بقلم : د. محمد جبريني

مقدمة:
اتسمت العلاقة بين الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية منذ بداية الصراع بينهما كجزء من الصراع الدولي على المنطقة العربية قبل نحو مئة عام، بالإنكار المتبادل، وفقاً لأقصى صيغة من العداء المشبع عاطفياً وسياسياً وعقائدياً. وقد تمترس كل طرف خلف أسبابه ودوافعه السياسية، وروايته التاريخية والدينية، وهو ما ساعد في تأجيج الصراع واستدامته. وقد تجلت ذروة الصراع في وقوع النكبة عام 1948 وخسارة الشعب الفلسطيني لجزء كبير من وطنه.

وبعد حرب عام 1967، والصدمة التي شكلتها “النكسة” للعرب عامة، وللفلسطينيين خاصة، الذين كانوا يتطلعون لتحرير فلسطين المحتلة عام 1948، فإذا ببقية الأراضي الفلسطينية وجزءاً من الأراضي العربية تقع تحت الاحتلال؛ مما جعلهم لعوامل متعددة يعيدون النظر بحساباتهم التي بُنيت على انفعالات وردود فعل عاطفية لا تمتلك رصيد فعل حقيقي ولا تستند لحسابات عقلانية مدروسة.

ورغم النشوة التي أحدثتها حرب عام 1973، التي أعادت شيء من الاعتبار للكرامة العربية المهدورة، إلا أن النتائج السياسية لتلك الحرب كانت محدودة جداً، مما هيأ العرب والفلسطينيين للتوصل إلى استنتاجات مفادها أن حلمهم بتحرير فلسطين من “النهر إلى البحر” لم يعُد هدفاً واقعياً منظوراً، في ظل المعطيات الجيوستراتيجية الجديدة. وقد بدأت منذ حرب عام 1973، “حالة انتظار” لحل الصراع العربي-الإسرائيلي عموماً، والفلسطيني-الإسرائيلي على وجه التحديد، على أُسس جديدة، ومن منظور مختلف عما كان سائداً قبل حرب عام 1967، بما في ذلك الاستعداد للتعاطي السياسي والتفاوضي مع إسرائيل، بعد أن كان ذلك محرماً في الأدبيات الثورية الفلسطينية والقومية العربية.

وبعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978، وبغض النظر عن الرفض العربي العام لتلك الاتفاقية، إلا أن تلك الخطوة شكلت سابقة هامة، حددت بصورة جلية ملامح الخطوات التي ستليها.

وقد شكلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، نقطة تحول ساهمت في كسر حالة الانتظار بحدوث معجزة تُحرك الوضع الراهن، والركود السياسي، وتخلق حِراكاً نحو الحل. وقد حدثت المعجزة بالفعل، وأدركت القيادة الفلسطينية بأنه لا سبيل للحل السلمي مع إسرائيل إلا بالموافقة على القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع، التي تعني فيما تعنيه “الاعتراف” بإسرائيل والقبول بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، بما يمكن الفلسطينيين من تقرير مصيرهم وحل مشكلة لاجئيهم.

وكذلك أدركت إسرائيل في نقطة تحول فارقة، بأنه لم يبق أمامها سوى الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، بعد أن كشفت الانتفاضة عناصر ضُعفها، وأيقنت بأنها لن تستطيع مواجهة معضلاتها دون الإقدام على تلك الخطوة. وهذا ما فتح المجال وبالتظافر مع عوامل ومتغيرات أخرى؛ دولية، وإقليمية، ومحلية؛ موضوعية، وذاتية، للدخول في مسيرة السلام التي بدأت بطيئة ومتعثرة في “مؤتمر مدريد”. وسرعان ما حققت قفزة سريعة في “أوسلو”، نتج عنها توقيع أول اتفاقية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، تلاها بوقت قصير، توقيع اتفاقية سلام دائم بين الأردن وإسرائيل.

