أحمد جميل عزم

هناك ثلاثة مضامين أساسية لطروحات الفريق الأميركي المسؤول عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشأن الاقتصاد الفلسطيني: أولها الخنق الفعلي للاقتصاد الفلسطيني وربط أي تقدم بتقبل وشرعنة المستوطنات وتحويل الموظفين لجزء من اقتصاد الاستيطان. ثانياً، تقديم وعود اقتصادية غامضة وغير عملية، مشروطة بالصمت الفلسطيني على شرعنة واشنطن للاحتلال والاستيطان وتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية. ثالثاً، البحث عن رجال أعمال فلسطينيين وهميين، يَدعُون للسيادة الإسرائيلية وللاستسلام. في المقابل، تمكن الفلسطينيون إلى حد كبير من إفشال المخطط الأميركي، ودحض أفكاره، ووقف اندفاعته.

مقدمة:

بدأت الإدارة الأميركية، وتحديداً الفريق المكلف بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، المكون من الثلاثي جاريد كوشنير، صهر الرئيس الأميركي ومستشاره، وديفيد فريدمان، السفير الأميركي لدى إسرائيل، وجيسون غرينبلات، ممثل الرئيس الأميركي لشؤون المفاوضات، منذ اتخاذ واشنطن قرار نقل السفارة الأميركية للقدس، نهاية العام 2017، محاولات ترويج أنّ الاقتصاد هو الأولوية للفلسطينيين، وأنّ القيادة الفلسطينية تخطئ بالربط بين الوضع السياسي والاقتصاد. يرافق هذا ترويج مفهوم وتعريف للاقتصاد، بأنّه توفير “فرص عمل” للفلسطينيين ضمن الاقتصاد الإسرائيلي. في الوقت ذاته، تحاصر الإدارة الأميركية، شأنها شأن الحكومة الإسرائيلية، الحكومة الفلسطينية اقتصاديّاً كوسيلة ضغط. بمعنى آخر، عمليّاً، تضغط الإدارة الأميركية على الفلسطينيين باستخدام الاقتصاد، مع محاولة تقديم إغراءات لهم، وترويج فكرة إقليميّاً وعالميّاً أن المعاناة الحياتية هي المشكلة الفعلية للفلسطينيين، مع تحميل قيادتهم وزر هذه المشكلة، ومع تغييب الاحتلال من الصورة، وإنكار مسؤوليته عن هذه المعاناة.

يمكن استعراض السياسة الأميركية الاقتصادية إزاء الفلسطينيين، عبر ثلاثة عناوين أساسية: أولها قراءة في النصوص المقدمة لورشة البحرين، وتصريحات وبيانات أميركية أخرى. ثانياً استخدام الحصار الاقتصادي وسيلة ضغط بجانب سياسات تسويق الاستيطان باعتباره حلًّا للمشكلة الاقتصادية الفلسطينية. وثالثاً، محاولة إيجاد عناوين بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، وتحديداً رجال أعمال، تقدمهم باعتبارهم شريكاً فلسطينيّاً مقبولاً يوافق على بقاء الاحتلال.

أولاً: “نصوص رسمية” أميركية

أعلن البیت الأبیض رسمیّاً، وثیقة تخص التصور الاقتصادي للوضع الفلسطیني لمدة عشر سنوات، لتكون محور اجتماعات البحرین. تَكوَنت الوثیقة من 40 صفحة، وعنوانھا الأساسي “السلام من أجل الازدھار”، والعنوان الفرعي “الخطة الاقتصادیة: رؤیة جدیدة للشعب الفلسطیني”[1]. والواقع أن الإدارة الأميركية، بعد أيام من إعلان الوثيقة باللغة الإنجليزية، وتحديداً بالتزامن مع عقد ورشة البحرين، نشرت ترجمات على موقع البيت الأبيض للوثيقة، بالعربية والعبرية، وجاء العنوان بالعربية، كلمة واحد كبيرة هي “السلام”، ثم عنوان فرعي أصغر هو “من السلام إلى الازدهار”، ثم عنوان ثالث أصغر أيضاً، هو “رؤيا جديدة للشعب الفلسطيني”[2]. ويتضح أولاً الاختلاف بين النسختين الإنجليزية والعربية، فقد أصبح العنوان بالعربي “السلام”، وربما لم يفطن مترجمو أو معدو هذه النسخة، أنّ هذا يعني ضمناً اختزال السلام ببعض المشاريع الاقتصادية، التي يكشف استعراضها أنها ليست جادّة، وليست جديدة، وهذا يثبت المخاوف الفلسطينية بشأن طمس وتجاهل الاحتلال الإسرائيلي العسكري والاستيطان من قبل السياسات الأميركية. وثانياً، يوجد خطأ في الترجمة على غلاف الخطة، فكلمة رؤيا، تعني المنام، أو الحُلُم، وليس الرؤية (vision)، التي تعني تصوراً ما. ولكن أيضاً هذا الخطأ، ربما يعكس واقع “الأضغاث”، أي العناصر المفككة والخيالية في الخطة.

