصاد السياسي؛ ليبين أن الاغتراب حالة عامة في المجتمعات الرأسمالية التي حولت العامل إلى كائن عاجز وسلعة بعد أن اكتسبت منتجاته قوة مستقلة عنه، ومعادية له. وهناك أربعة أنواع للاغتراب وفق ماركس، وهي تنطبق نوعاً ما على العامل الفلسطيني؛ وهي: اغتراب العامل في علاقاته بمنتجاته، والعامل لا يملك سوى قوة العمل (يتجلى هذا الاغتراب لدى العامل الفلسطيني عند قيام العامل ببناء منزل أو شقة لإسرائيلي في حي القطمون مثلاً، لكن العامل الفلسطيني لا يستطيع شراءها أو استئجارها)؛ اغتراب العامل عن عمله، بالذات في المجتمعات الرأسمالية، فهو غير مبدع والعمل ليس اختياريّاً وهدفه سد الحاجات اليومية (مثال ذلك وضع العمال الفلسطيني النفسي المرهق والفاقد للروح المعنوية كون المقاول أو صاحب العمل هو من يحدد له أين ومتى وكيف يعمل، كونه بين العامل والمقاول أو صاحب العمل رباط عمل كاثوليكي (التصريح)، ويعمل العامل من أجل إطعام وتعليم أولاده وتأمين الحاجات الأساسية)؛ يغترب العامل في المجتمع الرأسمالي عن الطبيعة التي هو جزء منها (مثال ذلك، يبني العامل مساكن للإسرائيليين في أرض جده المصادرة وهو لا يستطيع البناء فيها أو فلاحتها، وتسمى الجبال والتلال والسهول بأسماء عبرية وصهيونية ويتقمص ويستبطن العامل تلك الأسماء ويكررها)؛ اغتراب العامل مع الإنسان الآخر كونه يعمل ليس لنفسه وإنما لخدمة غيره وتحت سيطرته (مثال ذلك في حالة العامل الفلسطيني أن صاحب العمل الإسرائيلي، يتكلم لغة عبرية يضطر العامل إلى الرد بنفس لغة صاحب العمل، ويعلم العامل أن صاحب العمل هو عدوه وليس صديقه لكنه ملزم بالتعامل معه بأدب واحترام وتبجيل خوفاً على التصريح)[7].

كما أشار جديدي زليفة إلى أن الاغتراب هو حالة ضعف الإنسان وعجزه وإحساسه بالانفصال عن المجتمع والانسلاخ عن الثقافة الاجتماعية السائدة. وبين أن هناك عدداً من أنواع الاغتراب، منها: الاغتراب الثقافي؛ أي ابتعاد الفرد عن الثقافة الخاصة بمجتمعه، وتفضيل الفرد ما هو غريب وأجنبي، الاغتراب الاجتماعي؛ ضعف الروابط مع الآخرين، الاغتراب الاقتصادي؛ شعور العامل بانفصاله عن عمله، الاغتراب السياسي؛ شعور الفرد بضعف إزاء المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، الاغتراب الديني؛ أي الابتعاد عن الذات الإلهية، الاغتراب النفسي؛ أي اضطراب نمو الشخصية الإنسانية. كما بين أن هناك ستة أبعاد للاغتراب وهي: اللامعنى، العجز، اللاهدف، اللامعيارية، الاغتراب الثقافي، الاغتراب الاجتماعي[8]. بينما يفضل فالح عبد الجبار استخدام كلمة الاستلاب بدل الاغتراب، ويفسر ذلك بقوله “لفظ الاستلاب يحوي ظلالاً كثيرة منها السلب والتدمير كنقيض للإيجاب والبناء، ومنها السلب بمعنى الانتزاع والخلع أو الانخلاع، والسلبية بمعنى النكوص والانطواء، وما شاكل. أما لفظ الاغتراب فيخلو من هذه الأبعاد”[9].

