.أ-د/ إبراهيم أبراش
مقدمة
لم يكن مهرجان إحياء الذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة الذي أقيم في مدينة غزة في الرابع من كانون الثاني (يناير) 2012، مجرد مهرجان حزبي كالتي تعودنا عليها في السنوات الأخيرة، بل كان حدثاً أو ظاهرة تستحق التوقف عندها ودراستها بعمق ليس فقط من حركة حماس بل ومن إسرائيل وحركة فتح ذاتها ومن الدول العربية المنشغلة بتطورات العلاقة بين الإسلام السياسي والقوى الوطنية، فالمهرجان كان استنهاضاً للوطنية الفلسطينية أو ولادة ثانية لها بعد الانطلاقة في فاتح كانون الثاني (يناير) 1965. المثير للانتباه أنه بعد أيام قليلة من الحدث أصبح مجرد ذكرى بحيث لم يستجلب إلا قلة من الكتاب وغالبيتهم عالجوه من منطلق المناكفة السياسية مع حركة حماس. إن كنا نعتقد أن حركة حماس، وخصوصاً حماس الخارج، توقفت كثيراً عند الحدث مما دفعها لأن تعيد النظر بكثير من تصوراتها وسياساتها في قطاع غزة، إلا أن المثير أن حركة فتح والأحزاب الوطنية لم تلتقط الرسالة جيداً، أو أن المهرجان الذي غابت عنه قيادات العمل الوطني بما فيها قيادات حركة فتح وفوجئت بعظمة الحشد، تضمن رسالة أن الوطنية الفلسطينية بدون قيادة وأن الشعب تجاوز قياداته.
سنقوم بمقاربة الموضوع من خلال مدخل وصفي للحدث باعتباري شاهد عيان ثم سنقوم بتحليل دلالات الحدث من حيث مكان حدوثه والظرفية التاريخية التي جاء فيها ومن حيث الرسائل التي أرسلها لكل الأطراف.
أولا: في وصف المهرجان (الحدث)
شكل سماح حركة حماس بإحياء ذكرى انطلاقة فتح في قطاع غزة بعد سنوات من الممانعة حالة فضول لديَّ للخروج والمشاركة في حدث جاء في سياق أجواء مصالحة وطنية انبثقت من مشاعر الانتصار بعد (نصري) الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو ووصول صواريخ المقاومة للقدس وتل أبيب، وبعد موافقة السلطة في رام الله على السماح لحركة حماس بعقد مهرجان انطلاقتها هناك، وتصريحات إيجابية من كلا الطرفين تجاه الآخر خلال الشهر الماضي. الملاحظة من خلال المشاركة مكنتني من أن أعيش لحظة الحدث وان أطَّلِعُ على عدد ونوعية المشاركين بعيداً عن تقديرات ذوي الشأن، وخصوصاً أن الأحزاب باتت تقيس قوتها وحضورها ليس بقدر ما تنجز في طريق التحرير والاستقلال بل بقدر ما تحشد في المهرجانات حتى جاز القول إن غالبية الأحزاب تحولت من أحزاب مقاومة إلى أحزاب مهرجانات.
بعيدا عن التعصب لرأي أو حزب أو أيديولوجيا نقول بأن المهرجان كان حدثا له دلالات سياسية عميقة .فلم أشاهد طوال حياتي وعبر تاريخ القضية الوطنية وفي كل أماكن تجمعات الفلسطينيين مهرجانا أو تجمعا فلسطينيا بهذا العدد ،ومن يقول بأنه تظاهرة مليونية لم يكن مبالغاً، بل هو توصيف يعتريه قصور. فإن كان القول بالمظاهرة المليونية في دول تعدادها تسعون مليون نسمة كمصر أو عشرات الآلاف كاليمن وليبيا وتونس يعتبر حدثاً مهماً فإن خروج مليون في منطقة يقل سكانها عن مليونيين هو أكبر من حدث، إنها ظاهرة تحتاج لدراسة معمقة لفهم ما جرى.
