[*] إبراهيم أبراش

بعد مرور أكثر من عقدين على توقيع اتفاق أوسلو والمعروف رسميا باسم “إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي” يوم 13 من أيلول (سبتمبر) 1993 وملحقاته، فإن حالة من الغموض واللُبس تكتنف الحالة السياسية الفلسطينية الرسمية ما بعد أوسلو وقيام السلطة، سواء من حيث طبيعة النظام السياسي ومكوناته ووظائفه، أو من حيث طبيعة العلاقة التي تربط الفلسطينيين بالإسرائيليين، خصوصا بعد تعثر المفاوضات ثم وقفها عام 2010.

إن أي تقييم أو مراجعة للاتفاقات الموقعة يجب ألا تقف عند تحليل مضمون هذه الاتفاقيات فقط، فلا شك أن تحليل الاتفاقات وملابسات توقيعها من خلال الرجوع للبيئة السياسية المُصاحبة لتوقيع الاتفاقات أمر مهم، إلا أن المحك العملي للحكم الحقيقي على أي اتفاقات أو معاهدات يكون من خلال التعرف على نتائجها على أرض الواقع في القضايا التي تصدت الاتفاقات لمعالجتها.

الواقع الفلسطيني الراهن في جزء كبير منه هو نتيجة لعدة اتفاقات تتوالد إحداها من الأخرى، كالدمى الروسية، وكل اتفاقية منها استطاعت إسرائيل توظيفها لفرض وقائع على الأرض لا تتطابق مع نصوصها. استمرار المماطلة الإسرائيلية والتي تجلت في مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي انطلقت في العشرين من تموز (يوليو) 2000 ثم في شرم الشيخ وطابا حيث وصلت إلى طريق مسدود، أدى إلى تفجر الأوضاع مع وصول شارون للحكم، ثم اغتيال أبو عمار، وانسحاب إسرائيل من طرف واحد من غزة، وسيطرة حماس على القطاع لاحقا، وأخيرا توقف المفاوضات 2010 وبداية البحث عن خيارات بديلة للاتفاقات الموقعة.

إشكالية البحث تدور حول التساؤلات التالية: هل ما زالت العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين محكومة بهذه الاتفاقيات؟ أم أن إسرائيل فرضت واقعا على الأرض يتجاوز كل الاتفاقات الموقعة؟. والغموض الأكبر يخص البدائل المتاحة أمام الفلسطينيين للخروج من تبعات أوسلو، وسبب التردد الرسمي الفلسطيني في اتخاذ خطوات عملية جريئة، إما باتجاه الانتقال فعليا نحو الدولة ووضع حد لاتفاقية أوسلو وملحقاتها وما أفرزت من وقائع ميدانية، أو العودة لمرحلة التحرر الوطني بجعل العلاقة التي تربط الفلسطينيين بإسرائيل علاقة شعب خاضع للاحتلال بدولة احتلال.

مقاربة التساؤلات أعلاه تتطلب بداية قراءة موضوعية للاتفاقات الموقعة مع إسرائيل من حيث نتائجها، أو تقييم مرحلة أوسلو، لمعرفة ملابسات توقيع اتفاقات التسوية وحقيقة الموقف الإسرائيلي من وراء دخول عملية التسوية، وهل أن السلوك الإسرائيلي الحالي يُعتبر خرقا لنصوص الاتفاقية ومتعارضا مع منطلقات التسوية؟ أم سلوكاً منسجماً مع الرؤية الإسرائيلية الأولى للتسوية ومع قراءة إسرائيلية لنصوص الاتفاقات الموقعة وهي نصوص على درجة من الغموض ما أتاح لإسرائيل تفسيرها بما يحلو لها؟، أيضا أين أخطأ الفلسطينيون سواء في توقيع الاتفاقية أو في كيفية تعاملهم مع التطبيق؟ وهل كان للفلسطينيين –السلطة والمعارضة- دور فيما وصلت إليه الأمور من انغلاق أفق التسوية؟.

سنحاول مقاربة هذه الإشكالات من خلال المحاور الثلاثة الآتية:

المحور الأول: اتفاقية أوسلو وتوابعها: مراهنات متعارضة.

المحور الثاني: هل فشلت التسوية بالفعل؟ وهل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه؟

المحور الثالث: الخيارات الوطنية البديلة.

المحور الأول:-

اتفاقية أوسلو وتوابعها: مراهنات متعارضة

لم يكن الدخول بعملية التسوية تعبيرا عن قناعة حقيقية لمختلف الأطراف بالتوصل للسلام، فما جرى كان مشروعا لتسوية سياسية وليس سلاما، وإن كان البعض يأمل أن تؤدي العملية في نهاية المطاف إلى سلام. كان لكل طرف –الفلسطينيين والإسرائيليين– مبرراته وأهدافه الخاصة، وإن كنا نعتقد أن الرغبة الفلسطينية بالسلام كانت حاضرة أكثر مما هي عند الإسرائيليين وخصوصا لدى الرئيس أبو عمار وحركة فتح. ربما كان رئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين جادا في التوصل إلى صيغة ما لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي إلا أن المجتمع الإسرائيلي لم يكن مهيئا للسلام الحقيقي.[1]

أولا: المراهنة الإسرائيلية من وراء توقيع اتفاقية أوسلو

ما آلت إليه أمور التسوية التي انطلقت مع اتفاق أوسلو تؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية لم تكونا جادتين في التوصل إلى سلام يقوم على أساس تمكين الفلسطينيين من دولة مستقلة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، بل كانت لهما منطلقات وأهداف مغايرة وهي:

  • تغيير طبيعة الصراع، ذلك أن نجاح إسرائيل في أن تكون اتفاقات التسوية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 فقط معناه تغيير الرواية الفلسطينية وفرض الرواية الصهيونية بأن الصراع بدأ مع حرب 1967 وليس مع حرب 1948، وهذا معناه تكريس شرعية الاحتلال الإسرائيلي لـ78% من فلسطين.[2]
  • محاولة إغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائيا بإضفاء صفة شرعية على الوجود الصهيوني في فلسطين وفي المنطقة العربية، وذلك باستدراج الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات للتوقيع على وثيقة تعترف بحق إسرائيل بالوجود وباعتماد نهج التسوية السياسية الثنائية.
  • المراهنة على دخول منظمة التحرير في عملية التسوية سيلزمها بمواقف يصعب التخلي عنها لاحقا، منها: إنهاء الصراع ووقف النشاط الثوري الفلسطيني ضد إسرائيل، ليس حاضرا فقط، بل التخلي عن أي مطالب أو حقوق مستقبلية سواء بالنسبة لسكان الأرض المحتلة أو فلسطينيي الخارج.
  • إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية كانتا تراهنان بأن الوضع العربي والدولي السائد آنذاك يمثل فرصة سانحة لترتيب الأوضاع في المنطقة بما يخدم أهدافهما وتغيير طبيعة الصراع وإدارته.[3]
  • محاولة إثارة الشقاق داخل الصف الفلسطيني، وتأليب الشعب الفلسطيني وخصوصا خارج الأرض المحتلة على منظمة التحرير.[4] وكانت إسرائيل وأميركا تراهنان بأن التسوية ضمن شروطهما قد تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية وانهيار النظام السياسي الفلسطيني سواء كان السلطة المُزمع قيامها أو منظمة التحرير.
  • تكريس إقليمية القضية الفلسطينية. كانت إسرائيل تراهن بأن الرابطة القومية والأخلاقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستتزعزع ولن يصبح لها محل إذا رأى العرب أن أصحاب القضية أنفسهم انعزلوا بقضيتهم عن الأمة العربية وقبلوا بالشروط الصهيونية الأميركية واقفلوا ملف قضيتهم، في هذه الحالة ستصبح أي مطالب عربية مستقبلية، رسمية أو جماهيرية، بتحرير فلسطين، وكأنها تدَخُل في شؤون الغير.
  • تعزيز مقولة حياد الولايات المتحدة الأميركية في الصراع العربي-الصهيوني، وتحسين صورتها لدى المواطن، وإضفاء صفة الحياد على سياستها وإظهارها بأنها أوفت بوعودها إبان حرب الخليج بفرض الشرعية الدولية على الكيان الصهيوني كما فرضتها على العراق!.
  • تطبيع العلاقات مع الدول العربية، اعتقادا منهم أن تسوية الخلاف مع الفلسطينيين أو مجرد الدخول في عملية سياسية معهم سيكسر المقاطعة العربية والإسلامية لإسرائيل، وهو ما جرى بالفعل.[5]

ثانيا: المراهنة الفلسطينية

في تقييمنا للموقف الرسمي الفلسطيني من عملية التسوية وللاتفاقات الموقعة مع إسرائيل يجب التفريق بين مرحلتين أو نوعين من التقييم، الأول تقييم موقف منظمة التحرير من الدخول بعملية التسوية، وما إن كان الدخول بعملية التسوية والتوقيع على الاتفاقات الموقعة أمراً صائباً أم لا؟ والتقييم الثاني لآلية إدارة المفاوضات قُبَيل التوقيع على الاتفاقية، والممارسة الفلسطينية مع الاتفاقات الموقعة وكيفية تصرُف السلطة والمعارضة بعد التوقيع على الاتفاقات.

