[*]نعيم ناصر
يعود التواجد اليهودي في الجزائر إلى زمن بعيد يمتد إلى تاريخ تهديم الهيكل الثاني. وازداد عددهم بالمتحولين إلى اليهودية قبل الإسلام وبالموجات اليهودية المهاجرة من إسبانيا إثر سقوط الأندلس، وانتهاء الحكم العربي في تلك البلاد عام 1492م.
وقد فرض على اليهود الجزائريين، إبان العهد العثماني، دفع الجزية، أسوة بباقي الطوائف غير المسلمة في الإمبراطورية العثمانية. وقد سمح لهم مقابل ذلك بإدارة شؤونهم بأنفسهم، وبخاصة في مجالات الزواج والطلاق، والإرث والتعليم.. الخ.
ولما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 تمتع اليهود الجزائريون بامتيازات كثيرة جعلتهم في مركز أفضل من بقية السكان المسلمين، وذلك بهدف بذر الفتنة بين الجزائريين لتسهل السيطرة عليهم.
وبتاريخ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1830م صدر عن القوات الفرنسية المحتلة قرار يعترف بالطائفة اليهودية الجزائرية، فعينت رئيساً جديداً للطائفة أعطي مسؤولية رعاية اليهود في الجزائر، وجمع الضرائب منهم، وكان يتبع الإدارة الفرنسية مباشرة. ويجدد اختيار الرئيس كل سنة من بين ثلاثة مرشحين يختارهم أعيان اليهود الجزائريين.
وفي العام التالي 1831م أصبح يعاون رئيس الطائفة مجلس يهودي يتألف من ثلاثة أعضاء يختارهم رئيس الطائفة. وفي 9 كانون الثاني (يناير) 1831م صدر قرار عن السلطات الفرنسية بتشكيل غرفة تجارية جزائرية من سبعة أعضاء: خمسة فرنسيين وجزائرييْن (مسلم ويهودي).
وفي العاشر من آب (أغسطس)عام 1834م صدر قرار يحد من اختصاصات المحاكم اليهودية ويقصرها على قضايا تتعلق بالأمور الدينية فقط. وفيما يخص المسائل الجزائية، فقد أصبح اليهود الجزائريون يقاضون أمام المحاكم الفرنسية.
وفي عام 1836م ألغيت هيئة القضاء اليهودي المستقل، لعدم جدواها. كما ألغي منصب رئيس الطائفة اليهودية. وهكذا أخذ التنظيم اليهودي القديم يضمحل أمام المؤسسات الإدارية الفرنسية. ففي الفترة الممتدة من 28 شباط (فبراير) إلى 26 أيلول (سبتمبر) سنة 1841م صدرت قرارات عدة لتنظيم القضاء الفرنسي في الجزائر، فألغيت المحاكم اليهودية، وانتقل النظر في القضايا المتعلقة باليهود إلى المحاكم الفرنسية.
وبتاريخ 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1845م وضعت الحكومة الفرنسية سياسة جديدة ليهود الجزائر تضمنت إنشاء مجلس رئيسي للطائفة اليهودية في مدينة الجزائر، ومجالس إقليمية في مدينتي وهران وقسنطينة، وأصبح الحاخام الأكبر لليهود يعين من قبل ملك فرنسا، بتوصية من وزير الدولة للشؤون الحربية وأخذت الدولة الفرنسية تتحمل نفقات رجال الدين اليهود. وبهذا أصبح وضع اليهود الجزائريين يقترب رويداً رويداً من وضع يهود فرنسا.
وفي 16 آب (أغسطس) 1848م صدر قرار قضى بربط المجمعات الدينية اليهودية بوزارة الأديان الفرنسية، بدلاً من وزارة الحربية.
وبموجب القانون، الذي صدر في 16 حزيران (يونيو) 1851م، أصبح كل عقد عقاري يهودي ينظم وفق أصول القانون الفرنسي، بينما احتفظ المسلمون الجزائريون بأنظمتهم العقارية الخاصة. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الملكية ونقل الملكية من اختصاصات القانون المدني الفرنسي. كما ألغيت قوانين الطائفة اليهودية الجزائرية في مناحي الحياة كافة، باستثناء الأمور المتعلقة بالزواج والطلاق والبنوّة. وبتاريخ 29 تموز (يوليو) 1862م صدر قرار بوضع المجمعات الدينية اليهودية الجزائرية تحت رقابة المجمع الديني المركزي في باريس.
تجنيس اليهود الجزائريين
لقد مهدت المراسيم السالفة الذكر الأرضية للبدء بعملية تجنيس اليهود الجزائريين وتحويلهم إلى رعايا فرنسيين. وقد نشأت فكرة التجنيس الجماعي لليهود الجزائريين بعد أن أصدر ملك فرنسا، لويس فيليب، مرسوماً سنة 1840م اعتبر الجزائر جزءاً من فرنسا. وكانت هذه الفكرة تتطور كلما طرأ تعديل على السياسة الفرنسية تجاه الجزائر. وفي سنة 1846م اعتُبر الجزائريون، بمن فيهم اليهود، فرنسيين ووضعت فرنسا أسس الحكم المباشر عليهم، وكان ذلك إيذاناً بتنفيذ سياسة البطش التي لا هوادة فيها. وفي عام 1865م أصدر نابليون الثالث مرسوماً بمنح الجنسية لكل الجزائريين الذين يطلبونها شرط أن يخضعوا لقانون الأحوال المدنية الفرنسية. وقد تحمست أغلبية اليهود لهذا المرسوم، في حين قابله المسلمون بكثير من الفتور، ولم يقبل به المستوطنون الأوروبيون. وبعد خمس سنوات من صدور المرسوم، وتحديداً في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1870م أصدر وزير الداخلية الفرنسية، آنذاك، كريميو، مرسوماً باسم الحكومة الفرنسية، يقضي بمنح الجنسية الفرنسية لليهود الجزائريين. وقد تضمن ما يلي: “يعتبر الإسرائيليون المقيمون في المقاطعة الجزائرية مواطنين فرنسيين اعتباراً من نشر هذا المرسوم. وبناء عليه تنظم أحوالهم المدنية والشخصية وفق القانون الفرنسي، وتصان حقوقهم المكتسبة كلها، وتلغى كافة الأحكام والقرارت والمراسيم السابقة المخالفة لمضمون هذا المرسوم”.(1) وعليه فقد أصبح اليهود الجزائريون يتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية، التي للمواطن الفرنسي، وعليهم الواجبات نفسها. وفي مقابل ذلك وضع المواطنون الجزائريون المسلمون تحت تصرف الحاكم العام المطلق وحرموا من الحقوق العامة، واعتبر كل من يناهض الحكومة الفرنسية عاصياً يجوز سجنه أو نفيه أو تجريده من أملاكه.