وبالعودة إلى جدلية السيد والعبد لدى هيغل، يمكن أن يكون السيد (المستعمِر الإسرائيلي) والعبد (العامل الفلسطيني)، وتتجلى سيادة السيد المستعمِر من منطق قوته العسكرية وامتلاكه لأدوات الإنتاج والقوة العسكرية والبيروقراطية الصلبة والسائلة، وامتلاكه السيادة على الأرض الفلسطينية، التي استعمرها بالقوة والعنف والتطهير المكاني والعرقي والثقافي والإسمي، أما العبد المستعمَر الفلسطيني فهو منزوع القوة، ويتم التحكم به بواسطة القوة العسكرية (الجيش، الشرطة، الجدار.. إلخ) والقوة البيوسياسية؛ (التي تمارس دورها بدون عنف وتتحكم في الأجساد وتعمل على إدارة الحياة وتولي أمرها) وأمثلتها (بطاقات الممغنط، التصريح، أماكن الدخول والخروج إلى الأراضي المحتلة، البوابات الإلكترونية، الكاميرات). ويمكن تطوير أدوات التحليل في جدلية السيد والعبد في حالة العامل الفلسطيني بين العامل ذاته وسيد العمل المستعمِر الإسرائيلي، التي تبين حالة اغتراب العامل الفلسطيني عن ذاته وأرضه ولغته وسلوكه وأنماط العيش، ويمكن القول إن العامل الفلسطيني أو جزءاً كبيراً من طوابير العمال عند دخولهم المحسوم يتحولون تلقائيّاً إلى أشخاص آخرين في علاقتهم مع ما هو إسرائيلي، ولا تظهر العلاقة وفق منطق مستعمِر ومستعمَر، ويجسد جزء كبير منهم علاقة السيد والعبد، وهنا يُشار إلى بعض التشكيلات الخطابية للتدليل، فمثلاً يقول بعض العمال: “اليهودي محترم، أخذني اشتغلت في البيت عنده وشربني قهوة، أعطاني اليهودي متناه/ هدية عشان تأخرت في الشغل”. ويمكن الذهاب إلى مقولة أخرى مساندة لجدلية السيد والعبد، وهي جدلية عبيد المنزل وعبيد الحقل لــ (مالكولم إكس، مناضل أميركي من أصل أفريقي مدافع عن حقوق الإنسان)، فعبيد المنزل هم من يخدمون السيد في منزله وقصره وعمله وإدارة ممتلكاته؛ وهم في الحالة الفلسطينية مثل (مقاولي الباطن، السماسرة، المراقبين)، أما عبيد الحقل فهم من يعملون في الحقول وفي الأعمال الشاقة؛ وهم في الحالة الفلسطينية مثل (العمال الفلسطينيين في الورش والمصانع والبساتين والمزارع.. إلخ) ويشرف عليهم أحياناً عبيد المنزل أي المقاول الفلسطيني والمراقب والسمسار، في طريقة مشابهة للحالة الأميركية في هيمنة السيد على كل العبيد ومساعدة عبيد المنزل للسيد في قمع وابتزاز ومراقبة عبيد الحقل، وقصة (يعقوب، موشيه، محمد) التي كتبت كخاتمة تلخص هذه الفكرة.

رابعاً: بعض ملامح الاغتراب في خطاب وسلوك العامل الفلسطيني

يتمحور خطاب العمال الفلسطيني في عدد من المحاور الرئيسية وهي: (الأجر، تحدي الأمن الإسرائيلي، الألم والحسرة، النقد السياسي، الخطاب الجنسي، التعب/ قلة النوم/ التذمر، النقد الساخر، الالتحام بالمجتمع الإسرائيلي)، وتم التعرف على هذه المحاور بناءً على تكرار الجمل والعبارات في خطاب العامل الفلسطيني، وتقدم الورقة أمثلة على كل محور. لقد تم رصد تلك الخطابات من خلال العمل كعامل في عدد من الورش في مناطق مختلفة من فلسطين المستعمَرة في الفترة من الأعوام 2013-2018[10].

ينشغل العامل الفلسطيني في موضوع الأجرة كثيراً، ويبين لنا ذلك محور الأجر “أريد ترك هذا العمل لأن الأجر متدنٍّ 300 شيقل وصاحب العمل لا يدفع كلفة التصريح، يجب أن يكون أجري على الأقل 350 أو 400 شيقل. ويتجلى تحدي الأمن الإسرائيلي من خلال شجار مع موظف أمن إسرائيلي (البيتحون) وعامل فلسطيني ويقول له العامل “إحكي مع الناس بأدب، إنت هون موظف بتاخد مصاري، إحكي بأدب ما تغلط على الناس”. كما دار حوار بين عامل وامرأة يبين واقع الألم والتحسر والتعثر، “قالت المرأة إنها تعيل العائلة وتعلم بناتها (وما جبرها على المر إلا الأمر منه) لأن زوجها محكوم مؤبد. رد العامل بدمعات تنهمر من عينيه. وتلقى العامل سؤالاً من امرأة أخرى على المحسوم: هل لك قريب مسجون، وكان رد الرجل بهز رأسه (إيماء بالإجابة بنعم والدموع تنهمر من عينيه).