1- بالنسبة لملابسات التوقيع على اتفاقات التسوية

كما سبق الذكر لم يكن ولوج منظمة التحرير لعملية التسوية خيارا مريحا أو تتويجا لانتصارات حاسمة، بل كان ممرا إجباريا أو محاولة لوقف الانهيار والتراجع الذي أصاب القضية الفلسطينية بسبب الاختلال في النظامين العربي والدولي مما أثر سلبا على القضية الفلسطينية. ذلك أن المشروع الوطني كما تمت صياغته في الميثاق الوطني وفي أدبيات فصائل منظمة التحرير كان متأثرا ومعبرا عن طبيعة مرحلة الستينات، من حيث وجود حالة وطنية صاعدة ومد قومي ثوري عربي ووجود معسكر اشتراكي ومنظومة دول عدم الانحياز. عليه كان المشروع الوطني الأول سواء من حيث الهدف –تحرير كل فلسطين– أو وسيلة تحقيقه– الكفاح المسلح– محصلة مشاريع في مشروع واحد: المشروع الوطني، والمشروع القومي العربي، والمشروع التحرري العالمي، وكانت مراهنة الفلسطينيين على الحلفاء أكثر من مراهنتهم على أنفسهم.[6]

ما بين تأسيس المشروع الوطني مع منظمة التحرير وتوقيع اتفاقات التسوية مع إسرائيل حدثت انهيارات زعزعت مرتكزات ومكونات المشروع الوطني من أهمها:-

  • أ‌- تراجع المشروع القومي العربي مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم حرب الخليج الثانية، بحيث لم تعد القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى بالنسبة للأنظمة العربية.[7]
  • ب‌- انهيار المعسكر الاشتراكي –الحليف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية– ومعه تراجعت منظومة دول عدم الانحياز.
  • ت‌- انزلاق الثورة الفلسطينية كطرف مباشر أو غير مباشر في عدة حروب ومواجهات مع دول عربية: كأحداث الأردن 1970، والحرب الأهلية في لبنان 1975-1982، وحرب الخليج الثانية 1991.
  • ث‌- محاصرة الثورة الفلسطينية بعد حرب الخليج الثانية بسبب اتهام الرئيس أبو عمار بدعم الموقف العراقي، وكان حصاراً مالياً وسياسياً شديداً.
  • ج‌- ظهور حركة حماس من خارج منظمة التحرير الفلسطينية وبداية تعامل دول وحركات عربية وإسلامية معها دون الرجوع لمنظمة التحرير.
  • ح‌- تغلغل فكر التسوية عند غالبية الدول العربية ورغبتها في إيجاد تسوية سياسية للصراع مع إسرائيل وخصوصا بعد حرب الخليج الثانية وتداعياتها، وهنا نلاحظ أن مؤتمر مدريد للسلام 1991 سبق توقيع اتفاقية أوسلو، ولو لم يكن مؤتمر مدريد ما كانت اتفاقية أوسلو.

كل ذلك أضعف من قوة الثورة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل عسكريا، وبقي الفلسطينيون وحيدين في الميدان، الأمر الذي كشف الهوة الواسعة بين أهداف المشروع الوطني الأول والممكنات الفلسطينية، وكان مطلوباً تدفيع الثورة الفلسطينية الثمن على سياسات وممارسات لم تكن خاطئة تماما بقدر ما كانت محصلة لتحالفات وتوازنات تلك المرحلة. حاولت القيادة الفلسطينية التكيف مع هذه الاختلالات مع الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني من خلال نهج الواقعية السياسية وإعادة النظر في أهداف النضال الفلسطيني وطرق تحقيقها.[8]

لا نعتقد أن القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة ارتكبت أخطاء استراتيجية كبيرة كان عدم ارتكابها سيغير من مسار الأحداث بشكل جذري، فما جرى كان نتيجة متغيرات عربية ودولية وليس نتيجة تقصير فلسطيني. إلا أن ذلك لا يمنع من القول بوجود خلل وأوجه تقصير في الجانب الفلسطيني جعلت قدرة النظام السياسي الفلسطيني ضعيفة في مواجهة المتغيرات المحيطة به، مثل تغلغل المال السياسي مما أوجد أشكالا من الفساد، وغياب المحاسبة للفاسدين، وترهل بنية الفصائل، بالإضافة إلى عدم حدوث مراجعات استراتيجية بعد كل أزمة مرت بها الثورة الفلسطينية. ومع ذلك كانت لتلك المرحلة حصيلة مهمة وهي استنهاض الحالة الوطنية والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974 والاعتراف بها مراقبا في الأمم المتحدة.

2- خلل في عملية المفاوضات وفي إدارة السلطة ما بعد توقيع اتفاقات التسوية 

في الوقت الذي كان فيه فريق فلسطيني من الداخل بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي يقود مفاوضات علنية كانت منظمة التحرير تجري مفاوضات سرية في أوسلو، كان مهندساها محمود عباس وأحمد قريع مع عدد محدود من السياسيين. تحركت القيادة بسرعة لتلوِّح للأميركيين والإسرائيليين بالاستعداد لتقديم تنازلات كان من الصعب على فلسطينيي الداخل تقديمها، ومن جانب آخر كانت واشنطن وإسرائيل تريدان أن تكون منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هي الجهة التي توقع على أية اتفاقية تسوية سواء لإنهاء الصراع أو تغيير طبيعته ونهج إدارته.

لم يكن الخلل في سرية المفاوضات فقط، بل أيضا في تفرد أشخاص معينين بعملية المفاوضات، وفي البحث بقضايا مصيرية دون توافق فلسطيني حتى داخل منظمة التحرير، بل حتى داخل حركة فتح نفسها، ودون خبرة لهؤلاء بكثير من الملفات التي تم التفاوض عليها. بينما كان الوفد الإسرائيلي مدعوما بلجان متخصصة في كل المجالات. الأمر الذي أنتج اتفاقية أوسلو ولواحقها بصياغات مبهمة وتقبل أكثر من تفسير وغالبا ما كانت إسرائيل تفسرها لصالحها لأنه كان لها اليد الطولى في وضع هذه النصوص.

فبسبب سرية المفاوضات والخوف من تهميش المنظمة أُسنِد أمر المفاوضات لسياسيين من حركة فتح وقلة من خارجها، وغالبية هؤلاء كانوا يعيشون خارج فلسطين وليس لهم أية خبرة أو معلومات حول جغرافيا الأراضي المحتلة وأسماء المناطق والقرى، وتجمعات المياه الجوفية الخ، وقد تسربت بعض المعلومات المثيرة للسخرية والألم معا، تدل على الجهل الكبير لهؤلاء السياسيين بالأمور التي كانوا يتفاوضون عليها، كعدم التمييز بين مدينة أريحا ومنطقة أريحا، أو الفرق بين المواصي والنواصي الخ، مع حسن نية في تعاملهم مع الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون في فلسطين ويملكون الجغرافيا ويعرفون كل صغيرة وكبيرة من جغرافيا فلسطين ما فوق الأرض وما تحتها.

ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو سادت حالة من الإرباك وعدم الوضوح في كيفية التصرف والتعامل مع الواقع الجديد في ظل وجود سلطة فلسطينية وما عليها من استحقاقات بمقتضى الاتفاقات الموقعة. كانت أهم مظاهر هذا الإرباك انقسام الساحة الفلسطينية انقساما حادا فهناك من يؤيد عملية التسوية ويراهن عليها كفرصة ومنعطف مصيري يمكن المراهنة عليها للوصول للدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا الطرف الفلسطيني تعامل مع اتفاقات الحكم الذاتي المؤقت أو ترتيبات المرحلة الانتقالية وكأنها اتفاقات سلام، الأمر الذي دفع بكثير من الفلسطينيين والعرب إلى التعامل مع إسرائيل وكأنها شريك سلام والتعامل مع الصراع برمته وكأنه حُسم وأصبح من مخلفات الماضي.

