د. منتصر جرار: المدير العام لمركز الأبحاث- منظمة التحرير الفلسطينية
نحو تفعيل الدبلوماسية الشعبية الرقمية الفلسطينية
نموذج الحرب على غزة/تشرين الأول 2023
“كي تفوز قصصنا ونسيطر على خيال العالم”
تمهيد عن الدبلوماسية الشعبية الرقمية
تعتبر الدبلوماسية الرقمية أداة أساسية، سواء في السياسة الخارجية للدولة (الدبلوماسية العامة) أو في الدبلوماسية الرقمية الشعبية، وهي استخدام أدوات الاتصال الرقمية (وسائل التواصل الاجتماعي (للتواصل بين الدول أو الشعوب.
الدبلوماسية الشعبية الرقمية، هي التطور الذي طرأ على الدبلوماسية في القرن الواحد والعشرين، فهي دبلوماسية أتاحت للأفراد تصدير موقف شعبي في القضايا المهمة، يمكن أن تشكل طريقة لدحض الإشاعات التي يبثها الاحتلال الصهيوني عبر أدواته المختلفة. ومع تصاعد ثورة الإعلام الرقمي، وصعود دور منصات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الهواتف الذكية؛ فقد أضحت تلك المنصات، ومعها الأدوات الرقمية المختلفة، منبراً مهماً لمخاطبة الجماهير خطاباً مباشراً موجهاً لجميع الناس باختلاف أعمارهم وجنسهم وانتماءاتهم. ويمكن القول إنّ الدبلوماسية الشعبية الرقمية تساهم بالتعريف بقضايا الشعوب المستعمَرة، وخلق رأي عالمي من شأنه الضغط على الحكومات في سبيل إيجاد حلول أو على الأقل الضغط على الحكومات والدول المستعمِرة.
وتستخدم الدبلوماسية الشعبية أساليب مختلفة للتعبير عنها، من خلال تنظيم المسيرات والتظاهرات من أجل لفت انتباه الأنظمة والتأثير عليها من أجل تبني خطابات هذه المسيرات والتظاهرات، ومن الأساليب الأخرى تنظيم زيارات للوفود الشعبية والاتحادات والنقابات للدول الأخرى لحشد التأييد والتأثير على الأرض وتفعيل الضغط، كما تعتبر الشراكات الأكاديمية والثقافية من أهم وسائل تعميق الدبلوماسية الشعبية. وهي بذلك تعمل على كسب ثقة الجماهير العالمية، وجلب تأييدهم وتحقيق الأهداف المعلنة من الدولة، التي تسعى بشكل واضح وعلني لتحقيقها. وتختلف الدبلوماسية الشعبية عن غيرها من الأساليب الدبلوماسية، باستمراريتها وعدم اقترانها بأزمة معينة أو مدة زمنية.
وتعتمد الدبلوماسية الرقمية الفلسطينية على وسائل متعددة، أبرزها المواقع الإلكترونية، بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائط الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والأدباء والشعراء والإعلاميون والناشطون الشباب والمؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي. ويساعد مفهوم الدبلوماسية الشعبية الرقمية فلسطينياً، على سد التقصير في الدبلوماسية الرسمية الرقمية، كما أنه رافعة للفعل السياسي الفلسطيني.
الدبلوماسية الشعبية الرقمية رافعة للعمل السياسي
عند الاطلاع على المواقف الرسمية الإقليمية والدولية في الأزمات والحروب التي حدثت على مدار سنوات الصراع، والتي تجاوزت فيها إسرائيل كل المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية، لم ترتق هذه المواقف إلى أكثر من الإدانات الخجولة والدعوة إلى تخفيض التصعيد ونبذ العنف، حيث أصبح دورها لا يتجاوز دور الصليب الأحمر، ما جعل إسرائيل تتجاوز كل الأعراف الدولية في عدوانها هذا على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ورغم المحاولات الفلسطينية الرسمية من خلال السفارات والتوجه للمنظمات الأممية لوقف هذه الاعتداءات المتكررة، إلا أنها لم تستطع مواجهة هذا الانحياز الدولي والكيل بمكيالين في سياسة هذه الدول والمنظمات في التعامل مع القضية الفلسطينية، من هنا، أصبح على الفلسطينيين التفكير خارج الصندوق والبحث عن وسائل بديلة للتأثير على المجتمع الدولي من أجل الضغط على إسرائيل لوقف جرائمها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
أصبح التواجد الفلسطيني على الإنترنت جزءاً لا يتجزأ من السياسة الجغرافية للأمة، فلم تعد فلسطين مجرد أرض متنازع عليها، بل صارت مساحة افتراضية يمكن من خلالها للجغرافيا المادية والكائنات الفعلية إعادة تحديد أراضيها على المساحات المفقودة (التاريخية والمادية والبعيدة) والمستقبل المتخيل لفلسطين. على هذا النحو، يمكن اعتبار هذه لحظة مقاومة برسم الخرائط، بتخيل فلسطين التاريخية أو الوصول إليها لمن هم في المنفى، أولئك الذين تم تهميشهم أصبحت لديهم الآن “إمكانية الوصول”، ويُسمح للفلسطينيين بتصور قربهم بعضهم بعض بعض ومن “فلسطين بأكملها”.