ومع الأيام أخذ اليهود الجزائريون يندمجون تدريجياً في التجمعات الفرنسية. ووصل هذا الاندماج ذروته في عام 1881م، عندما ارتبطت الخدمات المقدمة إلى الجزائريين بالوزارات الفرنسية المختصة. وعقب صدور مرسوم التجنيس، سالف الذكر، أخذ اليهود الفرنسيون يحثون يهود الجزائر على تقبل “الحضارة الفرنسية” والتكيف مع البيئة الفرنسية. وكان أكبر داعية لدمج يهود الجزائر في المجتمع الفرنسي، السيد ليون سيسور، نجل المستشار العام للجزائر وقتذاك، السيد موريس سيسور. ففي إحدى خطبه، أمام جمع من الشبيبة اليهودية الجزائرية نظم في عام 1871م أخذ يبين ما لليهود الجزائريين من حقوق، وما عليهم من واجبات. ومما قاله: “إن الطريقة المثلى التي تجعل من الإسرائيليين مواطنين فرنسيين هي أن يحدثوا تغييراً جذرياً في حياتهم. وأول ما يجب عمله (بهذا الخصوص) التخلص من كل ما يذكرهم بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم (كي) تتوافق حياتهم مع الحياة الفرنسية”.(2)
وقد ساهم الوجهاء اليهود في الجزائر، والمجمع الديني اليهودي المركزي، في عملية الفرنسة هذه. وقاموا بوضع وتنفيذ خطة جديدة للتعليم في المدارس اليهودية بهدف تغيير الطلاب اليهود تغييراً كاملاً. وكانت الحكومة الفرنسية في كثير من الأحيان، تطلب من المجمع الديني اليهودي أن يوافيها بمعلومات دقيقة عن الحالة التعليمية في المدارس اليهودية، كي يتأكدوا من أن الطلاب اليهود صالحون ليكونوا مواطنين فرنسيين صالحين في المستقبل.
وما أن أطلت الأعوام الأولى من القرن العشرين، حتى غدا اليهود الجزائريون، القاطنون في المنطقة الساحلية، لا يتكلمون غير اللغة الفرنسية. ولم يبق سوى بعض يهود مدينة قسنطينة والواحات الجنوبية مخلصين ليهوديتهم وللغة العبرية.
وبحلول الذكرى المئوية للاحتلال الفرنسي للجزائر، كان اليهود الجزائريون، بأكثريتهم المطلقة، لا يتقنون إلا اللغة الفرنسية، وأصبح استخدام اللغة العربية والعبرية ظاهرة هامشية، لا يتكلمها إلا كبار السن، والفئات الدنيا من اليهود.
لقد تغلغل نمط الحياة الغربي في الأحياء اليهودية وأحدث تغييرات جذرية لدى الأفراد.
وقد كان الاندماج، على الصعيد الاجتماعي، سريعاً، بحيث غدا الزي الأوروبي والترف الغربي سائدين بين اليهود الجزائريين. وتبدلت البنى الأسرية اليهودية، واستهوت الحياة المستقلة قلوب الكثيرين من أبناء اليهود، فأخذوا يهجرون منازل آبائهم، إلى منازل مستقلة وأصبح منزل الأب لا يزار من قبلهم إلا في المناسبات. أما المرأة اليهودية فقد تحررت من “العقدة الدونية”، التي كانت تضطرها للبقاء في المنزل، وأخذت تقلد المرأة الفرنسية في نمط حياتها.
لقد أحدثت عملية “الفرنسة” هذه هزة عنيفة في نفوس اليهود الجزائريين، وبخاصة الشباب، وأصابتهم بأمراض نفسية، وبأزمات روحية عميقة، نتجت عن التناقض بين التعاليم الدينية اليهودية والمذاهب الفلسفية لجان جاك روسو وفولتير، وغيرهما، التي تعلموها في المدارس الفرنسية. وقد أدى هذا الأمر إلى مناقشات حامية جرت بين اليهود الجزائريين حول تعاليم الدين اليهودي، وما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام. وقد كان من نتائج هذه العملية أنها جعلت الشباب اليهود يخجلون من هويتهم اليهودية ويعتبرونها من مخلفات الماضي. وهكذا حدث انفصام بين الأشخاص والدين، وأصبحت عادة ارتياد دور العبادة اليهودية تقليداً بالياً يتجنبه الكثيرون، حتى في المناسبات والأعياد. كما اختفت القلنسوة التقليدية من فوق رؤوس غالبية يهود المدن، وأخذ بعضهم يتناول الأطعمة المحرمة دينياً وأهمل التثقيف الديني. وهكذا تزامن التحرر من المفاهيم الدينية والاندماج بالثقافة العلمانية الفرنسية مع انفصام أغلبية اليهود عن مجتمعهم الجزائري ليصبحوا مواطنين فرنسيين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ولم تخل عملية “فرنسة” اليهود الجزائريين من بعض ردود الفعل الغاضبة، وبخاصة من قبل المحافظين اليهود وبعض رجال الدين. وقد رفض العديد منهم تسجيل أطفالهم في السجلات المدنية الفرنسية، وأخذ بعض رجال الدين اليهود ينصحون أفراد طائفتهم بعدم إرسال أولادهم الى المدارس الفرنسية، وقرروا يوم صيام احتجاجاً على قانون “كريميو” الذي قضى بتجنيس اليهود الجزائريين. وقد احتج أحد الحاخامات على هذا الأمر قائلاً: “لم أسمع من قبل أحدا ًينكر هويته، وكنت أنظر الى نفسي دائماً على أنني أحيا في ظل الشريعة الموسوية. إنني أعلن استنكاري لقانون كريميو، فأحيل هذا الحاخام الى القضاء الفرنسي، غير أن القاضي أطلق سراحه قائلاً: “إنني لا أفهم كيف يجبر الناس على أن يكونوا فرنسيين”.(3) وقد اضطر كثير من هؤلاء اليهود إلى الهجرة من الجزائر الى المغرب وتونس بهدف الحفاظ على يهوديتهم.