في حوار بين مجموعة من العمال يتضح الاهتمام بالأمور السياسية “يتحدثون في أمور السياسة الفلسطينية ويتداولون باتهامات فساد ونقد للمسؤولين الفلسطينيين وعائلاتهم. أما بخصوص التعب والتذمر، فتمت ملاحظته من خلال الجمل التالية “الحياة كلها تعب في تعب مش عايشين نحنا زي الناس، الحمار عايش أحسن من عيشتنا بنحرث عليه شهر في السنة وباقي السنة قاعد إحنا طول السنة نحرث”. وقال أحد العمال “بفهم يلي حط 8 ساعات عمل وبس”. يرد عامل: “في السويد 6 ساعات عمل فقط”. يرد عامل آخر: “لا ما بفهم يلي حط 8 ساعات عمل لأنه كثير، ولو كان يلي حدد نظام العمل بــــ 8 ساعات هو عامل، كان حدده بـــ 5 ساعات فقط”. أما بالنسبة لمحور الخطاب الجنسي فتجد حوارات من نوع “أنا قرفان مكبوت ومقهور من الحاجز ومن الشغل بستنا ليلة السبت، بكون عندي كريسمس ليلة السبت”.

أما بخصوص النقد الساخر، فيقول أحد العمال، “العامل أشرف إنسان، يده خشنة يكسب ماله بالحلال، لكن أصحاب الأيادي الناعمة لصوص، مثل الوزراء والسياسيين”. ويقول آخر “نفسي أشوف خليلي يخسر في شغل أو تجارة. رد عامل آخر: الخليلي ما بخسر إلا إشي واحد، سمعته وبس”. كما يتضح الالتحام بالمجتمع الإسرائيلي والاغتراب العمالي من خلال عبارات مثل: “ما دامت إسرائيل مرتاحة، نحن بخير، وإذا إسرائيل انزعجت وضعنا بسوء”. ويقول عامل على محسوم 300 في بيت لحم في ساعات الصباح الباكر: “والله ما أنا عارف إن راحت إسرائيل وين بدنا نشتغل”. ويقول عامل لعمال آخرين: “أنا عندي اليهود وبس، والباقي كله خس”.

يتضح من العبارات السابقة، بغض النظر عن جدّية من يطلقونها، وعن عمقها في موقفهم، أن للعامل الفلسطيني خطاباً سوسيولوجيّاً جديراً بالدراسة، كون العمال الفلسطينيين في إسرائيل لا يكونون طبقة اجتماعية؛ كونهم يفتقدون أهم عناصر تكوينها وهو الوعي. ويعيش العامل الفلسطيني حالة اغتراب اجتماعي وثقافي وسياسي نتيجة بؤس الواقع العمالي، وهيمنة المنظومة الأمنية والبيروقراطية والاقتصادية الإسرائيلية على العامل والتي تعمل على قهره وتحطيم جسده ومعنوياته وخياراته الحياتية. وعلى الرغم من حالة الاغتراب لدى بعض العمال، إلا أن الوعي يبرز لدى عمال آخرين، وهذا مؤشر على أن الكتلة المجتمعية الفلسطينية المتشكلة من طوابير العمال هي كتلة غير متجانسة؛ وتجلى ذلك في التشكيلات الخطابية السابقة التي شملت النقد والاهتمام بالشأن السياسي وبعض النزعات الثقافية؛ ويعود ذلك إلى كون العديد من العمال الفلسطينيين متعلمين وجامعيين؛ لكن تفشي البطالة في المجتمع الفلسطيني وصعوبة الحياة هي التي ألقت بهؤلاء في سوق العمل الإسرائيلية.

وينحو العامل الفلسطيني الذي يعمل في فلسطين المستعمَرة عام 1948 وداخل القدس إلى ممارسة سلوك والتفوه بعبارات خطابية هي وفق التحليل السوسيولوجي والسيكولوجي تعبير عن اغترابه السياسي والثقافي والاجتماعي، وهذه الخطابات والممارسات رصدها الباحث من خلال العمل والانخراط بين العمال لعدد من السنوات.

