
[*] إبراهيم أبراش
بعد مرور أكثر من عقدين على توقيع اتفاق أوسلو والمعروف رسميا باسم "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي" يوم 13 من أيلول (سبتمبر) 1993 وملحقاته، فإن حالة من الغموض واللُبس تكتنف الحالة السياسية الفلسطينية الرسمية ما بعد أوسلو وقيام السلطة، سواء من حيث طبيعة النظام السياسي ومكوناته ووظائفه، أو من حيث طبيعة العلاقة التي تربط الفلسطينيين بالإسرائيليين، خصوصا بعد تعثر المفاوضات ثم وقفها عام 2010.
إن أي تقييم أو مراجعة للاتفاقات الموقعة يجب ألا تقف عند تحليل مضمون هذه الاتفاقيات فقط، فلا شك أن تحليل الاتفاقات وملابسات توقيعها من خلال الرجوع للبيئة السياسية المُصاحبة لتوقيع الاتفاقات أمر مهم، إلا أن المحك العملي للحكم الحقيقي على أي اتفاقات أو معاهدات يكون من خلال التعرف على نتائجها على أرض الواقع في القضايا التي تصدت الاتفاقات لمعالجتها.
الواقع الفلسطيني الراهن في جزء كبير منه هو نتيجة لعدة اتفاقات تتوالد إحداها من الأخرى، كالدمى الروسية، وكل اتفاقية منها استطاعت إسرائيل توظيفها لفرض وقائع على الأرض لا تتطابق مع نصوصها. استمرار المماطلة الإسرائيلية والتي تجلت في مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي انطلقت في العشرين من تموز (يوليو) 2000 ثم في شرم الشيخ وطابا حيث وصلت إلى طريق مسدود، أدى إلى تفجر الأوضاع مع وصول شارون للحكم، ثم اغتيال أبو عمار، وانسحاب إسرائيل من طرف واحد من غزة، وسيطرة حماس على القطاع لاحقا، وأخيرا توقف المفاوضات 2010 وبداية البحث عن خيارات بديلة للاتفاقات الموقعة.
إشكالية البحث تدور حول التساؤلات التالية: هل ما زالت العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين محكومة بهذه الاتفاقيات؟ أم أن إسرائيل فرضت واقعا على الأرض يتجاوز كل الاتفاقات الموقعة؟. والغموض الأكبر يخص البدائل المتاحة أمام الفلسطينيين للخروج من تبعات أوسلو، وسبب التردد الرسمي الفلسطيني في اتخاذ خطوات عملية جريئة، إما باتجاه الانتقال فعليا نحو الدولة ووضع حد لاتفاقية أوسلو وملحقاتها وما أفرزت من وقائع ميدانية، أو العودة لمرحلة التحرر الوطني بجعل العلاقة التي تربط الفلسطينيين بإسرائيل علاقة شعب خاضع للاحتلال بدولة احتلال.
مقاربة التساؤلات أعلاه تتطلب بداية قراءة موضوعية للاتفاقات الموقعة مع إسرائيل من حيث نتائجها، أو تقييم مرحلة أوسلو، لمعرفة ملابسات توقيع اتفاقات التسوية وحقيقة الموقف الإسرائيلي من وراء دخول عملية التسوية، وهل أن السلوك الإسرائيلي الحالي يُعتبر خرقا لنصوص الاتفاقية ومتعارضا مع منطلقات التسوية؟ أم سلوكاً منسجماً مع الرؤية الإسرائيلية الأولى للتسوية ومع قراءة إسرائيلية لنصوص الاتفاقات الموقعة وهي نصوص على درجة من الغموض ما أتاح لإسرائيل تفسيرها بما يحلو لها؟، أيضا أين أخطأ الفلسطينيون سواء في توقيع الاتفاقية أو في كيفية تعاملهم مع التطبيق؟ وهل كان للفلسطينيين –السلطة والمعارضة- دور فيما وصلت إليه الأمور من انغلاق أفق التسوية؟.
سنحاول مقاربة هذه الإشكالات من خلال المحاور الثلاثة الآتية:
المحور الأول: اتفاقية أوسلو وتوابعها: مراهنات متعارضة.
المحور الثاني: هل فشلت التسوية بالفعل؟ وهل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه؟
المحور الثالث: الخيارات الوطنية البديلة.
المحور الأول:-
اتفاقية أوسلو وتوابعها: مراهنات متعارضة
لم يكن الدخول بعملية التسوية تعبيرا عن قناعة حقيقية لمختلف الأطراف بالتوصل للسلام، فما جرى كان مشروعا لتسوية سياسية وليس سلاما، وإن كان البعض يأمل أن تؤدي العملية في نهاية المطاف إلى سلام. كان لكل طرف –الفلسطينيين والإسرائيليين– مبرراته وأهدافه الخاصة، وإن كنا نعتقد أن الرغبة الفلسطينية بالسلام كانت حاضرة أكثر مما هي عند الإسرائيليين وخصوصا لدى الرئيس أبو عمار وحركة فتح. ربما كان رئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين جادا في التوصل إلى صيغة ما لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي إلا أن المجتمع الإسرائيلي لم يكن مهيئا للسلام الحقيقي.[1]
أولا: المراهنة الإسرائيلية من وراء توقيع اتفاقية أوسلو
ما آلت إليه أمور التسوية التي انطلقت مع اتفاق أوسلو تؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية لم تكونا جادتين في التوصل إلى سلام يقوم على أساس تمكين الفلسطينيين من دولة مستقلة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، بل كانت لهما منطلقات وأهداف مغايرة وهي:
ثانيا: المراهنة الفلسطينية
في تقييمنا للموقف الرسمي الفلسطيني من عملية التسوية وللاتفاقات الموقعة مع إسرائيل يجب التفريق بين مرحلتين أو نوعين من التقييم، الأول تقييم موقف منظمة التحرير من الدخول بعملية التسوية، وما إن كان الدخول بعملية التسوية والتوقيع على الاتفاقات الموقعة أمراً صائباً أم لا؟ والتقييم الثاني لآلية إدارة المفاوضات قُبَيل التوقيع على الاتفاقية، والممارسة الفلسطينية مع الاتفاقات الموقعة وكيفية تصرُف السلطة والمعارضة بعد التوقيع على الاتفاقات.