وهكذا انفصلت أغلبية اليهود الجزائريين تدريجياً، عن أشقائهم المسلمين، واندمجوا في صفوف الجالية الفرنسية وانخرطوا في النشاط السياسي الفرنسي في الجزائر، وأصبحوا قوة انتخابية يحسب حسابها. وكانت نتائج الانتخابات غالباً ما تتوقف على الأصوات اليهودية، لذلك كانت الأحزاب السياسية الفرنسية تتلهف على كسبها. وهنا يجب أن نسجل أن حجم مرارة المسلمين الجزائريين من قبول اليهود للجنسية الفرنسية والتمتع بامتيازاتها، لم يكن بحجم مرارة المستوطنين الأوروبيين، من غير الفرنسيين، وذلك لأن اليهود الجزائريين، أصبحوا، قانونياً، متكافئين مع هؤلاء المستوطنين، مع ما يعنيه هذا من تهديد لمصالحهم، فشنوا عليهم حملة عنصرية في الصحف، رافقتها حوادث عنف ضدهم. وقد شهدت الجزائر في الأعوام الممتدة بين 1895م – 1900م حملات معادية لليهود الجزائريين. وقد وصل الأمر إلى إنشاء تجمع معاد لهم عرف باسم: “اتحاد ذوي الأصول اللاتينية” ضم مستوطنين فرنسيين وإسبان وإيطاليين. وقد أصدر هذا التجمع العديد من المطبوعات المعادية لليهود الجزائريين. وقد بلغ عددها في منطقة قسنطينة وحدها عشرة منشورات. وخلال سنوات 1940م– 1943م شن المستوطنون الأوروبيون في الجزائر حملة عنف وكراهية ضد اليهود شملت أنحاء الجزائر كافة، وحاولوا تحريض المسلمين الجزائريين عليهم، ولكنهم فشلوا لأن المسلمين لم يستجيبوا للتحريض.(4)
وفي عهد حكومة “فيشي” الموالية للنازيين الألمان، وتحديداً في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1940م، ألغي قانون كريميو، وسحبت الجنسية الفرنسية من اليهود، وعوملوا مثل الجزائريين وطردوا من الوظائف الحكومية. ومع هذا ظل أسلوب حياتهم فرنسياً، وكذلك ثقافتهم. وبسقوط حكومة فيشي، أعيد العمل بقانون كريميو في أيلول (سبتمبر) 1943م. ويجدر التنويه هنا إلى أن الزعماء الوطنيين الجزائريين رفضوا دعم إجراءات حكومة فيشي الموجهة ضد اليهود، وكان هذا دليلاً على وحدة المسلمين واليهود ضد سياسة فرنسا في ذلك الوقت.
النمو الديموغرافي ليهود الجزائر
ظهر أول تقدير لعدد اليهود في الجزائر عام 1851. وقد بلغ عددهم في ذلك الوقت نحو 20,000 نسمة، مقابل مليونين ومائتي ألف مسلم، ووصل عام 1921م نحو 74000 نسمة. وبلغ في عام 1930م نحو 110127 نسمة. وقدر عددهم في عام 1951م نحو 140 ألف نسمة، شكلوا نحو 1,75% من مجموع سكان الجزائر البالغ نحو ثمانية ملايين نسمة، ونحو 12,7% من عدد المستوطنين الأوروبيين البالغ عددهم نحو 920 ألفاً. وهذه الأرقام ليست دقيقة، لأنه يصعب الحصول على إحصاءات رسمية عن عدد اليهود الجزائريين، لأنهم أصبحوا يصنفون ضمن الرعايا الفرنسيين.(5) وكان اليهود الجزائريون يميلون إلى السكنى في المدن كالأوروبيين. وقد عاش ثلاثة أرباعهم في احدى عشرة مدينة أهمها: الجزائر العاصمة (30,000 نسمة) وهران (30,000 نسمة) قسنطينة (15,000 نسمة).(6) وقد سكن عدد قليل من اليهود في جنوب الصحراء الجزائرية، ولم يحدد عددهم، لعدم توفر سجلات خاصة بهم. وقد قدر عددهم بين 2 -4 آلاف نسمة. ويعكس توزع اليهود في الجزائر ظروف الحياة الاقتصادية، آنذاك. وقد نزح كثير من اليهود من مدينتي تلمسان وقسنطينة إلى المدن الساحلية بهدف التجارة. وازداد عدد اليهود في جنوب الجزائر بعد بدء استثمار البترول. ولم يسمح السكان الأمازيغيون (البربر) لليهود بالإقامة في مناطقهم، كي لا ينافسوهم في مجال التجارة.(7)
الأوضاع الاقتصادية ليهود الجزائر
لعب يهود الجزائر دوراً اقتصادياً نشطاً في الجزائر، فاق الدور الذي لعبه يهود تونس والمغرب وليبيا في بلدانهم. ويعود ذلك، كما سبق وذكرنا، إلى منحهم الجنسية الفرنسية. وقد أدى هذا إلى تحسن أوضاعهم المعيشية. وهو ما أكده مندوب الوكالة اليهودية إلى شمال أفريقيا يعقوب كراوس، عندما كتب في أحد تقاريره عن أوضاع يهود الجزائر ما يلي: “إن أغلبيتهم العظمى تمارس التجارة. ولكونهم تجاراً فقد احتلوا، ولا يزالون منزلة مهمة في الحياة الاقتصادية في البلد (الجزائر) (…) بينهم عدد كبير من الأطباء والمحامين والمدرسين. وهناك بضعة أساتذة في جامعة الجزائر يتمتعون بشهرة عالمية”.(8)