أهم عناصر “الأضغاث” والتفاصيل المفقودة في “الرؤيا” الأميركية المقدّمة، التي تتضح من النص، أنّ العنوان، سواء بالإنجليزية أو بالعربية، يعني البدء بالسلام لأجل الازدھار، كأن السیاسة تسبق الاقتصاد. ويعد هذا منطقيّاً، بل هو المطلب الفلسطيني، وربما العالمي، المنسجم مع القانون الدولي. ولكن تجاهل النص التام للاحتلال الإسرائيلي، وعدم ذكره، وكأنه غير موجود، فضلاً عن تجاهل أنّ هذا الاقتصاد يجب أن يتطور في دولة مستقلة، إذ لم تُذكر فكرة “الدولة الفلسطينية” بتاتاً، ما يعني أنّ المطلوب سلام يتجاهل كل هذه الأمور، ويقفز عنها، مقابل “وعود اقتصادية” غامضة.

تضمن عنوان الفصل الأول في الخطة، عبارة “اتفاق سلام دائم سيضمن مستقبلاً من الفرص الاقتصادية لجميع الفلسطينيين”، ولكن نص الخطة لا يتضمن أي إشارة للاتفاقية، والمرة الوحيدة التي ذكرت فيها مفردة اتفاقية، مرة أخرى، هي بالحديث عن اتفاقيات تجارية.

عمليّاً، لو كان في الخطة ما يَشي باقتصاد فلسطيني مستقل، لأمكن القول إنّها جزء من تصور للسلام، لكن لا يوجد شيء يشير لذلك، بل إنّ الوقائع على الأرض تشير لشيء آخر، هو: جعل المستوطنات مُحركاً للاقتصاد الفلسطيني، كما سيوضح الجزء الثاني، من هذا المقال.

إذا كان الغائب الأهم في البحرين هم الفلسطينيين، فإنّ الغائب الأكبر في الوثيقة كان غياب أي ذكر للاحتلال، وكأن مشاكل الفلسطينيين لا علاقة لها بالاحتلال، ولم تُذكَر كَلمة أو فكرة الدولة الفلسطينية على الإطلاق، فلا يُعرَف من سيدير المشاريع المقترحة في هذه الوثيقة، وبأي صفة.

إذا ما أريد استعراض تفاصيل “وثيقة البحرين”، فيكاد لا يكون فيها أي شيء مُحدد، فهي مجرد كلام عام عن دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، وتحسين التعليم، ومشاريع الطاقة، والسياحة، وما إلى ذلك. وهي أفكار لا تحتاج للكثير من الجهد والمؤتمرات لتطوير خطط بشأنها، بل الجهد المطلوب هو إزالة الحواجز أمامها، وأهم حاجز هو الاحتلال. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في القطاع الزراعي، أشير إلى أهمية تجاوز “محدودية وصول المزارعين إلى الأرض، والماء، والتكنولوجيا”، وضمن الأفكار العامة المطروحة في الخطة توفير تعليم زراعي، وتكنولوجيا، وتمويل من البنوك[3]. أي لا شيء محدداً، والأهم أن الخطة تجاوزت الإشارة إلى أنّ محدودية الوصول للأرض والمياه وحتى التكنولوجيا سببها الاحتلال ومنعه وصول المزارعين لأراضيهم ومياههم، ما يُبقي السؤال قائماً، هل يَخشى من وضع الخطة، أو يرفض، مجرد الإشارة للاحتلال، وإذا كان الوضع كذلك، كيف سيتم إنهاء الاحتلال؟ كيف سيتم مثلاً معالجة آثار جدار الفصل العنصري الإسرائيلي؟ فضلاً عن هذا، كيف ينسجم هذا الطرح مع السياسات الأميركية الواضحة لدعم الاستيطان، والمستوطنين، الذين يشاركون في منع المزارع الفلسطيني من الوصول لأرضه، ويستهدفونه يوميّاً، وستوضح أسطر قادمة في هذا المقال نماذج من دعم الفريق الأميركي الراهن للاستيطان.