بداية الاختراق: عن الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية
بالتزامن مع انطلاق ما سميت “ثورات الربيع العربي” عام 2011، بدأت إسرائيل نشاطها في الدبلوماسية الشعبية الرقمية، التي رأت فيها فرصة لاختراق الرأي العام العربي، بخاصة بعد إدراكها دور الإعلام الرقمي وإمكانياته في إحداث تغييرات سياسية واجتماعية، حيث استغلت هذه الثورات لتحقيق ما عجزت عنه لعقود طويلة، وهو التواصل مع الشعوب العربية لأول مرة في تاريخها، والتأثير في مواقفها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وقد تمكّنت الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية، التي احتلت عام 2017 المرتبة التاسعة في تصنيف الدبلوماسية الرقمية، من جذب انتباه مستهلكي المنصات الرقمية العرب، وتحقيق التواصل والتفاعل معهم، وترسيخ فكرة استحالة الوصول إلى ما وصلت إليه إسرائيل من تطوّر، وإضعاف الروح المعنوية، إلى جانب تحقيق الاختراق الفكري لهذه الشعوب.
أنشأت وزارة الخارجية الإسرائيلية دائرة مستقلة مختصة بالدبلوماسية الرقمية عام 2012، مكملة لنهج الدبلوماسية العامة الإسرائيلية، ولكن بحلّة جديدة، محاولة بذلك تسويق نفسها للعالم عن طريق استغلال هذا النوع من الدبلوماسية، من أجل تمكين المواطنين الإسرائيليين من الاستفادة من كونهم مستهلكين ومنتجين للمعلومات، وبما يتيح لهم المجال للمشاركة في جهود الدبلوماسية العامة الإسرائيلية على مستوى شعبي.
إن شعور إسرائيل بأهمية الدبلوماسية الشعبية الرقمية، يأتي بعد أن عانى الاحتلال لسنوات طويلة من صعوبة تحسين صورته عربيّاً ودوليّاً، وتعرضه لكثير من الانتقادات على خلفية تبني إسرائيل للقوة الصلبة عسكريّاً واقتصاديّاً في مواجهة الفلسطينيين والعرب.
ساحة المواجهة: كشف التضليل وصعود السردية الفلسطينية
تبلورت ساحة المواجهة الجديدة في الفضاء الرقمي، بين الفلسطينيين ومناصريهم من جهة، والإسرائيليين ومناصريهم من جهة أخرى، فيما برزت شركات التواصل الاجتماعي كمتحكم أوحد في هذه الساحة، باعتبارها المالك والمنظم في ذات الوقت. ووصفت هيئة الإذاعة البريطانية BBC وسائل التواصل الاجتماعي بـ “أحدث ساحة للقتال في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
أحداث السابع من أكتوبر “معركة طوفان الأقصى”
بعد أحداث غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بدأت إسرائيل، مدعومة من الدول الغربية، بتصدير روايتها للعالم كالعادة بصورة الضحية، وجنّدت كل إمكانياتها الدبلوماسية وعلاقاتها الدولية في شيطنة كل ما هو فلسطيني، وحصر الصراع في أحداث العملية التي حدثت، حيث ركزت الرواية الإسرائيلية على استحضار مجموعة من المعلومات المضللة والانطباعات المنحازة مثل (11 سبتمبر الإسرائيلي، الهولوكوست الجديد، إرهاب العرب، والاغتصاب.. إلخ).
“خلال فترة زمنية محدودة، من 7 حتى 20 تشرين الأول، شهدنا تجاوز حجم المحادثات عبر الإنترنت 311 مليون محادثة (منشور أو مقال) ولدت 1.5 مليار تفاعل (إعجاب، تعليق، إعادة نشر)، وقد تم جمع 9 ملايين خبر صحفي فيما يتعلق بالموضوع من 730 ألف وسيلة إعلام رقمية، ما يشير إلى انتشار وانتباه كبيرين لهذا الموضوع حول العالم. يتزايد بصورة خطية تصاعدية بعد الأسبوع الأول الذي تلته مباشرة حادثة مجزرة المستشفى المعمداني، كان تويتر (X) المنصة الرئيسية للحوار والتفاعل، حيث إن 96.5% من الحوارات و76% من التفاعل كانت عليه، تلاه تيك توك بنسبة 10.5%.“.