وقد تفوق اليهود الجزائريون في عدد من الصناعات أهمها: الأقمشة والنسيج، والجلود، والأخشاب، والبناء والمعادن النفيسة، والأحجار الكريمة، والصناعات الغذائية، والخدمات العامة، والمواصلات، والغاز والكهرباء والماء، والصناعات الكيميائية والاستخراجية. وتحول بعض اليهود نحو الزراعة وتربية الحيوانات، وقد استثمر 472 يهودياً عام 1941م، نحو 75667 هكتاراً. وعاشت في الجزائر شريحة من اليهود عملت في المهن الحرة والوظائف الإدارية وامتهنت الرسم والموسيقى والمسرح. وقد قدر عددهم في عام 1941م بنحو 1336 نسمة. منهم 231 طبيباً و135 محامياً، و70 طبيب أسنان، و516 معلماً. وبلغ عدد النساء اليهوديات العاملات، آنذاك، نحو 8667 امرأة.(9)
وفي مقابل هذا وضعت الحكومة نصب عينيها سياسة انتزاع الأراضي من المواطنين المسلمين. وقد ترتب على ذلك أن خرجت مصادر الثروة الرئيسية من أيدي الجزائريين، ما أدى إلى تدهور اقتصادي واجتماعي في حياتهم.
وبفعل النشاط الاقتصادي الكبير ليهود الجزائر، يضاف إليه دخولهم معترك السياسة الفرنسية، فضلاً عن معرفة بعضهم للعربية، تحولوا إلى طبقة وسيطة بين المسلمين والمستوطنين الأوروبيين. وقد لوحظ فرق كبير، في المستوى الاجتماعي بين الغالبية اليهودية، التي تعيش في المدن، وتلك المبعثرة في المناطق الريفية. فبينما اعتنت الأولى باللغة والثقافة الفرنسيتين، وقطعت كل صلة لها بالتقاليد اليهودية، نجد أن الأخيرة كانت أقرب في معيشتها إلى المسلمين الجزائريين، ولم ينجح التجنيس الفرنسي في دمجها في البيئة الفرنسية، وحافظ أفرادها على صلاتهم بالتعاليم اليهودية، سواء في ممارستهم للشعائر الدينية، أو ارسال أطفالهم إلى المدارس الدينية اليهودية.
التعليم
تأسست المدارس الأولى الخاصة باليهود الجزائريين بفضل المنظمات اليهودية الفرنسية، ابتداءً من عام 1832م. وفي سنة 1845م أصدرت الحكومة الفرنسية مرسوماً يلزم وزارة التعليم بقبول اليهود في مدارسها، مع ضمان استمرار التعليم الديني. وأبقى المرسوم على المدارس الدينية اليهودية. وبعد حصول اليهود على الجنسية الفرنسية عام 1870، أصبح ينطبق على اليهود ما ينطبق على الفرنسيين.
وقد تبين من إحصاء عام 1941م أن عدد الطلاب اليهود في المدارس الحكومية وغير الحكومية، الابتدائية والمتوسطة، بلغ نحو 19094 طالبة وطالباً (نصفهم من الإناث)، يمثلون نحو 7% من مجموع الطلبة، الفرنسيين والجزائريين. وبلغ مجموع الطلبة الثانويين نحو 1387 طالبة وطالباً، يمثلون نحو 21,9% من مجموع عدد الطلبة العام. أما نسبة الطلاب الجامعيين اليهود فقد شكلت دوماً 37% في كلية الطب، و 26,4% في كلية الحقوق و 17,4% في كلية الصيدلة و16,8% في كلية الآداب.(10)
والأرقام والنسب المشار إليها، لا تقارن بأي حال مع الأرقام والنسب لعدد الطلاب الجزائريين المسلمين، الدارسين في المدارس الفرنسية، الخاصة والحكومية، وذلك بسبب سياسة التجهيل التي اتبعتها فرنسا بحقهم. علماً بأن إنشاء مدارس عربية صرفة كان محظوراً عليهم، لذا فقد اقتصر تدريس اللغة العربية على الكتاتيب والجوامع. وعلى سبيل المثال لا الحصر لم يكن في الجزائر عام 1870م سوى 36 مدرسة ابتدائية، يوجد فيها 13 ألف تلميذ فقط، غالبيتهم من الفرنسيين. وقد انخفض هذا العدد عام 1871م، بسبب الحرب البروسية – الفرنسية إلى 16 مدرسة يدرس فيها 3172 تلميذاً فرنسياً. وما لبث أن ارتفع هذان الرقمان عام 1891م إلى 124 مدرسة، يدرس فيها 11246 تلميذاً جزائرياً.