تقع ساحة السرايا، التي تم موافقة حماس عليها كمكان بديل عن ساحة الكتيبة التي عادة ما تحتضن مهرجانات حماس، وسط مدينة غزة وعلى الشارع الرئيس فيها – شارع عمر المختار – ومع أن مساحتها أكبر من ساحة الكتيبة فقد امتلأت بالكامل، وكان عدد من احتشدوا في الشوارع الجانبية المحيطة بالسرايا أضعاف من كانوا داخل السرايا. قبل الانطلاقة بأربعة أيام لم تخل الساحة من الزوار الوافدين إليها والمبيت فيها، وفي اليوم الموعود اتشحت الساحة وشوارع غزة وسياراتها وأسطح منازلها برايات فتح وعلم فلسطين. أطفال، فتيات، نساء، شيوخ، شباب تدفقوا إلى مدينة غزة وإلى ساحة السرايا حتى يخال المرء أن بيوت قطاع غزة أُفرِغت من ساكنيها. كان مشهداً مثيراً بكل المقاييس أن ترى عائلات بكاملها تحج نحو مدينة غزة ونحو السرايا بعزيمة وإيمان من يتجه لأداء فريضة الحج. نساء محجبات وسافرات يحتضن أطفالهن الرضع، رجال يحملون أطفالهم على أكتافهم أو يمسكون بهم بأيديهم خوفاً من الضياع وسط الزحام، شيوخ وكهله يجرجرون أقدامهم ويتكئون على عصيهم، معاقون في كراسيهم المتحركة، شباب من كل الأعمار يتدفقون ووجوههم ممتلئة بالحيوية والبِشر يحملون الرايات الصفراء ويرددون الأغاني والأناشيد الوطنية التي كانت ممنوعة لسنوات. من أين أتى هؤلاء؟ وما الذي أتى بهم؟ وأين كانوا طوال خمس سنوات؟ أسئلة كثيرة تحتاج لإجابة.
يقينا لم يكن كل من خرجوا من أبناء تنظيم حركة فتح ولم يخرجوا بتعليمات من التنظيم الضعيف أصلا ومنقطع الصلة بالجماهير، بل كانوا أناساً من مشارب شتى، إنهم أبناء الشعب الذين يجمعهم الانتماء للمشروع والهوية والثقافة الوطنية، وحيث أن حركة فتح ليست سلطة حاكمة في غزة فإن الذين خرجوا يهتفون لفلسطين ولحركة فتح وللرئيس أبو مازن لم يخرجوا خوفاً من السلطة أو طمعاً بمغانمها، بل إيمانا بفكرة وتلبية لواجب، حتى أن كثيرين من الناس اشتروا رايات فتح من أموالهم الخاصة ودفعوا أجرة المواصلات من جيوبهم ومن لم يملك الأجرة جاء سيراً على الأقدام، وكثيرين قضوا ليلتهم السابقة في الساحة. الكل حمل راية فتح حتى وإن لم يكن من فتح لأن راية فتح مثلت الوطنية الفلسطينية، خرجوا مدفوعين بروح وطنية تم كبتها وخنقها وقهرها طوال سنوات.
ثانيا: أهمية الحدث انه جرى في قطاع غزة
لو جرى المهرجان وبهذه الكثافة في أي مكان آخر لكان أيضاً أمراً مهماً ولكنه لن يكون بأهمية أن يحدث في قطاع غزة الذي تحكمه حركة حماس حكماً شمولياً منذ ست سنوات تقريباً، ولغزة مع الوطنية الفلسطينية قصة، لأن قصة الوطنية الفلسطينية بدأت من غزة، ولأنّ خوفاً كان ينتاب كثيرين أن تُغيب غزة الوطنية الفلسطينية فقد فاجأت غزة الجميع وقالت إن علاقة قطاع غزة بالوطنية الفلسطينية كعلاقة غزة ببحرها، اثنان لا ينفصلان أو يفترقان.
غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين والفقيرة وشبه الصحراوية لم تتميز فقط من خلال دورها النضالي بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 67 بل كان دورها النضالي قبل الاحتلال لا يقل أهمية عن دورها بعد الاحتلال. قطاع غزة حافظ على الهوية الفلسطينية بعد النكبة وفي سنوات التيه والضياع بعد أن فرضت إسرائيل جنسيتها وقوانينها على فلسطينيي الخط الأخضر، وفرض الأردن جنسيته وقوانينه على فلسطينيي الضفتين، فيما كان ممنوعاً على فلسطينيي الشتات التعبير عن هويتهم بممارسات نضالية. خلال سنوات التيه والضياع تلك استمر فلسطينيو القطاع في حمل راية الهوية الوطنية والحفاظ على الشخصية الوطنية وخصوصاً أنّ ثلاثة أرباع القطاع من اللاجئين الذين كانت الغربة وحياة اللجوء دافعاً قوياً عندهم لرفض الواقع وللنضال من أجل العودة لأرضهم التي شُردوا منها، ولاجئو القطاع جسدوا وعبروا عن خصوصية كل قرية ومدينة فلسطينية بملابسها ولهجاتها ومأكولاتها وتجاربها النضالية وذاكرتها التاريخية، وفي قطاع غزة تشكلت أولى خلايا المقاومة الوطنية منذ الخمسينات، وأبناء القطاع رفدوا الثورة في الخارج بخيرة القيادات والمقاتلين، ومن قطاع غزة انطلقت شعلة الانتفاضة الأولى 1987، وقطاع غزة احتضن اللبنات الأولى لمؤسسات كان يؤمل منها تجسيد حلم الدولة ولو في إطار تسوية مشكوك بنجاحها، فكان المطار ومقر الرئاسة (المنتدى) ومقرات وزارية والمجلس التشريعي والبدء بمشروع ميناء غزة، بالإضافة إلى الممثليات الأجنبية ومشاريع تنموية واعدة الخ.
إن كانت غزة بالنسبة إلى الفلسطينيين تمثل جنوب فلسطين أو منطقة من فلسطين يحبونها كما يحبون فلسطين، فإنها بالنسبة لأهل غزة المقيمين أو المغتربين تمثل مسقط الرأس أو الوطن الصغير وخصوصاً بالنسبة لمن لم ير أية منطقة أخرى من فلسطين. ولكن وطن الذاكرة أو وطن مسقط الرأس مجرد إثبات مكان مولد أو ذكريات جميلة عن مرحلة الطفولة والمراهقة، إنه حب إضافي لفلسطين الوطن الكبير، كما هو الحال لعشق ابن الخليل لمدينته وعشق ابن القدس لمدينته وابن يافا لمدينته. لا يمكن لمسقط الرأس أن يشكل وطناً ودولة، ولا يمكن لأي منطقة تتميز بدور أو بخصوصية نضالية أن تشكل دولة أو كياناً خاصاً، فلكل مدينة في فلسطين تاريخها النضالي، ومقابر شهداء فلسطين في الأردن وسوريا ولبنان لا تميز بين شهداء مدينة ومدينة، فالشهداء قضوا في سبيل الله والوطن وليس دفاعاً عن مدينة بعينها.
غزة ولا شك تقدم شهداء وتعاني من الحصار والقصف، ولكن غزة تبقى أرضاً فلسطينية ليست محل أطماع أحد ولا خيار أمام فلسطينيي غزة إلا أن يكونوا فلسطينيين، أما في الضفة والقدس فالاستيطان متواصل في الضفة والمواطنون مهدَدون بمصادرة أرضهم ومياههم وغير آمنين على مزارعهم وأعمالهم، والقدس تهود بشكل غير مسبوق حتى المساجد ودور العبادة باتت تُحرق وتُدنس علناً. يجري هذا في الضفة والقدس في ظل عجز السلطة عن ردع المستوطنين، ولكن أيضا في ظل صمت جماعات الإسلام السياسي التي تريد أن تؤسس مشروعها السياسي في غزة ولو على أنقاض المشروع الوطني.