اتفاقيات المرحلة الانتقالية:
لم يعد الخلاف الجوهري بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد توقيع اتفاقيات المرحلة الانتقالية المعروفة باسم “اتفاقيات أوسلو”- قبل نحو واحد وثلاثون عاماً- قائماً على أساس مبدأ قبول تأسيس الدولة الفلسطينية، مثلما استمر الوضع لأكثر من عشرين عاماً قبل اندلاع الانتفاضة الأولى، وإنما بات يكمن في المعايير المفروضة للقبول بتأسيس تلك الدولة ودورها، وفي كيفية تعاطي إسرائيل مع الحقوق الفلسطينية المُعبر عنها في قضايا الصراع المتعلقة بالشأن الإقليمي (حدود الدولة الفلسطينية، والمستوطنات، والقدس، ومصادر المياه)، وتلك المتعلقة بالسيادة وحق العودة.
فقد حرصت إسرائيل على فرض معايير تتجاوز المرجعيات الدولية التي تقر بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمُعبر عنها في مختلف قضايا التفاوض النهائي. واستعاضت عنها بالشرعية التفاوضية ذات المرجعية الذاتية، ونظرت لأهدافها ومصالحها الاستراتيجية كقضايا غير قابلة أصلاً للتفاوض. واعتمدت على قوتها القهرية الناتجة عن عدم التوازن بين الجانبين، لتغيير الأوضاع لصالحها وفرض الحل على الطرف الفلسطيني، دونما تقدير لحقوقه ومواقفه واحتياجاته.
جرى استخدام مصطلح “قضايا الحل النهائي”، أو “قضايا التسوية الدائمة”، لأول مرة في مؤتمر “مدريد للسلام في الشرق الأوسط” عام 1991، وبات متعارفاً على هذا المصطلح كاختصار لما يُسمى العناصر الرئيسة التي تُعيق التوصل إلى تسوية سياسية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
لقد أصرت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على تسويق مصطلح “قضايا الحل النهائي” في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. فالمصطلح يُوجِد فصلاً بين قضايا وعناصر الصراع، ولا يردها كلها إلى جوهره، المتمثل باحتلال إسرائيل للأراضي العربية والفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم؛ وبالتالي لا يفترض تلازماً بين حل هذه القضايا. ويحوِّلها إلى قضايا فرعية، يمكن حسب الفهم الأمريكي للتسوية، التغلب عليها عبر “صفقات” دون الاحتكام للمرجعيات الدولية، من خلال التوصل لحلول متفق عليها عن طريق المفاوضات المباشرة بين طرفي الصراع، حتى وإن جاءت هذه الحلول مخالفة للقانون الدولي.
أما إسرائيل فهي ترفض أي مرجعية دولية لتسوية الصراع باستثناء قراري مجلس الأمن الدولي (242، 338)، اللذان تخضعهما لتفسيراتها الخاصة، بحيث يشكلان فقط وجهاً عاماً لإدارة المفاوضات في المستقبل حول التسوية النهائية المستقلة التي تستمد قوتها من ذاتها.

اتفاقيات “أوسلو”:
قدمت منظمة التحرير الفلسطينية تنازلاً تاريخياً عام 1988، باعترافها المبدئي بسيادة إسرائيل على 78% من فلسطين التاريخية على أمل بأن يتمكن الفلسطينيون من العيش بحرية فوق الــ22% المتبقية والتي تخضع للاحتلال منذ عام 1967. وفي عام 1993، اتخذت منظمة التحرير قراراً بالسعي للحصول على الاستقلال وتأسيس دولة فلسطينية عبر المفاوضات؛ وبناءً على ذلك وقعت المنظمة وإسرائيل عدداً من الاتفاقيات بين الأعوام 1993-1999 وهي ما عرفت بـ “اتفاقيات أوسلو”.
وُضعت “اتفاقيات أوسلو” على أساس فكرة أن الطرفين سيطوران تدريجياً علاقة من الثقة تسمح لهما بحل قضايا الوضع الدائم الأكبر والأصعب. وقد تمت الموافقة على مبادئ جوهرية معينة ضمن هذه الاتفاقيات، أبرزها: الفترة المؤقتة ستكون محدودة زمنياً، ولا يجوز عمل أي شيء من شأنه التأثير في نتيجة مفاوضات الوضع الدائم، كما يجب أن يتوافق الحل النهائي مع قراري مجلس الأمن الدولي (242، 338)، اللذان يؤكدان عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة العسكرية.
غير أنه لم يكن هناك في “اتفاقيات أوسلو” أي جهة أو مرجعية، تُلزم “إسرائيل” بإنهاء المفاوضات ضمن سقف زمني محدد.