وفي عام 1898م بلغ عدد الطلاب الجزائريين 23823 تلميذاً يتلقون دروسهم في 99 مدرسة. وإذا ما انتقلنا إلى التعليم الثانوي والمهني فإننا نجد أن عدد الطلاب الجزائريين وصل في العام الدراسي 1949م – 1950م نحو 2743 طالبة وطالباً، يقابلهم 20658 طالبة وطالباً من الفرنسيين.(11)
وقد رافق الطبيعة العلمانية للتعليم الفرنسي ميل يهودي نحو التمثل بالفرنسيين بحيث تلاشت الشخصية اليهودية التقليدية وضعف اهتمام الطلاب اليهود بالتعاليم الدينية، وتقلص عدد المدارس الدينية في المدن الجزائرية إلى مدرستين: واحدة في مدينة الجزائر والأخرى في مدينة وهران.
ضمت الأولى 300 تلميذ والثانية 325 تلميذاً. كما ضعف الاهتمام باللغة العبرية إلى درجة كبيرة، وحلت محلها اللغة الفرنسية. أما المدارس الدينية اليهودية في جنوب الجزائر فقد ظلت محافظة على اللغة العبرية والتعاليم التلمودية.(12)
يهود الجزائر والثورة
قبل منح يهود الجزائر الجنسية الفرنسية، شارك بعضهم في الهبات الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي إلى جانب إخوانهم المسلمين، ولم تتوفر معلومات وافية ودقيقة حول حجم المشاركة. وقد ذكر الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلّه أن حكومة الأمير عبد القادر الجزائري التي تشكلت في السنوات الأولى من ثورته (1832-1847) ضمت وزراء يهود في صفوفها(13)، ولكن لم يحدد عددهم، ولم يذكر أسماءهم. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على وعي الجزائريين المبكر لأهمية الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال الفرنسي، وأن تجاوب بعض اليهود لنداء الوطن يؤكد انتماءهم واعتزازهم بالجزائر. ولم تخل الأحزاب الجزائرية من الأعضاء اليهود، وبخاصة الأحزاب اليسارية، وإن كان ذلك بنسب محدودة.
أما الغالبية العظمى من اليهود الجزائريين فقد حسمت أمرها وربطت مصيرها بالوجود الفرنسي في الجزائر، ونشط بعض زعمائها في صفوف الأحزاب الفرنسية ذات الامتداد الجزائري ولكن لم يسجل على اليهود، كجماعة، مشاركتها في قمع الشعب الجزائري، وحافظوا على علاقات الود التي جمعتهم بالمسلمين الجزائريين، ولما تولت جبهة التحرير الوطني الجزائرية قيادة الشعب الجزائري نحو الاستقلال في العام 1954م، اتسم موقف أغلبية الطائفة اليهودية، في كثير من الأحيان، بعدم الوضوح، فقد توزع ولاؤها بين فرنسا وبقاء حكمها في الجزائر باعتبارها المستفيدة الرئيسية من الوجود الفرنسي في الجزائر، وبين ارتباط مصالحها بالجزائر والجزائريين، خصوصاً وأن يهود الجزائر كانوا أسعد حالاً من يهود أوروبا، وتعايشهم مع الجزائريين اتسم بالود. ولذلك كان من المستحيل عليهم أن يدعموا الاحتلال الفرنسي، حتى لا يصبحوا خائنين في نظر العرب، ويحطموا كل أمل بالتعايش معهم في المستقبل. وأدركت الطائفة اليهودية في الوقت نفسه أن مشاركتها في الثورة الجزائرية تعني القضاء على مصالحها. ولذلك حرصت الأغلبية على أن لا تزج نفسها في خضم الأحداث، وأن تبقى بعيدة، قدر الإمكان، كي لا تتأثر مصالحها وتحافظ على الامتيازات، التي اكتسبتها. وقد عبر عن هذا الموقف صراحة “اتحاد الطوائف اليهودية الجزائرية” عندما حذر في أحد بياناته الصادرة في العام 1956م، يهود الجزائر من الانجرار وراء جبهة التحرير الوطني الجزائرية مهما كانت الدوافع. وعبر “عن أمله في أن يحل السلام في الجزائر ليسمح لكل شخص بالتطور الحر في جو من التفاهم والأخوة” داعياً المنظمات اليهودية في الخارج الى تجنب التصريحات المتعلقة بمستقبل يهود الجزائر خوفاً من أن تفسر بعكس نوايا الذين أدلوا بها.(14)
ولكن هذا الموقف الوسطي لم يمنع يهود الجزائر من أن يعبروا عن آرائهم الشخصية كأفراد. فلم يتردد بعضهم عن التصريح علانية أنهم يدعمون الاحتلال الفرنسي، نظراً للفوائد التي جنوها من ورائه، فوقفوا إلى جانبه. بينما دعمت أقلية من المثقفين اليهود اليساريين الثورة الجزائرية. وكان لهذه الفئة صلات قوية بقادة جبهة التحرير الوطني. وفي هذا يقول أحمد بن بله: “هناك يهود قاتلوا مع الفرنسيين، ولكنهم ليسوا كثيرين. ولكن قد تستغرب وتدهش إذا عرفت أن هناك يهوداً قاتلوا معنا في الثورة أيضاً. ولي زملاء يهود، إلى اليوم، وقد ظلموا بعد الانقلاب (المقصود الانقلاب الذي قاده ضده الرئيس الراحل هواري بومدين في العام 1965م) ولا يزالون على صداقتهم معي ويقيمون في فرنسا”.(15)
وقد سعت قيادة جبهة التحرير، منذ انطلاقة الثورة الجزائرية، إلى كسب يهود الجزائر إلى جانبها. ودعتهم أكثر من مرة، عبر بياناتها، إلى حسم ترددهم والانضمام إلى صفوف الثورة. وفي هذا السياق لاحظ مؤتمر “الصمام” الذي عقدته الجبهة في عام 1956م أن “الجزائريين من الأصل اليهودي” لم يحددوا موقفهم بعد “وأنه من المرغوب فيه أن يتبعوا خطوات هؤلاء الذين استجابوا لنداء الأرض الأم (مناضلي جبهة التحرير) مؤكدين وطنيتهم الجزائرية”.(16) ودعت الجبهة في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه حاخام الجزائر الأكبر إلى “اظهار الحكمة والإسهام في خلق الجزائر الحرة المبنية على الأخوة والصداقة”.(17)
ورغم “فرنسة” يهود الجزائر ظلت جبهة التحرير، طيلة سنوات كفاحها السبع، تشير في أدبياتها إليهم على أنهم جزائريون من أهل البلاد منذ آلاف السنين. ورفضت الاعتراف بقانون كريميو، وأصرت على اعتبار اليهود جزائريين. وتأكيداً لموقف الجبهة هذا صرح فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، في أيلول (سبتمبر) 1957م لجريدة “أوبزرفاتور دي موايان أورينت” الفرنسية أن “لليهود الحقوق والامتيازات نفسها، التي يتمتع بها الجزائريون”.(18)
وحول مستقبل اليهود في جزائر المستقبل، أشارت الجبهة في حزيران (يونيو) 1958م في معرض ردها على استفسار المجلس اليهودي الأمريكي، إلى أن الجزائر ستكون في المستقبل دولة ديمقراطية اشتراكية، وستقضي على التمييز العنصري والديني، وستعامل جميع من يودون الاشتراك في بناء الجزائر المعاملة نفسها.