في المقابل رفض آخرون –حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى وشخصيات من داخل منظمة التحرير- هذه المراهنة واعتبروا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وقيام السلطة الفلسطينية خروجا عن الثوابت الوطنية ونهجا استسلاميا، ولم يقتصر الأمر على خلافات سياسية ونظرية، بل تعدى ذلك إلى ما يشبه الانشقاق داخل منظمة التحرير وتشكيل جبهة وطنية معارضة لـ(نهج أوسلو)، وقيام قوى المعارضة وخصوصا حركة حماس بعمليات عسكرية في عمق إسرائيل في أوقات دقيقة كانت تمر فيها المفاوضات.

بالإضافة إلى التحديات التي واجهت السلطة من معارضيها فقد ظهرت أشكال من الفساد وسوء الإدارة في السلطة فاقمت من مشاكلها. صحيح أنه لم يكن فسادا كبيرا، إلا أن واشنطن والغرب وظفوا الحديث عن فساد السلطة للتضييق على الرئيس أبو عمار وإجباره على إدخال تعديلات دستورية تحد من صلاحياته.[9]

بشكل عام يمكن الإشارة إلى أوجه الخلل في التعامل الفلسطيني الرسمي مع عملية التسوية ومرحلة ما بعد أوسلو، وهي تتراوح ما بين الأخطاء الاستراتيجية، والخلل في الإدارة، وعدم وضوح الرؤية والموقف:

  • القبول بدخول عملية التسوية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 فقط وتجاهل بقية قرارات الشرعية الدولية، كقرار التقسيم 181، وقرار حق العودة 194، وعديد القرارات التي تتحدث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه بمقاومة الاحتلال الخ. وهذا يتعارض مع إعلان قيام الدولة في الجزائر 1988 الذي قَبِل الدخول بعملية التسوية على أساس كل قرارات الشرعية الدولية.
  • القبول بأن تكون المفاوضات تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية فقط دون إشراف دولي أو محاولة تشريع الاتفاقية بقرار دولي من مجلس الأمن، الأمر الذي أسقط عن اتفاقية أوسلو صفة الاتفاقية الدولية.
  • تأجيل قضايا الوضع النهائي وهي قضايا استراتيجية، مما جعل المفاوضات تشكل غطاء للاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.
  • الاعتراف المتبادل كان بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير، فيما كان يُفترض أن يكون الاعتراف بإسرائيل بعد نهاية المفاوضات مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967.
  • القبول بالمفاوضات واستمرارها لسنوات مع استمرار الاستيطان والتهويد.
  • استمرار المفاوضات دون مرجعية واضحة أو هدف واضح.
  • استمرار نفس الفريق المفاوض تقريبا واقتصاره على حركة فتح.
  • رهن الاقتصاد الفلسطيني كليا بالاحتلال من خلال بروتوكول باريس الاقتصادي.
  • المراهنة كليا على الخارج سواء تعلق الأمر بالشرعية الدولية أو الأمم المتحدة أو المبادرات العربية، مع غياب استراتيجية واضحة في التعامل مع الشرعية الدولية، وماذا بعد الذهاب لمحكمة الجنايات الدولية؟.
  • إهمال القيادة للشعب بل وعدم الثقة بقدرات الشعب ولو من خلال أشكال من المقاومة السلمية. هذا ما خلق فجوة ما بين القيادة والشعب لم تستطع الرواتب والإغراءات المالية أن تملأها.
  • تهميش منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها سياسيا وماليا لحساب السلطة الوطنية لدرجة أن منظمة التحرير بكل فصائلها أصبحت تعتاش من ميزانية السلطة الفلسطينية.
  • إضعاف حركة فتح سواء كحركة تحرر وطني أو كحزب سلطة ودولة، وجعل سقفها السياسي نفس السقف السياسي للسلطة.
  • غياب أو ضعف مؤسسة القيادة وتمركز كل شيء بيد الرئيس أبو عمار ثم أبو مازن.
  • تمركز الرئاسات بيد واحدة –رئاسة الدولة ورئاسة منظمة التحرير ورئاسة السلطة ورئاسة حركة فتح.
  • قوة تأثير نخبة سياسية اقتصادية من خارج المؤسسة الوطنية على عملية اتخاذ القرار.
  • استمرار التنسيق الأمني بنفس الوتيرة والضوابط التي كانت في بداية التسوية بالرغم من تنصل إسرائيل من عملية التسوية.
  • إهمال فلسطينيي الخارج.
  • سوء إدارة ملف الانقسام.

 المحور الثاني:-

هل فشلت التسوية بالفعل؟ وهل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه؟

بالرغم من كل التصريحات والمؤشرات التي تقول بأن مشروع التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والذي مر عليه حوالي 22 عاماً قد فشل أو وصل لطريق مسدود، إلا أن الوقائع على الأرض التي أوجدتها الاتفاقات الموقعة ما زالت تفرض وجودها من خلال قيام إسرائيل بممارسات وفرض وقائع تتجاوز الاتفاقات الموقعة، كبناء جدار الفصل واستمرار الاستيطان وتغيير الوضع القائم في القدس والمسجد الأقصى والانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة والمحاولات الجارية للتوصل لهدنة في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الخ، بالإضافة إلى الجدل الدائر في الأوساط الفلسطينية عما إن كان من المصلحة الوطنية إنهاء السلطة الفلسطينية وما يرتبط بها من تنسيق أمني، أم الحفاظ عليها لأنها أوجدت مكتسبات يجب الحفاظ عليها، كالمؤسسات والإدارات، وشبكة علاقات دولية الخ، قد تساعد في مرحلة بناء الدولة.

كل ذلك يضع تحديات أمام العودة إلى ما قبل توقيع الاتفاقات أو التملص منها بشكل نهائي وخصوصا في ظل استمرار حالة الانقسام، وبالتالي يصبح الحديث عن فشل اتفاقات التسوية أو تجاهل تداعياتها أمرا صعبا، لتباين مفهوم الفشل والنجاح عند كل طرف من طرفي التسوية.

إن أي حديث عن الفشل والنجاح يبقى نسبيا نظرا للأسباب المُشار إليها ولعدم وجود مشاريع تسوية سياسية بديلة، ولأن القول بفشل التسوية قد يكون صحيحا بالنسبة للفلسطينيين ولكنه ليس كذلك بالنسبة للطرف الثاني. الولايات المتحدة وإسرائيل لم تكونا راغبتين بالفعل في إنجاز تسوية تؤسس لسلام عادل يلبي الحقوق الوطنية الفلسطينية -دولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية مع إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين-. وعليه فإن الفشل من وجهة نظر الفلسطينيين يعني عدم تحقق هذا الهدف، مع أن هذا الهدف لم يتم ذكره في أي من الاتفاقات الموقعة ولم تلتزم إسرائيل أو واشنطن في يوم من الأيام بتحقيقه أو وعدتا به.

سواء أسميناه فشلاً أم تعثراً أم إدارة مغايرة للصراع، فإن تحديات كبيرة تواجه عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل انطلاق مسلسل التسوية، لأن واشنطن وتل أبيب أخذتا في الحسبان بداية أن الفلسطينيين سيكتشفون حقيقة ما يحاك لقضيتهم الوطنية تحت شعار التسوية، وبالتالي قد يرتدون عنها، وعليه خلقت واشنطن وإسرائيل وقائع ومناخاً سياسياً لقطع طريق العودة، كما يلي:

