أحمد عز الدين أسعد[*]
يتكون الكتاب من مدخل ومقدمة وسبعة فصول، في المدخل الموسوم “في البدء كانت الحكاية” يطرح مناع فكرة الكتاب التي كانت حكاية شعبية يرويها والده له عن تهجير قريته مجد الكروم، وبعدها نشر القصة كمقال في جريدة هآرتس. (ص 8) ويعتبر الكتاب تأريخاً لجيل الفلسطينيين الباقين في الوطن المغترب بعد النكبة. ويروي حكايات كثيرين من الناس العاديين ظلوا في بيوتهم بالرغم من المذابح وأعمال الطرد. وهذا الجيل لم يكن جيلًا مهزومًا وإنما جيل جرب صراع البقاء بحكمة وفطرة المزروعين في الأرض الذين انحنوا أمام العاصفة كي تمر، ثم قاموا من بين الركام، وبنوا حياة جديدة لهم ولأبنائهم وأحفادهم. (ص 12-13)
بين المؤلف في المقدمة ماهية الجديد في الكتاب؛ فالكتاب يقدم رواية عن حرب 1948 وتداعياتها من وجهة نظر المهزومين الذين لم يسمع صوتهم في أحداث النكبة. (ص 17) ويقدم الكتاب قراءة نقدية تحليلة مركبة بدلًا من السرديات التعميمة والقطبية ويبتعد عن الأحكام المسبقة والنمطية ويؤسس لتأريخ بالتدريج من القاعدة إلى القمة وهو تاريخ لا يقتصر على وجهة نظر النخب بل يركز أيضًا على الفئات الشعبية ( ص 17). وينشغل الكتاب بالفلسطينيين الذين لم يهجروا أو يطردوا ثم عادوا إلى بيوتهم وبلداتهم. فاسباب البقاء في حيفا والجليل متعددة ومختلفة. كما لا يغرق الكتاب في مسالة وجود خطة للتهجير أو عدم وجود خطة رسمية وسياسة للطرد فيهتم الكتاب بحالات عدم الطرد التي تثري معلوماتنا عن حالات الطرد. وتوثق الدراسة دور الباقين في بلداتهم بسبب أوامر عليا والصمود أمام سياسات التشريد، وقد نجحوا أيضًا في البقاء بسبب الجغرافيا وطبوغرافيا منطقة الجليل الجبلية (ص 18-19).
بين المؤلف في الفصل الأول “النكبة ومعانيها المتعددة سنة 1948” ماهية النكبة في مؤلفات وإنتاج النخب العربية من المفكرين والباحثين والسياسين ومنهم (قسطنطين زريق، وجورج حنا، وموسى العلمي، ومحمد الهواري، وعارف العارف) (ص 49-54). كما يؤكد المؤلف أن الخطة “دالت” هي جزء من السياسة الإسرائيلية للتطهير العرقي، لكن سياسية التطهير العرقي مارستها القوات الصهيونية قبل الخطة وبعدها أيضًا، كما كان لأحداث جبال القدس أثر في ضعف الفلسطينيين، فكان الحدث الأول استشهاد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل، والحدث الثاني مذبحة دير ياسين (ص 62-64). حمل الفصل الثاني عنوان “إتمام احتلال الجليل في عملية حيرام”، يجادل مناع في هذا الفصل أن محاولات طرد سكان قرى الشاغور من مسلمين ومسيحين قد فشلت كون الأهالي رفضوا الخضوع لأوامر الطرد وقاوموا الترحيل بأساليب شتى منها: كسب الوقت، والمقاومة السلمية، والاستعانة بجيرانهم الدروز. كما أن تركيبة السكان في قرى الشاغور من مسلمين ومسيحيين ودروز كانت عاملًا هامًا في تردد بعض الفرق العسكرية في استخدام القوى المفرطة والمس بمن لا تريد الدولة إبعادهم ولهذه الأسباب مجتمعة نجا معظم سكان قرى الشاغور من الدمار (ص 109)، كما فشل مشروع ترحيل أهالي الجليل لعوامل الجغرافيا، وتركيبة السكان، والاتفاقات المسبقة مع الدروز، والخوف من ردة فعل العالم على استمرار التطهير العرقي بعد هزيمة الجيوش العربية (ص 133).