سنركز هنا على اتفاقية إعلان المبادئ، والاتفاقية الفلسطينية الإسرائيلية المؤقتة بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة، كونهما تضمنتا مسائل سياسية وقانونية، في حين اقتصرت بقية الاتفاقيات المرحلية الأخرى على معالجة مسائل أمنية واقتصادية وفنية وإجرائية.

أولاً: اتفاقية إعلان المبادئ:
أحدثت اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة في واشنطن بتاريخ 13 أيلول 1993، نقلة مهمة في العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية، كونها رمزت إلى اعتراف الطرفين بالحقوق الوطنية المتبادلة. وعبرت عن نوايا مشتركة للعمل سوياً من أجل التوصل إلى حل سياسي متفقاً عليه، إلى جانب الاتفاق على عدد من المبادئ، والخطوط المشتركة فيما يتعلق بالمراحل القادمة .
وجاء في مقدمة الاتفاقية:
إن حكومة دولة إسرائيل والفريق الفلسطيني ممثل الشعب الفلسطيني، يتفقان على أن الوقت قد حان لإنهاء عقود من المواجهة والصراع، والاعتراف بحقوقهما المشروعة والسياسية المتبادلة، والسعي للعيش في ظل تعايش سلمي وبكرامة وأمن متبادلين، ولتحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة وشاملة، ومصالحة تاريخية من خلال العملية السياسية المتفق عليها .
ونصت المادة الأولى من الاتفاقية على:
أن هدف المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية ضمن عملية السلام الحالية، في الشرق الأوسط هو، من بين أمور أخرى، إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية ومجلس منتخب للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الأمن (242،338) .
لقد كان من المفهوم أن الترتيبات الانتقالية هي جزء لا يتجزأ من عملية السلام بمجملها، وأن المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن (242 و338). ويُلاحظ هنا أن إعلان المبادئ في الديباجة ونص المادة الأولى منه، قد أُخذ بالمفهوم العام للحكم الذاتي، باعتباره مرحلة انتقالية مؤقتة، وأن هناك اعترافاً متبادلاً بين طرفي الاتفاقية الموقعين عليها، وهما الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وأن الحكومة الإسرائيلية تعترف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وباعتراف إسرائيل بالشعب الفلسطيني، والأرض الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، تكون قد اعترفت بشكل مباشر أو غير مباشر بالدولة الفلسطينية ، ولكن في جميع الأحوال دولة بالمعايير والاشتراطات الإسرائيلية.
مارست السلطة الفلسطينية مهام الحكومة، وتم الاعتراف لها بهذا الدور بموجب اتفاقية إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية، إذ نصت المادة الثالثة على أنه:
من أجل تمكين الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم نفسه وفقاً لمبادئ ديمقراطية، ستجري انتخابات سياسية عامة ومباشرة وحرة للمجلس بإشراف ومراقبة دوليين متفق عليهما، فيما تقوم الشرطة الفلسطينية بتأمين النظام العام .
ونصت الفقرة (3) من المادة نفسها على: أن “هذه الانتخابات ستُشكل خطوة تمهيدية انتقالية هامة نحو تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة” .
كما نصت المادة الرابعة، فيما يتعلق بولاية المجلس، على اعتبار أن الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة ترابية واحدة يجب المحافظة على وحدتها وسلامتها خلال الفترة الانتقالية .
ويُلاحظ هنا، أن الاعتراف بالوحدة الترابية، واعتبار المجلس سلطة تشريعية يؤكد أن مفهوم الدولة الفلسطينية موجود، ومقبول، ومعترف به لدى الأطراف الموقعة على الاتفاقية، ونقصد هنا بالذات، إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والفيدرالية الروسية، باعتبارهما شاهدين على الاتفاقية .

