حمودة، سميح، رام الله العثمانية: دراسة في تاريخها الاجتماعي 1517-1918، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط1، 2017.

عوني فارس

(باحث مقيم في رام الله)

  مقدمة

كتاب “رام الله العثمانية دراسة في تاريخها الاجتماعي 1517-1918” هو آخر ما نحته المؤرخ الفلسطيني الراحل سميح حمودة. وهو دراسة جادة في التاريخ الاجتماعي للمدينة، استمر العمل به طوال أربع سنوات، تناول فيه المدينة من القرن السادس عشر حتى نهاية الحكم العثماني. تكوّن الكتاب من مقدمة، وسبعة فصول احتوت في ثناياها على عددٍ من الجداول والبيانات، وثمانية ملاحق، وعددٍ من الصور.

يُمثِّل كتاب حمودة جانباً من مشروعه التأريخي الذي نذر حياته له، حيث ركَّز فيه على دراسات المهمشين في التاريخ الفلسطيني، من ريفٍ وبلداتٍ ونخبٍ، في محاولة منه لتجاوز ما درج عليه الباحثون الفلسطينيون منذ زمن طويل من اهتمام بالتأريخ للمدن الكبرى والعائلات العريقة، كما أنَّه جزء أصيل من جهد تأريخي بدأه عدد من المؤرخين الفلسطينيين قبل أكثر من سبعة عشر عاماً يهدف إلى إعادة قراءة التأريخ العثماني في فلسطين بصورة موضوعية وعلمية متجاوزة لوطأة أحداث الحرب العالمية الأولى، ومتحللة مما حكم الدراسات التأريخية من نظرتين طوباويتين: واحدة عدائية لكل ما هو عثماني، وأخرى ترى في العثمانيين أطهاراً لا يخطئون.

لقد تجاوز حمودة بكتابه المدرسة التأريخية التقليدية التي تتناول التأريخ العثماني في بلادنا من مربع السياسة الرسمية فتهتم بتفاصيل الأسرة الحاكمة والخلفاء والنخب السياسية والفتوحات والحروب، واهتم بدلاً من ذلك بتأريخ المجتمع وفئاته المختلفة، حيث يظهر في الكتاب الفئات المجتمعية المختلفة من الفلاحين والتجار والمهنيين والمدرسين والطلاب والنساء والرجال والأطفال والشيوخ والرهبان، وتتضح طبيعة العلاقات التي سادت بين الفئات الاجتماعية ومختلف الطوائف الدينية في فلسطين، وقد تخطى بكتابه الصورة النمطية السطحية عن الحقبة العثمانية، بحيث تبدو في الكتاب أكثر تعقيداً مما نتصور، وهي غنية جداً على مستوى بلدة صغيرة مثل رام الله فكيف بمدن فلسطينية كبرى!

 كما أنَّ الكتاب مرتبط بسياق تثبيت الرواية الفلسطينية حول فلسطين المعاصرة التي تقوم على مقولة مفادها أن المجتمع الفلسطيني بحيويته وتركيباته المعقدة وتفاصيل تفاعلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية الغنية سابقة على الوجود الصهيوني في فلسطين، وأن فلسطين ليست أرضاً بلا شعب كما يدّعي المشروع الصهيوني ومناصروه.

منهج المؤرخ

استخدم حمودة في دراسة رام الله العثمانية منهج الإثنوغرافيا التأريخية historical-ethnography بما تعنيه من اهتمام بالمجتمع وثقافته وسلوكه الاجتماعي وطريقة حياته وتطور ذلك خلال المراحل التأريخية المختلفة، والتأريخ الجزئي micro-history، حيث ركَّز على منطقة جغرافية محددة، ووصل إلى خلاصات حاول ربطها بتأريخ أكبر هو تأريخ فلسطين ومنطقة بلاد الشام إبان الحقبة العثمانية.

اعتمد حمودة في دراسته على المصادر الأرشيفية المحلية مثل الأرشيف العثماني، وسجلات المحاكم الشرعية في القدس وما فيها من حجج شرعية وأحكام قضائية تخص أهالي رام الله، ودفاتر التحرير العثمانية الخاصة بالضرائب والأراضي والسكان التي غطت الفترة ما بين 1525-1596، وسجلات مجلس بلدي المدينة في الفترة ما بين 1912-1917، وسجلات الأوقاف الإسلامية في فلسطين بمؤسسة إحياء التراث الإسلامي في القدس، وسجل نفوس سكان رام الله خلال الفترة من 1906-1912، وهو بهذا الاعتماد يثري الدراسات الأرشيفية حول المدن الفلسطينية والتي امتازت بأنها قليلة جداً ومتركِّزة حول القدس، كما أنَّه يكرس نهجاً في الكتابة التأريخية يقوم على تناول ذاتنا الفلسطينية بالرجوع إلى مصادرنا وبعيداً عن المصادر الاستشراقية التي يراها منحازة وغير قادرة على تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية في منطقتنا.