في حين انشغل الفصل الثالث “الشيوعيون العرب ما بين النكبة والاستقلال” في تقديم قراءة جديدة لدور الشيوعيين الفلسطينيين إبان النكبة. ويجادل المؤلف أن قرار أغلبية ناشطي العصبة الشيوعية الانضمام إلى (ماكي) وسياساته كان نوعًا من خيارات البقاء التي تعلق بها الباقون في شمال فلسطين، وهذا البقاء تم تغليفه وتسويقه لاحقًا كخيار أيديولوجي مستقل، لكنه في جوهره نتاج لتحول الموقف السوفييتي من معاداة الصهيونية إلى التحالف معها وانضمام العصبة الشيوعية إلى معسكر المنتصرين اليهود أكسبهم حق العمل السياسي بعد أن اثبتوا ولاءهم لإسرائيل (ص 147-148).
بينما يسرد مناع في الفصل الرابع “استمرار التهجير بعد قصف المدافع” ويبين أن هناك 10 آلاف شخص تم تهجيرهم في الخمسينات بعد انتهاء الحرب (ص 237). إلى جانب ذلك نجح عدد مماثل من الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم وقراهم والاستقرار فيها فقرى كاملة لم تركع لسياسة التهجير مثل عيلبون ومجد الكروم وغيرها من قرى الشاغور وشريط الحدود اللبناني (ص 238). كما عرض الفصل الخامس “حكايات أشخاص وحكايات قرى” عاشوا حياة عادية وصعبة وعانوا احداثاً دموية، واستمرت السياسية الإسرائيلية لسنوات تسعى لتقليص عدد المواطنين العرب ومصادرة أكبر قدر من أراضيهم غير أن تلك السياسية لم تحقق أهدافها دائمًا لأن الباقين لم يستسلموا لما خططت لهم الحكومة ومؤسساتها، وقد شكلت حكايات قرى عيلبون وعيلوط وكفر قرع نموذجًا للتحدي والنجاح في التغلب على السياسة العامة كما أن مذبحة كفر قاسم تشكل دليلاً على التحدي والصمود وعدم ترك البيوت والرحيل (288-289).
كذلك بين مناع في الفصل السادس “صراع البقاء بين السياسة وجهاز القضاء” اعتماد الحكومة سياسة اضطهاد العرب الباقين على ثلاثة مركبات أساسية: التحكم في الاقتصاد والسياسة، وحركة السكان ووقتهم. وبالرغم من هذه السياسة الخانقة فإن الباقين نجحوا أحيانًا في استغلال كثرة المؤسسات المدنية الإسرائيلية لمعالجة القضايا لصالحهم للتغلب على الحكم العسكري ومؤسساته (ص 299). ركز الفصل السابع “الانتخابات البرلمانية والسلوك السياسي” على دور الشيوعيين المتعاونين مع الحكومة، وتزعم الشيوعيين العمل السياسي بين العرب الباقين في حيفا والجليل، كما بيّن تحولات موقف الشيوعيين وفق تحولات السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي وأن قراراتهم كانت مرهونة بموقف الاتحاد السوفييتي ولا تعبر عن البعد القومي والوطني الفلسطيني. لكن سلوك الفلسطيني السياسي مرتبط بصراع البقاء لا بالقناعات السياسية (ص 347). وفي خاتمة الكتاب أكد المؤلف أنه رغم المجازر والمذابح والنكبات التي هدفت إلى طرد الفلسطيني فقد كانت النتائج معاكسة فتعزز تكاتف الباقين في حيفا والجليل، وخاضوا نضالًا مشتركًا للعيش بالحرية والكرامة في الوطن المسلوب (ص 403).