هناك العديد من الشواهد والتصريحات من قبل مسؤولي إدارة دونالد ترامب، أنّهم يريدون للفلسطينيين القبول بتعويض مالي “محدود” عن وطنهم. على سبيل المثال، قال جاريد كوشنير، في مقابلته مع صحيفة القدس الفلسطينية، في صيف عام 2018، “أعتقد أن الشعب الفلسطيني أقل اكتراثاً في نقاط الحوار بين السياسيين وأكثر اهتماماً ليرى كيف ستوفر هذه الصفقة له وللأجيال المستقبلية فرصاً جديدة، والمزيد من الوظائف ذات الأجور الأفضل وآفاق الوصول إلى حياة أفضل”. في الواقع أنّ مثل هذا الطرح هو أساس الخطة الأميركية، أو ربما يمكن القول “الحلم الأميركي” الذي يتبناه فريق ترامب.

رغم بعض الإشارات بشأن أهمية الحل السياسي، فإنّ كوشنير أعلن صراحةً في البحرين أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي “قابل للحل اقتصاديّاً”[4].

وزير الخزانة الأميركي ستيفين منوشين، قال إنّ الخطة ستكون “أشبه بطرح أسهم للاكتتاب على نحو ساخن”[5]. وهو يشير هنا إلى ظاهرة إقبال المستثمرين والأفراد على شراء أسهم في شركات جديدة، يتوقع الجمهور نجاحها وتحقيق أرباح فيها.

في الواقع، لا يمكن فهم هذا التصور الخيالي للحديث عن تراكض المستثمرين للاستثمار في أرض تحت الاحتلال العسكري، في حالة صراع سياسي غير منتهٍ، ونشاط استيطاني عدائي مستمر، مدفوع بدوافع أيديولوجية للحرق والتدمير للفلسطينيين وممتلكاتهم[6]، إلا مع تصور أن يغض الفلسطينيون، والعالم، النظر عن كل هذا، كأنه لا يحدث، وأن يسلموا بالسيادة الإسرائيلية، وحينها، ستصبح المشاريع لتنمية المستوطنات الإسرائيلية التي تحول الفلسطينيين إلى عُمّال فيها.

عندما وُجّه إلى كوشنير في مؤتمر البحرين سؤال عن التسوية السياسية للوضع، كان غامضاً كعادته وقال: “سنقوم بوضع خططنا السياسية في الوقت المناسب وسنرى ماذا يحصل”[7]. ولا يوضح كوشنير، أو الآخرون، متى الوقت المناسب لطرح أفكار سياسية، ولماذا يجري التركيز والاستعجال في الحديث عن الاقتصاد، وليس السياسة؟ ولماذا لا يُطرح الجانبان معاً.

“خنق” الاقتصاد الفلسطيني وتسويق المستوطنات

يمكن الإشارة لموضوعين يوضحان حقائق الاقتصاد على الأرض، كما يديرها “الفريق الأميركي”. أولاً، أن مثل هذه “الرؤية/ الرؤيا” الاقتصادية رافقها وقف المساعدات الأميركية، للفلسطينيين، سواء المرسلة للسلطة الفلسطينية، أو لمشاريع ومنشآت في الأراضي المحتلة عام 1967، بما في ذلك مستشفيات ومؤسسات ذات نفع عام إنساني واجتماعي لا طبيعة سياسية لها، فضلاً عن وقف المساعدات لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا). وكل هذا رد على “الرفض” الفلسطيني لسياسات شرعنة الاستيطان والضم والاحتلال التي تقوم بها الولايات المتحدة، تحت هذه الإدارة، خصوصاً فيما يتعلق بالقدس والمستوطنات[8].

الشق الثاني، العملي، في السياسة الأميركية الاقتصادية إزاء الفلسطينيين، وربما الأكثر خطورة، اشتراك “الفريق الأميركي” بفاعلية وبشكل عملي في بناء وتنمية وإدامة المستوطنات الإسرائيلية في قلب المدن الفلسطينية، ومحاولة تحويل الفلسطينيين لعمال وموظفين، في هذه المستوطنات، سواء أكانوا عُمّال بناء وعمالة يدوية، أو خريجي كليات الهندسة وإدارة الأعمال واللغات وغيرها، ودون إخفاء حقيقي، لأنّ الهدف من هذا يتضمن تنمية الاقتصاد الإسرائيلي وشرعنة المستوطنات، ما يعني ضمناً القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي. فإذا كان الأميركيون يذهبون للبحرين لمناقشة مشاريع للفلسطينيين، فإنهم يقضون وقتاً داخل المستوطنات للإشراف على التخطيط للمشاريع الإسرائيلية.

