بشار حميض[*]
في أول زيارة من نوعها خارج ألمانيا، منذ شهور، قام وزير الخارجية الألمانية، هايكو ماس، بزيارة للشرق الأوسط، يوم الأربعاء 10 حزيران (يونيو) 2020، التقى فيها مسؤولين إسرائيليين، وزار العاصمة الأردنية عمّان، متخطّياً الحظر الدولي على السفر بسبب جائحة كورونا. فيما تقبلت الخارجية الألمانية، بصمت، الرفض الإسرائيلي لمخطط زيارة رام الله، ولقاء المسؤولين الفلسطينيين، كما كان مقرراً. وبينما عبّر الوزير الألماني عن موقف واضح برفض مخططات الضم الإسرائيلية لأجزاء من الضفة الغربية، فإنّ الرفض الألماني لم يتضمن أي خطوات محددة ستتخذها، وتقودها ألمانيا، إذا ما نفذت إسرائيل مخططات الضم رسميّاً.
في الواقع، إنّ المتوقع من ألمانيا أكثر بكثير مما عبرت عنه برلين حتى الآن في موضوع السياسات الإسرائيلية، خصوصاً أنّ الألمان يستعدون لاستلام قيادة مؤسسات دولية هامة.
يأتي قرار إسرائيل ضم أراضٍ فلسطينية بالضفة الغربية في وقت تقف فيه ألمانيا على عتبة اختبار مهم لسياستها الخارجية، خصوصاً أنها ستستلم رئاسة مجلس الأمن وكذلك مجلس الاتحاد الأوروبي خلال شهر تموز (يوليو) المقبل. وتضغط الأزمات الدولية المتلاحقة على العمل الدبلوماسي لفريق وزير الخارجية الألمانية، هايكو ماس. فعلى المستوى الأوروبي، ينشغل فريقه بتطبيع الأمور المتعلقة بالسفر بين البلدان داخل القارة الأوروبية وخارجها. أما على المستوى الدولي، فتنشغل الخارجية الألمانية بالوضع الذي وصفه وزير الخارجية الألمانية مؤخراً بـ “المعقد” بين بلاده والولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً بعد نشر تقارير تفيد بأن الأخيرة تنوي سحب 9500 فرد من قواتها العسكرية من ألمانيا ونقل جزء منها إلى الولايات المتحدة، وجزء آخر إلى بولندا، وهو ما سيؤدي إلى تغيرات عميقة في السياسة الأمنية الأوروبية، في حال حصوله.
العلاقات الألمانية- الأميركية وأثرها على موقف ألمانيا من إسرائيل
لا يمكن قراءة موقف ألمانيا من قرار إسرائيل ضم الضفة خارج سياق موقف ألمانيا من سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخارجية، خصوصاً أن قرار الضم جاء ضمن رؤية ما تعرف إعلاميّاً، باسم مبادرة “صفقة القرن” الخاصة بترامب. ويتفق السياسيون في جناحي الائتلاف الحكومي الكبير الحاكم في ألمانيا (ائتلاف الحزب المسيحي الديمقراطي والمسيحي الاجتماعي مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي) على أن الولايات المتحدة الأميركية بقيادة دونالد ترامب لا تراعي في قراراتها مصالح شركائها في حلف شمال الأطلسي، ولا تشاورهم فيها. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن وزير الخارجية الألماني مدح في تصريح له المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن بسبب انتقاده لخطط ترامب سحب القوات من ألمانيا.
كما كان من اللافت ترحيب الإعلام الألماني بالتظاهرات الأخيرة التي نظمت في عدة مدن ألمانية تضامناً مع التظاهرات ضد العنف ضد السود في الولايات المتحدة. وقد خطت قناة دويتشه فيله (التابعة للخارجية الألمانية) خطوة غير مسبوقة تجاه الولايات المتحدة، عندما ركزت على قيام الشرطة في الولايات المتحدة بمنع عبور مراسل دويتشه فيله لأحد الطرق لتغطية تظاهرة في مدينة مينابوليس، وقال وزير الخارجية في مؤتمر صحافي بهذا الخصوص إنه يطالب الولايات المتحدة بحماية عمل الصحافيين، وإن “الدول الديمقراطية يجب أن تطبق أعلى المعايير لحماية حرية الصحافة”. كل هذه التطورات تذكر بأزمة العلاقات بين الولايات المتحدة وألمانيا المرتبطة بالحرب على العراق، وتبين أن ألمانيا تقف حاليّاً على جانب آخر تماماً من موقف الإدارة الأميركية الحالية.