ثانيا: الاتفاقية الفلسطينية-الإسرائيلية المؤقتة بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة:
جاءت الاتفاقية الفلسطينية-الإسرائيلية المؤقتة بشأن المرحلة الانتقالية للضفة الغربية وقطاع غزة التي وقعت في واشنطن في 28 أيلول/ سبتمبر 1995، محتوية إيحاءً واضحاً تجاه الدولة الفلسطينية؛ من خلال الديباجة وموادها الأساسية، وبالتالي؛ فهي تعكس اعترافاً كامناً بتلك الدولة من الطرف الإسرائيلي والولايات المتحدة.
أشارت الديباجة، إلى أن طرفي الاتفاقية هما حكومة دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثل الشعب الفلسطيني، وأن كلا الطرفين يعترف للطرف الآخر بحقه في ممارسة حقوقه السياسية والشرعية. وأن الهدف – ضمن أمور أخرى – هو تأسيس سلطة فلسطينية انتقالية قبل انتخاب مجلس يُعرف فيما بعد بالمجلس الفلسطيني، وانتخاب رئيس سلطة تنفيذية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية لا تزيد عن خمس سنوات من تاريخ توقيع اتفاقية غزة – أريحا في 04/05/1994، المؤدية إلى حل دائم حسب قراريّ مجلس الأمن (242 و338). ويعترف كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بأن هذه الانتخابات ستشكل خطوة مرحلية تحضيرية تؤدي إلى تحقيق الشرعية للشعب الفلسطيني ومطالبه العادلة، وستكون ضمانة حقيقية لقيام مؤسسات فلسطينية ديمقراطية.
ثم أشارت المادة الأولى من الفصل الأول من الاتفاقية، إلى أن:
إسرائيل ستنقل المسؤوليات والسلطة، كما هي محددة في هذه الاتفاقية، من الحكومة العسكرية الإسرائيلية وإداراتها المدنية إلى المجلس(الفلسطيني). ونصت المادة الثانية فيما يتعلق بكيفية إجراء الانتخابات لاختيار أعضاء المجلس، إن هذه الانتخابات ستمثل بداية في الاتجاه المؤدي إلى الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة، وهي بالتالي ستؤدي إلى إقامة مؤسسات فلسطينية ديمقراطية.
وفيما يتعلق بتركيبة المجلس الفلسطيني، نصت المادة (3) على:
أن المجلس الفلسطيني ورئيس السلطة التنفيذية للمجلس، يُشكلون سلطة الحكومة الانتقالية الفلسطينية، وأنه ستكون للمجلس صلاحيات تشريعية، وصلاحيات تنفيذية. وسيكون المجلس مسؤولاً عن كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية لكل المسؤوليات التي ستنقل إليه، كما هو وارد في الاتفاقية .
وأشارت المادة (4) إلى حجم المجلس الفلسطيني المكون من 82 ممثلاً ورئيس السلطة التنفيذية، والذين سيتم انتخابهم مباشرة وتلقائياً من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية وقطاع غزة، وللمجلس لجنة تمارس السلطة التنفيذية تسمى “السلطة التنفيذية” يرأسها الرئيس المنتخب، ولها الحق في أن تضع خططها الداخلية وطرق صياغة قراراتها .
وجاء في الفصل الثالث، المادة (17):
أنه حسب إعلان المبادئ، فإن ولاية المجلس تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة كوحدة متكاملة، فيما عدا المواضيع المؤجل البحث فيها إلى المفاوضات النهائية، وهي: القدس، والمستوطنات، المناطق العسكرية المحددة، اللاجئون الفلسطينيون، الحدود، العلاقات الخارجية، وكذلك السلطات والمسؤوليات التي لم تسلم للمجلس الفلسطيني .
مما سبق، يتضح بشكل جلي أن “اتفاقيات أوسلو”، ورغم ما انطوت عليه من ثغرات ونواقص، قد وضعت الأساس العملي لتأسيس الدولة الفلسطينية ومكنت من عودة أكثر من نصف مليون فلسطيني وتحرير أكثر من ثمانية آلاف أسير فلسطيني وإنشاء سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية ورموز سيادية من قبيل مطار وميناء دوليين وتبادل التمثيل الدبلوماسي مع الدول وغير ذلك. ولكن حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ إقدام قوى اليمين الإسرائيلي المتطرف على اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية “اسحق رابين” ، عادت واخترقت تلك الاتفاقيات، بل انقلبت عليها وأعاقت تطبيقها، وعطلت عملية إيصالها لمآلاتها بالتوصل لاتفاق نهائي، وأبقت عليها بالشكل الذي يخدم مصالحها فقط!

