د. كمال قبعة[*]
لا تزال قضية مساءلة بريطانيا عن الجرائم التي ترتبت عن وعد بلفور والانتداب، قضية متفاقمة جراء المواقف البريطانية بهذا الخصوص من جهة، والموقف الفلسطيني الثابت الذي تم التعبير عنه والتصريح به في أكثر من مناسبة. وقد تدرجت المواقف البريطانية من محاولة المراوغة والتملص من مسؤوليتها، إلى أن وصلت حتى إلى رفض الاعتذار بشكل رسمي من الحكومة البريطانية، والإصرار على إجراء احتفالات تمجد الذكرى المئوية لإصدار وعد بلفور.
وبغية متابعة تلك المواقف البريطاني وكذلك الفلسطينية بهذا الخصوص[1]، تتناول هذه الدراسة خلفيات ومجريات طلب الاعتذار البريطاني، والوقوف على نصوص ومضامين الرد الرسمي البريطاني الرافض لذلك الطلب. وقد تتبعت الدراسة الموقف الفلسطيني، وفقاً للمبادئ والقواعد الواجبة في القانون الدولي، بشأن فض وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، والخطوات التي اتبعتها فلسطين في هذا المضمار، وصولاً إلى بداية التفكير والإعداد لمقاضاة بريطانيا بهذا الشأن. وتضمنت الدراسة أن “الفلسطينيين قد دفعوا ثمن تاريخ ليس تاريخهم”، الأمر الذي أدى إلى جريمة بحقهم من قبل بريطانيا، وهي جريمة لا تسقط بالتقادم، بل هي جريمة لا تزال مستمرة منذ مائة عام، الأمر الذي يقتضي مقاضاة بريطانيا. وتناولت الدراسة باختصار طرق ووسائل وأشكال المقاضاة تلك، وكذلك المطلوب من تلك المقاضاة والمتمثل في المطالبة بتطبيق مبدأ جبر وإصلاح الضرر وما يتضمنه من قواعد وأحكام، باعتبار ذلك حقاً جماعياً وفردياً للشعب الفلسطيني. وتم تقديم عدد من التوصيات للشروع في الآليات الممكنة، التي سيعهد لها بإعداد الملف الاتهامي بحق بريطانيا.
الموقف والحراك الفلسطيني
أعاد الرئيس الفلسطيني بمناسبة الذكرى التاسعة والستين للنكبة، تكرار الموقف الفلسطيني والإصرار عليه، عندما أعاد تأكيده بأن “الظلم التاريخي الذي لحق بشعبنا وما يزال يتفاقم، وقد بدأ من الناحية العملية مع وعد بلفور المشؤوم، ومن هنا، فإننا ندعو الحكومة البريطانية، إلى تحمل مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية، بأن لا تقوم بإحياء الذكرى المئوية لهذا الوعد الباطل والاحتفال به”؛ وأضاف بأن على بريطانيا “أن تبادر بدلاً من ذلك، بتقديم الاعتذار لشعبنا الفلسطيني الذي دفع ثمناً باهظاً دماً وتشرداً، نتيجة لهذا الوعد المشؤوم وتنفيذه على حساب أرض وطننا التاريخي وعلى حساب شعبنا وحقوقه المشروعة”[2].
وتوقفت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في اجتماعها بتاريخ 13/2/2017، أمام قرار بريطانيا الاحتفال هذا العام بالذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم بمشاركة رسمية إسرائيلية، ودعت بريطانيا إلى إلغاء هذا الاحتفال وفي الوقت نفسه تقديم الاعتذار إلى الشعب الفلسطيني عن الجريمة والكارثة الإنسانية، التي تسببت بها بريطانيا قبل مائة عام، وتصويب الخطأ، والظلم التاريخي الذي ترتب على ذلك الوعد الاستعماري، والاعتراف بدولة فلسطين، وبحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هجروا منها بالقوة العسكرية الغاشمة، وتعويض الشعب الفلسطيني عن الأضرار التي ترتبت على الكارثة الإنسانية التي تسبب بها ذلك الوعد الاستعماري المشؤوم. وأكدت اللجنة التنفيذية بأنها تتابع تشكيل اللجنة الوطنية والشعبية، لمتابعة الفعاليات لمواجهة القرار البريطاني المعادي لحقوق شعبنا في الأراضي المحتلة وفي كل مخيمات اللجوء والشتات.[3]
وفي سياق متابعة تنفيذ هذا الموقف، جرت العديد من اللقاءات الرسمية، بما فيها لقاءات على مستوى وزيري الخارجية الفلسطيني والبريطاني، ولقاء الأخير بالرئيس الفلسطيني في رام الله، بغية الوصول إلى حلول بهذا الشأن. وأكدت وزارة الخارجية الفلسطينية، أنها طالبت بريطانيا رسميا بإلغاء وعد بلفور القاضي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وإصدار وعد جديد يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني. وذكر وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، أنه طلب ذلك رسميا خلال لقاء جمعه مع نظيره البريطاني، بوريس جونسون في العاصمة البريطانية لندن[4]. وقال الوزير: “طالبنا الجانب البريطاني أن يصدر وعدا جديدا ينهي الوعد الذي مر عليه 99 عاما، تلتزم فيه بريطانيا بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ودعمها لإقامة دولة فلسطينية والاعتراف بالدولة الفلسطينية”؛ مضيفا: “تحدثنا عن المسؤولية التاريخية لبريطانيا تجاه ما حدث نتيجة وعد بلفور، والاعتذار المطلوب إن كانت تملك الجرأة والشجاعة في تحمل مسؤولياتها حيال ما حدث ضد الشعب الفلسطيني نتيجة الوعد”. وأكد المالكي أنه جرى مطالبة جونسون رسميا بـ”أن تمتنع الحكومة البريطانية عن المشاركة في أي نشاط أياً كان احتفالاً بهذه المناسبة، لأن هذا يمس مشاعر الفلسطينيين ويؤثر كثيرا على العلاقات الفلسطينية البريطانية”. وقال الوزير الفلسطيني إنه تم الاتفاق خلال اللقاء، على تشكيل لجنة مشتركة لتقييم تأثيرات وعد بلفور على العلاقات الثنائية، وانعكاسات ذلك على الوضع الفلسطيني منذ 100 عام، مؤكدا ضرورة أن تخرج اللجنة بتوصيات، يمكن أن تساعد بريطانيا بالخروج من هذه المسؤولية التي تراكمت نتيجة الوعد. وقد تعنتت الحكومة البريطانية ولا تزال بشأن المطالب الفلسطينية تلك.
استمرار المواقف البريطانية المعادية
أثار قرار الحكومة البريطانية إقامة احتفالية لمناسبة مرور مئة عام على وعد بلفور العام الحالي، غضباً واسعاً لدى القيادة والفعاليات الفلسطينية، التي أرسلت وفداً إلى لندن للبحث مع الحكومة البريطانية في شأن تصحيح “الظلم التاريخي” الذي وقع على الشعب الفلسطيني نتيجة هذا الوعد. وردت بريطانيا على التهديدات الفلسطينية هذه، بعدم منح السفير الفلسطيني الجديد في لندن مكانة سفير، كتلك التي حصل عليها السفير الفلسطيني السابق. وفي خطوة غير ودية امتنعت بريطانيا عن التصويت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على قرار يسمح بتحميل إسرائيل المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وبناء المستوطنات[5].