الوضع السياسي الألماني الداخلي وتطورات الموقف من إسرائيل
تميزت سياسة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بعد استلامها للسلطة عام 2005 بالتقارب الشديد مع إسرائيل، لدرجة جعلت الرئيس الإسرائيلي إيهود أولمرت يصف ألمانيا عام 2006 بأنها “الدولة الأقرب لإسرائيل في العالم”. وفي عام 2008، كانت ميركل أول رئيسة دولة أجنبية تدعى (أو تذهب) إلى الكنيست لإلقاء كلمة أمام أعضائه. وخلال حروب إسرائيل على قطاع غزة، التزمت السياسة الألمانية بتحميل الجانب الفلسطيني “كامل المسؤولية”، دون أي انتقاد للانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة.
لكن في نهاية 2009 الذي شهد تشكيل ميركل لحكومة الائتلاف الكبير مع الديمقراطيين الاجتماعيين، بدأ موقف الحكومة الألمانية بالتغير قليلاً نحو انتقادات محدودة لإسرائيل. ففي عام 2011، نقل عن المستشارة الألمانية قولها لنتنياهو في مكالمة هاتفية “إنها لا تتفهم أبداً” سياسته بالسماح ببناء المستوطنات في القدس الشرقية. وفي عام 2014، بدأ أول الانتقادات الألمانية للسياسة الإسرائيلية في غزة بالظهور على نحو حذر، عندما قالت الخارجية الألمانية عن الهجمات الإسرائيلية في ذلك العام إنها “غير مناسبة”. وفي عام 2016، رحبت ألمانيا بقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي أدان الاستيطان وأفضى إلى تبني الاتحاد الأوروبي (بدعم ألماني) سياسة التفريق بين منتجات المستوطنات الإسرائيلية في مناطق 1967 وتلك المنتجة في مناطق 1948.
ولعل هذا الاتجاه التدريجي نحو استعادة ألمانيا لدور أكثر توازناً تجاه إسرائيل كان مرتبطاً أيضاً بالوضع الدولي المواتي في ذلك الوقت، نظراً للعلاقة المتوترة بين نتنياهو والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على خلفية الاتفاق النووي مع إيران الذي دعمته ألمانيا بقوة. وكان وزير خارجية ألمانيا، فالتر شتاينماير (من الحزب الديمقراطي الاجتماعي)، قد صرح حينها أن مجلس الأمن الدولي “أكد مرة أخرى على الموقف الذي تتبناه الحكومة الألمانية منذ فترة طويلة” وأنّ “بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة يعيق فرص عملية السلام ويهدد مبدأ حل الدولتين”. كل ذلك كان يشير إلى أن الظروف على الصعيد الدولي وفي داخل ألمانيا لا تتجه لصالح السياسة الإسرائيلية. ولكن المرحلة التي أعقبت ذلك، والتي رافقها فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، وهو الذي عارض قرار مجلس الأمن تجاه المستوطنات بشدة، أدى إلى أجواء دولية تتيح لإسرائيل انتهاج سياسة أكثر تطرفاً، ورافق ذلك استقواء للدوائر وجماعات الضغط المؤيدة لليمين الإسرائيلي داخل ألمانيا أيضاً. هذه التطورات وغيرها مهدت الطريق لقيام البرلمان الألماني في مايو (أيار) 2019 (بشبه إجماع) بتجريم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS)، المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، في ألمانيا، واعتبار أعمالها معادية للسامية.