لأنّ حركة حماس اختزلت فلسطين بغزة وتركزت مناشدتها للعالم على رفع الحصار عن غزة وإعادة إعمار غزة، فقد وجدت جماعات الإسلام السياسي والأنظمة العربية والإسلامية الفرصة للتخلص من مسؤوليتها القومية والإسلامية والجهادية تجاه القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني باختزال هذه المسؤولية بالمطالبة برفع الحصار عن غزة والعمل على مساعدة غزة مالياً، وهذا الأمر يُظهر هذه الأطراف وكأنها تناصر الشعب الفلسطيني، وهي لن تكون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين، وفي نفس الوقت يخلصها من عبء الحديث أو العمل على تحرير فلسطين أو مواجهة الاستيطان والتهويد الإسرائيلي بما قد يسببه لها ذلك من حرج مع حليفتها واشنطن.
استطاعت هذه الأطراف ومن خلال توظيف ماكينة إعلامية هائلة الإمكانيات والانتشار، تغييب ومصادرة العقل والتفكير العقلاني بحرف القضية الفلسطينية عن مسارها وربطها بمتاهات ومشاريع جماعات الإسلام السياسي، وتم اختزال فلسطين بغزة وحصار غزة، وباتت غزة في نظرهم أكثر قدسية من القدس. نتيجة هذه الجهود تم الاشتغال على رفع الحصار الذي بات هدفاً استراتيجياً عند حماس ومن يناصرها. ويجهل أو يتجاهل كثيرون أن إسرائيل عندما خرجت من غزة مبقية على حصارها إنما لتساوم على رفع الحصار مستقبلاً بثمن، وثمن رفع الحصار هو التخلص نهائياً من المسؤولية عن غزة بإلقاء هذه المسؤولية على أية جهة فلسطينية أو على مصر أو على كليهما، هذا ما كان يقصده قادة الصهاينة بقولهم بأن تذهب غزة إلى الجحيم أو فليبتلع البحر غزة، والثمن الذي تريده إسرائيل أيضا ستأخذه من الضفة والقدس. وكادت إسرائيل أن تنجح في تنفيذ مخططها الأصلي ولكن بتخريجة تبدو وكأنها انتصار للفلسطينيين ولكل من طالب برفع الحصار.
خلال السنوات الخمس لحكم حماس الشمولي لقطاع غزة، عملت حركة حماس على الهيمنة على كل مؤسسات السلطة وخصوصاً في قطاعي التعليم والصحة وإخضاع مؤسسات المجتمع المدني لرقابتها الصارمة بالإضافة إلى التضييق على أنشطة وفعاليات فصائل منظمة التحرير وخصوصا حركة فتح ووصل الأمر في مراحل التوتر والاحتقان إلى درجة اعتقال شباب لأنهم رفعوا راية فتح أو اتشحوا بالكوفية. عانت الوطنية الفلسطينية برموزها وبثقافتها من عنت شديد في الوقت الذي وظفت فيه حركة حماس كونها الحزب الحاكم وما يتدفق عليها من إمكانيات مالية لتفرض على جماهير غزة ثقافة وأيديولوجية حركة حماس، بالمال والإغراءات أحياناً وبالتخويف والضغط حينا آخر، وانقسمت غزة ما بين أهل الأيمان والطهرية وهم جماعة حماس وحكومتها الربانية ومن يواليها من جانب، وبقية الشعب من جانب آخر، وكانت حركة حماس تعتقد أنها بحكمها الشمولي قد أخضعت الشعب الفلسطيني في غزة وأن حركة فتح والوطنية الفلسطينية أصبحا في حكم الماضي، إلى أن جاء مهرجان فتح لقلب الأمور رأساً على عقب.