وإلى جانب ذلك، تتماهى المواقف البريطانية مع المطالب الإسرائيلية، ففي استجابة لمطالب اللوبي المُؤيد لإسرائيل في بريطانيا، وجهت وزيرة التنمية الدولية بريتي باتل، تعليماتها لتجميد المساعدات المالية المُخصصة للسلطة الفلسطينية، والتحقيق في كيفية صرف المساعدات التي تقدمها بريطانيا للفلسطينيين. وذكرت صحيفة “ذا صن” البريطانية، بتاريخ 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، أن الوزيرة باتل سوف تجمد الملايين من الجنيهات التي تدفعها ضمن المساعدات المالية المقدمة للسلطة الفلسطينية، إلى حين التحقيق في مزاعم سابقة تفيد بأن منظمة التحرير الفلسطينية تنفق بعضاً من تلك المساعدات كرواتب لـ”إرهابيين” معتقلين، وكمساعدات اجتماعية لعائلات “إرهابيين” معتقلين أو ماتوا، في إشارة إلى الأسرى والشهداء[6].
وفي أول خطاب لها أمام منتدى “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين” الذي أقيم هذا العام تحت شعار “100 عام على وعد بلفور”، تعهّدت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بإصدار قرار حكومي جديد يقضي بتوسيع مفهوم “اللاسامية” ليتضمن التعبيرات الموجّهة ضد إسرائيل نفسها وليس فقط ضد اليهود واليهودية. وحسب مكتب رئاسة الوزراء البريطانية، فإن هدف التوصيف والمفهوم الجديد هو ضمان “عدم تملّص ونجاة المسيئين” لليهود ومجتمعاتهم ومؤسساتهم. وتهدف تحركات بريطانيا لإعاقة حركة مقاطعة إسرائيل العالمية، المناصرة لدولة فلسطين، بحجة أن تلك التحركات تنتهك حقوق الإنسان الرئيسية، وذلك حسب ما ذكر الكاتب في صحيفة “ذا اندبندنت” البريطانية، بن وايت. وفي خطاب موقّع من قِبل خبراء قانون من بريطانيا، و14 آخرين من دول أوروبية أخرى، قالوا إن مقاطعة شركات ومنتجات إسرائيل، هي حق مشروع للتعبير عن الرأي. واعتبر الكاتب في صحيفة “ذا اندبندنت” أن التعريف الجديد لـ”اللاسامية” ليس جديداً، ومع ذلك، يُشكّل تهديداً واضحاً للانتقادات المشروعة لإسرائيل، ويأتي بمثابة تهديد للمتضامنين مع الشعب الفلسطيني، وتقويض حركة المقاطعة لإسرائيل[7].
وأصدرت إدارة الحكم المحلي في أيلول (سبتمبر) 2016، دليل إرشادات قانونية يقيّد حرية المجموعات التي تعمل على محاصرة الشركات المتورطة في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي أولاً، ويجبر أصحاب المعاشات التقاعدية على الاستثمار في شركات متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان ثانياً. وألزمت التوجيهات القانونية المجالس المحلية بـ”عدم دعم سياسات تخالف سياسة المملكة المتحدة الخارجية والدفاعية”، زاعمة أنه “ليس من المناسب استخدام سياسات النفقات لتنفيذ مقاطعات وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات، ضد الدول الأجنبية والصناعات الدفاعية البريطانية”.
وفي خطوة لافتة وغير مسبوقة، أعلنت “حملة التضامن مع فلسطين”، ومقرها لندن، أنها ستقاضي الحكومة البريطانية بسبب فرضها قيوداً على سحب الاستثمارات من شركات متورطة في انتهاكات إسرائيل حقوق الإنسان. وتتعلق القيود الحكومية الجديدة ببرامج التقاعد التابعة للسلطات المحلية، وتحديداً منع استخدام هذه البرامج في سياق المقاطعة وسحب الاستثمارات من شركات الأسلحة في المملكة المتحدة، والشركات الدولية والإسرائيلية المتورطة في انتهاكات إسرائيل القانون الدولي[8]. وأوضحت الحملة في بيان تلقت «الحياة» نسخة منه، أنها تقدمت إلى المحكمة الأسبوع الجاري بطلب مراجعة قانونية لهذه الإجراءات والقيود الجديدة التي دخلت حيز التنفيذ الشهر الماضي، ما يعني «أننا نحاول إلغاءها من طريق المحكمة». وثمة اعتبارات عدة وراء طرح هذا الملف أمام المحكمة، إذ تنظر «حملة التضامن مع فلسطين» إلى القيود الجديدة على أنها «تهدد الحق المدني في المقاطعة وسحب الاستثمارات من شركات متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان وتجارة السلاح»، كما «تحد من الحق الأساسي في حرية التعبير والرأي»، و«تسمح بتدخل ويستمنستر في شؤون السلطات المحلية، وتقوّض حرية موظفي القطاع العام وأصحاب التقاعد في اتخاذ قرارات جماعية في شأن الاستثمار أو سحبه».
وقد قضت المحكمة الإدارية البريطانية[9]، بعدم شرعية الإرشادات القانونية التي قدمتها الحكومة البريطانية إلى المجالس المحلية، والتي كانت تهدف إلى تقييد دعم حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) محلياً ومنع سحب الاستثمارات على أسس أخلاقية. وأعلنت المحكمة أن التحرك وفقاً للتوجهات السياسية والإنسانية، هو حق مكفول في القانون وبإمكان المواطنين البريطانيين رفض استثمار أموال نظام المعاشات التقاعدية في مشاريع إسرائيلية و/أو شركات دولية متورطة في الجرائم الإسرائيلية، والعمل سوياً نحو وقفها تماماً. ووصفت المحكمة الإدارية جهود الحكومة البريطانية المتعلقة بقانون المعاشات التقاعدية بالجهود “غير اللائقة”، في إشارة إلى محاولات حكومة المحافظين بقيادة “تيريزا ماي” استغلال قانون المعاشات لحماية سياستها الخارجية والدفاعية، فضلاً عن تجارة السلاح البريطانية المعتمدة على الواردات الإسرائيلية بشكل كبير.
جهود غير رسمية
إلى جانب الجهود الفلسطينية الرسمية، أطلق مركز “العودة” الفلسطيني من داخل البرلمان البريطاني حملة تطالب لندن بالاعتذار عن وعد بلفور. وتهدف الحملة التي تم إطلاقها بحضور كثيف من النشطاء والأكاديميين والحقوقيين والبرلمانيين البريطانيين، إلى جمع مئة ألف توقيع على مذكرة تطالب الحكومة بالاعتذار، حيث إن جمع هذا الرقم يلزم عرفيا مجلس العموم بمناقشة المذكرة التي ستقدمها الحملة. وستستمر الحملة على مدى العام وحتى مئوية الوعد، وتشمل أيضاً عدداً كبيراً من الفعاليات بالبرلمان ومجلس حقوق الإنسان في جنيف، بالإضافة لنشر عدد من الكتب والدراسات وإقامة حملات التوعية لكسر الجمود السياسي فيما يخص القضية الفلسطينية بأوروبا عموما وبريطانيا خصوصا.