يظهر الاغتراب الثقافي لدى العامل الفلسطيني في تقمص العامل واستبطان الثقافة الإسرائيلية، مثل الكلام باللغة العبرية بين العمال الفلسطينيين أنفسهم على الحاجز، وداخل الورشة وفي طريق الذهاب والإياب من وإلى العمل والمنزل أحياناً، فمثلاً يتكلم العامل داخل العمل مع العامل الفلسطيني بمفاهيم ومسميات عبرية، والأمثلة كثيرة ومنها: (حشمال/ كهرباء، بعياه/ مشكلة، أدون/ سيد أو رجل، مَنَاهيل/ مراقب العمل، ديليت/ باب.. إلخ).

بينما يتجلى الاغتراب الاقتصادي للعامل الفلسطيني في كثرة التذمر والشكوى من العمل وصاحب العمل والمراقبين والسماسرة، فالعامل الفلسطيني يعي أنه يقوم بالعمل مثلاً في قطاع البناء، وأنه يعمل في ظروف عمل قاسية، والعمل شاق جداً، وأن المستفيد من جهد العامل هو المقاول الفلسطيني المتعاقد من الباطن أو المراقب أو السمسار والذين يدرون الأرباح من وراء العمال، وصاحب العمل الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من عبيد المنزل وعبيد الحقل. لا يستطيع العامل الذي يبني الشقق والمنازل شراءها كون أسعارها فلكية، إلى جانب أن العامل هو فلسطيني لا يستطيع امتلاك تلك المنازل المخصصة للإسرائيليين. ويظهر الاغتراب الاقتصادي أيضاً بتقمص بعض العمال الفلسطيني جزءاً من الثقافة الاستهلاكية الإسرائيلية، مثل الذهاب إلى المجمعات التجارية الإسرائيلية لشراء حذاء أو قميص مثل الذي يرتديه رب العمل الإسرائيلي أو صاحب المنزل أو المهندس الإسرائيلي. كما يمتد هذا السلوك في تفضيل بعض العمال الفلسطينيين المنتوجات الإسرائيلية سواء المنتوجات الغذائية أو المنظفات أو الملابس والأحذية، فبعض العمال لا يشترون الأكل المخصص لوجبة الفطور في العمل من قريته أو من الباعة الفلسطينيين عند الحاجز؛ وإنما يشتري من السوبر ماركت الإسرائيلي، وبعد انتهاء العمل يعود إلى المتاجر الإسرائيلية ليبحث عن بعض العروض والتنزيلات لشراء ما يحتاج منها. ويفضل عدد كبير من العمال شراء المشروبات الغازية الإسرائيلية كونهم يتصورون أنها أكثر جودة وأطيب من المشروبات الفلسطينية، وهذا السلوك وغيره من أنماط الاغتراب والتقليد للإسرائيليين ونمطهم الثقافي، يمكن تفسيره بمقولة عبد الرحمن ابن خلدون (ولع المغلوب بالغالب).

في حين يبرز الاغتراب السياسي لدى العامل الفلسطيني من كون وجود اتفاق ضمني بين جميع العمال والمقاولين الفلسطينيين؛ أن أي عامل يعمل داخل ما يسمى “الخط الأخضر” هو شخص وفق التصنيف الأمني الإسرائيلي “نظيف أمنيّاً”؛ أي ليس له أي نشاط سياسي بمعنى كارل شميت للسياسي أي الفرز والتمايز بين الصديق والعدو، فالعامل هو وفق المنظومة الأمنية والبيوسياسية الإسرائيلية هو جزء من “أفراد المناطق غير المشاغبين”. وينحو بعض العمال إلى إنكار ذواتهم كفلسطينيين من خلال رفضهم سماع الأخبار الفلسطينية، وخصوصاً المتعلقة بالأوضاع الأمنية والسياسية الفلسطينية، فقد رفض أحد المراقبين الفلسطينيين أن يتحدث معه أحد العمال في خبر وقوع عملية طعن في إحدى البلدات الفلسطينية، وقام عدد من العمال باستنكار ارتداء أحد العمال قبعة عمل لونها بيضاء مطبوعاً عليها علم فلسطين، وحاولوا إقناعه بخلع القبعة أو أن يرتديها بشكل مقلوب حتى يخفي العلم، أو أن يقوم بوضع القليل من الإسمنت على منطقة العلم من أجل إخفائه؛ لكن العامل رفض، ليس عناداً، وإنما وعياً بأن هذا رمز فلسطين حتى لو كان يعمل لدى المستعمِر الإسرائيلي وداخل مناطق سيادته العسكرية والأمنية.