1- بالنسبة لملابسات التوقيع على اتفاقات التسوية
كما سبق الذكر لم يكن ولوج منظمة التحرير لعملية التسوية خيارا مريحا أو تتويجا لانتصارات حاسمة، بل كان ممرا إجباريا أو محاولة لوقف الانهيار والتراجع الذي أصاب القضية الفلسطينية بسبب الاختلال في النظامين العربي والدولي مما أثر سلبا على القضية الفلسطينية. ذلك أن المشروع الوطني كما تمت صياغته في الميثاق الوطني وفي أدبيات فصائل منظمة التحرير كان متأثرا ومعبرا عن طبيعة مرحلة الستينات، من حيث وجود حالة وطنية صاعدة ومد قومي ثوري عربي ووجود معسكر اشتراكي ومنظومة دول عدم الانحياز. عليه كان المشروع الوطني الأول سواء من حيث الهدف –تحرير كل فلسطين– أو وسيلة تحقيقه– الكفاح المسلح– محصلة مشاريع في مشروع واحد: المشروع الوطني، والمشروع القومي العربي، والمشروع التحرري العالمي، وكانت مراهنة الفلسطينيين على الحلفاء أكثر من مراهنتهم على أنفسهم.[6]
ما بين تأسيس المشروع الوطني مع منظمة التحرير وتوقيع اتفاقات التسوية مع إسرائيل حدثت انهيارات زعزعت مرتكزات ومكونات المشروع الوطني من أهمها:-
كل ذلك أضعف من قوة الثورة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل عسكريا، وبقي الفلسطينيون وحيدين في الميدان، الأمر الذي كشف الهوة الواسعة بين أهداف المشروع الوطني الأول والممكنات الفلسطينية، وكان مطلوباً تدفيع الثورة الفلسطينية الثمن على سياسات وممارسات لم تكن خاطئة تماما بقدر ما كانت محصلة لتحالفات وتوازنات تلك المرحلة. حاولت القيادة الفلسطينية التكيف مع هذه الاختلالات مع الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني من خلال نهج الواقعية السياسية وإعادة النظر في أهداف النضال الفلسطيني وطرق تحقيقها.[8]
لا نعتقد أن القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة ارتكبت أخطاء استراتيجية كبيرة كان عدم ارتكابها سيغير من مسار الأحداث بشكل جذري، فما جرى كان نتيجة متغيرات عربية ودولية وليس نتيجة تقصير فلسطيني. إلا أن ذلك لا يمنع من القول بوجود خلل وأوجه تقصير في الجانب الفلسطيني جعلت قدرة النظام السياسي الفلسطيني ضعيفة في مواجهة المتغيرات المحيطة به، مثل تغلغل المال السياسي مما أوجد أشكالا من الفساد، وغياب المحاسبة للفاسدين، وترهل بنية الفصائل، بالإضافة إلى عدم حدوث مراجعات استراتيجية بعد كل أزمة مرت بها الثورة الفلسطينية. ومع ذلك كانت لتلك المرحلة حصيلة مهمة وهي استنهاض الحالة الوطنية والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974 والاعتراف بها مراقبا في الأمم المتحدة.
2- خلل في عملية المفاوضات وفي إدارة السلطة ما بعد توقيع اتفاقات التسوية
في الوقت الذي كان فيه فريق فلسطيني من الداخل بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي يقود مفاوضات علنية كانت منظمة التحرير تجري مفاوضات سرية في أوسلو، كان مهندساها محمود عباس وأحمد قريع مع عدد محدود من السياسيين. تحركت القيادة بسرعة لتلوِّح للأميركيين والإسرائيليين بالاستعداد لتقديم تنازلات كان من الصعب على فلسطينيي الداخل تقديمها، ومن جانب آخر كانت واشنطن وإسرائيل تريدان أن تكون منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هي الجهة التي توقع على أية اتفاقية تسوية سواء لإنهاء الصراع أو تغيير طبيعته ونهج إدارته.
لم يكن الخلل في سرية المفاوضات فقط، بل أيضا في تفرد أشخاص معينين بعملية المفاوضات، وفي البحث بقضايا مصيرية دون توافق فلسطيني حتى داخل منظمة التحرير، بل حتى داخل حركة فتح نفسها، ودون خبرة لهؤلاء بكثير من الملفات التي تم التفاوض عليها. بينما كان الوفد الإسرائيلي مدعوما بلجان متخصصة في كل المجالات. الأمر الذي أنتج اتفاقية أوسلو ولواحقها بصياغات مبهمة وتقبل أكثر من تفسير وغالبا ما كانت إسرائيل تفسرها لصالحها لأنه كان لها اليد الطولى في وضع هذه النصوص.