وفي السياق ذاته أعلن محمد سعدون، أحد ممثلي الجبهة في الخارج، في مقابلة صحافية، أن أي مؤتمر سيعقد للنظر في مستقبل الجزائر ينبغي أن يحضره ممثلون عن اليهود، الذين يعيشون في الجزائر. وأكد أن اليهود جزء من الأمة الجزائرية، وأن الجبهة ستمنحهم كل حقوق المواطنة. ولكن الزعماء اليهود رفضوا الاجتماع مع أعضاء الحكومة المؤقتة لبحث مستقبلهم.(19)
ووجهت جريدة “المجاهد” الجزائرية، أكثر من مرة، نداء إلى يهود الجزائر للانضمام إلى الثورة، باعتبارهم جزءاً من الشعب الجزائري. وحثت مؤيدي الثورة من اليهود إلى لعب دور أكثر فعالية في النضال من أجل الاستقلال.(20)
وعلى الرغم من عدم استجابة أغلبية اليهود في الجزائر لهذه النداءات، لم تمارس جبهة التحرير الوطني الجزائرية أية ضغوط على اليهود لثنيهم عن موقفهم. ومن جانب آخر لم يظهر اليهود موقفاً جماعياً موحداً تجاه الثورة الجزائرية.
وقد استغلت المنظمات اليهودية في الخارج بوادر القلق، التي ظهرت بين صفوف يهود الجزائر، عقب إصرار الجبهة على اعتبارهم رعايا جزائريين وليسوا فرنسيين، للضغط عليهم لرفض مبدأ “الجزأرة” هذا. ففي اجتماع لمجلس الرابطة اليهودية الإنجليزية، عقد في لندن في شهر أيار (مايو) 1961م اقترح الحضور إرسال وفد إلى شمال أفريقيا لحث الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير على منح يهود الجزائر حق تقرير مصيرهم، والسماح لهم بحرية الهجرة إلى فرنسا وإسرائيل.
وتناول ناحوم غولدمان، رئيس الوكالة اليهودية آنذاك، في ختام الجلسة الافتتاحية للمؤتمر اليهودي العالمي، الذي عقد في جنيف في 20 آب (أغسطس) 1961م “موضوع المشكلة اليهودية” الذي قد يبرز بعد حصول الجزائر على استقلالها، إذا أصر الزعماء الجزائريون على “جزأرة” اليهود. وطالب بالسماح لهم بمغادرة البلاد “كغيرهم من الفرنسيين”. ومن جهة أخرى استغل المستوطنون الأوروبيون تردي الأوضاع الاقتصادية ليهود الجزائر، عقب مقاطعة الجزائريين للبضائع الفرنسية ومن بينها اليهودية، فقاموا بحملة لحث اليهود على التمسك بالجنسية الفرنسية، ودعوهم للوقوف إلى جانب فرنسا لكونهم رعايا فرنسيين.(21)
وهكذا بين أخذ ورد فضلت أغلبية اليهود في الجزائر الجنسية الفرنسية وربطت مصيرها بمصير الجالية الفرنسية في الجزائر، وقررت الهجرة من وطنها، الذي عاشت فيه آلاف السنين.
إحجام اليهود عن الهجرة إلى إسرائيل
ومنذ أن انتابت حمى الهجرة أوساط يهود الجزائر، حاولت إسرائيل والوكالة اليهودية استغلال رغبة اليهود في الهجرة من الجزائر لتوجيههم نحو إسرائيل بدلاً من فرنسا. وكان هذا الموضوع قد شغل الأوساط الصهيونية مع اقتراب نيل الجزائر لاستقلالها. فقد اتخذ المؤتمر العام لحزب “حيروت” الإسرائيلي قراراً بتاريخ 25/12/1960م بشأن يهود الجزائر جاء فيه: “إن المؤتمر يقرر، إزاء الأخطار المادية المتوقعة ليهود الجزائر، أنه من الضروري العمل على هجرتهم إلى إسرائيل في أقرب وقت مستطاع”.(22) كما نشرت جريدة الحزب “حيروت” بتاريخ 3/1/1961م مقالاً حث على ضرورة هجرة يهود الجزائر إلى إسرائيل. ومما جاء فيه: “.. من الخطأ أن نسمح لأنفسنا الاعتقاد أن اليهود في الجزائر الإسلامية المستقلة يمكن أن يعيشوا بأمن وهدوء (في الجزائر) دون مكدر. إنهم قادرون الآن على تصفية أعمالهم والشروع في السير نحو أرض صهيون. أما الأقوال، التي تتردد عن إمكان الوصول إلى اتفاق مرض مع ممثلي الثوار الجزائريين بشأن اليهود فإنها ليست مضللة، فحسب، بل تنطوي على أخطاء كبيرة”.(23) ويبدو أن جهود الوكالة اليهودية لم تثمر في إقناع يهود الجزائر بالهجرة إلى إسرائيل.