فصول الكتاب

تناول الفصل الأول نشوء رام الله وتطورها وسكانها، وقدَّم ملاحظات هامة حول هجرة المسيحيين إلى رام الله، وبداية استقرارهم، ورصد الفصل الثاني الحياة في رام الله العثمانية منذ بداية استيطان المسيحيين فيها حتى بداية حملة نابليون على فلسطين، وفصَّل في علاقات رام الله مع القدس، ومحيطها من القرى، وتطور العمران فيها، وأهم أحداثها، واهتم الفصل الثالث في تبيان حال رام الله منذ حملة نابليون حتى بداية الحرب العالمية الأولى، والتحولات التي جرت في تلك الحقبة من الغزو النابليوني وعصر التنظيمات العثمانية، ودخول البعثات التبشيرية، واتساع القرية جغرافياً وعمرانياً وسكانياً، وأعطى الفصل الرابع تفاصيل حول تطور رام الله إدارياً، وكيف انتقلت إلى مركز ناحية (1902م)، وتأسيس بلديتها (1912م)، وتحدّث الفصل الخامس عن رام الله أثناء الحرب العالمية الأولى، وأهم إنجازات المجلس البلدي، وركَّز الفصل السادس على نُظُم الحياة في رام الله، وذكر تفاصيل حول التركيبة العائلية والحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد سجَّل هذا الفصل أهم الأوَّليات في رام الله من قبيل أول مدرسة وأول عيادة وأول سيارة…، وعدَّد الفصل السابع أهم الخلاصات والاستنتاجات. أما الملاحق فقد احتوت على نصٍ يكشف عن الرواية الشفوية حول رام الله التي دوَّنها عدنان الحدادين، إضافة إلى عددٍ من الحجج الشرعية الصادرة عن المحكمة الشرعية والمراسيم الحكومية والتقارير الرسمية.

مسائل عالجها الكتاب

تناول الكتاب تطور مدينة رام الله الاجتماعي في سياق التغيرات الهيكلية التي اجتاحت متصرفية القدس والولايات الشامية إبان الحقبة العثمانية، ورصد علاقة المدينة بجهاز الدولة “الإقطاع” التيماري والسباهي و”الإقطاع” الالتزامي، وبيَّن نوع المحاصصات التي تمت في الزراعة، وعلاقة صناعيي وحرفيي رام الله وحركة البناء مع الأرياف المحيطة فيها، وحاول فهم الأوضاع التأريخية التي سمحت لمجتمع مسيحي أسس حياته في قرية زراعية صغيرة، بالنمو والازدهار، وكيف تعايشت هذه القرية المسيحية مع محيطها الإسلامي حتى أصبحت مركز ناحية ضمن قضاء القدس عام 1902، وأُسس فيها مجلس بلدي منذ 1912.

عالج الكتاب المسألة الطائفية بعمق، وأثبت أن مفهوم الأقلية المسيحية لم يكن مطروحاً داخل المجتمع الفلسطيني الذي هو أساساً مجتمع متعدد يعيش فيه الجميع بنفس المعايير والقيم والثقافة، ونفى بالدلائل وجود أي صراعات طائفية في رام الله وما حولها في الفترة المدروسة، وقد استنتج ذلك من رصده لعلاقة مسيحيي رام الله مع مسلميها ومع البلدات والقرى الفلسطينية، ولطبيعة الصراعات البينية في تلك المرحلة، حيث تبيَّن له أنَّها كانت صراعات فئوية وليست طائفية، ولم تحكمها الانتماءات المذهبية، وإنما المصالح العائلية والفردية. كما استنتجه من خلال موقف مسيحيي رام الله من الغزو النابليوني لفلسطين، حيث وقفوا مع إخوانهم المسلمين ضد الجيش الفرنسي. والخلاصة في هذا الشأن أنَّ المدينة قدمت خلال 400 سنة نموذجاً اجتماعياً رائداً للتعاون والتعاضد في بلاد الشام في الحقبة العثمانية.

ناقش الكتاب بداية الاستيطان البشري في رام الله في الفترة الكنعانية وما بعدها، والروايات التي اعتمدها المؤرخون عن تلك الحقب. وبيَّن أن رام الله كانت موجودة في الفترة المملوكية، وتحدث عن الأصول القديمة لتسمية المدينة بهذا الاسم، وقدَّم تحليلاً “تخمينياً” حولها، حيث ذكر أنَّ اسمها قديماً “رامة خليل الله”، ثمَّ حُرِّف مع الزمن وأصبح رام الله.