  • احتكار واشنطن مسار المفاوضات وإدارة الأزمة، لأنها لا تريد أن تظهر بمظهر الفاشل في تحقيق السلام العادل مع أنها غير راغبة فيه.
  • لم تبرز قوى دولية يمكنها انتزاع زمام مبادرة السلام من يد واشنطن، بل إن اللجنة الرباعية أصبحت مهمشةً وملحقة بواشنطن فيما كان يفترض، حسب تمثيلها للاتحاد الأوروبي والروس والأمم المتحدة وواشنطن، أن ترعى العملية السلمية.
  • الوقائع التي فرضتها إسرائيل على الأرض، كالاستيطان المتعاظم والمستمر، وبناء الجدار، وتهويد القدس، والطرق الالتفافية والحواجز، جعلت عودة الأمور إلى ما كانت عليه أمراً مستحيلاً حتى وإن أعلن الفلسطينيون فشل عملية التسوية وتخليهم عن الالتزام بالاتفاقات الموقعة بشأنها.
  • وجود سلطة ومؤسسات وحكومة فلسطينية تقوم بمهام يُفترض أن تقوم بها دولة الاحتلال سواء تعلق الأمر بالمسؤولية عن إعاشة الشعب الخاضع لاحتلال أو فرض النظام والقانون أو التنسيق الأمني، ما جعل الاحتلال لا يشكل عبئاً على الإسرائيليين وتردد السلطة في التمرد على هذا الوضع.
  • تحويل غالبية الشعب الفلسطيني لجموع تعيش على راتب السلطة والمساعدات الخارجية التي تستمر ما استمرت السلطة وحكومتها ملتزمة بالتسوية وبالمفاوضات، بغض النظر عن الممارسات الإسرائيلية المدمرة لفرص السلام وللمشروع الوطني.[10]
  • تحوُّل بعض مكونات النخبة السياسية لنخب مصالح ومشاريع اقتصادية مرتبطة بإسرائيل وبدول الجوار ودول خارجية، بحيث أصبحت هذه النخب، التي يفترض أن تحمل وتحمي المشروع الوطني، معنية بالحفاظ على مصالحها وامتيازاتها وليس الدفاع عن المشروع الوطني أو التصادم مع سلطات الاحتلال.
  • انقسام حاد وغير مسبوق في الصف الفلسطيني، نتج عن التدخلات الخارجية، مما ألغى استقلالية القرار الوطني وجعل المشروع الوطني واستقلالية القرار الوطني مجرد شعارات.
  • فصل غزة عن الضفة وقيام حكومة في كل منطقة معادية للأخرى وتسعى لشرعنة وجودها على حساب وحدة الشعب والأرض.
  • الاستعداد لتهدئة ما بين إسرائيل وحركة حماس في غزة ستمهد لاحقاً لنوع من التعايش السلمي والاعتراف الواقعي بين الطرفين وتأبيد حالة الفصل ما بين الضفة وغزة.
  • استمرار القيادة الفلسطينية بالتلويح بإمكانية العودة لطاولة المفاوضات في حالة التزام إسرائيل ببعض الشروط.
  • والأهم من كل ذلك فشل الفلسطينيين في بناء استراتيجية عمل وطني، سواء على مستوى قيادة وحدة وطنية، أو استراتيجية مقاومة، تملأ الفراغ الذي قد ينتج عن انهيار التسوية أو حل السلطة.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن القوى المتحكمة بمسار عملية التسوية لن تعلن عن فشلها بشكل نهائي، حتى منظمة التحرير لن تُقدِم على ذلك. وعليه، فإن ما يجري، حتى وإن بدا خارج سياق التسوية فهو جزء من عملية إعادة صياغة التسوية حسب الرؤية الأميركية والإسرائيلية، أو فلنقل بأن التسوية أصبحت كالحرباء تغير مصطلحاتها وأسسها حسب تغير الظروف والأحوال وحسب الديناميكيات التي تولدها التسوية نفسها.

ما جرى ويجري منذ الخروج من غزة عام 2005 والحصار ثم الانقلاب فالتهدئة، كل ذلك جزء من تسوية خفية وغير مُعلن عنها رسميا، إنها نتاج لمخطط تم الاشتغال عليه لتغيير طبيعة التسوية والالتفاف على الحقوق الوطنية. وعليه يمكن القول إن الهدنة القائمة بين إسرائيل وحركة حماس لا تندرج ضمن استراتيجية المقاومة أو بديلا للتسوية والمفاوضات، بل ستصبح جزءاً منها أو من التحويرات التي طرأت عليها، وإسرائيل راغبة في الهدنة ليس خوفاً من الصواريخ المنطلقة من غزة، بل تريد الهدنة لأنها ستؤدي لتكريس القطيعة ما بين الضفة والقطاع وإضفاء شرعية على حكومة الأمر الواقع في غزة، وكل ذلك يجعل نجاح التسوية والمفاوضات على ما تبقى من الضفة أيسر منالاً من وجهة النظر الإسرائيلية.

أخشى ما نخشاه أن تؤول الأمور في قطاع غزة إلى (دولة) أو كيان سياسي تحت عنوان الدولة ذات الحدود المؤقتة، ويُترَك مصير الضفة لمفاوضات عبثية ستتفرغ خلالها إسرائيل لمزيد من الاستيطان، وسيتم تجريد السلطة هناك من أية مهام سياسية ووطنية، وتقتصر مهامها على تقديم الخدمات البلدية والحياتية للمواطنين، وبمهام الأمن الداخلي المحدود بالتنسيق مع الإسرائيليين والأميركيين، وقد تعمل إسرائيل على إنهاء السلطة الفلسطينية في الضفة وتوجيه الأمور إلى قطاع غزة لتستعر حربا أهلية بين مكونات النظام السياسي حول مَن يحكم قطاع غزة.

المحور الثالث:-

البدائل الوطنية المتاحة

كرد على تعثر المفاوضات 2010، روجت منظمة التحرير وعلى لسان الرئيس أبو مازن، خطابا مفاده أن لديها خيارات متعددة لمواجهة إسرائيل والرد على عدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة، بل تحدثت القيادة عن سبعة خيارات تبدأ بالذهاب إلى الأمم المتحدة وتنتهي بتسليم المفاتيح وتحميل إسرائيل كدولة احتلال المسؤولية عن الأراضي الفلسطينية، وقد لمح الرئيس أبو مازن في خطابه في الأمم المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) 2015 إلى تعثر عملية التسوية وعدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة، والاستعداد الفلسطيني لتجاوزها إن لم يتم تدارك الأمر بسرعة.

منذ ذلك التاريخ يجري حراك سياسي واسع يتراوح ما بين التحرر من قيود الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل والبحث عن بدائل وطنية، أو تعديل مسار المفاوضات وشروطها دون إلغاء الاتفاقات الموقعة. بسبب الانقسام وبالرغم من عدم التوصل لتوافق فلسطيني حول أسلوب التعامل مع إسرائيل بل والاختلاف حول الانتفاضة الراهنة، وبالرغم من تعثر اتفاقات المصالحة الموقَّعة، إلا أن قناعة أخذت تتزايد بضرورة الاعتماد على الذات الفلسطينية وضرورة إيجاد قواسم مشتركة في إطار استراتيجية وطنية متعددة المسارات.

البديل الوطني الفلسطيني يجب أن يكون في إطار استراتيجية وطنية متعددة المسارات، مسار إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني أو البيت الفلسطيني داخليا، ومسار تدويل القضية بما لا ينتقص من الحقوق الوطنية.

أولا: ضرورة التوصل لاستراتيجية وطنية تتجاوز قيود أوسلو وواقع الانقسام

العمل السياسي الفلسطيني ومنذ التعاطي مع عملية التسوية السياسية يشتغل بدون استراتيجية واضحة المعالم، الأمر الذي أدى إلى حالة التيه السياسي المعممة، من المواطن العادي حتى المسؤول والقيادي، من السلطة وفصائل منظمة التحرير إلى حركة حماس، وأصبحت البوصلة السياسية بلا اتجاه عند الجميع ولم يعد بالإمكان إخفاء الحقيقة، وخصوصا بعد انقلاب حماس على السلطة ومنظمة التحرير في حزيران (يونيو) 2007.

حالة التيه نلمسها عند السلطة ومنظمة التحرير بكل فصائلها، من خلال حالة الحيرة والتخبط ما بين العودة للمفاوضات على أساس الاتفاقات الموقعة أو تغيير مسار العملية السلمية بما يتوافق مع مستجد الاعتراف بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة، ونلمسها في التضارب ما بين الحديث عن مقاومة شعبية وانتفاضة ثالثة من جانب، والخشية من أن تؤدي الانتفاضة إلى فقدان السيطرة في الضفة أو توظيف حركة حماس للانتفاضة للانقضاض على السلطة من جانب آخر، ونلمسه في التضارب ما بين الرغبة في مصالحة تعيد الاعتبار للشعب الفلسطيني وللمشروع الوطني من جهة، والخشية من مصالحة قد تثير عليها إسرائيل وواشنطن من جهة أخرى.

ولأن كل القوى السياسية والمجتمعية باتت تعترف بأن ما هو موجود مرفوض، أو على الأقل لا يلبي الحد الأدنى من متطلبات استنهاض الحالة الوطنية، ومواجهة تحديات فشل الاتفاقات الموقعة، واحتمال سقوط السلطة الفلسطينية.[11] وتعترف بوجود خلل في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وضرورة التحرر من قيودها، وهو ما طالب به المجلس المركزي لمنظمة التحرير في اجتماعه يومي الرابع والخامس من آذار (مارس) 2015، وأكدت عليه اللجنة التنفيذية للمنظمة في اجتماعاتها اللاحقة، فإن الأمر يتطلب وجود استراتيجية وطنية أو برنامج وطني جديد.