وهو ما أكدته الصحيفة المذكورة بتاريخ 19/11/1962م حيث كتبت: “إن جهود دائرة الهجرة والاستيعاب في الوكالة اليهودية لإقناع يهود الجزائر، الذين هاجروا إلى فرنسا بالهجرة إلى إسرائيل لم تثمر عن أية فائدة، فلم يهاجر إلى إسرائيل، من نحو 130 ألف يهودي سوى قسم ضئيل”.(24)
لقد رفضت الغالبية الساحقة من يهود الجزائر الانتقال إلى إسرائيل، وفضلوا البقاء في فرنسا، باعتبارهم فرنسيين، ولم تعاملهم السلطات الفرنسية كأجانب مثل اليهود التونسيين والمغاربة. عدا عن أن ظروف الحياة في إسرائيل لم تشجع المهاجرين اليهود على الانتقال إليها. غير أن قلة من الشباب اليهودي اقتنعت بمبدأ العيش في إسرائيل فانتقلت إليها.
وقد دلت الوقائع أن المهاجرين اليهود القادمين من المدن الساحلية الجزائرية، الذين لم يكن لديهم اهتمام كبير بالصهيونية – رغم عطفهم على إسرائيل – هم الذين فضلوا الاقامة في فرنسا على بدء حياة جديدة في إسرائيل يواجهون فيها مشاكل اللغة والبحث عن فرص عمل. وقد شكل هؤلاء نحو 97% من عدد يهود الجزائر. أما اليهود، الذين قدموا من المناطق الريفية الجزائرية، فقد قبلوا الهجرة إلى إسرائيل. وقد قدر عددهم بين عامي 1950م-1958م بنحو 3583 نسمة.(25)
وقد عانى اليهود المهاجرون إلى إسرائيل الأمرين في معسكرات المهاجرين التي أقيمت في الجزائر العاصمة ومرسيليا. وقد جاء في تقرير أحد مبعوثي الوكالة إلى الجزائر، ايريس لويس، عن مأساة اليهود فيها ما يلي: “يعيش في مبنى “جمعية الأخوة اليهودية”، الكائن في أحد شوارع الجزائر العاصمة أشخاص كالحيوانات، حيث يقيم هؤلاء في أسفل سلالم المبنى وأعلاه، وأمتعتهم بأيديهم، يمارسون حياتهم ويعدون طعامهم، ويموتون من الأمراض. رجالاً ونساء، شباباً وشيوخاً، ويقطن أكثر من 50 شخصاً في غرفة تتراوح مساحتها بين أربعة وخمسة أمتار مربعة”.(26)
وقد كتب أحد أطباء معسكرات المهاجرين اليهود في مرسيليا إلى دائرة الهجرة في إسرائيل يقول: “يحضر المهاجرون من شمال إفريقيا إلى إسرائيل، وهم معدمون، ومن دون ملابس تقريباً. ولا يتلقون من الطعام سوى الفتات، طوال مدة السفر، التي تستغرق ثلاثة أيام. إن الظروف في السفينة، التي تقلهم سيئة جداً. والمهاجرون ينامون على أرض السفينة دون أغطية، ودون ما يكفي من الثياب التي تتلاءم وأحوال الطقس (…) وهناك نقص كبير في الأغطية في معسكري “غراندارنس” و “مزارع ب” (في مرسيليا) ويقيم المهاجرون في أكواخ من الباطون ذات سقوف خشبية، وينامون على أسرة عسكرية، ودون غطاء سوى بطانية واحدة. وبسبب هذه الظروف السيئة، ونقص التغذية حدثت 12 حالة وفاة بين أطفال هذين المعسكرين (…) وهناك نقص كبير في الصابون والثياب (…) إنني لا أفهم لماذا توزع الملابس على المهاجرين من دول أوروبا، في حين لا يوزع شيء على جماعة شمال أفريقيا”.(27) ونتيجة لهذه الظروف البائسة هاجر عدد كبير من يهود هذه المعسكرات إلى بلادهم.
وبعد انتهاء موجات الهجرة الفرنسية، لم يبق في الجزائر سوى بضعة آلاف من اليهود الجزائريين، أغلبهم يحمل الجنسية الفرنسية. وقد قدرت عددهم جريدة “جويش كورنيل” (11/10/1963م) بنحو 3800 نسمة. يقيم منهم في الجزائر العاصمة 2000 نسمة، وفي مدينة وهران 800 نسمة. والبقية موزعة في مختلف أنحاء الجزائر.
ومع الوقت تقلص هذا العدد كثيراً، خصوصاً بعد العمليات المسلحة، التي قامت بها الجماعات الدينية الجزائرية ضد الرعايا الأجانب. ولم تتوفر، في الوقت الحاضر، أية إحصاءات دقيقة عن عدد من بقي منهم. ونتيجة للسيل المتدفق من يهود الجزائر إلى فرنسا، ارتفع عدد اليهود في فرنسا من 250 ألفاً عام 1955م إلى نحو 500 ألف عام 1965م. وبهذا احتلت الطائفة اليهودية الفرنسية الترتيب الرابع، من حيث عدد اليهود، بعد يهود الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد السوفييتي السابق.(28)
استقر يهود الجزائر في الجنوب الفرنسي بكثافة، وشكلوا جاليات جديدة على الشاطئ اللازوردي، والبروفنس ومنطقة اللانغدوك – روسيون. واندمجوا في الوظائف العمومية، وفي المناصب ذات السلطة المحدودة.(29)
أما اليهود، الذين هاجروا إلى إسرائيل، فقد ذابوا في الطوائف الشمال افريقية، وخصوصاً المغربية، ولم يشكلوا طائفة خاصة بهم على غرار ما هو قائم في إسرائيل.