الاستخلاصات الأساسية:
بقدر ما كانت الآمال والتطلعات كبيرة عند توقيع اتفاقيات “أوسلو” قبل واحد وثلاثون عاماً، بقدر ما كانت خيبة الأمل قاسية إزاء فشل تلك الاتفاقيات في الوصول إلى مآلاتها النهائية بالتوصل لاتفاق سلام نهائي بين إسرائيل وفلسطين؛ ينهي حالة الصراع والعداء والكراهية، ويفتح باب التعاون والتعايش السلمي. ويعظم المنافع لكلا الطرفين.

اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، ومدت يدها للسلام، لكنها لم تستطع أن تُسوِق معنى وأهمية ما أقدمت عليه للشعب الإسرائيلي بما يحسم معركة السلام في عقله ووجدانه، ويسيطر على غرائز الخوف والتطرف والعنصرية المسكونة في أوساط واسعة ومتزايدة منه. ولم تستطع أن تجابه وتحتوي حركات الإسلام السياسي المرتهنة لأيدلوجيات دينية حزبية ولأجندات ومحاور إقليمية لها مصالحها الخاصة والتي لم تدخر جهداً بالعمل على إفشال مشروع التسوية السياسية من خلال ممارسة كل أشكال التحريض والتخوين والتكفير ضد السلطة الوطنية الفلسطينية ، والأعمال المسلحة وعمليات التفجير ذات التوقيتات السياسية المدروسة في المدن الإسرائيلية تحت شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ضمن “المشروع الإسلامي العالمي”، وكانت المغذي الرئيس لقوى اليمين الصهيوني المتطرف الرافضة أصلاً لأية تسوية سياسية.
أما “إسرائيل”، فقد أقرت عن غير يقين بوجود الشعب الفلسطيني واعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ولم تعترف بالدولة الفلسطينية، وتركت موضوع الدولة لما ستؤول إليه المعطيات على أرض الواقع. وهي وإن وافقت مبدئياً بعد ذلك على التأسيس المشروط للدولة، فقد انطلقت في موقفها هذا من موضع الرفض للمقومات الأساسية للدولة، لا من موقع القبول. لقد وافقت “إسرائيل” على الدولة الفلسطينية التي ستحل مشاكلها الديمغرافية والأمنية والسياسية، وقيدت موافقتها باشتراطات تُفرغ الدولة من أي مضمون حقيقي في الاستقلال والسيادة ويحرمها من تجسيد الحقوق الفلسطينية المشروعة، وبصورة خاصة حق العودة.
كما أنها لم تستطع مجابهة وكبح جماح قوى اليمين الديني الصهيوني المتطرف التي عملت ونجحت في شل عملية التسوية السياسية، وحرضت وتمكنت من اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي قاد مشروع التسوية وذلك بهدف تحقيق نبوءات وأساطير توراتية بإنشاء دولة إسرائيل الكبرى.