وتشير تقارير إلى أن لجاناً رقمية في الهند تتفاعل مع رواية الاحتلال الإسرائيلي بصورة منظمة وتضعها في صدارة الإحصائيات، ما انعكس على نشاط منظم آخر في أوروبا وأميركا الشمالية، إلا أن تنبّه الجمهور العربي لمثل هذا العمل المنظم، ولّد مجالاً عاماً مقابلاً قلب موازين الرواية المتصدرة وجعل الروايتين شبه متساويتين.
مع انطلاق الحرب على غزة، بدأت بعض المبادرات الفردية والجماعية من قبل بعض النشطاء الرقميين، لتفعيل الدبلوماسية الشعبية الرقمية الفلسطينية، ومحاولة تنظيم جهودها، عملت، وبشكل سريع، على إعادة طرح أسباب الصراع الأساسية التي ولدت هذه الأحداث، وتمثلت باحتلال فلسطين، واستمرار النكبات منذ أكثر من 75 عاماً، وأن ما حصل هو نتاج انغلاق الأفق السياسي، وحصار عمره أكثر من 15 سنة على الشعب الفلسطيني في غزة.
استطاعت هذه المبادرات البدء بالتأثير ولو بشكل متواضع في الصورة التي رسمتها إسرائيل في مخيلة العالم، والتي صورت الفلسطينيين بأنهم “حيوانات” ومن ثم “دواعش” ومن ثم “نازيين”، بعد العملية التي نفذتها حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة.
وتركزت جهود العمل بفضح ماكينة الحرب الإسرائيلية التي استهدفت الأطفال والشيوخ والنساء والمباني السكنية والمساجد والمستشفيات والمدارس، وركزت هذه المبادرات والحملات على كشف التضليل المستخدم من قبل وسائل الاعلام الإسرائيلية والغربية، التي بنيت عليها تصريحات بعض الزعماء والحكومات في مختلف دول العالم، ما دعا بعض الأطراف إلى الخروج مجددا وسحب بعض الادعاءات والتصريحات التي قدموها مسبقاً.
ولعل أهم الصعوبات التي واجهت هذه الحملات هي عدم وجود موقف وطني موحد، حيث اعتمدت هذه الحملات في محتواها على بعض المقابلات لبعض السياسيين الرسميين والدبلوماسيين الأكفاء على الفضائيات العالمية، من هنا فإن ضعف المحتوى الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي ناتج عن عدم وجود منصة لتصدير المواقف الوطنية والسياسية، تكون قادرة على مواجهة الرواية المضادة، التي تعتمد بشكل أساسي على سرد القصص من الخيال لنيل استعطاف الجماهير.
“الواقع الرقمي للعدوان الإسرائيلي بعد مجزرة المستشفى المعمداني،17/10/2023، التي راح ضحيتها أكثر من 500 شهيد، ليس كما قبله، حيث أصبح هناك انعطاف مهم وواضح ومؤثر نحو السردية الرقمية الفلسطينية، بسبب الوحشية الإسرائيلية الهمجية، التي لم يسبق لها مثيل باستهداف مستشفى، وأصبح من الصعب تضليل الرأي العام بتبرير هذه المجزرة، من هنا تزايدت ظاهرة التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية بشكل لافت”.
تقييد المحتوى الرقمي الداعم لفلسطين
مع التطور التقني والتكنولوجي وظهور العالم الافتراضي، ظهرت الدبلوماسية الرقمية التي تعتمد على توظيف الأدوات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي، للتأثير على الرأي العام وأصبحت تلعب دوراً مفصليّاً في رسم العلاقات بين الدول والشعوب، وتشكل أهميةً خاصة لدى الشعب الفلسطيني في معركته مع الاحتلال، وهنا تبرز أهمية القوة الناعمة في فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي وكسب الرأي العام، كونها تؤثر في تشكيل القرارات واستمالة الرأي العام، نظراً لسرعة تداولها وانتشارها، كون استخدام منصات التواصل الاجتماعي يسهل هذه العملية ويقود لإيصال الرواية الفلسطينية لأكبر شريحة ممكنة من الجمهور.