الاستراتيجية المطلوبة لا تغرق بالمشاكل الآنية بل تتعامل مع جذورها ومسبباتها الحقيقية. والاستراتيجية رؤية وتخطيط ومنهج في العمل تحيط بكل المصالح الوطنية وما يهددها من مخاطر، تربط الحاضر بالماضي وتستشرف المستقبل، تنطلق من رؤية علمية للواقع بكل مكوناته وتشابكاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، محليا ودوليا. إنها فن التوفيق بين الإمكانات الوطنية بكل مكوناتها من جانب والأهداف من جانب آخر. هذه الاستراتيجية هي الأساس الذي تقوم عليه سياسات الدول والكيانات السياسية العقلانية. الاستراتيجية تؤسَس على المصلحة الوطنية العليا أو ثوابت الأمة التي هي محل توافق وطني ولا تخضع لألاعيب السياسيين ومناوراتهم.[12]

أهم مكونات استراتيجية حركات التحرر الوطني هو توافق أغلبية الشعب والكيانات السياسية على الأهداف الوطنية وعلى الوسائل أو الأدوات التي تضمن تحقيقها، ودائما يرتبط نجاح أو فشل الاستراتيجية ليس باختلال موازين القوى مع العدو بل بمدى وجود مؤسسة قيادة قادرة على تعبئة الشعب وحشده حول برنامجها الوطني، وفي وجود وحدة وطنية.

لأن الاستراتيجية ملزِمة للكل الوطني فإنها تستهدف كل مكونات النظام السياسي من الرئاسة حتى الأحزاب. ونظرا لأن مكونات النظام السياسي جزء من الأزمة بل سبب رئيس لها، فهي غير مؤهلة وحدها لوضع هذه الاستراتيجية، لذا فالبرنامج الذي نقترح يجب أن يُعتمد من خلال مؤتمر شعبي عام إن أمكن، وإلا من خلال لجنة تفعيل منظمة التحرير أو ما يُطلق عليها (الإطار القيادي المؤقت) كما سنوضح.

1: آلية التوصل للاستراتيجية الوطنية الشمولية

  • أ‌- ونحن نفكر بوضع برنامج واستراتيجية وطنية نستحضر ما جرى في مصر وتونس حول تشكيل مجلس تأسيسي، كما يمكن الاستفادة من تجربة الولادة الثانية لمنظمة التحرير 1968. في جميع هذه الحالات كان النظام السياسي يمر بمرحلة انتقالية صعبة ويحتاج لنوع من العدالة الانتقالية تتجسد بداية في برنامج أو ميثاق وطني محل توافق غالبية مكونات الشعب الفلسطيني. البرنامج الوطني سيكون بمثابة دستور مؤقت للشعب الفلسطيني للمرحلة الانتقالية وإلى حين قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.[13]
  • ب‌- التأكيد على أن الانتخابات مصدر الشرعية لأي نظام أو كيان سياسي، وبالتالي من المهم أن يتم تجديد شرعية النظام السياسي بكل كياناته ومستوياته –الرئاسية والتشريعية والبلدية- من خلال الانتخابات حسب النظام الانتخابي المُتفق عليه. وبالتالي ضرورة العمل على أن يتم انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي المُكلف بصياغة برنامج العمل الوطني.
  • ت‌- في حالة تعذر إجراء الانتخابات يمكن توسيع لجنة تفعيل منظمة التحرير (الإطار القيادي المؤقت) الذي تم الاتفاق عليه في القاهرة والدوحة، من خلال إشراك ممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني والاتحادات الشعبية وشخصيات وطنية أكاديمية ومهنية من الداخل والخارج، ليصل العدد ما بين مائة وخمسين ومائتين، ويقوم هذا الإطار بالتوافق على الأعضاء الجدد، على أن لا تزيد نسبة ممثلي الأحزاب والفصائل عن نصف أعضاء الإطار القيادي الجديد.
  • ث‌- يصبح الإطار الجديد بمثابة (مجلس تأسيسي) يتكفل بعملية إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير كما نصت على ذلك وثائق الوفاق الوطني وورقة المصلحة المصرية، ويشمل ذلك صياغة ميثاق المنظمة، أو البرنامج الوطني، ويمكن الاستئناس بوثيقة الوفاق الوطني بهذا الشأن. ويمكن لهذا المجلس أيضا أن يقترح مسمى بديلا لمنظمة التحرير إن لزم الأمر ويتم مراسلة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والعربية لاعتماد المسمى الجديد، أيضا إعادة صياغة وتحديد علاقة منظمة التحرير بالسلطة الوطنية وبالدولة التي اعتمدت كمراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
  • ج‌- في حالة تعذر إجراء انتخابات يقوم الإطار الجديد (المجلس التأسيسي) بانتخاب اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وهذه بدورها تنتخب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة أو يكون العضو الحاصل على أعلى الأصوات، ويكون في نفس الوقت رئيس دولة فلسطين.
  • ح‌- يتم إسناد مهمة أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة لمن يلي الرئيس من حيث الحصول على الأصوات، أو بالتوافق بحيث إن كان الفائز مثلا من حركة فتح يكون النائب من حركة حماس أو أي من الأحزاب الأخرى، والعكس صحيح.
  • خ‌- تنبثق عن المجلس التأسيسي لجنة (الميثاق) مكلفة بتعديل ميثاق منظمة التحرير ووضع البرنامج الوطني.

2: المرتكزات الأساسية والعلاقات التفاعلية داخل الاستراتيجية الوطنية

  • أ‌- مؤسسة الرئاسة وشؤون المفاوضات
  • مع أن الأمر يدخل في المجال المحفوظ للرئيس، إلا أنه يجب وضع وضبط المعايير التي بمقتضاها يتم تعيين مستشاري الرئيس، مع تحديد اختصاصات كل مستشار، وأن يتم تشكيل مجلس مستشاري الرئيس داخل مؤسسة الرئاسة.[14]
  • فصل الرئاسات عن بعضها البعض رئاسة السلطة، ورئاسة حركة فتح، ورئاسة منظمة التحرير، ورئاسة الدولة، حتى يكون هامش لمنظمة التحرير للتحرك خارج الاستحقاقات والالتزامات المفروضة على السلطة.
  • إعادة تشكيل طاقم المفاوضات واستراتيجية التفاوض مع الوضوح والشفافية بكل ما يتعلق بالمفاوضات، مما يتطلب تغيير رئيس طاقم المفاوضات وأن يضم فريق المفاوضات شخصيات وطنية مستقلة وأعضاء من فصائل منظمة التحرير تختارهم الفصائل نفسها.
  • لأن المفاوضات ليست استراتيجية بحد ذاتها بل هي جزء من الاستراتيجية الوطنية، فيجب رفدها بمقاومة سلمية شعبية ملتزمة بالحل السلمي وبالشرعية الدولية وخاضعة لتوجيه وإشراف منظمة التحرير الفلسطينية أو الإطار القيادي الجديد.
  • ب‌- الحكومة
  • نظرا لأننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني، فالمصلحة الوطنية تتطلب وجود حكومة وحدة وطنية، وحتى في حالة إجراء انتخابات فيجب أن يَنتج عنها حكومة وحدة وطنية بغض النظر عن الحزب الفائز.
  • في حالة تعثر الانتخابات يتكلف الإطار القيادي المُوحد بتشكيل حكومة وطنية توافقية، تقوم بتسيير أمور الشعب في قطاع غزة والضفة والتهيئة لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية، خلال المرحلة الانتقالية الراهنة إلى حين قيام الدولة المستقلة.
  • الإطار القيادي الموحد الجديد يتكلف بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية من خلال انتخابات داخله أو بالتوافق والتراضي. بجانبها يتم انتخاب حكومة محلية أو إقليمية في الضفة وأخرى في القطاع تخضعان لدستور أو قانون أساسي واحد.
  • إنشاء وزارة جديدة تختص بشؤون المغتربين –الفلسطينيين في الخارج– بما لا يتعارض مع اختصاص واستمرار عمل دائرة شؤون اللاجئين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
  • ت‌- السلطة الوطنية
  • خلال عقدين من وجود السلطة الوطنية وبالرغم مما وصلت إليه من ضعف، إلا أنها أقامت مؤسسات يجب توظيفها والبناء عليها في بناء الدولة الفلسطينية.
  • مباشرة الانتقال من سلطة حكم ذاتي إلى سلطة وحكومة الدولة الفلسطينية، من خلال إجراءات متدرجة على الأرض، كإعادة النظر بآليات التنسيق الأمني والبروتوكول الاقتصادي، وأن تكون الانتخابات القادمة، في حالة إجرائها، لبرلمان دولة وليس لمجلس حكم ذاتي، والحكومة حكومة دولة فلسطين وليس حكومة سلطة حكم ذاتي. وهي أمور تمت الموافقة عليها في الاجتماع الأخير للمجلس المركزي لمنظمة التحرير.
  • تفعيل هيئة الرقابة العامة وهيئة مكافحة الفساد والنيابة العامة، وتمكينها من الوسائل والأدوات البشرية والمادية والصلاحيات، لمحاربة الفساد في مؤسسات السلطة وفي المجتمع، وخصوصا في مواقع المسؤولية العليا، حيث يمَارس الفساد وتَغيب المساءلة دون حسيب أو رقيب.[15]