يتجلى الاغتراب الاجتماعي في إنكار الذات الجماعية الفلسطينية، سواء على مستوى مجموعة العمال الذين هم في الغالب من نفس البلدة أو المحافظة، فمثلاً، كان هناك عامل على صلة قرابة بالمراقب من الدرجة الأولى؛ كان العامل أخا المراقب الفلسطيني، وكان العامل يشرب القهوة ويدخن، ولما رآه أخوه المراقب يشرب القهوة، لم يتمالك نفسه، وبدأ بالصراخ والصياح و”التكفير”، كون مصلحة العمل لا تقتضي ذلك، وقال بالحرف الواحد: “أنا يعقوب (أي صاحب العمل الإسرائيلي) أخوي، مش إنت، أنت ما بتقبضني مصاري، يعقوب هو اللي بقبضني المصاري”، وهذا المراقب في مناسبة اجتماعية معينة قال عن حبه للعمل عند اليهود واستنكاره العمل لدى الفلسطينيين، إن العمل عند اليهود هو الجيد ويكره العطلة، وقال: “لو أبوي بموت ما بعطل”.

خاتمة: عن يعقوب.. موشيه.. ومحمد

يمكن اختزال حالة العامل الفلسطيني واغترابه عن ذاته ومجتمعه وثقافته، في قصة يعقوب وموشيه ومحمد، التي تبين لنا تركيبة ومنظومة العمل في إسرائيل. يعقوب هو صاحب الشركة الإسرائيلية التي تأخذ مشاريع البناء والترميم، وهو يهودي من أصل أميركي، يقضي غالبية أيامه في الولايات المتحدة الأميركية، ويدير له العمل طاقم الشركة من 4 موظفين. ويعتمد يعقوب في عمله بشكل أساسي على محمد، وهو شاب فلسطيني ينظم عمل يعقوب الشاق، فهو من يحضر العمال، ويصدر لهم التصاريح من خلال موظفي شركة يعقوب، وهو من يراقب العمال، ويقوم بمحاسبتهم، ويقسمهم على الورش المختلفة، وهو من يخصم عليهم اليوم الذي يعطلون فيه، وهو من يتنقل بين الورش أحياناً سيراً على الأقدام لمتابعة عمل يعقوب، وهو المسؤول عن متابعة أدوات العمل والمواد الأولية للعمل، ومحمد من ينجز الأعمال الشاقة والمخالفة للقانون الإسرائيلي خصوصاً قوانين بلدية القدس المرتبطة بالبناء والعمل، ومحمد هو من يوقف تصاريح العامل الذي يتقاعس عن العمل أو يطالب برفع الأجرة. ويعقوب فوض محمد في كل هذه الأمور، وهو يراقب فقط النتائج، وإنجازات العمل بالصورة والفيديو التي ترسل له عبر واتساب، أو من خلال موشيه الذي عين في موقع أعلى من محمد؛ فموشيه هو مسؤول عن محمد وباقي العمل، إلا  أن موشيه لا يتحدث في أمور العمل مع العمال إلا من خلال محمد، الذي يعاقب عاملاً إذ قصر أو تأخر عن العمل، وهنا يظهر يعقوب وموشيه بالوجه الإنساني، أما محمد فكل العمال يرفضون سلوكه ويستهجنونه، كون سلوكه هو في خدمة يعقوب اليهودي وضد أبناء بلده، فمحمد مغترب عن ذاته ومجتمعه وثقافته، ويزداد الطين بله عندما يتغنى العمال بإنسانية يعقوب وموشيه ولطفهما في التعامل مقابلة “جلافة” محمد، وهنا يظهر الاغتراب بطريقة مركبة ومعقدة؛ وتتجلى في هذه الحكاية مقولة السيد (يعقوب وموشيه) والعبد (محمد وباقي العمال)، وتبرز كذلك بشكل واضح مقولة عبيد المنزل (محمد) وعبيد الحقل (باقي العمال).