وبتاريخ 14 نيسان (أبريل) 2017 تجاوز مؤشر التواقيع على العريضة الإلكترونية، التي أطلقت في بداية شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 2016 للحملة حاجز العشرة آلاف توقيع، وهو العدد المطلوب رسميًا بحسب القانون البريطاني لإلزام الحكومة بالردّ عليها رسميًا. ولذا دعا مجلس العموم البريطاني في مذكرة سلمها إلى رئيسة الحكومة تيريزا ماي، لسرعة الرد على الحملة الدولية تلك، بعدما باتت الحكومة ملزمة بالردّ خلال موعد مدته ثلاثة أيام يستثنى منها العطلات الرسمية، توضح فيه موقفها من مطالب الحملة التي تتلخص في تقديم اعتذار للشعب الفلسطيني عن مسؤوليتها التاريخية، عن وعد بلفور وما ترتب عليه من معاناة للفلسطينيين. وقال تشارلي فراي، عضو مجلس العموم البريطاني “إن العريضة قد أخذت منحًى شعبيًا، يلزم الحكومة البريطانية بالتعامل معه على محمل الجد، خاصة أن التواقيع ما زالت في تزايد، حيث بدا واضحًا وجود تحوّل كبير في الرأي العام البريطاني تجاه القضية الفلسطينية”. وتابع: “هذا ما يجب أن تدركه الحكومة وتضعه في اعتبارها قبل إصدار الرد رسميًا، بحيث لا يصطدم مستقبلاً مع توجه البرلمان إذا ما كان الرد غير متوافق مع توجهات الرأي العام، وأدى إلى تسارع وتيرة التصويت على العريضة لتبلغ الحد القانوني من التصويت وهو 100 ألف صوت، ويصبح البرلمان مجبرًا على الوقوف إلى جانب الاتجاه الشعبي في مواجهة الحكومة”[10]. يشار إلى أن مجلس العموم البريطاني كان قد اعترف في أواسط تشرين الأول (أكتوبر) 2014، في اقتراع رمزي بـدولة فلسطين، بأغلبية 274 صوتا مقابل 12، وذلك في جلسة تغيَّب عنها رئيس الوزراء ديفد كاميرون. وقال المتحدث باسم الحكومة البريطانية قبيل بدء الجلسة، إن تصويت المجلس بالموافقة لن يغير من سياسة الحكومة إزاء القضية الفلسطينية، حيث إن الاعتراف بالدول من صلاحيات الحكومة في بريطانيا وليس البرلمان. وتشير هذه الواقعة، بأن هناك انفصاماً حاداً في المواقف بين مجلس العموم والحكومة البريطانية في الموضوع الفلسطيني، فالأول أكثر تأييدا بدليل تصويته الرمزي سابق الذكر.
الرد البريطاني الرسمي على مطلب الاعتذار
كان الرد البريطاني المتوقع يقرأ من أول خطاب رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أمام منتدى “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين”، الذي أقيم هذا العام تحت شعار “100 عام على وعد بلفور”، والتي اعتبرت فيه “وعد بلفور أهم الوثائق في التاريخ، لأنه يدل على دور بريطانيا الإيجابي والهام في إقامة وطن قومي للشعب اليهودي”، وهو “اليوم الذي نحتفي به بفخر”، على حد تعبيرها. وتعهّدت بإصدار قرار حكومي جديد يقضي بتوسيع مفهوم “اللاسامية”، ليتضمن التعبيرات الموجّهة ضد إسرائيل نفسها وليس فقط ضد اليهود واليهودية. وحسب مكتب رئاسة الوزراء البريطانية، فإن هدف التوصيف والمفهوم الجديد هو ضمان “عدم تملّص ونجاة المسيئين” لليهود ومجتمعاتهم ومؤسساتهم[11].
وقد تم إصدار الرد البريطاني الرسمي على مطلب الاعتذار بتاريخ 22 نيسان (أبريل) 2017، والذي رفضت فيه الحكومة البريطانية تقديم أي اعتذار يتعلق بـ”وعد بلفور” الذي أسس لقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقالت في بيان لها إنه “موضوع تاريخي ولا نية لها بالاعتذار عنه”. وأعربت الحكومة البريطانية عن “الفخر بدور بريطانيا في إيجاد دولة إسرائيل”، مؤكدة أن “المهم في هذه المرحلة هو دفع عجلة السلام من خلال دولتين إسرائيلية وفلسطينية، تعيشان بسلام جنبًا إلى جنب”. وجاء في ردها، “أشياء كثيرة حدثت خلال تلك الفترة، وإن الحكومة البريطانية تدرك أن الإعلان كان ينبغي أن يدعو لحماية الحقوق لجميع الطوائف في فلسطين، ولا سيما حق تقرير المصير”.
وجاء حرفياً في الرد الرسمي: “إن حكومة بريطانية لا تعتزم الاعتذار عن الوثيقة التاريخية، نحن فخورون بدورنا في تأسيس دولة إسرائيل”، وأوضحت أن ما تهتم به الآن هو تشجيع “السلام!” فقط، بينما تجاهلت في ردها معاناة الفلسطينيين جراء احتلال أرضهم والظلم الواقع عليهم على مدار عقود. وعلاوة على ذلك، لمّحت إلى وجود روابط دينية وتاريخية مع فلسطين وإلى الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في تلك الحقبة، بينما أغفلت بشكل تام الفظائع التي وقعت في فلسطين على يد العصابات الصهيونية، التي سهلت دخولها خلال فترة الانتداب، والتي ارتكبت مجازر ممنهجة نتج عنها تهجير أكثر من 570 قرية فلسطينية من سكانها عام 1948.
واعترفت الحكومة لأول مرة في تاريخها في ردها بوقوع تقصير في حماية حقوق الفلسطينيين، وخلل في الضمانات والتعهدات التي قطعتها في نص الإعلان قائلة “نحن ندرك أن وعد بلفور كان ينبغي أن يدعو إلى حماية الحقوق السياسية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا سيما حقهم في تقرير المصير”، وتابعت: “غير أن الشيء المهم الآن هو التطلع إلى الأمام وتحقيق الأمن والعدالة لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين من خلال سلام دائم”.
صاحب العريضة وهو مركز العودة الفلسطيني، أكد أن الهدف الشعبي والتعريفي قد تحقق من العريضة، وهو تحويل قضية وعد بلفور إلى قضية رأي عام داخل وخارج بريطانيا. كما أعلن المركز عن تصعيد آليات الحملة وفتح باب التوقيع عالمياً لممارسة مزيد من الضغوط على حكومة وعد بلفور، وسيعلن خلال الأيام القادمة عن خطته لما بعد رد الحكومة، جهد شعبي لا بأس به، لكنه يبقى محض إعلام وتحريض ناعم، وهو بالتأكيد جهد المقل، والمستطاع، ولا يغني عن المقاومة التي شرعتها كل المبادئ السماوية والأرضية”[12].
والحقيقة أن المطلوب من بريطانيا ليس فقط الاعتذار، وإنما أن تقر وتعترف بالمسؤولية القانونية والتاريخية عن هذا الوعد، وما ترتب عليه من نكبة وجرائم وعذابات غير مسبوقة في التاريخ بحق الشعب العربي الفلسطيني. على أن الحكومة البريطانية لا تزال على غيها، بل وتقول “نحن فخورون بدورنا في تأسيس دولة إسرائيل”؛ أي أنها فخورة بالتسبب وبالمساهمة في أبشع عملية استعمار استيطاني إجلائي إحلالي في التاريخ غير البعيد والحديث، وتشريد شعب بأكمله وتهويد وأسرلة أملاكه بمختلف أنواعها، وتدمير وإبادة بنيته المجتمعية التحتية والفوقية.