على سبيل المثال لا الحصر، حضر ديفيد فريدمان، السفير الأميركي لدى إسرائيل، في تشرين الأول (أكتوبر) 2018، مؤتمراً لقطاع الأعمال في مستوطنة أرئيل في الضفة الغربية، وهو ما يعتقد أنّه “أول زيارة رسمية لمستوطنة يهودية يقوم بها سفير أميركي”[9]. في هذه المناسبة، قال فريدمان إنّه “بناء على دعوة من غرفة تجارة يهودا والسامرة، قابلتُ في أرئيل قادة في قطاع الأعمال من الفلسطينيين والإسرائيليين، مستعدين، وموافقين، وقادرين على المضي في فرص مشتركة وتعايش سلمي. الناس تريد السلام، ونحن جاهزون للمساعدة. هل تصغي القيادة الفلسطينية؟”[10].

يكرر جيسون غرينبلات وصف المستوطنات الإسرائيلية بأنها “أحياء ومدن”، رافضاً وهو المحامي أصلاً، أنّ القانون الدولي يقف ضد المستوطنات والاحتلال. فقد اتجه من البحرين، بعد حضور الورشة هناك، عبر الأردن، إلى القدس، للمشاركة في منتدى صحيفة “إسرائيل اليوم”، حيث قال في كلمته في المنتدى “إن معايير القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، المعترف بها، ليست واضحة تماماً دائماً”. ويضيف أنّ هذه المعايير “تفسّر وبنوايا حسنة بشكل مختلف من قبل الأطراف المختلفة، ولا توفر حلولاً قابلة للتطبيق لهذا الصراع”. وطلب لحل هذا الصراع أن يتوقف الناس “عن التظاهر أن المستوطنات، أو ما أود تسميته بالأحياء والمدن، هي سبب الافتقار للسلام”[11].

هذا التصور الذي يريد تهميش موضوع المستوطنات وتشريعها يندمج مع موضوع “غرفة تجارة يهودا والسامرة”، التي تحتل موقعاً أساسيّاً في النشاط الأميركي في الضفة الغربية. والمقصود هنا نشاط شخصي مباشر من قبل المسؤولين الأميركيين، خصوصاً غرينبلات وفريدمان.

تأسست هذه الغرفة، عام 2017، ورغم أنها تتبنى اسماً إسرائيليّاً يُنكر ضمناً الكيانية الفلسطينية، تدّعي أنها تجمع المستوطنين والفلسطينيين، وأنها يمكن أن تشكل جزءاً أساسيّاً، من حل الصراع. وكما يدل موقع الغرفة على الإنترنت، تتصل مشاريعها بشكل أساسي بمستوطنة أرئيل شمال الضفة الغربية، ويقع مقرها أو عنوانها البريدي هناك، وموقعها على الإنترنت باللغتين العبرية والإنجليزية، ودون نص عربي (حتى إعداد هذا المقال على الأقل)[12].

نظمت هذه الغرفة في شهر شباط (فبراير) 2019، منتدىً في القدس، بحضور السفير الأميركي، ديفيد فريدمان، تحت عنوان “المنتدى الاقتصادي الدولي الإسرائيلي الفلسطيني”، في هذا المنتدى. وكما تلخص وكالة أنباء رويترز، “دعا السفير الأميركي إلى إسرائيل (…) إلى روابط اقتصادية بين المستوطنين الإسرائيليين ورجال أعمال فلسطينيين”[13]. ورغم أنّ اسم المنتدى، يشي ضمناً بتمثيل رسمي للفلسطينيين والإسرائيليين، ورغم الحضور الرسمي الإسرائيلي والأميركي، كان الحضور الفلسطيني “حفنة” من رجال الأعمال الفلسطينيين، بحسب تعبير رويترز (handful).