فبسبب سرية المفاوضات والخوف من تهميش المنظمة أُسنِد أمر المفاوضات لسياسيين من حركة فتح وقلة من خارجها، وغالبية هؤلاء كانوا يعيشون خارج فلسطين وليس لهم أية خبرة أو معلومات حول جغرافيا الأراضي المحتلة وأسماء المناطق والقرى، وتجمعات المياه الجوفية الخ، وقد تسربت بعض المعلومات المثيرة للسخرية والألم معا، تدل على الجهل الكبير لهؤلاء السياسيين بالأمور التي كانوا يتفاوضون عليها، كعدم التمييز بين مدينة أريحا ومنطقة أريحا، أو الفرق بين المواصي والنواصي الخ، مع حسن نية في تعاملهم مع الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون في فلسطين ويملكون الجغرافيا ويعرفون كل صغيرة وكبيرة من جغرافيا فلسطين ما فوق الأرض وما تحتها.
ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو سادت حالة من الإرباك وعدم الوضوح في كيفية التصرف والتعامل مع الواقع الجديد في ظل وجود سلطة فلسطينية وما عليها من استحقاقات بمقتضى الاتفاقات الموقعة. كانت أهم مظاهر هذا الإرباك انقسام الساحة الفلسطينية انقساما حادا فهناك من يؤيد عملية التسوية ويراهن عليها كفرصة ومنعطف مصيري يمكن المراهنة عليها للوصول للدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا الطرف الفلسطيني تعامل مع اتفاقات الحكم الذاتي المؤقت أو ترتيبات المرحلة الانتقالية وكأنها اتفاقات سلام، الأمر الذي دفع بكثير من الفلسطينيين والعرب إلى التعامل مع إسرائيل وكأنها شريك سلام والتعامل مع الصراع برمته وكأنه حُسم وأصبح من مخلفات الماضي.
في المقابل رفض آخرون –حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى وشخصيات من داخل منظمة التحرير- هذه المراهنة واعتبروا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وقيام السلطة الفلسطينية خروجا عن الثوابت الوطنية ونهجا استسلاميا، ولم يقتصر الأمر على خلافات سياسية ونظرية، بل تعدى ذلك إلى ما يشبه الانشقاق داخل منظمة التحرير وتشكيل جبهة وطنية معارضة لـ(نهج أوسلو)، وقيام قوى المعارضة وخصوصا حركة حماس بعمليات عسكرية في عمق إسرائيل في أوقات دقيقة كانت تمر فيها المفاوضات.
بالإضافة إلى التحديات التي واجهت السلطة من معارضيها فقد ظهرت أشكال من الفساد وسوء الإدارة في السلطة فاقمت من مشاكلها. صحيح أنه لم يكن فسادا كبيرا، إلا أن واشنطن والغرب وظفوا الحديث عن فساد السلطة للتضييق على الرئيس أبو عمار وإجباره على إدخال تعديلات دستورية تحد من صلاحياته.[9]
بشكل عام يمكن الإشارة إلى أوجه الخلل في التعامل الفلسطيني الرسمي مع عملية التسوية ومرحلة ما بعد أوسلو، وهي تتراوح ما بين الأخطاء الاستراتيجية، والخلل في الإدارة، وعدم وضوح الرؤية والموقف:
المحور الثاني:-
هل فشلت التسوية بالفعل؟ وهل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه؟
بالرغم من كل التصريحات والمؤشرات التي تقول بأن مشروع التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والذي مر عليه حوالي 22 عاماً قد فشل أو وصل لطريق مسدود، إلا أن الوقائع على الأرض التي أوجدتها الاتفاقات الموقعة ما زالت تفرض وجودها من خلال قيام إسرائيل بممارسات وفرض وقائع تتجاوز الاتفاقات الموقعة، كبناء جدار الفصل واستمرار الاستيطان وتغيير الوضع القائم في القدس والمسجد الأقصى والانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة والمحاولات الجارية للتوصل لهدنة في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الخ، بالإضافة إلى الجدل الدائر في الأوساط الفلسطينية عما إن كان من المصلحة الوطنية إنهاء السلطة الفلسطينية وما يرتبط بها من تنسيق أمني، أم الحفاظ عليها لأنها أوجدت مكتسبات يجب الحفاظ عليها، كالمؤسسات والإدارات، وشبكة علاقات دولية الخ، قد تساعد في مرحلة بناء الدولة.
كل ذلك يضع تحديات أمام العودة إلى ما قبل توقيع الاتفاقات أو التملص منها بشكل نهائي وخصوصا في ظل استمرار حالة الانقسام، وبالتالي يصبح الحديث عن فشل اتفاقات التسوية أو تجاهل تداعياتها أمرا صعبا، لتباين مفهوم الفشل والنجاح عند كل طرف من طرفي التسوية.
إن أي حديث عن الفشل والنجاح يبقى نسبيا نظرا للأسباب المُشار إليها ولعدم وجود مشاريع تسوية سياسية بديلة، ولأن القول بفشل التسوية قد يكون صحيحا بالنسبة للفلسطينيين ولكنه ليس كذلك بالنسبة للطرف الثاني. الولايات المتحدة وإسرائيل لم تكونا راغبتين بالفعل في إنجاز تسوية تؤسس لسلام عادل يلبي الحقوق الوطنية الفلسطينية -دولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية مع إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين-. وعليه فإن الفشل من وجهة نظر الفلسطينيين يعني عدم تحقق هذا الهدف، مع أن هذا الهدف لم يتم ذكره في أي من الاتفاقات الموقعة ولم تلتزم إسرائيل أو واشنطن في يوم من الأيام بتحقيقه أو وعدتا به.