ويحمل مفهوم الاعتذار في بعده القانوني والأخلاقي أبعاداً مريبة وحمالة الأوجه، إذ أنه يعني الاعتذار عن الجرم المرتكب، من دون أن يترتب على ذلك أي أثر قانوني على المستوى الجنائي أو المدني. وقد تلجأ بعض الدول إليه من باب المناورة، لذلك “لا بد من التفريق والتمييز ما بين ما هو تكتيكي، متغير بحسب الظروف والإمكانيات المتاحة، وبين ما هو استراتيجي وثابت، إضافة إلى التمييز ما بين السياسي والقانوني.[13]” وقد جاء بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في اجتماعها بتاريخ 13/2/2017، مستدركاً ذلك بتضمينه “تقديم الاعتذار إلى الشعب الفلسطيني عن الجريمة والكارثة الإنسانية، التي تسببت بها بريطانيا قبل مائة عام، وتصويب الخطأ، والظلم التاريخي الذي ترتب على ذلك الوعد الاستعماري، والاعتراف بدولة فلسطين، وبحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هجروا منها بالقوة العسكرية الغاشمة، وتعويض الشعب الفلسطيني عن الأضرار التي ترتبت على الكارثة الإنسانية التي تسبب بها ذلك الوعد الاستعماري المشؤوم” .[14]
ومطلب الاعتذار ظاهرة دولية جديدة، وقوة ضاغطة باتجاه “إقرار مبدأ ثنائية الاعتذار والتعويض، تماشياً مع تجارب سابقة مشابهة، وخاصة بعد اعتذار إيطاليا لليبيا ودفعها تعويضات مادية [..] وجعلت ألمانيا تعتذر لما لحق باليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وما زالت حتى يومنا هذا تدفع التعويضات المجزية لهم؛ واعتذار النمسا – المجر لشعوب دول البلقان وإرجاعها أرشيفاتها الوطنية. واعتذار اليابان للصين ولكوريا، واعتذار أستراليا للسكان الذين هجروا قسرا وسخروا لخدمة مستغليهم، وغير ذلك”[15].
ولا شك أن البرنامج الألماني لتعويض الناجين من الهلوكوست، هو أضخم برنامج تعويض مالي من نوعه، حيث إن عدد المستفيدين فيه يتفوق على كل البرامج الأخرى، وهو أطول البرامج امتدادا عبر الزمن بفارق كبير، إذ انطلق منذ عام 1951 وما زال مستمرا إلى الآن. وليس المقصود بهذه الاستمرارية مواصلة صرف التعويضات فقط، بل إن عدد المستفيدين ما زال في ازدياد وكذلك تعقيدات البرنامج. وعلى سبيل المثال، تنص المادة 2 من معاهدة التوحيد بين الألمانيتين لسنة 1990، على إنشاء صندوق جديد للتعويض عن الرفض التاريخي لألمانيا الشرقية، للإقرار بأي مسؤولية تجاه ضحايا النازية. وفي أواسط التسعينات ارتفع الرصيد الخاص بها، وشملت معايير الاستحقاق عددا من الضحايا. ويعتبر هذا البرنامج برمته هو الأكثر كلفة على الإطلاق، فقد تجاوزت التعويضات الممنوحة للناجين من الهولوكوست مبلغ 60 مليار دولار[16]. وفي عـام 2000 اسـتطاع المـؤتمر اليهودي العالمي والمنظمات الصهيونية الحصول على تعويضات عـن الأموال التي أودعها النازيون في بنوك سويسرا، ولم تضطر إسـرائيل لتقديم أية وثائق حول نسبة أموال اليهود من الأموال المودعة. كذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الصهيونية ثم إسرائيل بعد قيامهـا بمطالبة ألمانيا بالتعويض عن ضحايا الحرب، من منطلق اعتبار نفسـها ممثلة للشعب اليهودي ومسؤولة عن اليهود من ضحايا النازية. وقامـت ألمانيا جراء هذه المطالبات بدفع أكثر من مائة مليار دولار، بالإضافة إلى تنفيذها العديد من المشاريع في إسرائيل مثل توسيع موانئ ومد خطـوط سكك حديد، وإقامة محطات لتوليد الطاقة، هذا بالإضافة إلـى صـفقات الأسلحة.
الفلسطيني دفع ثمن تاريخ ليس تاريخه
يحمل رد الحكومة البريطانية سابق البيان بتاريخ 22 نيسان (أبريل) 2017، الكثير من المغالطات ويلوي عنق الحقيقة ويحاول الهروب من المسؤولية الواجبة. ففي الوقت الذي يعتبر أن وعد بلفور والجرائم التي ترتبت عنه وعن الانتداب أنه “موضوع تاريخي ولا نية لها بالاعتذار عنه”؛ أعربت الحكومة البريطانية عن “الفخر بدور بريطانيا في إيجاد دولة إسرائيل” التي قامت على أنقاض وطن الفلسطينيين، وتسببت في اقتراف التطهير العرقي بحقهم وتهجيرهم وإبادة بنيتهم المجتمعية بكل عناصرها ومكوناتها، وارتكبت مجازر ممنهجة بمساعدة وتغطية وعلى مرأى قوات الانتداب البريطاني، نتج عنها تهجير أكثر من 570 قرية فلسطينية من سكانها عام 1948. تسبب كل ذلك بجريمة النكبة المستمرة والتي لا تزال فصولها قائمة. تلك النكبة التي وصفها الرئيس الفلسطيني بـ”الذكرى الأليمة والمستمرة في حياتنا، فشعبنا الفلسطيني الذي دفع ثمن تاريخ ليس تاريخه، لا يزال يتعرض للظلم ذاته، الذي بدأ منذ أكثر من مائة عام مع ظهور الصهيونية وروايتها الكاذبة، التي أنكرت وجودنا على أرضنا، ولا تزال تتنكر لحقوقنا الوطنية المشروعة”[17].
والحقيقة أن التاريخ الذي دفع ثمنه شعبنا الفلسطيني “تاريخ ليس تاريخه”، بل تاريخ لمآرب ومصالح بريطانية صرفة، فقد كانت بريطانيا آنذاك قلقة من جراء هجرة يهود روسيا وأوروبا الشرقية الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد إليها. ولذلك أصدرت بريطانيا مجموعة من القوانين ضد الهجرة اليهودية من روسيا القيصرية، بمبادرة من بلفور عندما كان رئيسا للوزراء في أعوام 1903– 1905. وكان همّ الحكومة البريطانية وقف تدفق اليهود من أوروبا الشرقية. ولذلك فقد قدمت مشروع قانون إلى مجلس العموم لوقف الهجرة في عام 1904 ثم اضطرت إلى سحبه تحت ضغط المعارضة. وأعادت تقديمه ثانية في عام 1905 وأصبح قانوناً في العام التالي. هنا كان لا بدّ بعد تشريع وقف الهجرة من تأمين ملجأ بديل، فكان قرار بلفور بمنح فلسطين وطناً لليهود. وآنذاك كان لويد جورج رئيساً للحكومة وآرثر بلفور وزيراً للخارجية[18].
وقد نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرّية في عام 1952 عن فترة 1919-1939، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين. ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، في الصفحة السابعة نقلاً عن مذكرة وضعها آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني في عام 1917 ما يأتي: “ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة”[19]. ويعود هذا الموقف إلى أن بلفور عندما صاغ الوعد بمنح اليهود وطناً في فلسطين، كان يعتقد أنه بذلك يحقق إرادة الله، وأنه يوفر الشروط المسبقة للعودة الثانية للمسيح، وبالتالي، فإنه من خلال مساعدة اليهود على العودة فإنه يؤدي وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهي[20].
وهكذا، فإن رغبة بريطانيا في تحويل مسار هجرة يهود أوروبا الشرقية وروسيا القيصرية بعيداً عن بريطانيا، وقناعة بلفور وإيمانه بالعهد القديم والذي هو التوراة كجزء من العقيدة المسيحية، هي التي كانت السبب في إعطاء وعده المشؤوم، مع الإدراك المسبق بالأبعاد الإجرامية والكارثية التي ستترتب على الشعب العربي الفلسطيني، والذي “ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين”، وبغض النظر “أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة”!؟ وبذلك تصبح جريمة بلفور وبريطانيا مكتملة الركن القصدي والمعنوي، فقد تم تنفيذها عن قصد وسابق إصرار.