جرى في عدد “شؤون فلسطينية” المزدوج رقم “273/ 274″، عرض لأمثلة من المشاريع الإسرائيلية الأميركية التي يراد تنفيذها في الضفة الغربية، حيث يوضح غرينبلات في مقال صحافي نشره نهاية عام 2018، في صحف منها “ذا ناشونال الإماراتية”،[14] أنّه يشارك بنفسه في اجتماعات ولقاءات مع رجال أعمال إسرائيليين وفلسطينيين، لتأمين “مئات” فرص العمل، لطلاب الجامعات في مشاريع إسرائيلية، بما في ذلك مشاريع في المستوطنات، لتشغيل آلاف الطلاب الفلسطينيين في هذه المشاريع. ويلوم القيادة الفلسطينية على إضاعة فرص العمل هذه على الفلسطينيين. ويوضح أنّه يجب ألا تقتصر العمالة الفلسطينية في المنشآت الإسرائيلية على العمالة اليدوية، بل يجب أن تتضمن المهندسين وخريجي الجامعات[15].

في الواقع، حجب المساعدات عن الفلسطينيين، وتحديداً عن القنوات الرسمية الفلسطينية، أو عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، مع الحديث عن مشاريع مساعدات واستثمارات أخرى، شمل قطاع غزة، وعقد لقاء خاص بشأن غزة والوضع الإنساني فيها، في البيت الأبيض، بحضور دول عربية، (البحرين، ومصر، والأردن، والسعودية، وعُمان، وقطر، والإمارات)، وحضور إسرائيلي، في آذار (مارس) 2018، دون حضور فلسطيني. بهدف مناقشة “الأوضاع الإنسانية المتدهورة” في غزة[16]. وكما في الحالات الأخرى، لم يوضح الجانب الأميركي، بصفته المنظم للقاء، كيف سيجري ترتيب أي دعم لغزة والأوضاع الإنسانية فيها بمعزل عن حل المشكلات السياسية. وبعد مرور أكثر من عام على اللقاء، لا يبدو أنّه كانت له أي نتائج عملية، معلنة.

ثالثاً: صناعة عناوين تعلن الاستسلام؟

إذا كان الشق الأول من السياسة الأميركية الاقتصادية الراهنة في الملف الفلسطيني الإسرائيلي هو تقديم وعود نظرية فضفاضة بشأن الأوضاع الحياتية الفلسطينية. والشق الثاني العملي هو خنق الاقتصاد الفلسطيني وربطه بالمستوطنات، فإنّ الشق الثالث هو البحث عن ممثلين مزعومين للفلسطينيين في مشاريعهم الاقتصادية.

التأمل في سياسات وتصريحات الفريق الأميركي يعكس قدراً هائلاً من “الإفلاس” في التعامل، مع الفلسطينيين، أي عدم القدرة على دفع الفلسطينيين لتبني ما يريدون، أو العثور على “حليف” فلسطيني له أي قدر من القبول الشعبي. والسبب الرئيسي أنّ المطلوب، فلسطيني يعلن “الاستسلام”. لقد توقف الإعلام العالمي عند مقاطعة حتى رجال أعمال فلسطينيين لهم علاقات تجارية مع الإسرائيليين، لورشة البحرين[17]. وجرى التوقف عند أسماء أشخاص مغمورين غير معروفين لا سياسيّاً ولا في قطاع الأعمال فلسطينيّاً، احتفى بهم المسؤولون الأميركيون. على سبيل المثال لا الحصر، وضع جيسون غرينبلات تغريدة على “تويتر” يقول عن شخص يُدعى أشرف الجعبري، بقوله “شكراً أشرف جعبري لأسلوبك المنفتح ذهنيّاً بشأن ورشتنا الاقتصادية المقبلة (في البحرين). متفق معك تماماً”[18].

تعلق الصحافية ميريم بيرغر، في تقرير مطول في موقع BuzzFeed، إنّ أشرف الجعبري “غالباً غير معروف بين الفلسطينيين، ولكنه على رادار إدارة ترامب منذ نهاية العام 2017”. وتكتب أنّ مكان سكن أشرف في الخليل “في جزء من المدينة، حيث تسيطر إسرائيل على الأمن، وحيث يجوب الجنود الإسرائيليون الشوارع لحماية حياة المستوطنين”. الموقع الذي التقى الجعبري في بيته، نوّه إلى أنّ أحد الحضور في المقابلة هو إسرائيلي مقيم في تل أبيب، يسمى إسحق مغرافاتا، وأن هذا الشخص “الذي يعمل مع الجعبري” كان يتدخل في النقاش باستمرار، بهدف محدد هو تحويل النقاش إلى الحديث عن “فساد السلطة”[19]. وربطَ هذا الإسرائيلي “الذي يصوّت عادة ومنذ سنوات طويلة لحزب الليكود”[20]، السلطة بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”[21].