سواء أسميناه فشلاً أم تعثراً أم إدارة مغايرة للصراع، فإن تحديات كبيرة تواجه عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل انطلاق مسلسل التسوية، لأن واشنطن وتل أبيب أخذتا في الحسبان بداية أن الفلسطينيين سيكتشفون حقيقة ما يحاك لقضيتهم الوطنية تحت شعار التسوية، وبالتالي قد يرتدون عنها، وعليه خلقت واشنطن وإسرائيل وقائع ومناخاً سياسياً لقطع طريق العودة، كما يلي:
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن القوى المتحكمة بمسار عملية التسوية لن تعلن عن فشلها بشكل نهائي، حتى منظمة التحرير لن تُقدِم على ذلك. وعليه، فإن ما يجري، حتى وإن بدا خارج سياق التسوية فهو جزء من عملية إعادة صياغة التسوية حسب الرؤية الأميركية والإسرائيلية، أو فلنقل بأن التسوية أصبحت كالحرباء تغير مصطلحاتها وأسسها حسب تغير الظروف والأحوال وحسب الديناميكيات التي تولدها التسوية نفسها.
ما جرى ويجري منذ الخروج من غزة عام 2005 والحصار ثم الانقلاب فالتهدئة، كل ذلك جزء من تسوية خفية وغير مُعلن عنها رسميا، إنها نتاج لمخطط تم الاشتغال عليه لتغيير طبيعة التسوية والالتفاف على الحقوق الوطنية. وعليه يمكن القول إن الهدنة القائمة بين إسرائيل وحركة حماس لا تندرج ضمن استراتيجية المقاومة أو بديلا للتسوية والمفاوضات، بل ستصبح جزءاً منها أو من التحويرات التي طرأت عليها، وإسرائيل راغبة في الهدنة ليس خوفاً من الصواريخ المنطلقة من غزة، بل تريد الهدنة لأنها ستؤدي لتكريس القطيعة ما بين الضفة والقطاع وإضفاء شرعية على حكومة الأمر الواقع في غزة، وكل ذلك يجعل نجاح التسوية والمفاوضات على ما تبقى من الضفة أيسر منالاً من وجهة النظر الإسرائيلية.
أخشى ما نخشاه أن تؤول الأمور في قطاع غزة إلى (دولة) أو كيان سياسي تحت عنوان الدولة ذات الحدود المؤقتة، ويُترَك مصير الضفة لمفاوضات عبثية ستتفرغ خلالها إسرائيل لمزيد من الاستيطان، وسيتم تجريد السلطة هناك من أية مهام سياسية ووطنية، وتقتصر مهامها على تقديم الخدمات البلدية والحياتية للمواطنين، وبمهام الأمن الداخلي المحدود بالتنسيق مع الإسرائيليين والأميركيين، وقد تعمل إسرائيل على إنهاء السلطة الفلسطينية في الضفة وتوجيه الأمور إلى قطاع غزة لتستعر حربا أهلية بين مكونات النظام السياسي حول مَن يحكم قطاع غزة.
المحور الثالث:-
البدائل الوطنية المتاحة
كرد على تعثر المفاوضات 2010، روجت منظمة التحرير وعلى لسان الرئيس أبو مازن، خطابا مفاده أن لديها خيارات متعددة لمواجهة إسرائيل والرد على عدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة، بل تحدثت القيادة عن سبعة خيارات تبدأ بالذهاب إلى الأمم المتحدة وتنتهي بتسليم المفاتيح وتحميل إسرائيل كدولة احتلال المسؤولية عن الأراضي الفلسطينية، وقد لمح الرئيس أبو مازن في خطابه في الأمم المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) 2015 إلى تعثر عملية التسوية وعدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة، والاستعداد الفلسطيني لتجاوزها إن لم يتم تدارك الأمر بسرعة.
منذ ذلك التاريخ يجري حراك سياسي واسع يتراوح ما بين التحرر من قيود الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل والبحث عن بدائل وطنية، أو تعديل مسار المفاوضات وشروطها دون إلغاء الاتفاقات الموقعة. بسبب الانقسام وبالرغم من عدم التوصل لتوافق فلسطيني حول أسلوب التعامل مع إسرائيل بل والاختلاف حول الانتفاضة الراهنة، وبالرغم من تعثر اتفاقات المصالحة الموقَّعة، إلا أن قناعة أخذت تتزايد بضرورة الاعتماد على الذات الفلسطينية وضرورة إيجاد قواسم مشتركة في إطار استراتيجية وطنية متعددة المسارات.
البديل الوطني الفلسطيني يجب أن يكون في إطار استراتيجية وطنية متعددة المسارات، مسار إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني أو البيت الفلسطيني داخليا، ومسار تدويل القضية بما لا ينتقص من الحقوق الوطنية.
أولا: ضرورة التوصل لاستراتيجية وطنية تتجاوز قيود أوسلو وواقع الانقسام
العمل السياسي الفلسطيني ومنذ التعاطي مع عملية التسوية السياسية يشتغل بدون استراتيجية واضحة المعالم، الأمر الذي أدى إلى حالة التيه السياسي المعممة، من المواطن العادي حتى المسؤول والقيادي، من السلطة وفصائل منظمة التحرير إلى حركة حماس، وأصبحت البوصلة السياسية بلا اتجاه عند الجميع ولم يعد بالإمكان إخفاء الحقيقة، وخصوصا بعد انقلاب حماس على السلطة ومنظمة التحرير في حزيران (يونيو) 2007.