لكن خصوصية الحالة الفلسطينية فرضت قيوداً وملاحقة رقمية للمحتوى الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي، فالقمع لم يقتصر على أرض الواقع، إنما انتقل للعالم الافتراضي، ليجد الفلسطيني نفسه أمام تحدٍّ جديد يستهدف روايته من خلال تقييد الحساب أو حتى إغلاقه، وهذا ما نشهده مع كل حدث على الساحة الفلسطينية، فتوثيق انتهاكات واعتداءات الاحتلال الإسرائيلي تتم مواجهته رقميّاً بملاحقة المحتوى الفلسطيني.
حرب من نوع آخر يواجهها المحتوى الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي ولربما ستصبح أكثر ضراوةً خلال السنوات القادمة، خاصةً أن الأدلة أثبتت خضوع منصات التواصل الاجتماعي وتحديداً إدارة فيسبوك لمطالب الاحتلال الإسرائيلي بتقييد المحتوى الفلسطيني، ما يعني أن مستقبل الرواية الفلسطينية في الفضاء الرقمي لن يكون مشرقاً، على الأقل فيما لو بقينا نتعامل مع هذه الإجراءات بصورة غير منظمة ودون اتخاذ خطوات ضاغطة ومن المستويات كافة وتحديداً الرسمية.
بعد عملية استهداف المستشفى المعمداني، وانتشار مقاطع الفيديو في وسائل التواصل الاجتماعي، انعكست الصورة التي رسمتها دولة الاحتلال في مخيلة العالم، وبدأت الشعوب بمهاجمة وسائل الاعلام لدى بلدانها، لعدم نقلها للمجازر والتجاوزات الإسرائيلية في غزة، وانطلقت المسيرات والحملات الرقمية العالمية الداعمة للشعب الفلسطيني.
من هنا بدأت إسرائيل بحملات تحريض تهديد واعتقالات لكل المؤثرين الرقميين في الداخل المحتل، سواء من الصحفيين والمثقفين والفنانين وغيره من فئات الشعب الفلسطيني في داخل الأراضي المحتلة عام 1948، والضفة الغربية والقدس.
كما قامت بتوجيه رسائل إلى كل منصات التواصل الاجتماعي، مطالبة إياها بشطب وإزالة وتقييد كل الحسابات والمنشورات الداعمة لفلسطين، التي تتحدث عن غزة بشكل خاص، وبالفعل استجابت معظم وسائل التواصل لهذه المطالب في محاولة لوقف أي نشاط رقمي، ولكن ظهرت جهود ومبادرات عربية وفلسطينية للتغلب على هذه الإجراءات، ما جعل إسرائيل عاجزة عن مواجهة هذه الجيوش الإلكترونية المؤيدة للقضية الفلسطينية والرافضة للحرب على غزة.
وبعد فشل كل محاولاتها في منع نقل الحقيقة، قامت إسرائيل بخطوة هستيرية بقصف خطوط الاتصال مع قطاع غزة، وقطع كل شبكات الإنترنت والاتصال على القطاع بشكل كامل، لمنع نقل هذه الأحداث، حيث يأتي هذا بعد قطع الماء والكهرباء والوقود منذ بداية هذه الحرب.
لقد سهلت التحولات الرقمية الوصول والتأثير على شعوب العالم، كما حدّت من سطوة الإعلام المحتكم للمال السياسي، وشكلت باروميتر للرأي العام، ومثال ذلك انخفاض سعر سهم فيسبوك نتيجة التقييميات السلبية، بعدما قامت به شركة فيسبوك من سياسة لتقييد المحتوى المناهض لدولة الاحتلال، والداعم للقضية الفلسطينية، ما سيدفع هذه الشركة لمراجعة سياساتها في مستقبل الصراع.
“يلاحظ أن أغلب الحوارات موجودة على منصة تويتر (X)، وأن أغلب التفاعل على منصة تويتر (X) أيضاً، ولكن هناك وجود كبير على منصة تيك توك أيضاً، وهذا يفسر المحددات التي تضعها المنصات الأخرى (ميتا؛ فيسبوك.. إلخ)، حيث أعلنت ميتا عن إلغائها مليوناً و600 ألف منشور متعلق بفلسطين وغزة”.
مستقبل الدبلوماسية الشعبية الرقمية فلسطينيّاً
أمام التحولات العالمية في المجال الرقمي، واتجاه غالبية دول العالم إلى أن يكون لها موطئ قدم في الفضاء الإلكتروني، ونظراً لعجز وتراجع الدبلوماسية الرسمية العالمية في حل الصراعات والنزاعات بين الدول، أصبح لزاماً على فلسطين، أن تواكب هذه التحولات، في ظل ما تواجهه من تحديات، وفق رؤية واضحة ومنهجية قادرة على مسايرة التطورات الهائلة في وسائل الاتصال والإعلام.