3: العلاقات الخارجية

  • أ‌- تشكيل معهد للدبلوماسية الفلسطينية، ووضع استراتيجية للعمل الدبلوماسي ومعايير موضوعية لتعيين السفراء وممثلي فلسطين في المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية.
  • ب‌- تفعيل الدبلوماسية الشعبية وعدم الاقتصار على الدول والمؤسسات الرسمية.
  • ت‌- استعادة العلاقات الشعبية ما بين الشعب الفلسطيني، ممثلا بمنظمة التحرير والدولة الفلسطينية، والشعوب العربية والإسلامية، من خلال تفعيل جمعيات مساندة الشعب الفلسطيني والتي تشكلت في السبعينات ولعبت دورا مهما في توثيق العلاقة بين القضية الفلسطينية والشعوب العربية.
  • ث‌- إنشاء أو تنشيط المراكز الثقافية الفلسطينية في كل دول العالم، سواء كانت هذه المراكز ملحقة بالسفارات أو منفصلة عنها.

4: قضية اللاجئين

  • أ‌- قرار عودة اللاجئين الفلسطينيين رقم 194 الصادر يوم 11 كانون الأول (ديسمبر) 1949 ليس قرارا فلسطينيا بل هو قرار دولي، لذا فليس مطلوبا من الفلسطينيين تجاهل قرار أممي ومن الخطأ فعل ذلك. وهنا نُذَكِّر بأن القرار الأممي 3379 الصادر عام 1975 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري لم يتم إلغاؤه إلا بقرار صادر عن نفس الجمعية.
  • ب‌- دخول منظمة التحرير لمشروع التسوية السياسية في مدريد وأوسلو على أساس القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن  بعد حرب حزيران (يونيو) 1967، والذي تحدث عن حل عادل لقضية اللاجئين وليس عن حق العودة، لا يُلغي أو ينتقص من قيمة القرار 194، ما دامت التسوية وصلت لطريق مسدود بسبب عدم التزام إسرائيل بما عليها من استحقاقات بمقتضى اتفاقية أوسلو.
  • ت‌- قرار 194 جاء بعد قرار التقسيم عام 1947 الذي ينص على قيام دولة عربية بجانب دولة إسرائيل، والفقرة الخاصة باللاجئين في القرار الصادر عن مجلس الأمن في القرار 242 جاءت بعد الفقرات التي تطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة وتحقيق السلام، وهو ما تم التأكيد عليه في قرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر عام 1973.
  • ث‌- لذا فالمؤسسات الشرعية السيادية للدولة الفلسطينية المستقلة تقرر وتحسم بأمر اللاجئين وأين يمكن عودتهم.
  • ج‌- التأكيد على حق عودة اللاجئين مع عدم الخوض بحلول لقضية اللاجئين إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة.

5: المقاومة

  • أ‌- ليس من حق أية وثيقة أو جهة فلسطينية أو اتفاقات توقعها السلطة الوطنية أن تلغي أو تتصرف بالحق بمقاومة الاحتلال؛ لأنه حق طبيعي وقانوني نصت وأكدت عليه الشرعية الدولية.
  • ب‌- يؤكد البرنامج الوطني على الحق بالمقاومة اعتمادا على قرارات الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة الذي منح الشعوب الحق بالدفاع عن النفس، وللقيادة الجديدة وللحكومة الوطنية تحديد طرق ووسائل ممارسة هذا الحق.
  • ت‌- ممارسة المقاومة في إطار الاستراتيجية الوطنية وليس بشكل فصائلي، يمكن لحكومة الوحدة الوطنية في ظل عملية سياسية تفاوضية جادة أن تقرر شكل المقاومة السلمية الذي يدعم العملية السلمية.
  • ث‌- من حق القيادة الوطنية الجديدة وحدها تحديد شكل وطبيعة النضال، سياسيا كان كالعودة للمفاوضات، أو عسكريا كإعلان الحرب أو الانتفاضة، أو الدخول في اتفاقات تهدئة قصيرة المدى خلال فترة المفاوضات.
  • ج‌- عند قيام الدولة المستقلة يتم حل جميع الجماعات والكتائب المسلحة، ويتم دمج مَن يرغب من حَمَلة السلاح في القوات المسلحة الفلسطينية.
  • ح‌- إلى حين قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، يتم خضوع جميع الميليشيات والكتائب المسلحة لوزير داخلية حكومة الوحدة الوطنية، أو لمجلس جديد يسمى (الكفاح المسلح الفلسطيني) يتم تشكيله من كل فصائل منظمة التحرير الجديدة، ويُنسق مع وزير الداخلية.

6: الانتخابات   

  • أ‌- التأكيد على مبدأ الانتخابات كأهم مصادر الشرعية السياسية.
  • ب‌- قانون فلسطيني مرن للانتخابات يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الشتات الفلسطيني وخضوعه لسلطات غير فلسطينية.
  • ت‌- يمكن للتوافق أن يحل محل الانتخابات في حالة تعذرِ إجرائِها.

7:  الدولة الفلسطينية

  • أ‌- مع أن حل الدولتين فيه انتقاص من الحقوق التاريخية للفلسطينيين على كامل فلسطين، وحيث إن الظروف الدولية والعربية والمحلية لا تسمح بتحرير كامل فلسطين، ولأن العالم بدا أكثر قبولا بهذه الفكرة، كما أن كل القوى السياسية الفلسطينية لم تطرح رسميا تصورا أو حلا بديلا قابلا للتنفيذ. فإن حل الدولتين يبدو حلا يمكن التعامل معه حيث يتضمن فرصة قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة، بالرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه صيرورته واقعا، وخصوصا من طرف إسرائيل التي تواصل الاستيطان في أراضي الدولة المنشودة.
  • ب‌- حتى لا يتم توظيف الانقسام لإجهاض فرصة الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة وغزة على يد الفلسطينيين أنفسهم، ولأنه يبدو أن الانقسام والفصل الجغرافي سيطول، يمكن التفكير بدولة فلسطينية اتحادية (فدرالية) ما بين غزة والضفة بعد الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الضفة وقطاع غزة.
  • ت‌- في حالة إصرار إسرائيل على رفض قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة، يمكن التفكير بالعودة لمشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني كما تم تبنيها في الدورة الثامنة للمجلس الوطني عام 1971.
  • ث‌- رفض دولة غزة.
  • ج‌- رفض التقاسم الوظيفي في الضفة الغربية.

 ثانيا: التدويل في إطار استراتيجية وطنية شمولية

يعتبر تدويل القضية الوطنية أو الذهاب للأمم المتحدة أو الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام، أو أي من المسميات الشبيهة، جزءاً أو أداة من أدوات الاستراتيجية الوطنية المُشار إليها أعلاه وليس بديلا عنها.

1: مقاربة مفاهيمية وتأصيل تاريخي للتدويل

مع تعثر المفاوضات وانكشاف كوارث اتفاقية أوسلو وملحقاتها بعد اثنتين وعشرين سنة من قيام السلطة عادت القيادة الفلسطينية لتطالب باعتماد الشرعية الدولية أو تدويل القضية. مصطلح التدويل يعني بشكل عام أن تصبح القضية الفلسطينية سواء على مستوى مرجعية الحقوق السياسية الراهنة للشعب الفلسطيني، أو على مستوى آلية حل الصراع مع إسرائيل، محل اهتمام واختصاص الأمم المتحدة ومنظماتها وهيئاتها المتخصصة، وأن يكون النضال الوطني بكل أشكاله بما لا يتعارض معهما، وبالتالي الخروج من مربع المفاوضات الثنائية بين منظمة التحرير وإسرائيل في إطار اتفاقية أوسلو المحكومة بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين دون مرجعية دولية واضحة للمفاوضات ونتائجها.