حالة التيه نلمسها عند السلطة ومنظمة التحرير بكل فصائلها، من خلال حالة الحيرة والتخبط ما بين العودة للمفاوضات على أساس الاتفاقات الموقعة أو تغيير مسار العملية السلمية بما يتوافق مع مستجد الاعتراف بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة، ونلمسها في التضارب ما بين الحديث عن مقاومة شعبية وانتفاضة ثالثة من جانب، والخشية من أن تؤدي الانتفاضة إلى فقدان السيطرة في الضفة أو توظيف حركة حماس للانتفاضة للانقضاض على السلطة من جانب آخر، ونلمسه في التضارب ما بين الرغبة في مصالحة تعيد الاعتبار للشعب الفلسطيني وللمشروع الوطني من جهة، والخشية من مصالحة قد تثير عليها إسرائيل وواشنطن من جهة أخرى.
ولأن كل القوى السياسية والمجتمعية باتت تعترف بأن ما هو موجود مرفوض، أو على الأقل لا يلبي الحد الأدنى من متطلبات استنهاض الحالة الوطنية، ومواجهة تحديات فشل الاتفاقات الموقعة، واحتمال سقوط السلطة الفلسطينية.[11] وتعترف بوجود خلل في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، وضرورة التحرر من قيودها، وهو ما طالب به المجلس المركزي لمنظمة التحرير في اجتماعه يومي الرابع والخامس من آذار (مارس) 2015، وأكدت عليه اللجنة التنفيذية للمنظمة في اجتماعاتها اللاحقة، فإن الأمر يتطلب وجود استراتيجية وطنية أو برنامج وطني جديد.
الاستراتيجية المطلوبة لا تغرق بالمشاكل الآنية بل تتعامل مع جذورها ومسبباتها الحقيقية. والاستراتيجية رؤية وتخطيط ومنهج في العمل تحيط بكل المصالح الوطنية وما يهددها من مخاطر، تربط الحاضر بالماضي وتستشرف المستقبل، تنطلق من رؤية علمية للواقع بكل مكوناته وتشابكاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، محليا ودوليا. إنها فن التوفيق بين الإمكانات الوطنية بكل مكوناتها من جانب والأهداف من جانب آخر. هذه الاستراتيجية هي الأساس الذي تقوم عليه سياسات الدول والكيانات السياسية العقلانية. الاستراتيجية تؤسَس على المصلحة الوطنية العليا أو ثوابت الأمة التي هي محل توافق وطني ولا تخضع لألاعيب السياسيين ومناوراتهم.[12]
أهم مكونات استراتيجية حركات التحرر الوطني هو توافق أغلبية الشعب والكيانات السياسية على الأهداف الوطنية وعلى الوسائل أو الأدوات التي تضمن تحقيقها، ودائما يرتبط نجاح أو فشل الاستراتيجية ليس باختلال موازين القوى مع العدو بل بمدى وجود مؤسسة قيادة قادرة على تعبئة الشعب وحشده حول برنامجها الوطني، وفي وجود وحدة وطنية.
لأن الاستراتيجية ملزِمة للكل الوطني فإنها تستهدف كل مكونات النظام السياسي من الرئاسة حتى الأحزاب. ونظرا لأن مكونات النظام السياسي جزء من الأزمة بل سبب رئيس لها، فهي غير مؤهلة وحدها لوضع هذه الاستراتيجية، لذا فالبرنامج الذي نقترح يجب أن يُعتمد من خلال مؤتمر شعبي عام إن أمكن، وإلا من خلال لجنة تفعيل منظمة التحرير أو ما يُطلق عليها (الإطار القيادي المؤقت) كما سنوضح.
1: آلية التوصل للاستراتيجية الوطنية الشمولية
2: المرتكزات الأساسية والعلاقات التفاعلية داخل الاستراتيجية الوطنية
3: العلاقات الخارجية
4: قضية اللاجئين
5: المقاومة
6: الانتخابات
7: الدولة الفلسطينية
ثانيا: التدويل في إطار استراتيجية وطنية شمولية
يعتبر تدويل القضية الوطنية أو الذهاب للأمم المتحدة أو الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام، أو أي من المسميات الشبيهة، جزءاً أو أداة من أدوات الاستراتيجية الوطنية المُشار إليها أعلاه وليس بديلا عنها.
1: مقاربة مفاهيمية وتأصيل تاريخي للتدويل
مع تعثر المفاوضات وانكشاف كوارث اتفاقية أوسلو وملحقاتها بعد اثنتين وعشرين سنة من قيام السلطة عادت القيادة الفلسطينية لتطالب باعتماد الشرعية الدولية أو تدويل القضية. مصطلح التدويل يعني بشكل عام أن تصبح القضية الفلسطينية سواء على مستوى مرجعية الحقوق السياسية الراهنة للشعب الفلسطيني، أو على مستوى آلية حل الصراع مع إسرائيل، محل اهتمام واختصاص الأمم المتحدة ومنظماتها وهيئاتها المتخصصة، وأن يكون النضال الوطني بكل أشكاله بما لا يتعارض معهما، وبالتالي الخروج من مربع المفاوضات الثنائية بين منظمة التحرير وإسرائيل في إطار اتفاقية أوسلو المحكومة بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين دون مرجعية دولية واضحة للمفاوضات ونتائجها.