هل ستتغير سياسة ألمانيا تجاه إسرائيل؟
رغم أن السنوات الأخيرة شهدت نفوراً وتمايزاً للسياسة الألمانية عن السياسة الأميركية في ظل قيادة ترامب، إلا أن ذلك لا يبدو أنه سيؤدي إلى تغير جذري في موقف ألمانيا من حكومة الائتلاف الكبير الحالية في إسرائيل. وحتى الآن، ترفض الدبلوماسية الألمانية التهديد بأي إجراءات عقابية في حال قامت إسرائيل بتنفيذ برنامجها بضم أراضٍ في الضفة الغربية؛ فعلى المستوى الأوروبي، كان لافتاً خلال النقاشات الأوروبية حول هذا الموضوع بروز موقف الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن الأوروبي المشترك جوزيف بوريل، وكذلك وزير خارجية لوكسمبورغ جان اسيلبورن، اللذين شبها خطط إسرائيل بضم الضفة بقيام روسيا بضم القرم. وفي ذلك تمهيد لاتخاذ إجراءات عقابية تجاه إسرائيل. وقد أثار ذلك مواقف متباينة داخل الاتحاد الأوروبي، وكان موقف وزير الخارجية الألماني هايكو ماس هو من رفض مثل هذا التشبيه وأيّد الحوار مع إسرائيل بدلاً من ذلك.
وتُلقي ألمانيا حاليّاً بثقلها الدبلوماسي على منهج تعددية الأطراف (Multilateralism) والاعتماد على المنظمات والآليات المستقرة دوليّاً منذ الحرب العالمية الثانية، مقابل الولايات المتحدة التي استقرت سياستها الدولية في عهد ترامب على وضع كل ما تم الاتفاق عليه وبناؤه من منظمات ومعاهدات دولية موضع تساؤل، ومن ضمنها الآليات والاتفاقات التي تم التوصل إليها فيما يخص الصراع العربي- الإسرائيلي.
وقد زاد التركيز على هذا المنهج الألماني الداعم لنظام تعددية الأطراف خلال أزمة كورونا، حيث أكدت ميركل أنها ستزيد دعمها المالي والسياسي للمنظمات الدولية ولن تنقصه. وهنا تبدو سياسة إسرائيل بقرار الضم منافية وخارج سياق الأهداف التي تعمل ألمانيا على تحقيقها، خصوصاً بعد رفض الأطراف الدولية الرئيسية لـ”صفقة القرن”.
ورغم أن ألمانيا ستستلم رئاسة مجلس الأمن، وكذلك الاتحاد الأوروبي، خلال الشهر المقبل، إلا أنه من الواضح أن ألمانيا -حتى الآن- لا تريد جعل القضية الفلسطينية هي القضية المفصلية التي سيختبر من خلالها المنهجان المختلفان في العمل الدولي المتصارعان حاليّاً على الساحات الدولية المختلفة: منهج الخطوات أحادية الجانب من قبل حكومات الدول الوطنية، مقابل منهج تعددية الأطراف المعتمد على المنظمات الدولية. لذلك، يركز وزير الخارجية الألماني في تصريحاته بخصوص إستراتيجية بلاده في رئاسة مجلس الأمن على مواضيع أخرى غير القضية الفلسطينية، حيث ذكر في أحد تصريحاته أن موضوع سوريا واليمن وشبه جزيرة القرم هي المواضيع الثلاثة ذات الأهمية خلال رئاسة ألمانيا (بالشراكة مع فرنسا) لمجلس الأمن.
بلا شك، يسبب توقيت القرار الإسرائيلي بالضم إحراجاً دبلوماسيّاً كبيراً لألمانيا، وسيكون من الصعب عليها أن تتجاهل أو تؤجل اتخاذ مواقف بخصوص الأزمة المتصاعدة بسبب قرار ضم الأراضي الفلسطينية، فحسب الخطط المعلنة لوزارة الخارجية الألمانية بخصوص رئاستها لمجلس الأمن، فإنها ستركز مع فرنسا على “منع حدوث الأزمات ودعم السلم المستدام” وكذلك “جعل مجلس الأمن يعمل بشكل أوثق مع مجالس الأمم المتحدة الأخرى مثل مجلس حقوق الإنسان”، وهذه كلها مداخل مهمة متعلقة بالقضية الفلسطينية، خصوصاً مع التوقعات بحدوث انفلات أمني وأزمات إنسانية وربما موجات لجوء جديدة بسبب قرار الضم الإسرائيلي.