من كل ما تقدم يمكن استنتاج الآتي:
- تتحمل فرنسا المسؤولية الرئيسة في “فرنسة” يهود الجزائر، وسلخهم عن بني جلدتهم الجزائريين، وترحيلهم إلى فرنسا. ويشاركها في المسؤولية رؤساء الطائفة اليهودية وزعماؤها. وكذلك زعماء الطائفة اليهودية في فرنسا، الذين شجعوا هذا العمل، ومهدوا الأرضية له.
- رغم تحفظ غالبية يهود الجزائر على الثورة الجزائرية، ووقوفهم إلى جانب بقاء الجزائر فرنسية، يسجل لهم أنهم لم يشتركوا في قمع الشعب الجزائري، كجماعات، أو في ارتكاب المجازر، التي نفذها الجيش السري الفرنسي بحق الجزائريين.
- رغم الإغراءات، التي قدمت لليهود للانتقال إلى الدولة العبرية، من قبل دائرة الهجرة والاستيعاب في إسرائيل، ومن الوكالة اليهودية، فضلوا البقاء في فرنسا، وذلك لعدة أسباب، لعل أبرزها تشابك مصالحهم مع مصالح الفرنسيين، والامتيازات التي حصلوا عليها في فرنسا. يضاف إلى ذلك ضعف النشاط الصهيوني في أوساطهم، ورغبتهم في عدم تعميق الهوة التي نشأت بينهم وبين الجزائريين إثر تخليهم عن الهوية الجزائرية وقبولهم بالجنسية الفرنسية.
- ضعف الرابط الروحي بينهم وبين إسرائيل، بوصفها الدولة الموعودة من التوراة، إذا قورنوا باليهود الشرقيين الآخرين، وخصوصاً يهود المغرب. ويمكن أن يعزى السبب، أيضاً، إلى فرنسا، التي عملت طوال سنوات احتلالها للجزائر على “علمنة” يهود الجزائر، وسلخهم عن التعاليم التوراتية، واللغة العبرية، اللتين كانتا سائدتين بين أجدادهم قبل الاحتلال الفرنسي. ولا نقصد هنا عدم تأييد غالبيتهم لإسرائيل.
الهوامش
مجموعة من الكتاب اليهود “إسرائيل الثانية: المشكلة السفاردية” ترجمة: فؤاد جديد، منشورات فلسطين المحتلة، بيروت 1981م، ص 69.
- المصدر نفسه، ص 69.
- جلادي جدع “إسرائيل نحو الانفجار الداخلي – التقاطب بين المستوطنين الأوروبيين وأبناء دار الإسلام” دار البيادر للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى ص 83.
- مجلة التاريخ (بالفرنسية) العدد 140 كانون الثاني (يناير) 1991.
- Jewish Chouraqui, between east and west. A history of the Jews of north Africa “translated from the French” Philadelphia 1968, p. 186.
نقلاً من كتاب “يهود البلاد العربية” للدكتور علي إبراهيم عودة، وخيرية قاسمية، إصدار مركز الابحاث الفلسطيني، بيروت 1971.
- عن المصدر نفسه، ص 14 .Jewish chronicle
- المصدر نفسه، ص 190 – 192.
- يعقوب كراوس، “بشأن وضع اليهود في شمال أفريقيا”، الأرشيف الصهيوني المركزي. 250/5550/5 نقلاً من كتاب “الإسرائيليون الأوائل 1949” توم سيغف، إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الأولى، بيروت 1986 وص 178.
- مصدر سبق ذكره Jewish Chouraqui, ص 217 – 220.
- المصدر نفسه، ص 204-207.
- نقولا زيادة “إفريقيات: دراسات في المغرب العربي والسودان الغربي” إصدار دار الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، لندن، ص 296-297.
- Schechtman, j.p. on wings of eagles, new York, 1960, p.327.
نقلاً من كتاب “يهود البلاد العربية” مصدر سبق ذكره.
- محمد خليفة “أحمد بن بله، حديث معرفي شامل” إصدار دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت 1985، ص 104.
- مصدر سبق ذكره، schechtman, o.cit.p.332.
- “حديث معرفي شامل” مصدر سبق ذكره، ص 283.
- مصدر سبق ذكره، schechtman, o.cit.p.330.
- المصدر نفسه، ص 230.
- المصدر نفسه، ص 333.
- مصدر سبق ذكره، Jewish chronicle, November, 21,1958
- المصدر نفسه، شباط (فبراير) (12) 1960.
- المصدر نفسه، حزيران (يونيو) (6) 1961.
- من مذكرات الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بشأن الهجرة اليهودية من شمال أفريقيا إلى إسرائيل، قدمت إلى مؤتمر أجهزة فلسطين في الدول العربية أعوام 1965,1964,1963,1961.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- الأرشيف الصهيوني المركزي s20/515501 نقلاً من كتاب: “الإسرائيليون الأوائل..” مصدر سبق ذكره، ص 179.
- المصدر نفسه.
- سمير قصير، وفاروق مردم بك، “تكريس الصهيونية في فرنسا الستينات” مجلة الكرمل، نيقوسيا/قبرص، العدد (48-49).
- المصدر نفسه.
[*] مدير تحرير مجلة بلسم – الهلال الأحمر الفلسطيني.