التدويل بالمعنى المُشار إليه ليس بالأمر الجديد حيث كان للقضية في بدايتها هذا البعد الدولي من خلال وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني 1921 بقرار من عصبة الأمم، بل إن فلسطين بحدودها الحالية تشكلت في إطار اتفاقية سايكس–بيكو وتفاهمات الحرب العالمية الأولى، وإسرائيل قامت نتيجة قرار دولي وهو قرار التقسيم رقم 181 بتاريخ 29/11/1947، وهو نفس القرار الذي طالب بقيام دولة عربية ووضع القدس تحت الوصاية الدولية. بعد حرب 1948 مباشرة صدر قرار عودة اللاجئين القرار رقم 194 بتاريخ 11/12/1949. وبعد ذلك صدرت عشرات القرارات الدولية التي تعبر عن الاهتمام الدولي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وآخرها الاعتراف بفلسطين دولة مراقباً في الأمم المتحدة عام 2012 ورفع علم فلسطين على مقرات الأمم المتحدة 2015.

لا أحد يعارض اليوم التعامل مع الشرعية الدولية أو تدويل القضية، ولا أحد يعارض صدور قرار يعترف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس وعودة اللاجئين، ولكن كيفية إدارة هذا الملف الخطير هو الذي يثير الخوف. التعامل مع الشرعية الدولية أمر استراتيجي ومهم ويجب أن لا نلتفت كثيرا للخطاب السياسي الذي يتحدث عن انحياز الشرعية الدولية، ليس لأنها غير منحازة، بل لأن انحيازها هو الذي يفرض علينا دخول معتركها ومعركتها ومحاولة توظيفها لصالحنا أو على الأقل عدم السماح لها بإصدار قرارات تمس حقوقنا الوطنية.

لو تجاهلنا الشرعية الدولية فلن تتركنا بحالنا لأن قضيتنا والشرق الأوسط بشكل عام محل اهتمام عالمي ومن المناطق التي تؤثر على السلام العالمي. هنا نُذكر بأن الأمم المتحدة لم تأخذ إذنا من الفلسطينيين عندما أصدرت قراراتها العديدة، من قرار التقسيم لقرار عودة اللاجئين إلى قراري 242 و338، كما لم تأخذ إذنا من الشعب العراقي عندما صدر قرار يسمح بالتدخل العسكري في العراق، كما لم تأخذ إذنا من الشعب الليبي عندما صدر قرار الحظر الجوي على ليبيا والذي مهد لتدخل عسكري، ولم تأخذ إذنا من الشعب السوري عندما قررت التدخل في الشأن السوري.
كما تنبع أهمية تدويل القضية الفلسطينية من كون الصراع في المنطقة هو أطول صراع وتداعياته تؤثر ليس فقط على المنطقة بل على العالم بأسره، بالإضافة لتعدد الأطراف المشتبكة في هذا الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر، والأهم من ذلك صدور عشرات القرارات الدولية التي تصب في خدمة القضية الفلسطينية والتي ترفض إسرائيل تنفيذها.

2: الشرعية الدولية كجزء من الاستراتيجية الوطنية متعددة المسارات

المشكلة لا تكمن في نهج تدويل القضية والشرعية الدولية، ولا في نهج المفاوضات، ولا في نهج المقاومة، بل في غياب استراتيجية وطنية توفِّق بينها. وفي هذا السياق نؤكد على مسألتين ملتبستين:

1-عدم وضوح معنى تدويل القضية من الناحية الإجرائية، فهل المقصود بالتدويل:

  • جعل القضية الفلسطينية محل الاهتمام الدولي شعبيا ورسميا؟
  • صيرورة القرارات الدولية مصدرا للحقوق السياسية للفلسطينيين؟
  • الاستعداد الفلسطيني للالتزام بالشرعية الدولية وقراراتها؟
  • السعي للحصول على دولة فلسطينية مستقلة من خلال قرار دولي؟
  • إرسال قوات دولية مسلحة للفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟
  • إرسال مراقبين دوليين لنقاط التماس بين الفلسطينيين والإسرائيليين كما هو الأمر في مدينة الخليل؟
  • تدويل مدينة القدس والمسجد الأقصى؟
  • وضع الفلسطينيين تحت الحماية الدولية؟ وما المقصود بالحماية الدولية وهناك 12 حالة أو نموذجاً للحماية الدولية؟.

2  – عدم وجود توافق فلسطيني على تدويل القضية أو اعتماد قرارات الشرعية الدولية كمرجعية للحقوق السياسية الفلسطينية، بل ما زالت حركتا حماس والجهاد الإسلامي ترفضان مبدأ المفاوضات والتسوية السياسية على أساس قرارات الشرعية الدولية.

إن التعامل مع الشرعية الدولية يستدعي من القيادة وكل المكونات السياسية والاجتماعية الفلسطينية، عمل مراجعة استراتيجية شمولية، بعيدا عن المناكفات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة، لأن القضية الوطنية برمتها باتت على المحك، حتى يجوز القول بأننا أمام منعطف مصيري سيحدد إما أن تقوم الدولة الفلسطينية على كامل الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين، أو لا تقوم نهائيا ويتم الاستعاضة عنها بدولة قد تكون دويلة غزة، أو الأردن بعد امتداد (الفوضى الخلاقة) الأميركية إليه بمساعدة داعش.

المُستجد في مسالة تدويل القضية ليس فقط عودتها لأروقة واجتماعات الأمم المتحدة، بل حالة التأييد المتعاظمة للقضية الفلسطينية في الرأي العام العالمي، وتراجع مكانة إسرائيل دوليا، حيث أصبح جزء مهم من الرأي العام حتى داخل أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية يُحمِّل إسرائيل مسؤولية عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتعاظم العنف في المنطقة. تجلى هذا التحول في الرأي العام من خلال حملات مقاطعة بضائع المستوطنات ومقاطعة أكاديميين وجامعات إسرائيلية، وتقديم دعاوى لمحاكمة قادة إسرائيليين كمجرمي حرب الخ، والأهم من ذلك ضغط الرأي العام على الحكومات للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في دولة مستقلة.
القول بالسلام وخوض معترك الشرعية الدولية أو تدويل القضية جزء من أي عمل سياسي، لكن ذلك لا يعني التخلي عن عناصر القوة عند الشعب، القول بتدويل القضية لا يعني أن السلام سيتحقق غدا، والقبول بمبدأ التدويل لا يعني أن المنتظم الدولي سيُقدم للفلسطينيين حقوقهم على طبق من ذهب. إن كان لا بد من خوض معركة تدويل القضية فيجب الاستعداد لها استعداد من يذهب لمعركة، ومن يذهب لمعركة يحشد كل ممكنات القوة إن لم يكن لتحقيق مكتسبات فعلى الأقل لتقليل الخسائر.

الخلل لا يكمن في تدويل القضية والشرعية الدولية بحد ذاتهما، بل في أن بعض الفلسطينيين وضعوا جهود التدويل والسلام في حالة تعارض مع المقاومة، مما أضعف مشروع السلام الفلسطيني والقائلين به وأضعف نهج المقاومة والقائلين به؛ لأن كلاً منهما يحرم نفسه مما تتيحه خيارات الطرف الآخر. القائلون بالمقاومة كخيار وحيد يُضيٌعون على الشعب الفلسطيني فرص توظيف ما تتيحه الشرعية الدولية والقانون الدولي من ممكنات للاستفادة من حالة متنامية من التعاطف والتأييد لعدالة القضية، والقائلون بالسلام والمفاوضات بدون مرجعيات وهدف محل توافق وطني يٌضيٌعون على الشعب الفلسطيني إمكانية تحقيق سلام عادل من خلال تجاهل قوة الشعب.
إن موقفنا المؤيد لتدويل القضية الآن ضمن الشروط الوطنية المشار إليها، ينبع من تلمسنا وجود تحولات دولية شعبية ورسمية لصالح الشعب الفلسطيني يجب أن تُستثمر سياسيا. هناك استياء ورفض للممارسات الإرهابية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، ورفض لسياسة الاستيطان والمستوطنين، ومقاطعة لجامعات ومنتجات إسرائيلية، وهناك لجان تحقيق ودعاوى تتهم قادة إسرائيل بالإرهاب، واستطلاعات رأي في أوروبا تقول بأن إسرائيل مصدر تهديد للسلام في المنطقة، ومطالبات تتزايد بحق الشعب الفلسطيني بدولة خاصة بهم وحتى داخل أميركا هناك أصوات تتعالى وتحذر من أن الانحياز لإسرائيل يهدد المصالح القومية الأميركية، بالإضافة لكل ذلك هناك تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وتزايد أعداد الفلسطينيين بالنسبة للإسرائيليين الخ.
هذه متغيرات يجب أن نلحظها جيدا بالرغم من الوضع الفلسطيني الداخلي الذي قد يشوه الصورة. ليس مهما إن كانت هذه المتغيرات بسبب تمسك الرئيس أبو مازن بخيار السلام مما أحرج إسرائيل أمام العالم، أو بسبب المقاومة والصمود، أو بسبب الجرائم الصهيونية التي صدمت العالم أو بسبب كل ذلك، المهم أن هناك متغيرات يجب أن تُستثمر سياسيا بإنجازات على أرض الواقع، هذه المتغيرات تحتاج لقيادة سياسية تتواصل مع العالم وتطرح تصورا ورؤية سياسية لكيفية التعامل مع القضية دوليا وكيفية تعظيم هذه المتغيرات والمكتسبات، حتى لو زعمت حركات مقاومة أن الفضل بحدوث هذه المتغيرات تعود لأعمال المقاومة، يبقى السؤال كيف نحصد ما زرعته المقاومة وصمود الشعب؟.