قيادة ألمانية خجولة لعالم أكثر عنفاً؟
إن رئاسة ألمانيا لمجلس الأمن (بالتشارك مع فرنسا) وكذلك رئاستها للاتحاد الأوروبي، في ظل تراجع دور الولايات المتحدة الدولي وانشغالها بأزماتها الداخلية، تشكلان فرصة قل نظيرها تاريخيّاً لألمانيا بإعطاء المجتمع الدولي أملاً للعبور بسلام من أزماته الحالية المتلاحقة نحو نظام دولي تعددي أكثر استقراراً؛ فألمانيا تتمتع بعلاقات جيدة نسبيّاً مع الصين وروسيا، خصوصاً بعد مضيها قُدماً في دعم مشروع نقل الغاز من روسيا ضمن مشروع نوردستريم 2 (رغم معارضة ترامب والحزب الجمهوري لذلك المشروع)، وكذلك التقدم الإيجابي في المباحثات الأوروبية الصينية بخصوص التجارة والاستثمار.
وفي ظل قوة ألمانيا الحالية، سياسيّاً واقتصاديّاً، وحتى على مستوى إدارتها لأزمة كورونا، فإنه من المستغرب أنها قبلت الإملاءات الإسرائيلية، ووافقت على عدم سماح إسرائيل لوزير خارجيتها بزيارة الأراضي الفلسطينية، متذرعة بإجراءات مكافحة كورونا، حسب ما نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية. ولم تقم وزارة الخارجية الألمانية بإثارة القضية رغم ثقلها الدبلوماسي ورغم نشرها في الصحافة الإسرائيلية. وهنا، من اللافت مقارنة تعامل الخارجية الألمانية مع منع وزيرها من زيارة الأراضي الفلسطينية، مقابل إثارتها قضية الصحافي الألماني الذي لم يسمح له شرطي في مينابوليس بعبور شارع لتغطية التظاهرات، كما وضحنا أعلاه.
إن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس لم يهدد إسرائيل بعقوبات، لكنه أشار -حسب موقع دير شبيغل- للمسؤولين الإسرائيليين، إلى احتمال عدم إمكانية مشاركة إسرائيل في بعض البرامج الأوروبية، مثل برنامج هورايزون للبحوث العلمية، نظراً لوجود أصوات ناقدة لقرار الضم ضمن الشركاء الأوروبيين. وقد شدد ماس خلال زيارته لإسرائيل على “مدى قلق الحكومة الألمانية من قرار الضم”، لأنه يتعارض مع القانون الدولي، مع تأكيده مجدداً على أنه “ضد صنع السياسة من خلال عقوبات، في الوقت الذي لم يطبق فيه أي شيء بعد”. ولم يخرج ماس عن إطار التعبير عن القلق وتأكيده على “الحوار والدبلوماسية” وأن ذلك يتطلب “مبادرات مبدعة”. في النهاية، فإن ماس “لم يضع أي ملصقات للأسعار” (كناية عن العقوبات في حال الضم)، حسب صحيفة دي فيلت الألمانية، وإنما عبر عن قلقه “الصادق والجدي” بخصوص إسرائيل “كصديق خاص جدّاً”. وهنا، يبرز السؤال حول ما إذا كانت هذه التصريحات والممارسات كافية للجم إسرائيل عن قرار الضم، ومعبرة عن قدرة ألمانيا على القيادة في وقت الأزمات.
إن مواقف ألمانيا الأخيرة الجريئة تجاه الولايات المتحدة تشير إلى أن ألمانيا لم تعد تراعي حليفها الإستراتيجي بنفس القدر الذي كان معمولاً به من قبل، إضافة إلى ذلك، فإن الأحزاب الحاكمة في ألمانيا تتمتع حاليّاً بتأييد شعبي قل نظيره منذ سنوات، أي أنه من الصعب أن يتم ابتزازها حاليّاً على مستوى السياسة الداخلية لاتخاذ أي قرارات مغايرة لإستراتيجيتها، لكن يبدو أن ألمانيا غير قادرة على القفز فوق عقدتها التاريخية تجاه إسرائيل، وأن تتخذ الخطوة المناسبة للتأسيس لسلام عادل في المنطقة، وهو الأمر الذي يمكن أن يضع ألمانيا ودبلوماسيتها في موقف محرج خلال قيادتها المرتقبة لأهم المنظمات الدولية بداية الشهر المقبل، ويترك الفلسطينيين يفكرون ببدائلهم، بينما الموقف الدولي هش وضعيف نسبيّاً.
[*] باحث في العلوم السياسية مقيم في فرانكفورت- المانيا.
للتحميل اضغط هنا