التدويل بالمعنى المُشار إليه ليس بالأمر الجديد حيث كان للقضية في بدايتها هذا البعد الدولي من خلال وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني 1921 بقرار من عصبة الأمم، بل إن فلسطين بحدودها الحالية تشكلت في إطار اتفاقية سايكس–بيكو وتفاهمات الحرب العالمية الأولى، وإسرائيل قامت نتيجة قرار دولي وهو قرار التقسيم رقم 181 بتاريخ 29/11/1947، وهو نفس القرار الذي طالب بقيام دولة عربية ووضع القدس تحت الوصاية الدولية. بعد حرب 1948 مباشرة صدر قرار عودة اللاجئين القرار رقم 194 بتاريخ 11/12/1949. وبعد ذلك صدرت عشرات القرارات الدولية التي تعبر عن الاهتمام الدولي بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وآخرها الاعتراف بفلسطين دولة مراقباً في الأمم المتحدة عام 2012 ورفع علم فلسطين على مقرات الأمم المتحدة 2015.
لا أحد يعارض اليوم التعامل مع الشرعية الدولية أو تدويل القضية، ولا أحد يعارض صدور قرار يعترف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس وعودة اللاجئين، ولكن كيفية إدارة هذا الملف الخطير هو الذي يثير الخوف. التعامل مع الشرعية الدولية أمر استراتيجي ومهم ويجب أن لا نلتفت كثيرا للخطاب السياسي الذي يتحدث عن انحياز الشرعية الدولية، ليس لأنها غير منحازة، بل لأن انحيازها هو الذي يفرض علينا دخول معتركها ومعركتها ومحاولة توظيفها لصالحنا أو على الأقل عدم السماح لها بإصدار قرارات تمس حقوقنا الوطنية.
لو تجاهلنا الشرعية الدولية فلن تتركنا بحالنا لأن قضيتنا والشرق الأوسط بشكل عام محل اهتمام عالمي ومن المناطق التي تؤثر على السلام العالمي. هنا نُذكر بأن الأمم المتحدة لم تأخذ إذنا من الفلسطينيين عندما أصدرت قراراتها العديدة، من قرار التقسيم لقرار عودة اللاجئين إلى قراري 242 و338، كما لم تأخذ إذنا من الشعب العراقي عندما صدر قرار يسمح بالتدخل العسكري في العراق، كما لم تأخذ إذنا من الشعب الليبي عندما صدر قرار الحظر الجوي على ليبيا والذي مهد لتدخل عسكري، ولم تأخذ إذنا من الشعب السوري عندما قررت التدخل في الشأن السوري. كما تنبع أهمية تدويل القضية الفلسطينية من كون الصراع في المنطقة هو أطول صراع وتداعياته تؤثر ليس فقط على المنطقة بل على العالم بأسره، بالإضافة لتعدد الأطراف المشتبكة في هذا الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر، والأهم من ذلك صدور عشرات القرارات الدولية التي تصب في خدمة القضية الفلسطينية والتي ترفض إسرائيل تنفيذها.
2: الشرعية الدولية كجزء من الاستراتيجية الوطنية متعددة المسارات
المشكلة لا تكمن في نهج تدويل القضية والشرعية الدولية، ولا في نهج المفاوضات، ولا في نهج المقاومة، بل في غياب استراتيجية وطنية توفِّق بينها. وفي هذا السياق نؤكد على مسألتين ملتبستين:
1-عدم وضوح معنى تدويل القضية من الناحية الإجرائية، فهل المقصود بالتدويل:
2 - عدم وجود توافق فلسطيني على تدويل القضية أو اعتماد قرارات الشرعية الدولية كمرجعية للحقوق السياسية الفلسطينية، بل ما زالت حركتا حماس والجهاد الإسلامي ترفضان مبدأ المفاوضات والتسوية السياسية على أساس قرارات الشرعية الدولية.
إن التعامل مع الشرعية الدولية يستدعي من القيادة وكل المكونات السياسية والاجتماعية الفلسطينية، عمل مراجعة استراتيجية شمولية، بعيدا عن المناكفات السياسية والحسابات الحزبية الضيقة، لأن القضية الوطنية برمتها باتت على المحك، حتى يجوز القول بأننا أمام منعطف مصيري سيحدد إما أن تقوم الدولة الفلسطينية على كامل الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين، أو لا تقوم نهائيا ويتم الاستعاضة عنها بدولة قد تكون دويلة غزة، أو الأردن بعد امتداد (الفوضى الخلاقة) الأميركية إليه بمساعدة داعش.
المُستجد في مسالة تدويل القضية ليس فقط عودتها لأروقة واجتماعات الأمم المتحدة، بل حالة التأييد المتعاظمة للقضية الفلسطينية في الرأي العام العالمي، وتراجع مكانة إسرائيل دوليا، حيث أصبح جزء مهم من الرأي العام حتى داخل أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية يُحمِّل إسرائيل مسؤولية عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وتعاظم العنف في المنطقة. تجلى هذا التحول في الرأي العام من خلال حملات مقاطعة بضائع المستوطنات ومقاطعة أكاديميين وجامعات إسرائيلية، وتقديم دعاوى لمحاكمة قادة إسرائيليين كمجرمي حرب الخ، والأهم من ذلك ضغط الرأي العام على الحكومات للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني بما في ذلك حقه في دولة مستقلة. القول بالسلام وخوض معترك الشرعية الدولية أو تدويل القضية جزء من أي عمل سياسي، لكن ذلك لا يعني التخلي عن عناصر القوة عند الشعب، القول بتدويل القضية لا يعني أن السلام سيتحقق غدا، والقبول بمبدأ التدويل لا يعني أن المنتظم الدولي سيُقدم للفلسطينيين حقوقهم على طبق من ذهب. إن كان لا بد من خوض معركة تدويل القضية فيجب الاستعداد لها استعداد من يذهب لمعركة، ومن يذهب لمعركة يحشد كل ممكنات القوة إن لم يكن لتحقيق مكتسبات فعلى الأقل لتقليل الخسائر.