جريمة دولية لا تسقط بالتقادم
تستند المطالبة الفلسطينية بمقاضاة بريطانيا، على أن الأخيرة قد ارتكبت انتهاكات جسيمة ترتقي إلى مستوى الجرائم الدولية وفقاً لمبادئ وقواعد القانون الدولي. وقد عرّفت المادة التاسعة عشرة من مشروع المسؤولية الدولية، الجريمة الدولية بالقول: “يشكل الفعل غير المشروع دولياً، جريمةً دوليةً، حين ينجم عن انتهاك الدولة التزاماً دولياً هو من علو الأهمية بالنسبة لصيانة مصالح أساسية للمجتمع الدولي، حيث يعترف هذا المجتمع كله بأنّ انتهاكه يشكّل جريمةً دوليةً”.
وللمسؤولية الدولية مقتضيات وشروط واجبة، علماً أن هناك العديد من الاجتهادات الفقهية حول تحديد الشروط اللازم توفرها لقيام المسؤولية الدوليـة، فقد رأى الفقيه شارل روسو[21] أنه يلزم لقيام المسؤولية الدولية توفر شرطين هما: الإسناد، وعدم المشروعية. أما الدكتور علي صادق أبو هيف[22] فقد حدد شروطا ثلاثة للمسؤولية الدولية هي:
- ضرر جدي لحق بدولة ما، ويشترط بالضرر أن يكون جدياً، بمعنى أن يكون فيه إخلال فعلي وحقيقي بحق من حقوق الدول والشعوب؛
- أن هذا الضرر ناتج عن فعل غير مشروع؛
- خطأ سواء كان عمديا أو نتيجة إهمال من جانب الدولة محدثة الضرر.
وحدد الفكر الدولي القانوني المعاصر شروطا ثلاثة لقيام المسؤولية الدولية، وهي[23]:
أولا: التصرف الدولي غير المشروع، ويعرف الفعل غير المشروع دوليا على أنه: “ذلك الفعل الذي يتضمن انتهاكا لإحدى قواعد القانون الدولي العام أيا كان مصدرها، أو إخـلالا بإحدى الالتزامات الدولية سواء أكان هذا الفعل إيجابيا أم كان سلبيا”.[24]
ثانيا: الضرر.
ثالثا: الإسناد، والذي يتمثل في وجوب أن يكون التصرف الدولي الذي تسبب بضرر لأحد أشـخاص القـانون الدولي، منسوبا إلى شخص من أشخاص القانون الدولي.
وهنا يتوجب التنويه إلى أن التصرفات التي تصدر من السلطة التنفيذية، والتي تتضمن إخلالا بقواعد القـانون الـدولي وبالواجبات الدولية تخضع الدولة للمسؤولية الدولية عنها، إذ إن الجهات التـي تتـولى الحكـم بموجب القانون الوطني وشؤون الإدارة داخل الدولة، وتقوم بواجب الإشراف عليهـا كـرئيس الدولة، ومجلس الوزراء، والموظفين المدنيين والعسكريين، والمجالس الإداريـة وغيـرهم، تسـأل الدولة عن تصرفاتهم، حيث إنهم يعملون باسم الدولة ولحسابها وعلى الدولة ممارسـة سـلطتها بالإشراف والرقابة عليهم[25]. وينطبق هذا الأمر على بلفور والحكومة البريطانية وإدارة الانتداب البريطانية والجيش البريطاني إبان الانتداب على فلسطين.
ويبدو أن الحكومة البريطانية الحالية في ردها الرسمي على مطلب الاعتذار بتاريخ 22 نيسان (أبريل) 2017، تدًعي وستدًعي بأن الـ”موضوع تاريخي”، وأن “أشياء كثيرة حدثت خلال تلك الفترة”، وبالتالي فقد عفا عليها الزمن؛ أي أنها تلوح وستدعي بمبدأ التقادم في القانون الدولي، باعتبار أن مخالفاتها وجرائمها بحق الشعب العربي الفلسطيني كانت قد حصلت منذ مائة عام بالتمام والكمال. على أن أحكام القانون الدولي الجنائي تقضي بعدم تقادم الجرائم الدولية، فلا يسمح القانون الدولي الجنائي بشكل عام بتقادم الجرائم الدولية الخاضعة لأحكامها مهما طالت الفترة الزمنية على ارتكابها[26]، وهو ما أكدته اتفاقية[27] منع تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية المؤرخة في26 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1968، والتي أكدت في ديباجتها: “وإذ تلاحظ أن إخضاع جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، لقواعد القانون الداخلي المتصلة بتقادم الجرائم العادية، يثير قلقاً شديداً لدى الرأي العام العالمي، لحيلولته دون ملاحقة ومعاقبة المسؤولين عن تلك الجرائم”. ونصت المــادة الأولى من تلك الاتفاقية: “لا يسري أي تقادم على الجرائم التالية بصرف النظر عن وقت ارتكابه”. وتقضي المــادة الثانية منها على أنه “إذا ارتكبت أية جريمة من الجرائم المذكورة في المادة الأولى، تنطبق أحكام هذه الاتفاقية على ممثلي سلطة الدولة وعلى الأفراد الذين يقومون، بوصفهم فاعلين أصليين أو شركاء، بالمساهمة في ارتكاب أية جريمة من تلك الجرائم أو بتحريض الغير تحريضاً مباشراً على ارتكابها، أو الذين يتآمرون لارتكابها، بصرف النظر عن درجة التنفيذ، وعلى ممثلي سلطة الدولة الذين يتسامحون في ارتكابها.”
وقد أشار النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية لعام 1998 في المادة 29 منه، إلى ذلك بالنص: “لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم أياً كانت أحكامه”، فالجرائم تلك أصبحت متعلقة بالقواعد الآمرة للقانون الدولي، وبالتالي لا يسري عليها التقادم. ونعتقد بأن معظم الاتفاقيات الدولية ولا سيما الشارعة منها، كانت في الواقع تقنيناً لعرف دولي سابق وملزم، وكذلك فهي قواعد آمرة في اتفاقية منع جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وتتضمن قواعد عرفية ملزمة، فالمادة الأولى من تلك الاتفاقيات المشار إليها آنفا واضحة الدلالة وصريحة لا يقبل الاجتهاد بعدم سريان تقادم الجرائم الدولية، ومنها الجرائم ضد الإنسانية بصرف النظر عن وقت ارتكابها. ومن الجدير بالذكر أن الفقرة الرابعة من المادة 17 من قانون المحكمة، قد نصت على عدم خضوع الجرائم المنصوص عليها في القانون للتقادم في الدعوى الجزائية، ولم تشر إلى منع التقادم فيما يتعلق بالدعاوى المدنيـة المرتبطة التـي تتعلق بأحكام التعويض عن الأضـرار المادية والأدبية لضحايا تلك الجرائم.
