
د. محمد جبريني
تمهيد: من التحوّل الرمزي إلى التغيير البنيوي
في الأشهر الأخيرة، بات من الواضح أن مواقف بعض الدول الغربية تجاه القضية الفلسطينية لم تعد على حالها. الاعترافات الرسمية المرتقبة بالدولة الفلسطينية من قبل فرنسا وكندا، إضافة إلى التحول المتنامي في الخطاب السياسي الغربي، تشير إلى لحظة إعادة تموضع داخل المعسكر التقليدي الداعم لإسرائيل. هذا الحراك المتزايد بات يفرض على بريطانيا، ذات الوزن التاريخي والأخلاقي في الملف الفلسطيني، إعادة النظر في سياستها المترددة.
1. الإرث التاريخي البريطاني: من بلفور إلى لحظة الاعتراف
لا يمكن مقاربة الموقف البريطاني دون استحضار خلفيته التاريخية الممتدة من “وعد بلفور” إلى نهاية الانتداب على فلسطين عام 1948. هذه المحطات حمّلت بريطانيا عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا لا يزال يثقل قراراتها. التصويت الرمزي في البرلمان عام 2014 للاعتراف بدولة فلسطين لم يترجم إلى سياسة تنفيذية، لكن يبدو أن الظروف الراهنة تفرض لحظة مراجعة جدية، تزامناً مع تزايد الدعوات الدولية والداخلية للاعتراف الرسمي.
2. التحولات في المزاج الغربي: من الدعم المطلق إلى نقد السياسات الإسرائيلية
الإعلان عن الاعترافات الأخيرة، ولا سيما من فرنسا وكندا، تُعد نقطة تحول لافتة لأنها تصدر من داخل معسكر ظل تاريخيًا قريبًا من الموقف الإسرائيلي. ما يميز هذه الاعترافات أنها لم تأتِ كردّ فعل، بل كمحصلة لإدراك جديد داخل الغرب نفسه بفشل سياسات الصمت أو الانحياز، وبالضرر الذي يلحقه الاحتلال بصورة الغرب في العالم. بات واضحًا أن استمرار تجاهل حقوق الفلسطينيين يُنظر إليه كتهديد لأخلاقية النظام الدولي.
3. بريطانيا بين الاستراتيجية والسياسة الداخلية
يتغير المزاج البريطاني ببطء، لكنه يتحرك باتجاه أكثر وضوحًا في مساءلة السياسات الإسرائيلية. تصريحات رئيس الوزراء كير ستارمر حول أن “الدولة الفلسطينية حق غير قابل للتصرف”، تشكّل منعطفًا سياسياً مهماً، خاصة مع توقعات بأن يتبنى حزب العمال الحاكم الاعتراف رسميًا في سبتمبر المقبل.
من جهة أخرى، تظل الحكومة البريطانية حريصة على عدم المساس بعلاقتها التاريخية مع إسرائيل أو خوض مواجهة مباشرة مع السياسة الأمريكية، ما يجعل الاعتراف مشروطًا ـ كما جاء في تصريحات وزير الخارجية ديفيد لامي ـ بوقف الحرب في غزة والانخراط في مسار سياسي حقيقي.
4. الاعتراف ليس رمزيًا: بل خطوة استراتيجية
الاعتراف البريطاني المرتقب لا يمكن اعتباره خطوة رمزية، بل يحمل دلالات سياسية واستراتيجية عميقة:
- إعادة الاعتبار لحل الدولتين بعد أن جرى تهميشه فعليًا.
- وضع إسرائيل أمام سقف قانوني واضح لأي تسوية مستقبلية.
- تعزيز موقف السلطة الوطنية الفلسطينية مقابل محاولات تهميشها أو تجاوزها.
- إرسال رسالة واضحة للداخل الإسرائيلي بأن الاحتلال مكلف سياسيًا وأخلاقيًا.
5. السياق الدولي المساند: مؤتمر نيويورك وتكريس الإجماع
بيان مؤتمر نيويورك الدولي لحل الدولتين (يوليو 2025) بدعم سعودي_ فرنسي ومشاركة عربية ودولية واسعة، شكّل دفعة قوية نحو اعتراف شامل بالدولة الفلسطينية، وربط أي تطبيع مستقبلي بإنهاء الاحتلال. حضور بريطانيا ضمن هذا الإجماع ـ أو غيابها عنه ـ سيحدد مدى مصداقية التزامها بالقانون الدولي.
6. ستارمر… هل يفي بالوعد؟
في 29 يوليو، تلقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس اتصالًا من رئيس الوزراء البريطاني ستارمر، أبلغه فيه نية بريطانيا الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر، ما لم تتراجع إسرائيل عن سياساتها الكارثية في غزة. دعوة ستارمر للرئيس الفلسطيني لزيارة لندن تعزز هذه الجدية، ويبدو أن الحكومة البريطانية بدأت بتفعيل خطوات عملية: إرسال مساعدات عاجلة، استقبال جرحى فلسطينيين للعلاج، والضغط لإيصال المساعدات عبر الأمم المتحدة.
خاتمة: بريطانيا أمام لحظة اختبار حقيقي
الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين، المتوقع في سبتمبر، يمثل أكثر من قرار سياسي. إنه اختبار لمدى قدرة بريطانيا على التحرر من أعباء الماضي، والانحياز لعدالة الحاضر، والانخراط في صناعة مستقبل أكثر استقرارًا في الشرق الأوسط.
إذا ما تم الاعتراف كما هو متوقع، فإننا نكون أمام تأسيس لمرحلة جديدة من التوازن في المواقف الغربية، حيث لم تعد الرواية الفلسطينية مهمشة، ولا الاحتلال الإسرائيلي بلا تكلفة.
هل تكون بريطانيا بالفعل جزءًا من هذا التحول البنيوي؟
أم أن حسابات السياسة ستُرجئ خطوة كانت يجب أن تتم قبل عقود؟
الجواب في سبتمبر القريب… والاعتراف البريطاني لحظة حصوله، سيشكل بداية العد التنازلي للانطلاق نحو تجسيد الدولة الفلسطينية على أرض الواقع، وهو ما يفسر عمق وقوة الصدمة الإسرائيلية من هذا التحول الجدي بالموقف البريطاني!