فُتحت للجعبري، أبواب الحديث في المؤتمرات الإسرائيلية الدولية، وأعطي منصات للحديث، رغم أنه لا خلفية له تبرر ذلك، وبرز ندّاً يجلس بجانب السفير الأميركي في المناسبات المختلفة ذات الصلة. ليس أكاديميّاً، وليس كاتباً، وليس سياسيّاً، ليس رجل أعمال حقيقيّاً بارزاً، بدأ بالعمل في تجارة الأغذية والسيارات عام 2009، وعليه قضايا مالية عديدة جزء منها شيكات بدون رصيد[22]. قال في مؤتمر عقده اليمين الإسرائيلي بعنوان “السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية”، متحدثاً تحت عنوان “يكفي لقيادة السلطة الفلسطينية الفاسدة، نريد العيش تحت السيادة الإسرائيلية”: “لسنا ضد فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية ببساطة، لأن الحكومة الإسرائيلية من يملك القرار لذلك، ولا أحد يستطيع منعها”، ودعا (وسط تصفيق الجمهور الإسرائيلي الحاضر) نتنياهو أن يكون قويّاً، (لأخذ مثل هذا القرار) مثل مناحيم بيغن (رئيس الوزراء الإسرائيلي في السبعينيات)، وأنّه ليس بالضرورة منح الفلسطينيين حق التصويت في الكنيسيت، منذ البداية[23]. الجعبري أيضاً مؤسس في “غرفة تجارة وصناعة يهودا والسامرة”، التي كما تقول مصادرها، تقوم بالحصول على تصاريح عمل للفلسطينيين في المنشآت الإسرائيلية، وتحل خلافات تجارية بين منشآت أعمال إسرائيلية وفلسطينية[24].

في الواقع، إن استهداف أي اتصال مع الفلسطينيين، كبديل للقيادة الفلسطينية التي قاطعت الجانب الأميركي، يكتسب معنىً خاصّاً، لأنّه يتضمن مضامين واضحة للالتفاف على القيادة الفلسطينية، بتنفيذ أجندة معينة لا تتم عادة إلا من خلال الدول، وحكوماتها وممثليها الرسميين، ولكن الجانب الأميركي/ الإسرائيلي يمد يده ويشجّع أي طرف فلسطيني، يقبل على نفسه، أن يتجاوز القيادة الفلسطينية، ربما بسبب رفض القيادة الفلسطينية التعاطي مع سياسات واشنطن، ولكن أيضاً لأجل تصوير قضية الفلسطينيين أنها قضية سُكان وقضايا معيشية وليس قضية استقلال سياسي وطني وممثل شرعي. ومن الأمثلة على ذلك، محاولة وفد أميركي رسمي لقاء رجال أعمال فلسطينيين في بيت لحم، بعد نحو شهر من إعلان الإدارة الأميركية، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقد جرى اللقاء بتنسيق القنصلية الأميركية في القدس، في غرفة تجارة وصناعة بيت لحم، بمشاركة من القنصلية، واقتحم ناشطون فلسطينيون اللقاء وطردوا من فيه، معلنين رفضهم للسياسات الأميركية. ورغم شجب الرئاسة الفلسطينية لحادثة الطرد[25]، ورغم أن البعد السياسي ربما لم يكن واضحاً في اللقاء، إلا أنّه أوجد نوعاً من الإنذار أنّ المرحلة قد تشهد عمليات التفاف أميركي بالذهاب مباشرة للقاء فلسطينيين، في المقابل، أوضح الحدث أن رد الفعل الشعبي الفلسطيني لا يختلف عن رد الفعل الرسمي.

عقّبت الخارجية الأميركية على حادثة بيت لحم بأنّ النشاط “جزء من برنامج طويل الأمد للنشاط الأميركي في إيجاد فرص اقتصادية للفلسطينيين”[26].