وتدرك الحكومة البريطانية أنها المتسبب الرئيس في الجريمة المستمرة منذ مائة عام، والمتمثلة في نكبة وتشريد الشعب العربي الفلسطيني وحرمانه من وطنه، ومنح هذا الوطن بكل ما يشمل من موارد طبيعية ومقومات وبنى تحتية وحقوق أصلية وتبعية، لغرباء تم جمعهم من كافة أقاصي الأرض والشعوب ليستولوا على وطن الفلسطينيين، من خلال مشروع استعماري استيطاني، بابتداع ورعاية ومساندة وتسهيل وتنفيذ بريطاني. ولعل في اعتراف الحكومة البريطانية في ردها الرسمي على مطلب الاعتذار، ما يؤكد أنها تدرك أبعاد ما اقترفته بلادها من جريمة، بقولها نصاً عن وعد بلفور “إن الإعلان كان ينبغي أن يدعو لحماية الحقوق لجميع الطوائف في فلسطين، ولا سيما حق تقرير المصير”. وعلى الرغم من الادعاء بأن الشعب العربي ليس سوى طوائف أو جزء من الطوائف، لتمرير وتسويغ الوجود الاستيطاني الصهيوني، إلا أن إقران ذلك بحق تقرير المصير، يحمل اعترافاً بريطانياً بأن بلفور وحكومته والحكومات البريطانية المتعاقبة، قد انتهكت هذا الحق وأسست وساهمت في حرمان الشعب العربي الفلسطيني منه؛ ما تسبب بأضرار وخسائر وخيمة يصعب وصفها عليه.
مقاضاة بريطانيا
لم تكتف بريطانيا برفض الاعتذار عن الوعد المشؤوم، بل قررت إقامة احتفالية بمناسبة مرور مائة عام عليه، الأمر الذي أثار غضبا واسعا لدى السلطة الفلسطينية التي أرسلت وفدا إلى لندن للتباحث مع الحكومة البريطانية بهذا الشأن، مع التهديد بمقاضاتها، لكن بريطانيا ردت على التهديدات الفلسطينية بعدم منح السفير الفلسطيني الجديد في لندن، مكانة سفير كتلك التي حصل عليها السفير مانويل حساسيان.
وفي ضوء التعنت والرفض البريطانيين، أعلن الرئيس محمود عباس في خطابه أمام مؤتمر سفراء فلسطين في أواسط نيسان (أبريل) 2017 في البحرين، أن السلطة الفلسطينية “ستقاضي بريطانيا أمام المحاكم البريطانية والدولية، ما لم تصحح دورها التاريخي في الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني، وتعترف بدولة فلسطين”. وقال مسؤول فلسطيني: إن السلطة كلّفت مكتب محاماة في بريطانيا دراسة مقاضاة بريطانيا أمام المحاكم البريطانية، وأمام محكمة العدل الدولية، على خلفية “الضرر المهول” الذي لحق بالشعب الفلسطيني نتيجة وعد بلفور. وأوضح لصحيفة (الحياة) اللندنية[28]، أن هناك سوابق، حيث أن إحدى المستعمرات البريطانية السابقة في أفريقيا رفعت دعوى ضد بريطانيا أمام المحاكم البريطانية، وحصلت على تعويضات مجزية، وندرس اللجوء إلى الأسلوب ذاته. وأضاف: “كما ندرس التوجه إلى محكمة العدل الدولية لمقاضاة بريطانيا على منحها اليهود دولة في فلسطين، التي كانت تحت انتدابها”.
ويبدو توجه القيادة الفلسطينية في الشروع بإعداد إجراءات مساءلة بريطانيا عبر مقاضاتها، سليماً بموجب مبادئ وقواعد القانون الدولي، باتباعها ما تتيحه الشرعية الدولية من مبادئ وقواعد وطرق ووسائل لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية. فقد ألزم ميثاق الأمم المتحدة الدول الأعضاء، حسب الفقرة الثالثة من المادة الثانية على “فض منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية، على وجه لا يجعل السلم والأمن الدولي عرضة للخطر”. ونصت المادة 33 من الميثاق “على أنه يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر، أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها”. ويتبين أن طرق ووسائل حل النزاعات بالطرق السلمية، كما هو الحال ما بين دولة فلسطين والدولة البريطانية بشأن الموضوع المطروح، تتمثل بـ: المفاوضة، والتحقيق، والوساطة، والتوفيق، والتحكيم، والتسوية القضائية، أو اللجوء إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها.
وقد ظهر جلياً أن دولة فلسطين قد قطعت مشواراً طويلاً في اتباع تلك الطرق والوسائل، على مدار أكثر من عام كامل، بدليل المفاوضات واللقاءات العديدة؛ واتفاق وزيري خارجية البلدين على تشكيل لجنة من المختصين لدراسة وتقييم الموضوع من النواحي التاريخية والقانونية وسواها، الأمر الذي لم يجرِ تنفيذه؛ ولجوء الطرف الفلسطيني إلى القمة العربية في نواكشوط والجامعة العربية، باعتبارها “وكالات وتنظيمات إقليمية” حسب منطوق المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، للقيام بإعداد الدراسات والوثائق اللازمة بشأن الموضوع، ومتابعة بريطانيا بهذا الشأن، الأمر الذي يمكن اعتباره استيفاءً لوسائل التحقيق والوساطة والتوفيق واللجوء إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية، التي يقضي بها ميثاق الأمم المتحدة. ولعل المحاولات الفلسطينية هذه، جاءت منسجمة مع المتطلبات الأولى لحل الخلافات بين الدول بالطرق السلمية، والتي تتمثل بالطرق والوسائل السياسية والدبلوماسية، وذلك للمميزات التي توفرها من حيث الإنجاز والفصل في المطالبة، وإمكانية تنفيذها باعتبار أن الفصل فيها يتم بالتراضي والاتفاق، بالإضافة إلى أن هذه الوسيلة تحفظ العلاقات الودية بين الأطراف[29]. على أن رفض بريطانيا حتى مجرد الاعتذار عن وعد بلفور، يتطلب اتباع طرق ووسائل أخرى تتمثل في الطرق والوسائل القضائية والتحكيم، والتي تندرج أيضاً ضمن الوسائل السلمية لحل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية.
الطرق والوسائل القضائية لمقاضاة بريطانيا
عديدة هي الطرق والوسائل القضائية لمقاضاة بريطانيا، فمثلاً قام ثوار “الماو ماو” الكينيين، برفع قضاياهم أمام المحاكم البريطانية، بعد أن رفعت الحكومة الكينية الحظر عن هذه الحركة عام 2002، واستغرقهم الأمر ستة أعوام قبل أن توافق المحكمة العليا البريطانية السماح لهم بمقاضاة الحكومة، على ما ارتكبه الاستعمار البريطاني بحقهم قبل عدة عقود. وتعتزم عناصر منظمة “ايوكا” وهي المنظمة الوطنية للنضال القبرصي، التي نشطت ضد الاستعمار البريطاني في الخمسينات من القرن الماضي، برفع دعاوى تعويضات أمام المحاكم البريطانية. وتخشى الخارجية البريطانية من أن تدفع هذه القضية، أشخاصاً آخرين من سكان المستعمرات البريطانية السابقة للمطالبة بتعويضات. وقد أفادت صحيفتا “الغارديان” البريطانية و”هآرتس” الإسرائيلية[30]، أن بريطانيا وافقت على تعويض ضحايا الاستعمار البريطاني في كينيا، وتجري مفاوضات بهذا الشأن مع قدامى المحاربين من رجال المقاومة الكينية المعروفة بـ”الماو ماو”، التي عملت في خمسينات القرن الماضي. ويتوقع أن تدفع الحكومة البريطانية ملايين الجنيهات، على شكل تعويضات، لنحو 10,000 من المعتقلين الكينيين السابقين. ومن بين الذين تعرضوا للتعذيب في معسكرات الاعتقال البريطانية في كينيا، حسين أونيانغو أوباما، وهو جد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ويمكن اتباع مثل هذه الطريقة من الطرف الفلسطيني.