إن وصول عملية السلام للنقطة التي وصلت إليها بعد مرور واحد وثلاثون عاماً من المراوحة بالمكان، بل وللتراجع إلى الخلف، ينم عن فشل متعدد الأبعاد ومختلف الأوجه. وكان من الأولى بإسرائيل “دولة الاحتلال”، أن تمتثل للشرعية الدولية، بدلاً من الاستقواء بشرعية المفاوضات القائمة على موازين القوة غير المتكافئة، وأن تمد جسور الثقة نحو الشعب الفلسطيني لا أن تنتظرها منه. كان عليها أن تُعبر عن قلقها ومخاوفها، مثلما هي رغباتها وتطلعاتها، بطريقة تصل إلى وعي وضمير ووجدان الشعب الفلسطيني من موقع الشراكة والمنافع المتبادلة، لا في إطار الاشتراطات والإملاءات من موقع القوة والاستعلاء وبما يخدم مصالحها هي وحسب. كان عليها أن تساعد الشعب الفلسطيني في التغلب على معضلاته الناجمة على احتلالها له لعقودٍ طويلة بما يُحقق توازنه الداخلي؛ ولم يختلف الفلسطينيون على شيء أكثر من اختلافهم على كيفية التعاطي مع إسرائيل، اعتدالاً وتشدداً، انفعالاً وتعقلاً.
أما اليوم، وبعد الانتخابات الإسرائيلية للكنيست ال 25 التي أُجريت عام 2022 والتي تفوقت بها أحزاب معسكر اليمين الديني والصهيوني المتطرف في إسرائيل، وتشكيل حكومة عنصرية مُنِحت بها شخصيات ذات ماضي جنائي إشكالي وزارات هامة ووظائف أمنية بالغة الخطورة، مما يفصح عن التوجهات السياسية والأمنية الإسرائيلية الجديدة/ القديمة المقترنة بممارسة التطهير العرقي والإبادة الجماعية ومختلف جرائم الحرب في قطاع غزة بغض النظر عن المسوغ الذي منحها “الشرعية” وسهل عملها. والمضي في تنفيذ الإجراءات أحادية الجانب في الضفة الغربية من قبيل السعي لضم واستيطان نحو 70 بالمائة من مناطق C والتي تشكل نحو 40 بالمائة من مساحة الضفة الغربية، واستمرار الاعتداءات في القدس ومحاولات تهويد المسجد الأقصى، ومحاولة تشريع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين واستمرار التضييق عليهم، والسعي للقضاء على السلطة الوطنية الفلسطينية نواة الدولة الفلسطينية العتيدة ونهب مواردها وقرصنة أموالها. ورصد موازنات ضخمة لتهويد النقب والجليل، والاستمرار في سياسة التمييز العنصري على خلفية قومية ضد كل من هو غير يهودي، وإطلاق رصاصة الرحمة على مشروع “حل الدولتين” والإعلان بشكل واضح بأن جل ما يمكن منحه للفلسطينيين هو حكم ذاتي محدود وخالي من أي مظهر سيادي. الأمر الذي سيزيد -إن استمر الوضع على ما هو عليه دون تدخل دولي جدي وحازم يلزم إسرائيل بالامتثال للشرعية الدولية بما فيها مخرجات أعمال محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية – من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والمجتمعية، ويشعل الحالة الميدانية على الأرض، ويعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى الوضع الذي سبق “اتفاقيات أوسلو”؛ نضال وطني شعبي وسياسي ودبلوماسي وقانوني شامل على الأرض الفلسطينية وفي المحافل الدولية ضد الاحتلال لتقرير المصير وتحقيق الحرية والاستقلال والعودة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشريف وفقاً للحقوق السياسية الفلسطينية المقررة في القانون الدولي تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.