إن المطلوب فلسطينيّاً هو التفكير خارج الصندوق وبناء إستراتيجيات اتصال، مواكبة وحديثة وقادرة على التأثير، تعمل على التشبيك مع شعوب العالم، من أجل الضغط على حكوماتهم، لتصدير مواقف تحررية وإنسانية عادلة، تضمن وقف الاعتداءات والمجازر المتكررة على الشعب الفلسطيني، والضغط لزوال سبب الصراع الرئيسي، ألا وهو الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة حسب المواثيق وقرارات الشرعية الدولية.
ولعل أهم مضامين هذه الإستراتيجيات، تتركز في تقديم الرواية السياسية الفلسطينية أمام شعوب العالم، وفضح جرائم إسرائيل بحق الأرض والإنسان أمام العالم، إضافة إلى الرد على ادعاءات ومزاعم الاحتلال، وهي فرصة ومساحة للمواجهة، للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وعرض معاناته المستمرة، التي من بينها معاناة آلاف الأسرى الفلسطينيين، الذين يعيشون أوضاعاً صحية ونفسية صعبة للغاية في السجون والمعتقلات الإسرائيلية.
من هنا، لا بد من حشد كل الطاقات وإشراك كل فئات المجتمع من نقابات واتحادات ومؤسسات مجتمع مدني في صياغة إستراتيجية وطنية، تكون قادرة على التأثير، وتعمل بشكل تكاملي، بحيث تركز على فضح هذا الاحتلال وتعزز قيم الحرية والتحرر.
ولعل أهم الطرق وأقصرها في نجاح هذه الأهداف، هو تفعيل الدبلوماسية الشعبية الرقمية، من خلال تعيين سفراء رقميين، وبناء سفارات افتراضية وإنشاء قنوات تواصل مع الشعوب، من أجل بناء شبكات تضامنية داعمة للحق الفلسطيني.
إن المطلوب الآن توحيد الخطاب الفلسطيني من حيث المحتوى والقدرة على التأثير، وبناء إستراتيجية وخطط لصناعة المحتوى الفلسطيني الموجه للجمهور الداخلي والخارجي، وتعزيز الهوية المجتمعية مع الربط بالأبعاد القومية العربية والإسلامي، وبناء شراكات وعلاقات إستراتيجية مع حركات التحرر العالمية بما يخدم القضية الفلسطينية، إضافة إلى مواجهة التضليل من خلال مراقبة الإعلام الإسرائيلي ودحض كل الروايات المضللة وملاحقتها عالميّاً، وبناء قدرات الإعلاميين والناشطين الفلسطينيين في مجال الدبلوماسية الشعبية الرقمية وأدواتها، وتوحيد جهد المنصات الرقمية، والعمل مع الجاليات، ورفع قدرات الدبلوماسية الرقمية الرسمية في مجال الدبلوماسية الشعبية ودعم مبادراتها، إضافة إلى تأهيل الكادر في وزارة الخارجية والسفارات والبعثات الفلسطينية.
ومن أهم الاستنتاجات التي يمكن تلخيصها، أن دعم الشعوب ممكن، ومقاربة تعزيز الدعم لفلسطين بمنهجية مختلفة، تبدأ من أسفل وتصعد للتأثير على صناع القرار، ناجعة، ولعل حجم التفاعل مع القضية الفلسطينية الذي رأيناه في الأيام الأخيرة في مختلف دول العالم، يؤكد على طهارة قضيتنا وعدالتها، ويدعو للتأكيد على أهمية تفعيل الدبلوماسية الشعبية، وحشد كل الإمكانيات من أجل تفعيلها في كل دول العالم، وبذلك، فإن الدبلوماسية الشعبية التي هي رديفة ومساندة للدبلوماسية الرسمية بكافة اتجاهاتها، لعبت دوراً هامّاً في تعزيز الترابط والتعاطف الإنساني والسياسي الدولي مع القضية الفلسطينية والحرب على غزة، وغطت بشكل رئيسي ما عجزت عن تحقيقه الدبلوماسية التقليدية الرسمية.
بالنهاية، يقول إدوارد سعيد “إذا أردت لقصتك أن تفوز، فعليك أن تسيطر على خيال العالم”، ونحن علينا أن نبدع في سرد قصصنا العادلة والإنسانية المستنبطة من المبادئ والحقوق والقوانين الدولية والإنسانية، لتفوز قصصنا، ويتضامن معنا الأحرار ويغيب عنا الأشرار.