الخلل لا يكمن في تدويل القضية والشرعية الدولية بحد ذاتهما، بل في أن بعض الفلسطينيين وضعوا جهود التدويل والسلام في حالة تعارض مع المقاومة، مما أضعف مشروع السلام الفلسطيني والقائلين به وأضعف نهج المقاومة والقائلين به؛ لأن كلاً منهما يحرم نفسه مما تتيحه خيارات الطرف الآخر. القائلون بالمقاومة كخيار وحيد يُضيٌعون على الشعب الفلسطيني فرص توظيف ما تتيحه الشرعية الدولية والقانون الدولي من ممكنات للاستفادة من حالة متنامية من التعاطف والتأييد لعدالة القضية، والقائلون بالسلام والمفاوضات بدون مرجعيات وهدف محل توافق وطني يٌضيٌعون على الشعب الفلسطيني إمكانية تحقيق سلام عادل من خلال تجاهل قوة الشعب. إن موقفنا المؤيد لتدويل القضية الآن ضمن الشروط الوطنية المشار إليها، ينبع من تلمسنا وجود تحولات دولية شعبية ورسمية لصالح الشعب الفلسطيني يجب أن تُستثمر سياسيا. هناك استياء ورفض للممارسات الإرهابية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، ورفض لسياسة الاستيطان والمستوطنين، ومقاطعة لجامعات ومنتجات إسرائيلية، وهناك لجان تحقيق ودعاوى تتهم قادة إسرائيل بالإرهاب، واستطلاعات رأي في أوروبا تقول بأن إسرائيل مصدر تهديد للسلام في المنطقة، ومطالبات تتزايد بحق الشعب الفلسطيني بدولة خاصة بهم وحتى داخل أميركا هناك أصوات تتعالى وتحذر من أن الانحياز لإسرائيل يهدد المصالح القومية الأميركية، بالإضافة لكل ذلك هناك تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وتزايد أعداد الفلسطينيين بالنسبة للإسرائيليين الخ. هذه متغيرات يجب أن نلحظها جيدا بالرغم من الوضع الفلسطيني الداخلي الذي قد يشوه الصورة. ليس مهما إن كانت هذه المتغيرات بسبب تمسك الرئيس أبو مازن بخيار السلام مما أحرج إسرائيل أمام العالم، أو بسبب المقاومة والصمود، أو بسبب الجرائم الصهيونية التي صدمت العالم أو بسبب كل ذلك، المهم أن هناك متغيرات يجب أن تُستثمر سياسيا بإنجازات على أرض الواقع، هذه المتغيرات تحتاج لقيادة سياسية تتواصل مع العالم وتطرح تصورا ورؤية سياسية لكيفية التعامل مع القضية دوليا وكيفية تعظيم هذه المتغيرات والمكتسبات، حتى لو زعمت حركات مقاومة أن الفضل بحدوث هذه المتغيرات تعود لأعمال المقاومة، يبقى السؤال كيف نحصد ما زرعته المقاومة وصمود الشعب؟.
خاتمة:-
إن لم يتم تدارك الأمر بالاتفاق على برنامج واستراتيجية وطنية، كمرجعية لعمل النظام السياسي الفلسطيني في ظل المتغيرات العربية والدولية المفتوحة على كل الاحتمالات، فستستمر القضية الفلسطينية في حالة تيه وسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك. حركة فتح ومنظمة التحرير لن تبقيا موحدتين وستسيران نحو مزيد من التآكل والتخبط، وكذا الحال مع السلطة الوطنية التي ستتحول لجابي ضرائب ومقَدِم خدمات تسيير الحياة اليومية للمواطنين وتنسق أمنياً مع الاحتلال، وهي أمور يُفترض أنها من مهام ومسؤولية دولة الاحتلال، دون أي مضمون وطني تحرري. وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار وفقدان الشعبية والتحول إلى حكم شمولي استبدادي كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالتهدئة، وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحو نحو التطرف.
بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية أفضل، وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين، إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية.
التخوفات الأكثر مأساوية، فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا دولة لقطاع غزة تؤدي لحرب أهلية حول السلطة والحكم. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية ولو على جزء منها، ولذا فستعمل على خلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع، كما سبق وهيأت المناخ لـ(الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في حزيران (يونيو) 2007. حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة: حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة.
سكوت إسرائيل عن حكم حماس في قطاع غزة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا. عندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام وسيطرت على الضفة سيطرة كاملة وأنهت وجود السلطة كسلطة وطنية حقيقية، فستنقل إسرائيل المعركة لقطاع غزة، وهناك نخب، من داخل ومن خارج حركة حماس، تراودها شهوة حكم غزة بمعزل عن المشروع الوطني، بل على حسابه، وهي مستعدة للقتال والقتل دفاعا عن مصالحها وشهوتها في السلطة أو خدمة لأجندة خارجية.
الهوامش:-
[*] أستاذ العلوم السياسية، جامعة الأزهر- غزة.
[1] - تم اغتيال إسحق رابين يوم الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 خلال مهرجان خطابي مؤيّد للسلام في تل أبيب على يد المتطرف اليهودي إيجال أمير. وكانت عملية الاغتيال مؤشرا على رفض المجتمع الصهيوني للسلام، حيث اعتبر اليمين الإسرائيلي إيجال أمير بطلا قوميا.