تتبّع حمودة التطور الديمغرافي في رام الله إبان الحقبة العثمانية، حيث ذكرت سجلات عام 1539م بأنها قرية آهلة بأربع عائلات مسلمة (ص 55)، وتبيَّن لحمودة أن أصول هذه العائلات يعود إلى قريتي عين قينيا ودورا القرع (ص 58)، منحهم العثمانيون حق الانتفاع بالأرض الزراعية الوقفية وإعمار القرية، ويأتي حمودة على ذكر الحدادين الذين هاجروا من شرق الأردن وسكنوا رام الله مع العائلات المسلمة، وكشف بأنَّها عائلات كانت تعمل في الحدادة، وليست اسماً لعائلة بعينها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما توصل له حمودة في هذا الشأن يلتقي مع المصادر الشفوية في تأكيد مسارات هجرة الحدادين “منطقة الكرك شرق الأردن إلى خربة كسبر في أراضي جبل الخليل، فقرية بيت جالا الواقعة في بيت لحم، إلى أن استقرت في رام الله”، لكنَّه يختلف معها في توصيف بعض الجوانب المتعلقة بالبدايات، ومنها القول بوجود شخصية مركزية في ولادة رام الله تسمى راشد الحدادين، وهي شخصية أسطورية حسب حمودة، أو الأسباب التي حدت بالحدادين إلى الهجرة إلى رام الله وهي أسباب تعود -برأي حمودة- إلى اعتبارات اقتصادية وأمنية ومرتبطة بسياسات الدولة، وقد علَّق عالم الاجتماع الفلسطيني سليم تماري على هذا التضارب بالقول بأن لا تضارب بين الروايتين، فالرواية الشفوية لا تتناقض مع تحليل حمودة “وإنما تنتمي إلى إطار تحليلي آخر يرتكز على بلورة الهوية الجماعية لحمائل رام الله، وربطها مع محيطها الريفي والمدني من خلال متغيرات الصراعات العشائرية والهجرة وتأمين الاستقرار الزراعي” (ص 6).

في نقد بعض ما جاء في الكتاب

قدَّم حمودة نصاً تأريخياً متماسكاً، ودافع عن مقولاته بقوة، مستخدماً حججاً دامغة، تقنع القارئ المطَّلع، وقلما تجد في عمله هذا ثغرات، سواء على صعيد منهجه في التأريخ أو فيما أورده من تفاصيل وحيثيات أو استنتاجاته الأساسية، لكنني سأذكر هنا بعض الملاحظات البسيطة، التي لا تقلل من شأن النص وصاحبه.

أولى تلك الملاحظات مرتبطة بمعالجته لبعض المعاملات الاقتصادية التي انتشرت في الحقبة المدروسة، حيث تكرر ذكر العملات المستخدمة إبان الفترة العثمانية، وليت حمودة قام بمعادلتها بالعملات الحالية، حيث تكون بذلك أقرب إلى ذهن القارئ وتصوراته عن تلك الفترة. وثانيتها تتعلق بتجاوز حمودة لما تبناه في أغلب نصه من لغة علمية محايدة في وصف السلطة العثمانية وسلوكها، وهو تجاوز وحيد، حيث وصم السيطرة العثمانية على فلسطين بـ”الاحتلال” (ص 54)، في مقابل استخدامه عبارة تمجيدية للمحتلين الإنجليز حين وصف وقوفهم في وجه العثمانيين رغم خسارتهم في معاركهم الأولى بـ”الصمود” (ص 243)، ورأيي بأن الوصفين جاءا في غير رغبة من حمودة، ويمكن أن يكونا أُثبتا في إحدى مراحل التحرير دون استشارته.

وثالثة تلك الملاحظات حول تكرار حمودة لبعض المعلومات في صفحات مختلفة، دون حاجة، ويبدو أن ذلك سقط سهواً. ورابعتها استسلام حمودة للمصادر التي تحدثت عن الحياة الاجتماعية للمرأة والتعليم في رام الله حيث كانت اقتباساته مطولة ولم يقم بمناقشتها. وخامستها عدم تسليط حمودة الضوء أكثر على موضوع الوعي السياسي لدى سكان رام الله، حيث جاء النص حوله مقتضباً، ولم يشفِ الغليل. وسادستها متعلقة بالمنهج فرغم أنه ربط دراسة رام الله بمحيطها فلسطين أولاً ثم بلاد الشام تحت الحكم العثماني، وهذا منهج سديد وسليم ويعطي صورة أشمل وأوضح لرام الله، إلا أنه جاء أحياناً على حساب رام الله نفسها، وهذه إشكالية كان بالإمكان تجاوزها.

 خاتمة

كان إصدار كتاب رام الله إنجازاً تأريخياً رائداً إن على صعيد مشروع المؤرخ الخاص، أو طبيعة الموضوع الذي تناوله، أو المصادر التي اعتمد عليها أو الخلاصات والنتائج التي توصل لها. لقد أضاف حمودة بكتابه هذا جديداً للتأريخ لفلسطين ومدنها، وسطَّر نموذجاً في الكتابة التأريخية يمكن أن يعمم على باقي المدن، ولا تضيره بعض الملاحظات النقدية هنا وهناك، إذ إنَّها لا تمس جوهر الكتاب ولا مقولاته الرئيسية التي نجح في إثبات مصداقيتها.

للتحميل اضغط هنا