ثالثا: دلالات المهرجان ورسائله المُضمرة
إذا انتقلنا من توصيف ما حدث إلى تفسيره فإنّ كثيراً من الرسائل والدلالات الأولية يمكن استخلاصها وسنذكر بعضها ونؤجل الحديث عن البعض الآخر حتى لا نبدد فرحة الفرحين ولا نزيد من تخوفات المتخوفين وحتى نبقي باب الأمل مفتوحا أمام المصالحة. الرسائل الأولى هي:
1- إن قطاع غزة كان وما زال منبع الوطنية الفلسطينية، فلا الاحتلال ولا أية أيديولوجيات (غير وطنية) يمكنها أن تغير من هوية وانتماء فلسطينيي القطاع.
2- الفلسطينيون الذين خرجوا في قطاع غزة لم يخرجوا دفاعا عن سلطة وحكومة ولا خوفاً من سلطة وحكومة، بل خرجوا من أجل فلسطين كل فلسطين، ورددوا الشعارات والهتافات الأولى لحركة فتح والثورة.
3- جزء كبير من الذين خرجوا ليسوا من عناصر تنظيم فتح، بل وطنيين قهرتهم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لحكومة حماس التي زادت من حالة الفقر والبطالة وتردي مستوى المعيشة، وانغلاق أفق الأمل بالمستقبل لأبنائهم، مواطنين يحتجون على خنق حرية الرأي والتعبير، وعلى عدم المساواة في توزيع المساعدات التي تصل لأهل القطاع، وعلى التحيز الوظيفي، مواطنين تعرضوا لاضطهاد وظلم من أجهزة حماس الأمنية، سواء خلال الأحداث الدموية منتصف حزيران (يونيو) 2007 أو بعدها، من اعتقال وتشكيك بوطنيتهم وأخلاقهم بل وتكفيرهم أحيانا.
4- إن فلسطين لا يمكنها أن تُقاد إلا تحت راية الوطنية الفلسطينية وغيرها ستكون رايات دخيلة وعابرة، إن لم تستدرك الأمر وتوطن نفسها وأيديولوجياتها. وأن الفكرة الوطنية التي تعبر عنها حركة فتح ما زالت العمود الفقري للوطنية الفلسطينية.
5- لم يخرج الناس بطلب من تنظيم حركة فتح أو نتيجة تعبئة قام بها، بل بدافع ورغبة ذاتية للتعبير عن الانتماء للهوية والثقافة الوطنية في مواجهة سلطة وحكومة وحزب عملوا لسنوات على تهميش وتغييب الهوية والثقافة الوطنية لصالح أيديولوجيا دينية بمقاييس حزبية.
6- إن توَحُد القوى الوطنية في مهرجان السرايا وبهذا الحجم، يؤكد على أهمية وضرورة توحيد هذه القوى الوطنية في إطار جبهة واحدة، وهذه الجبهة موجودة ولكن تحتاج لتفعيل، وهي منظمة التحرير التي يجب أن تستنهض نفسها بفصائلها المتواجدة فيها حالياً قبل أن تتهيأ لتستوعب بقية القوى الإسلامية والوطنية.
7- إن في الوطنية الفلسطينية من الأريحية وسعة الصدر ما يُمَكِنها من استيعاب كل شرائح الشعب وأحزابه بكل توجهاتها السياسية والأيديولوجية بينما أحزاب الإسلام السياسي لا يمكنها إلا أن تكون منغلقة على منتسبيها وعاجزة عن استيعاب الكل الفلسطيني، بل لا تستطيع أن تستوعب أحزاب الإسلام السياسي الأخرى أو تشترك معها في برنامج وإستراتيجية واحدة.
8- إن السلطة مفسدة للأحزاب الوطنية والجهادية، فشعبية حركة فتح في الضفة الغربية حيث تُحسب حركة فتح كحزب سلطة أقل بكثير من شعبيتها في قطاع غزة حيث توجد خارج السلطة، وكذا الأمر بالنسبة لحركة حماس، حيث شعبيتها في الضفة أكبر من شعبيتها في قطاع غزة حيث تحولت لحزب سلطة.