أما بخصوص منهجية الكتاب فقد اعتمد المؤلف على الرواية الشفوية، وكتابات التاريخ المحلي الفلسطيني مدعومة بكم لا يستهان به من المصادر والمراجع الأولية (شهادات، وسير، وأوراق شخصية، ووثائق). وتضيف حكايات الفلسطينيين الباقين في إسرائيل بعد النكبة فرصة لسماع صوت المكبوتين من وجهة نظرهم “يضيف إلى الوثائق المكتوبة جوانب شخصية وإنسانية مفقودة في الروايات القومية الشمولية وفي وثائق الأرشيفات ومذكرات المنتصرين” (ص 11). ويجادل مناع بأهمية التاريخ الشفوي كمصدر رئيس وهام في توثيق النكبة الفلسطينية والأقلية الفلسطينية التي بقيت في الأراضي المحتلة عام 1948، كون الفلاحين الفلسطينيين لم يتعلم معظمهم القراءة والكتابة، ولم يكتبوا يومياتهم أو مذكراتهم، وهناك غياب أرشيفات فلسطينية، وقد بين كيفية تخطي البحث التاريخي إشكالية وثغرات التاريخ الشفوي من خلال فحصها وتمحيصها ومقارنتها مع وثائق ومصادر تاريخية أخرى. وما صلّب منهجية مناع اعتماده إلى جانب ما سبق على مصادر عربية وعبرية مثل اليوميات والصحافة والتاريخ المحلي الشفوي منه والمكتوب، كما عزز مجادلته بوثائق وقررات محكمة العدل العليا الإسرائيلية والتي أوردت أحيانًا وفي أماكن متفرقة شهادات الملتمسين الناجين، إلى جانب اعتماد مناع على مصادر أخرى أولية وثانوية باللغة الإنجليزية، إن هذا التعدد في نوعية المصادر وتنوعها من حيث اللغة قد أغنى دراسة مناع وجعلها تكاملية، وقد تحاشى التكرار وحشو المعلومات الزائدة.
لقد فتح مناع من خلال دراسته الجديرة والمتأنية والمتفحصة والنقدية النار على جزء مركزي من تيار ما بعد الصهيونية “المؤرخون الإسرائيلين الجدد” وخصوصًا المؤرخ الإسرائيلي بني موريس الذي استنتج من خلال دراسته للأرشيف الصهيوني في كتابه مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينين[1] أنه لم تكن هناك سياسة إسرائيلية عليا لطرد الفلسطينين، وقد أثبت مناع عدم منهجية ومصداقية هذا الطرح من خلال دراسته للباقين في شمال فلسطين؛ فالباقين أكدوا من خلال شهاداتهم الشفوية والمكتوبة وقوع عمليات طرد منهجية ومنظمة من قبل إسرائيل وعصاباتها إبان النكبة، وبذلك عزز مناع الرواية الفلسطينية حول وقوع التطهير العرقي وزعزع الرواية الصهيونية؛ وهذا ما حدا بموريس تقديم نقد غير منهجي على كتاب مناع، والهجوم الشرس على الكتاب كون مناع لم يستخدم المصادر الإسرائيلية الصهيونية وخصوصًا الأرشيف العسكري الإسرائيلي، إن نقد موريس يبتعد عن فكرة كتاب مناع التي تبحث في حياة وقضية الباقين في شمال فلسطين، وإن الابتعاد عن المصادر الإسرائيلية الأرشيفية قد منح دراسة مناع رشاقة وطاقة نقدية أسمعت صوت الضحايا من خلال التاريخ الشفوي.