لا يوفر الفريق الأميركي فرصة للقاء فلسطينيين عاديين، وإبراز الأمر في الإعلام، كأنه حدث رئيسي. وعلى سبيل المثال، بينما يوجد برنامج تعليمي يسمى برنامج “كيندي لو غار لدراسة التبادل الشبابي”، بدأ منذ ما بعد ضربات 2001، مخصص لدول مسلمة ولاستضافة طلبة من هذه الدول في مرافق تعليمية أميركية، فإنّ المشاركة الفلسطينية للعام 2018/ 2019، تم إبرازها بشكل خاص، بلقاء مخصص للطلبة الفلسطينيين من المدارس الثانوية، حيث استقبلهم جيسون غرينبلات، وتصور معهم جالساً على الأرض، وأعلن أنّ عدد الطلبة الفلسطينيين الذين دُعوا لهذا البرنامج هذا العام، أكثر من أي عام آخر[27]، دون أن يوضح السبب لذلك، وسبب الترحيب الخاص بالمشاركين الفلسطينيين دون غيرهم. وفي العاشر من تموز (يوليو) 2019، أعلنت نقابة الصحافيين الفلسطينيين، في بيان وزع للإعلام وللمهتمين، رفض صحافيين فلسطينيين دعوة وجهت لهم لزيارة البيت الأبيض[28].

 خاتمة

يتضح من الطروحات الاقتصادية الأميركية في الشأن الفلسطيني، نوع من التوظيف السياسي العالي، إذ يتم إلغاء المساعدات الأميركية للفلسطينيين من جهة، وحض حكومات على وقفها، بينما يتم الحديث عن تسهيل الاستثمارات واستجلاب مساعدات من دول مختلفة حول العالم  للفلسطينيين. هذا يمكن فهمه بالنقاط التالية:

  • تحاول هذه الإدارة الأميركية، التي تقود سياساتها إزاء الشرق الأوسط، وخصوصاً ما يتعلق بالشأن الإسرائيلي، مجموعة من أصحاب الانتماء الصهيوني الواضح، من الناشطين بأنفسهم في الاستيطان (الثلاثي فريدمان، وغرينلات، وكوشنير)، أن تجعل الاقتصاد أداة ضغط وإغراء للفلسطينيين لغض النظر عن سياسات شرعنة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلية، من مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وسوى ذلك.
  • يجري العمل على إعادة تعريف القضية الفلسطينية وتغييرها من حقوق وطنية وقضايا سياسية، إلى فُرص عمل ومساعدات إغاثية وإنسانية، وفي أحسن الأحوال اقتصاد أفضل، شريطة أن يكون مرتبطاً بالاحتلال الإسرائيلي، بما يعني تقبلاً للاحتلال وللاستيطان، وليس مطروحاً أبداً استقلال اقتصادي فلسطيني.
  • دفع رفض القيادة الفلسطينية لسياسات شرعنة الاحتلال، الطرف الأميركي الإسرائيلي، لتكثيف البحث عن عناوين بديلة عن القيادة الفلسطينية، من أشخاص يجري تقديمهم تحت عنوان “رجال أعمال” أو “مجتمع مدني”، باعتبارهم شريكاً في النشاطات الدولية التي تمس القضية الفلسطينية.
  • يجري العمل باطّراد على تطبيع حالة تجتمع بها الدول العربية والإسرائيليين لمناقشة الشأن الفلسطيني، حتى دون حضور فلسطيني، بحيث يتم بحث ترتيبات لمساعدات واستثمارات، دون موافقة فلسطينية، ورغم محدودية التجاوب العربي رسميّاً مع هذه السياسة، فإنّ حدوث الاجتماعات واللقاءات العربية الإسرائيلية (على غرار ورشة البحرين)، يشكل نوعاً من الاختراق، حتى لو كان مؤقتاً ومحدوداً.

بموازاة هذه السياسات الأميركية، ثبّت الفلسطينيون قدرتهم على أن يكونوا رقماً صعباً، يستطيع عرقلة ترتيبات أميركية لطمس قضيتهم الوطنية، وجعلها على هامش القضايا الدولية والإقليمية. وثبّتوا موقفاً آخر؛ أنّ الاقتصاد والمساعدات (التي هي أيضاً في جزء مهم منها وهمية ووعود بلا أسس) لا يمكن أن تشكل مبرراً لتجاهل حقيقة وجوهر القضية الفلسطينية، التي هي زوال الاحتلال.