[2] - مشروع السلام الفلسطيني الذي نتج عن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 1988 كان يتحدث عن تسوية سياسية تعتمد كل قرارات الشرعية الدولية ومن خلال مؤتمر دولي للسلام، إلا أن واشنطن ضغطت على منظمة التحرير والدول العربية لتكون عملية التسوية على أساس قراري 242 و338 مما يعني تجاهل أصل الصراع وتجاهل قراري التقسيم 181 وحق العودة 194، كذلك فرضت أن يكون مؤتمر مدريد تحت عنوان (مؤتمر مدريد للسلام) وليس مؤتمرا دوليا للسلام مما أسقط البعد الدولي عن المؤتمر ونتائجه.
[3] - نجحت واشنطن وتل أبيب في مؤتمر مدريد بفرض المسارات المتعددة للمفاوضات، وهذا أدى لأن تنفرد إسرائيل بالفلسطينيين، وإلغاء البعد القومي للقضية الفلسطينية، مما جعل من السهل على تل أبيب وواشنطن إدارة الصراع بشكل منفرد مع كل طرف عربي دخل في عملية المفاوضات.
[4] -فمن المعلوم أنه منذ أن قبلت قيادة م.ت.ف التعامل مع مسلسل السلام الأميركي، ارتفعت أصوات عديدة تندد بهذا الموقف وتحذر المنظمة من التصرف في حقوق هي ملك لكل الشعب الفلسطيني عبر الأجيال. كانت أشد هذه الأصوات معارضة هي حركة حماس (الإسلامية) التي لم تقتصر في معارضتها لنهج المنظمة على المواقف السياسية المعلنة بل تجاوزت ذلك إلى التشكيك بتمثيلية م.ت.ف للشعب الفلسطيني وطرحت نفسها بديلا لها.
[5] - مباشرة بعد توقيع اتفاق أوسلو عقدت الأردن وإسرائيل اتفاقية وادي عربة 1994، ثم بدأت مفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وبعدها تبادلت إسرائيل التمثيل الدبلوماسي مع عدة دول عربية مغاربية وخليجية.
[6] - كل الأدبيات الرسمية لمنظمة التحرير كانت تؤكد أن الفلسطينيين طليعة الأمة العربية في معركة التحرير، ولم يقولوا أنهم وحدهم سيحررون فلسطين.
[7] - يجب عدم التقليل من نتائج توقيع اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من ساحة المواجهة. فعندما تعترف مصر أكبر دولة عربية بإسرائيل وتلتزم بعدم الدخول في أي مواجهات معها أو المشاركة في أي تحالفات ضدها، فهذا معناه قطع الطريق على أية إمكانية لحرب عربية ضد إسرائيل.
[8] - لم يكن الموقف الرسمي الفلسطيني من حرب الخليج الثانية مؤيدا لاحتلال العراق للكويت كما زعمت بعض الدول، بل حاول أبو عمار أن يؤجل أي تدخل عسكري أميركي في المنطقة ومنح مزيد من الوقت للوساطات العربية، ولكن يبدو أنه كان مطلوباً رأس منظمة التحرير، ولذلك باشرت دول الخليج ودول أخرى عملية قطع المساعدات عن منظمة التحرير ومحاصرتها بل وتشويهها سياسيا.
[9] - لم يكن الهدف من إثارة ملف الفساد وتضخيمه إصلاح السلطة، بل تصفية الظاهرة العرفاتية وتشويه السلطة واصطناع خلافات فلسطينية داخلية بهدف إلهاء الفلسطينيين بها بدلا من التفرغ لمواجهة إسرائيل.
[10] - أصبحت رواتب السلطة التي يتقاضاها عشرات الآلاف من الفلسطينيين كاللعنة على الفلسطينيين، لأنها قيدت حركتهم وقدرتهم على الانتقاد والتمرد على الوضع القائم خوفا من قطع الراتب الذي يُعيل عائلاتهم. وقد انتقلت لعنة الراتب إلى حركة حماس وحكومتها في قطاع غزة، حيث يتحول المجاهدون والمرابطون تدريجيا إلى موظفين ينتظرون راتبا إما من السلطة أو من جهات خارجية.
[11] - في استطلاع نفذه معهد العالم العربي للبحوث والتنمية "أوراد" ما بين 21-23 تشرين الأول (أكتوبر) 2015 صرح 64% بأنهم يؤيدون إلغاء اتفاقية أوسلو.
[12] - يمكن الرجوع إلى: إبراهيم أبراش، الحاجة لاستراتيجية فلسطينية متعددة المسارات، دورية سياسات، العدد 23، رام الله، 2013.
[13] - إبراهيم أبراش، المشاركة السياسية في منظمة التحرير على قاعدة الالتزام بالوطنية الفلسطينية: استلهام تجربة الولادة الثانية للمنظمة 1968، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 253-254.
[14] - في الفترة الأخيرة أصبح بعض مستشاري الرئيس يتجاوزون صلاحياتهم ويصرحون بتصريحات لها علاقة بالسياسات العامة والعمل الوطني والعلاقات الخارجية للسلطة، مما يعتبر تعديا على صلاحيات منظمة التحرير والحكومة، وخصوصا أن هؤلاء من خارج منظمة التحرير وفصائلها الوطنية.
[15] - بسبب الانقسام وضعف السلطة الوطنية في القيام بمهامها الرقابية والعقابية، عاد الفساد مجددا وبشكل كبير في كل نواحي المجتمع والمؤسسات الرسمية في الضفة وغزة.
يمكن الرجوع لمقالنا حول الموضوع: (الانقسام لا يبرر الفساد ولا يُسقط المسؤولية)، http://www.palnation.org/vb/showthread.php?t=876