تتقاطع منهجية مناع مع مجادلة مركزية للمؤرخ الفلسطيني صالح عبد الجواد (استاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت)، ومجادلة عبد الجواد تنطلق من مقولة استحالة تأريخ تاريخ النكبة الفلسطينية دون الاعتماد على التاريخ الشفوي الفلسطيني، ويبرر ذلك بعدد من الأسباب أهمها: النهب والتدمير والسرقة وهي ليست المسببات وحدها في إشكالية كتابة التاريخ الفلسطيني؛ وإنما غياب ثقافة الأرشفة أو إهمال أعمال الأرشفة لدى الجيوش العربية التي شاركت في حرب عام 1948، فكان لهذا الإهمال دور في غياب جزء من الحقيقة والوقائع التاريخية إبان النكبة، كذلك فرض الرقابة على الأعمال البحثية والتاريخية العربية من قبل السلطات العربية غير الديمقراطية أثر في منع السماح للباحثين بالدخول إلى الإرشيفات الحكومية والمركزية، إلى جانب ذلك هناك رقابة عسكرية إسرائيلة على الأعمال البحثية أو التوثيقة أو السير الذاتية التي يكتبها مسؤولون حكوميون أو وزراء فيجب عرضها على الرقابة العسكرية، كما بين عبد الجواد أن الأرشيفات الإسرائيلية التي فتحت أو العربية التي لم تفتح بشكل كامل، وإنما بقي جزء سري للغاية ولم يفتح، وهناك وثائق جرى تغطية جزء من محتواها بلون أسود غامق بحيث يخفي الكلمات الموجودة في النسخة الأصلية.[2] إن اعتماد مناع هذه المنهجية والتي يبدو أنه كتابة مطلع عليها كون المقال موجوداً في مصادر كتابه، وقد أسهمت تلك المنهجية في تعزيز أهمية التاريخ الشفوي الفلسطيني كونه يقول ما لا تقوله مصادر التأريخ الأخرى، فالتاريخ الشفوي هو تاريخ المهزومين بدون تدخلات ومعالجات تاريخ المنتصرين من أرشيفات ووثائق وسير ذاتية وغيرية.
أما النقد الجوهري على الكتاب فهو تبّنيه فرضية أن هناك معاملة خاصة حظيت بها الأقليات الدينية إبان التهجير وخصوصًا الأقلية المسيحية؛ وهذه الفرضية غير دقيقة ولا يمكن تعميمها كون أن هناك قرى مسيحية هجرت ودمرت بالكامل مثل إقرت وكفر برعم. كما يبدو أن هناك تحاملاً على العصبة الشيوعية من قبل مناع بخصوص سلوكها السياسي والانتخابي في الفترة ما بين 1948-1956. لكن بالمجمل فالكتاب يحمل الجديد وهو يشكل مرجعًا للتأريخ السياسي والاجتماعي للفلسطينيين في شمال فلسطين، ويركز على أحداث وقضايا وشهادات الضحايا، ويمكن القول إن مناع أنسن خطاب ضحايا النكبة، ويسجل له نقده وسجاله الأكاديمي البارع للمؤرخين الإسرائيليين الجدد وخصوصًا المؤرخ الإسرائيلي بني موريس الذي لا يرى في عمليات التهجير الجماعية إبان النكبة بأنها سياسة رسمية والدليل على ذلك عدم وجود أوامر مكتوبة في الإرشيف الصهيوني، وبمنهجية مناع التي تعتمد روايات الضحايا أثبت عدم منهجية موريس واستنتاجاته الأيديولوجية.
[*] باحث في الدراسات العربية والإسرائيلية- جامعة بيرزيت، فلسطين.
[1] بني موريس. مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينين. جزءان. عماد عواد (مترجم). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. 2013.
[2] صالح عبد الجواد. “لماذا لا نستطيع أن نكتب تاريخنا المعاصر من دون مصادر شفوية: حرب 1948 كحالة دراسية.” مجلة الدراسات الفلسطينة. عدد 64. 2005.