لقد شكلت ورشة البحرين انعطافة مهمة، أسقطت الكثير من الخيالات والتوقعات الإسرائيلية الأميركية، بتهميش القضية الفلسطينية وتحويلها لقضية مساعدات واستثمارات (زائفة)، ولكن هذا لا يعني أنّ المحاولات الأميركية الإسرائيلية انتهت، أو أن الأمر حسم تماماً، لصالح نهج جاد لحل القضية الفلسطينية على أساس إزالة الاحتلال، فالمهمة الفلسطينية المقبلة، هي إعادة الأجندة الدولية إلى بند “إزالة الاحتلال”.

[1] للاطلاع على الوثيقة كاملة:

The White House, Peace to Prosperity, A New Vision for The Palestinian People and the Broader Middle East,

https://www.whitehouse.gov/peacetoprosperity/

[2] البيت الأبيض، “السلام: من السلام إلى الازدهار، رؤيا جديدة للشعب الفلسطيني”

https://www.whitehouse.gov/mep/documents/mep_arabic.pdf

[3] The White House, Peace to Prosperity,  p.16

[4]  David M. Halpfinger,  In Bahrain, U.S. Tries to Promote Mideast Peace Through Prosperity, The New York Times, 25 June 2019.

[5] Ibid.

[6] لتفاصيل عن الاعتداءات الاستيطانية، يمكن مراجعة تقرير منظمة بيتسيلم التالي:

Israeli settlers and military inten sify attacks against Palestinian shepherds in the village of al-Farisiyah in the northern Jordan Valley, BTSELEM, 15 May 2019:

https://www.btselem.org/settler_violence/20190515_settlers_and_military_attacks_on_al_farisiyah_shepherds

[7] David M. Halpfinger,  In Bahrain, Gaza Is Pitched as a ‘Hot I.P.O.’ Many Palestinians Aren’t Buying It, The New York Times, 26 June 2019.

[8] US cuts all aid to Palestinians in occupied West Bank and Gaza, The Independent, 1 February 2019.

[9]  Tovah Lazaroff, US Ambassador Participates in Business Forum in Settlement of Ariel, Jerusalem Post, 16 October 2018.

[10] Ibid.

[11] Tovah Lazaroff, Greenblatt Hints at Normalized View of West Bank Settlements, Jerusalem Post, 30 June 2019.

[12] Judea and Samaria Chamber of Commerce and Industry   (JSCHAMBER(, accessed 10 July 2019.

[13] Haaretz (Reuters), U.S. Ambassador Calls for Boosting Business Ties Between Palestinians and Settlers, 22 February 2019.

[14] Jason Greenblatt, Palestinians Deserve better than Calcified Positions that have failed to bring Peace, Jobs or Opportunity, The National ,1 December 2018.

[15] لمزيد من التفاصيل، انظر: أحمد جميل عزم،

[16]  The White House, Readout of the Gaza Conference at the White House (statements and release(, 14 March 2018.

[17] Miriam Berger, Meet The Trump Administration’s Man In Palestine, BuzzFeed.com,  5 June 2019.

 https://www.buzzfeednews.com/article/miriamberger/ashraf-jabari-palestine-profile-kushner-peace-conference

[18]  Ibid.

[19]  Ibid.

[20] Ada Ushpiz, Piecing a Peace Together, Haaretz, 30 August 2002.

[21] Berger, Meet The Trump

[22] Ibid.

[23]  أشارت مقابلة BuzzFeed، لهذا المؤتمر، وكلمة الجعبري جرى الوصول لها، عبر موقع “يوتيوب” تحت عنوان:

Enough with the corrupt leadership of the Palestinian Authority. We want to live under Israeli Sovereignty!  وبحسب مقدمة الفيلم فإن من المشاركين أشخاصاً منهم “شيخ فريد جعبري”، “شيخ أبو خليل التميمي”.

[24] Berger, Meet The Trump

[25] شاهد: فلسطينيون يرشقون وفداً أميركيّاً بالطماطم ويطردونه من بيت لحم، الجزيرة مباشر، 30 كانون الثاني (يناير) 2018، 

[26] Loveday Morris, U.S. delegation chased out of Bethlehem: ‘You are not welcome anymore’, Washington Post, 30 Jan 2018.

[27]  White House hosts Palestinian high school exchange students, Times of Israel, 24 August 2018.

https://www.timesofisrael.com/white-house-hosts-palestinian-high-school-exchange-students/

[28] نقابة الصحفيين ترفض دعوة غرينبلات للصحفيين الفلسطينيين إلى البيت الأبيض، وكالة أنباء “وفا”، 10 تموز (يوليو( 2019.

للتحميل اضغط هنا