ومن أجل إرضاء يعقوب، وحتى يبقى محمد المراقب المدلل لدى يعقوب، يجبر محمد العمال على بدء العمل قبل موعده بنصف ساعة، وهو الساعة السابعة صباحاً، إذ يجبرهم على العمل منذ 6:30 صباحاً، ويجبرهم على التأخر في المساء إلى الساعة الخامسة مساءً بدل أن ينهوا عملهم الساعة 3:30 عصراً كباقي العمال. وعند استجلاب جدلية السيد والعبد يتبين أن يعقوب يمارس دور السيد، كما يمارس موشيه دور السيد على محمد وباقي العمال، لكن المساحة الممنوحة لمحمد من قبل يعقوب وموشيه هي التي جعلت محمد من عبيد المنزل وباقي العمال هم من عبيد الحقل، يقوم محمد بمراقبتهم وقهرهم وظلمهم من أجل إرضاء السيد، ويقنع محمد العمال أن العمل مع يعقوب ممتاز، ويكفي أن يعقوب كل أسبوع يدفع الأجرة للعمال. وينساق عدد كبير من العمال في اغترابهم واقتناعهم بأن العمل مع يعقوب هو جيد وأنهم يحصلون على الأجرة كل يوم جمعة، ويتناسون أن أجرتهم هي ثمن بيع جهدهم في السوق.

وفي الختام، يمكن القول إن هنالك اغتراباً عماليّاً عن الواقع؛ فقد كنت أسمع الكثير من العمال أن عملهم مريح، وأنهم يقضون طول اليوم مرتاحين وبلا عمل، والحقيقة الجاثمة على الأرض تقول لنا غير ذلك؛ فالمستوطنات والبنايات والشوارع والمدارس والمعسكرات الإسرائيلية تتكاثر بشكل سريع جدّاً، فعمل العمال حتى لو كان بسيطاً ومريحاً، فهو يسهم في دفع عجلة الاستيطان وصهينة وعبرنة المشهد الفلسطيني، ويضحي العامل مغترباً عن أرضه وثقافته ووطنه. والسؤال السياسي والسياساتي هنا، ما هو العمل لحل مشكلة العمالة الفلسطينية في إسرائيل؟

  • باحث في الدراسات العربية والإسرائيلية، فلسطين

الهوامش

[1] Adam Rasgon, Israel Planning to Increase Work Permits for Palestinians, The Jerusalem Post, 12 January 2018

http://bit.ly/2HVjxxK  استرجع بتاريخ 26/5/2019

[2]  واقع وظروف العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل والمستوطنات. د.م: الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين. 2009: 24-25.

[3] ليلى فرسخ. العمالة الفلسطينية في إسرائيل ومشروع الدولة الفلسطينية 1967-2007. (بيروت، رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية- مواطن(. 118-121.

[4]  محمود خليفة. الطلب على العمالة الفلسطينية في إسرائيل والأراضي المحتلة. (بيرزيت: برنامج دراسات التنمية- جامعة بيرزيت. د.ت)، 195-198.

[5]  ليلى فرسخ. مصدر سابق: 16-18.

[6]  يستخدم الباحث في هذه الورقة كلمة محسوم العبرية، التي تعني الحاجز كون هذه التسمية التي تعبر عن الحالة الاستعمارية وحالة الفصل العنصري، في حين يستخدم البعض ومنهم العمال كلمة “معبر” وهي التسمية الإسرائيلية لتلك الحواجز والمحاسيم، فالمعبر هو نقطة العبور بين دولة ودولة أخرى مجاورة، أما في الحالة الفلسطينية فإن ما قبل المحسوم وما بعده أراضٍ فلسطينية مستعمَرة.

[7]  حليم بركات. الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الإنسان بين الحلم والواقع. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. 2006. ص 37-40. الأمثلة ما بين الأقواس هي محاولة الباحث توضيح أمثلة على اغتراب العامل الفلسطيني.

[8]  جديدي زليفة. “الاغتراب”. مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية. العدد الثامن، جوان 2012: ص 349-352.

[9]  فالح عبد الجبار. الاستلاب: هوبز، لوك، روسو، هيغل، فويرباخ، ماركس. بيروت: دار الفارابي. 2018: ص 15.

[10]  لا يمكن تعميم هذه التشكيلات الخطابية على كل العمال الفلسطينيين. إن هذه العبارات الخطابية هي ما رصدها الباحث، وما ضمن في الورقة هو عبارات تكررت معانيها في أزمنة وأمكنة محددة، ولا يمكن الجزم بتعميمها على كل العمال الفلسطينيين، ولا يمكن تعميمها على حياة العامل بعد عودته إلى المنزل، وهذه المسألة تحتاج إلى أوراق بحثية أخرى من أجل فحصها والمزيد من العمل الأنثروبولوجي والميداني في هذا الحقل. وقد كتبت التشكيلات الخطابية التي تدل على خطاب العمال باللغة العامية والمباشرة كما تم توثيقها.

 

للتحميل اضغط هنا