وتشمل الطرق والوسـائل القضـائية أشكال عدة كاللجوء إلى التحكيم، والذي يعتبر من الوسائل الاتفاقية حيث أن اللجوء إليه يتم بالقبول المتبادل لطرفي النزاع. والتحكيم يعني أساساً النظر في موضوع النزاع بمعرفة شخص أو هيئة، يلجأ إليه أو إليها المتنازعون مع التزامهم بتنفيذ القرار الذي يصدر في النزاع[31]. ولا يتم التحكيم إلا بناء على رغبة الأطراف وباتفاق تام على المحكمين وكيفية تشكيل هيئة التحكيم. وتكون قرارات مجالس التحكيم نهائية غير قابلة للاستئناف، مع الحفاظ للمحكمين حق تعديل قراراتهم، متى ما تكشفت حقائق أخرى متعلقة بالنزاع لم تكن متوفرة قبل الحكم؛ وهذا يعني أنه يجوز للأطراف طلب إعادة النظر في حالة ما إذا استجدت ظروف، كان من شأنها أن تجعل القرار يصدر بشكل آخر لو أنها كانت متوفرة للمحكمين قبل إصدار القرار. إلا أن هذا الحق يجب أن يكون متضمنا في اتفاق الإحالة على التحكيم، ويقدم طلب إلى نفس هيئة التحكيم والتي لها القرار في تحديد إن كانت هناك ظروف جديدة تقتضي إعادة النظر في القرار أم لا[32]. وعرفت المادة 37 من اتفاقية لاهاي لعام 1907 الخاصة بتسوية المنازعات الدولية بالتسوية السلمية بأن “الغرض من التحكيم هو تسوية المنازعات بين الدول بواسطة القضاة الذين تختارهم، وعلى أساس احترام القانون الدولي”.
وتتعدد أنواع محـاكم التحكيم فهناك لجان الدعاوى المختلطة أو محاكم التحكيم المختلطة، مثلما تم في معاهدات السلام بفرساي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى 1919-1923، حيث أنشئت بموجبها محاكم التحكيم المختلطة للفصل في الدعاوى المقدمة ضد ألمانيا النازية، والتي ألزمت بموجبها تحمل ألمانيا لكافة الأضرار التي لحقت برعايا دول الحلفاء[33]. وهناك محاكم التحكيم الخاصة تشكل من محكمين يختارهم الطرفان أو محكم يختاره الطرفان معا، ولم تحدد اتفاقية لاهاي عدد المحكمين في المحاكم الخاصة فهي أمر متروك للأطراف تحديده، ولكن العادة جرت على أن يكون عدد المحكمين خمسة يختار كل طرف اثنين منهما مع جواز أن يكون أحدهما من رعاياه، وينتخب المحكمون الأربعة المعينون محكما خامسا تكون له رئاسة الهيئة، وقد أخذ ميثاق جنيف العام بهذا العرف مع التغيير في كيفية اختيار المحكمين حيث قررت أن يختار كل طرف محكما يجوز أن يكون من رعاياه، والثلاثة الآخرون ومنهم رئيس الهيئة يتم اختيارهم باتفاق المحكمين المعينين[34]. وكذلك هناك محـكمة التحـكيم الدائمـة التي أنشئت بموجب مؤتمر لاهاي الأول سنة 1899 ومقرها لاهاي، وتنعقد جلسات المحاكمة بخمسة قضاة يختار كل من الطرفين قاضيين من قوائم القضاة المدرجين بقائمة القضاة المنتخبين للمحكمة، ويكون خامسهم القاضي الذي يختاره القضاة المعينون من قبل الأطراف ليكون رئيساً. واختصاص هذه المحكمة اختياري، ولا يكون قضاتها موجودين على الدوام، إنما هي قوائم بأسماء رجال قانون تنتخبهم كل دولة من الدول الموقعة على الاتفاقية لمدة ست سنوات قابلة للتجديد، بمعدل أربعة على الأكثر لكل منها. وفي سنة 1962 أعد المكتب الإداري للمحكمة لائحة التحكيم والتوفيق في المنازعات الدولية بين طرفين أحدهما فقط دولة”، ومن ثم فقد استحدثت المحكمة القواعد التي بمقتضاها أمكن أن يحال إليها المنازعات التي تقع بين الدول[35].
والطريقة الأخرى من وسائل وآليات حل نزاعات الدول بالطرق القضائية، تتمثل في اللجوء إلى هيئات القضاء الدولي، وتعتبر محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الوحيد اليوم الذي يمكن للدول أن تلجأ إليه لحسم خلافاتها القانونية، وهي المحكمة التي خلفت المحكمة الدائمة للعدل الدولي التي كانت في عصر عصبة الأمم[36]. ولمحكمة العدل الدولية نوعان من الاختصاص، الأول إفتائي والثاني قضائي. ويطلق أيضا على الاختصاص الأول الاختصاص الاستشاري. والاختصاص القضائي عبارة عن إصدار الأحكام التي تتصف بالصبغة القانونية في المنازعات التي تقع بين الدول. بينما الإفتائي الاستشاري هو قيام المحكمة بإبداء الرأي في المسائل القانونية التي تعرض عليها من أجهزة الأمم المتحدة الأخرى، كالرأي الذي أقرته المحكمة ذاتها بشأن جدار الضم والتوسع الإسرائيلي في الضفة الفلسطينية المحتلة. وقد تناولت المواد 34-38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، تحديد نطاق الاختصاص القضائي، واختصت المواد 65-68 من النظام الأساسي للمحكمة بتحديد نطاق اختصاصها الإفتائي.
وتشترط ولاية محكمة العدل الدولية رضا جميع الأطراف المتنازعة، بعرض أمر الخلاف عليها للنظر والفصل فيه. ومن الممكن أن يكون التراضي ضمنيا ولا يشترط أن يكون صريحا أو مكتوبا، وكذلك التعهد بتنفيذ الأحكام بحسن نية وقبول الالتزامات الواردة في المادة (4) من ميثاق الأمم المتحدة بتنفيذ أحكام المحكمة. وتشمل ولاية المحكمة جميع القضايا التي يعرضها عليها المتقاضون، كما تشمل جميع المسائل المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق “الأمم المتحدة” أو في المعاهدات والاتفاقات المعمول بها. وللدول التي هي أطراف في هذا النظام الأساسي أن تصرح في أي وقت، بأنها بذات تصريحها هذا ودون حاجة إلى اتفاق خاص، تقر للمحكمة بولايتها الجبرية في نظر جميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها وبين دولة تقبل الالتزام نفسه، متى كانت هذه المنازعات القانونية تتعلق بالمسائل الآتية: تفسير معاهدة من المعاهدات؛ وأية مسألة من مسائل القانون الدولي؛ وتحقيق واقعة من الوقائع التي إذا ثبتت كانت خرقاً لالتزام دولي؛ ونوع التعويض المترتب على خرق التزام دولة ومدى هذا التعويض. ولا يكون للحكم قوة الإلزام إلا بالنسبة لمن صدر بينهم وفي خصوص النزاع الذي فصل فيه، كما يكون الحكم نهائياً غير قابل للاستئناف، ولا يقبل التماس إعادة النظر في الحكم، إلا بسبب تكشف واقعة حاسمة في الدعوى كان يجهلها عند صدور الحكم كل من المحكمة والطرف الذي يلتمس إعادة النظر، على ألا يكون جهل الطرف المذكور لهذه الواقعة ناشئاً عن إهمال منه.