9- برز في المهرجان جيل جديد من الفتية والشباب لم يعايش الثورة الفلسطينية ولم يشارك في الانتفاضتين كما لم يشارك في الانتخابات الأخيرة عام 2006 التي منحت الأغلبية لحركة حماس، هذا الجيل رفع رايات فلسطين وفتح وردد شعارات الثورة، هذا الجيل بدد كل التخوفات التي كانت تنتابنا على الوطنية الفلسطينية وبدد التخوفات من أن تسود حالة اليأس والإحباط.
10- إن كان (الربيع العربي) – بما هو توجه إخواني أمريكي لتمكين الإسلام السياسي من السلطة في العالم العربي – بدأ في فلسطين، فإن مهرجان غزة يشير إلى أن تراجع وانكشاف هذه الربيع يبدأ من فلسطين أيضاً، وهي رسالة نعتقد أنها وصلت للقوى الوطنية والإسلامية في الدول العربية التي تشهد صراعاً بين الطرفين.
11- حمل المهرجان رسالة قوية لإسرائيل بأن المشروع الوطني الفلسطيني نقيض مشروعها الصهيوني تستنهضه غزة مجدداً، وأن خطة شارون لنزع غزة من كينونتها الوطنية ورميها في أحضان مصر أو في متاهات مشاريع الإسلام السياسي قد فشلت، فأهل غزة من خلال المهرجان أكدوا أنهم جزء من الشعب الفلسطيني وحملة مشروع وطني امتداده في فلسطين وليس في مكان آخر.
12- حمل المهرجان رسالتين للرئيس أبو مازن، الأولى تقول بأن غزة تمنحه الولاء وتدين له بالشرعية وأن غزة على غير ما يروج بعض المحيطين به ليست عبئاً على المشروع الوطني ومنظمة التحرير بل حامية لهما وذراعاً ضارباً في حمايتهما وحاضنة لهما عندما تنغلق أمامهم السبل. أما الرسالة الثانية فتناشد الرئيس أن ينصف أهل غزة المُهَمَشين والمُبعَدين عن صناعة القرار بدءاً من ديوان الرئيس مروراً بالسلك الدبلوماسي وانتهاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وفي التشكيلات الحكومية.
خاتمة
وخلاصة لكل ما سبق، نتمنى أن يتم استثمار ما جرى في صالح القضية الوطنية والمصالحة الوطنية، وأن لا يتم احتساب ما جرى وكأنه نصر لحزب على آخر بل يجب احتسابه نصراً لفلسطين وللوطنية الفلسطينية، كما نتمنى أن لا يغيب عن البال أنّ معركتنا الأساسية توجد في الضفة والقدس وليس في غزة فهناك يجب أن يكون الحشد واستعراض القوة في مواجهة الاحتلال وليس في مواجهة بعضنا البعض، وإن استنهاض الوطنية الفلسطينية في القطاع لا يهدف للحلول محل حركة حماس ولا حتى مشاركتها السلطة في غزة بل يجب أن يكون هدفها رفض الانقسام الجغرافي والسياسي والتأكيد على أن قطاع غزة ما زال خاضعاً للاحتلال كالضفة الغربية، الأمر الذي يتطلب توحيد جهود الجميع لمواجهة عدو مشترك.
وكلمة أخيرة نقولها وقد سبق أن حذرنا منها سابقاً، يجب الحذر كل الحذر من مخططات مشبوهة للبعض بأن يغطي على فشله وعجزه عن تحرير الضفة والقدس بإدعاء انتصارات مهرجانية في قطاع غزة، أو أن يوظف من يملك قرار تنظيم فتح في غزة هذا النهوض للوطنية الفلسطينية لمساومة حركة حماس على مواقع وامتيازات ومشاريع اقتصادية في إطار إعادة إعمار غزة، والحذر من أن يتم توظيف استنهاض الحالة الوطنية في القطاع لتكريس صيرورة غزة كياناً قائماً بذاته يتم الصراع على من يحكمه.
· أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر – غزة.