خاتمة:-

إن لم يتم تدارك الأمر بالاتفاق على برنامج واستراتيجية وطنية، كمرجعية لعمل النظام السياسي الفلسطيني في ظل المتغيرات العربية والدولية المفتوحة على كل الاحتمالات، فستستمر القضية الفلسطينية في حالة تيه وسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك. حركة فتح ومنظمة التحرير لن تبقيا موحدتين وستسيران نحو مزيد من التآكل والتخبط، وكذا الحال مع السلطة الوطنية التي ستتحول لجابي ضرائب ومقَدِم خدمات تسيير الحياة اليومية للمواطنين وتنسق أمنياً مع الاحتلال، وهي أمور يُفترض أنها من مهام ومسؤولية دولة الاحتلال، دون أي مضمون وطني تحرري. وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار وفقدان الشعبية والتحول إلى حكم شمولي استبدادي كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالتهدئة، وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحو نحو التطرف.

بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية أفضل، وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين، إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية.

التخوفات الأكثر مأساوية، فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا دولة لقطاع غزة تؤدي لحرب أهلية حول السلطة والحكم. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية ولو على جزء منها، ولذا فستعمل على خلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع، كما سبق وهيأت المناخ لـ(الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في حزيران (يونيو) 2007. حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة: حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة.

سكوت إسرائيل عن حكم حماس في قطاع غزة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا. عندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام وسيطرت على الضفة سيطرة كاملة وأنهت وجود السلطة كسلطة وطنية حقيقية، فستنقل إسرائيل المعركة لقطاع غزة، وهناك نخب، من داخل ومن خارج حركة حماس، تراودها شهوة حكم غزة بمعزل عن المشروع الوطني، بل على حسابه، وهي مستعدة للقتال والقتل دفاعا عن مصالحها وشهوتها في السلطة أو خدمة لأجندة خارجية.

 الهوامش:-

[*] أستاذ العلوم السياسية، جامعة الأزهر- غزة.

[1] – تم اغتيال إسحق رابين يوم الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 خلال مهرجان خطابي مؤيّد للسلام في تل أبيب على يد المتطرف اليهودي إيجال أمير. وكانت عملية الاغتيال مؤشرا على رفض المجتمع الصهيوني للسلام، حيث اعتبر اليمين الإسرائيلي إيجال أمير بطلا قوميا.

[2] – مشروع السلام الفلسطيني الذي نتج عن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 1988 كان يتحدث عن تسوية سياسية تعتمد كل قرارات الشرعية الدولية ومن خلال مؤتمر دولي للسلام، إلا أن واشنطن ضغطت على منظمة التحرير والدول العربية لتكون عملية التسوية على أساس قراري 242 و338 مما يعني تجاهل أصل الصراع وتجاهل قراري التقسيم 181 وحق العودة 194، كذلك فرضت أن يكون مؤتمر مدريد تحت عنوان (مؤتمر مدريد للسلام) وليس مؤتمرا دوليا للسلام مما أسقط البعد الدولي عن المؤتمر ونتائجه.

[3] – نجحت واشنطن وتل أبيب في مؤتمر مدريد بفرض المسارات المتعددة للمفاوضات، وهذا أدى لأن تنفرد إسرائيل بالفلسطينيين، وإلغاء البعد القومي للقضية الفلسطينية، مما جعل من السهل على تل أبيب وواشنطن إدارة الصراع بشكل منفرد مع كل طرف عربي دخل في عملية المفاوضات.

[4] -فمن المعلوم أنه منذ أن قبلت قيادة م.ت.ف التعامل مع مسلسل السلام الأميركي، ارتفعت أصوات عديدة تندد بهذا الموقف وتحذر المنظمة من التصرف في حقوق هي ملك لكل الشعب الفلسطيني عبر الأجيال. كانت أشد هذه الأصوات معارضة هي حركة حماس (الإسلامية) التي لم تقتصر في معارضتها لنهج المنظمة على المواقف السياسية المعلنة بل تجاوزت ذلك إلى التشكيك بتمثيلية م.ت.ف للشعب الفلسطيني وطرحت نفسها بديلا لها.

[5] – مباشرة بعد توقيع اتفاق أوسلو عقدت الأردن وإسرائيل اتفاقية وادي عربة 1994، ثم بدأت مفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وبعدها تبادلت إسرائيل التمثيل الدبلوماسي مع عدة دول عربية مغاربية وخليجية.

[6] – كل الأدبيات الرسمية لمنظمة التحرير كانت تؤكد أن الفلسطينيين طليعة الأمة العربية في معركة التحرير، ولم يقولوا أنهم وحدهم سيحررون فلسطين.

[7] – يجب عدم التقليل من نتائج توقيع اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من ساحة المواجهة. فعندما تعترف مصر أكبر دولة عربية بإسرائيل وتلتزم بعدم الدخول في أي مواجهات معها أو المشاركة في أي تحالفات ضدها، فهذا معناه قطع الطريق على أية إمكانية لحرب عربية ضد إسرائيل.

[8] – لم يكن الموقف الرسمي الفلسطيني من حرب الخليج الثانية مؤيدا لاحتلال العراق للكويت كما زعمت بعض الدول، بل حاول أبو عمار أن يؤجل أي تدخل عسكري أميركي في المنطقة ومنح مزيد من الوقت للوساطات العربية، ولكن يبدو أنه كان مطلوباً رأس منظمة التحرير، ولذلك باشرت دول الخليج ودول أخرى عملية قطع المساعدات عن منظمة التحرير ومحاصرتها بل وتشويهها سياسيا.

[9] – لم يكن الهدف من إثارة ملف الفساد وتضخيمه إصلاح السلطة، بل تصفية الظاهرة العرفاتية وتشويه السلطة واصطناع خلافات فلسطينية داخلية بهدف إلهاء الفلسطينيين بها بدلا من التفرغ لمواجهة إسرائيل.

[10] – أصبحت رواتب السلطة التي يتقاضاها عشرات الآلاف من الفلسطينيين كاللعنة على الفلسطينيين، لأنها قيدت حركتهم وقدرتهم على الانتقاد والتمرد على الوضع القائم خوفا من قطع الراتب الذي يُعيل عائلاتهم. وقد انتقلت لعنة الراتب إلى حركة حماس وحكومتها في قطاع غزة، حيث يتحول المجاهدون والمرابطون تدريجيا إلى موظفين ينتظرون راتبا إما من السلطة أو من جهات خارجية.

[11] – في استطلاع نفذه معهد العالم العربي للبحوث والتنمية “أوراد” ما بين 21-23 تشرين الأول (أكتوبر) 2015 صرح 64% بأنهم يؤيدون إلغاء اتفاقية أوسلو.

[12] – يمكن الرجوع إلى: إبراهيم أبراش، الحاجة لاستراتيجية فلسطينية متعددة المسارات، دورية سياسات، العدد 23، رام الله، 2013.

[13] – إبراهيم أبراش، المشاركة السياسية في منظمة التحرير على قاعدة الالتزام بالوطنية الفلسطينية: استلهام تجربة الولادة الثانية للمنظمة 1968، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 253-254.

[14] – في الفترة الأخيرة أصبح بعض مستشاري الرئيس يتجاوزون صلاحياتهم ويصرحون بتصريحات لها علاقة بالسياسات العامة والعمل الوطني والعلاقات الخارجية للسلطة، مما يعتبر تعديا على صلاحيات منظمة التحرير والحكومة، وخصوصا أن هؤلاء من خارج منظمة التحرير وفصائلها الوطنية.

[15] – بسبب الانقسام وضعف السلطة الوطنية في القيام بمهامها الرقابية والعقابية، عاد الفساد مجددا وبشكل كبير في كل نواحي المجتمع والمؤسسات الرسمية في الضفة وغزة.

يمكن الرجوع لمقالنا حول الموضوع: (الانقسام لا يبرر الفساد ولا يُسقط المسؤولية)،       http://www.palnation.org/vb/showthread.php?t=876