المطالبة بتطبيق مبدأ إصلاح الضرر
يرمي التوجه الفلسطيني لمقاضاة بريطانيا إلى الحصول على حكم قضائي، بأنها قد ارتكبت مخالفات جسيمة لقواعد القانون والاتفاقيات الدولية، جراء إصدارها وعد بلفور وتطبيقاتها غير المشروعة لانتدابها على فلسطين. وفي حال ثبوت المسؤولية الدولية على بريطانيا تترتب عدة آثار قانونية، تتمثل في تطبيق مبدأ إصلاح الضرر. ومصـطلح إصلاح الضرر مصطلح عام، يشمل إعادة الحال إلى ما كان عليه قبـل وقـوع الفعـل الضـار، إضــافة إلــى التعويض المالي، كما يشمل الإعلان عن عـدم مشـروعية الفعـل الضار، والاعتذار عن وقوعه، واتخاذ الدولة المدعى عليها الخطـوات اللازمة لمنع تكرار أي انتهاك من جانبها لالتزاماتها الدولية. ومبدأ إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الضرر، يتضمن تقديم ترضية مناسبة برضى الطرف المتضرر، أو تقديم تعويض عيني أو نقدي[37].
وقد جمعت محكمة العدل الدولية الدائمة في حكمها الصادر عام 1922، أشكال إصلاح الضرر الذي تلتزم به الدولة محدثة الضرر وذلك بتأكيدها “أن المبدأ الرئيس الذي تشتمل عليه نظرية العمل غير المشـروع هـو ذلك المبدأ الذي استقر عليه العمل الـدولي وعلـى وجـه الخصـوص قرارات محاكم التحكيم، والذي يقضي بأن إصلاح الضـرر ينبغـي أن يمحو بقدر الإمكان كل الآثار المترتبة على العمل غير المشـروع، وأن يعيد كلما أمكن، الحال إلى ما كان عليه، كما لو لم يرتكب هـذا العمـل غير المشروع، وذلك بالتعويض العيني، أو دفـع مبلـغ يعـادل قيمـة التعويض العيني إذا لم تكن الإعادة العينية ممكنـة، وإذا كانـت هنـاك خسارة لا يغطيها التعويض العيني أو ما يقابله، فإنه يحكم بأداء تعويض مالي عن هذه الخسارة، وهذه هي المبادئ التي يجب الاسترشاد بها فـي تحديد مقدار التعويض الواجب أداؤه بسبب العمـل المخـالف للقـانون الدولي”. وإعادة الحال إلـى ما كانت عليه، هي الصورة الأساسية والأصلية لإصلاح الضرر، بحيـث لا يعدل عنها إلى التعويض النقدي، إلا إذا أصبحت إعادة الحال إلـى مـا كانت عليه أمرا غير ممكن، وهذا ما اتجهت إليه محكمة العدل الدوليـة في حكمها هذا. وبهذا الصدد يكتب الدكتور علي أبو هيف: “يترتب علـى قيـام المسؤولية القانونية تجاه الدولة، التزامها بإصلاح الضرر الذي أحدثتـه أو تسببت في حدوثه، فضلا عما تقوم به من ترضية معنويـة تقـدمها للدولة التي تشكو من هذا الضرر كالاعتذار الدبلوماسـي أو التصـريح بعدم إقرار الفعل غير المشروع في حالة صدوره من أحـد مواطنيهـا وفصل هذا الموظف ومحاكمته، إلى غير ذلك مـن وسـائل الترضـية الأدبية”[38].
وتجد أسس الطبيعة القانونية لمصطلح إصلاح الضرر في العديد من القـرارات والأحكام والمواثيق الدولية، من ذلك ما نصت عليـه المـادة 3 مـن اتفاقية لاهاي الرابعة للحرب البرية لعام 1907، إذ جاء فيها: “أن الدولة التي تخل بأحكام هذه الاتفاقية تلتزم بالتعويض إن كان لذلك محل، وهي تكون مسؤولة عن كافة الأفعال التي تقع من أي فرد من أفـراد قواتهـا المسلحة”. وكذلك المادة 52 من ذات الاتفاقية التي تـنص علـى أن “تقوم دولة الاحتلال بدفع مبالغ نقدية للسكان عـن إتـلاف الممتلكـات والأضرار بها، بحيث تدفع هذه المبالغ فوراً للمتضررين، وفـي حالـة عدم الدفع الفوري فإن الدولة المحتلة تمنح هؤلاء السكان إيصالات بهذه المبالغ، على أن تقوم بدفع هذه الإيصالات في أسرع وقت ممكن”.
ولكون ما ارتكبته بريطانيا من مخالفات جسيمة، أي جرائم دولية ضد الشعب الفلسطيني، هي انتهاكات وجرائم مستمرة ولا تزال آثارها والأضرار الجسيمة التي نتجت عنها وبسببها، فإن من الممكن والمشروع، إعمال قواعد وأحكام كافة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية سارية المفعول حتى اللحظة، وليس الاقتصار على تلك التي كانت سارية المفعول في فترة ارتكابها وهي اتفاقية لاهاي لعام 1907. وعليه، تنشأ المسؤولية الدولية لبريطانيا أيضاً للإخلال بأحد الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب (أغسطس) عام 1949، أو في أحد بروتوكولاتها، وهو ما يرتب التزاما بالتعويض أو الإصلاح أو الجبر، وهذا ما أكدت عليه محكمة العدل الدولية الدائمة في عام 1927، وقد جاء حكمها كالآتي: “إنه من مبادئ القانون الدولي أن انتهاك الدولة لأحد تعهداتها يتضمن التزاما بإصلاح الضرر بطريقة كافية، وأن الالتزام بإصلاح الضرر هو المكمل الضروري للإخلال بتطبيق اتفاقية ما، وذلك دون حاجة للنص عليه في نفس الاتفاقية”. وجاء في قرارها الصادر بتاريخ 13 أيلول (سبتمبر) 1928: “إن المحكمة تؤكد وفقا لمبادئ القانون الدولي، لا بل للمفهوم العام للقانون، أن أي خرق للتعهدات يستوجب التعويض”[39].
وقد نصت اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على المسؤولية الدولية عند مخالفة أحكامها، وهو الأمر نفسه بالنسبة للمادة الأولى من مواد مسؤولية الدول عن الأعمال غير الشرعية دوليا، والتي اعتمدتها لجنة القانون الدولي سنة 2001 .والأمر ذاته نجده في المبدأ الثالث والعشرين من مشروع عام 2000، والمتعلق بالمبادئ الأساسية والخطوط المرشدة حول الحق في الانتصاف، وجبر الأضرار لضحايا انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، حيث تم النص على وجوب منح تعويض عند حدوث أي ضرر يمكن تقديره اقتصاديا. ويعتبر هذا الحق أيضا فكرة أساسية يرتكز عليها الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب، حيث ينص في البند الثاني من المادة 21 منه على أنه: “في حالة النهب يكون للمحرومين الحق المشروع في استرداد ممتلكاتهم، وكذلك الحق في تعويض كافٍ”.
إلى جانب تلك النصوص والأحكام، فإن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المعتمد في 17 حزيران (يونيو) 1998، وضع هو الآخر مبادئ فيما يتعلق بتعويض ضحايا انتهاكات القانون الدولي الإنساني، وفي هذا الصدد تنص المادة 75 من هذا النظام على أن “للمحكمة أن تصدر أمراً مباشراً ضد شخص مدان، تحدد فيه أشكالا ملائمة من أشكال جبر أضرار المجني عليهم، أو فيما يخصهم، بما في ذلك رد الحقوق والتعويض ورد الاعتبار، وللمحكمة أن تأمر حيثما كان مناسباً بتنفيذ قرار الجبر عن طريق الصندوق الاستئماني المنصوص عليه في المادة 79 “.
وهكذا يظهر بوضوح من جميع النصوص والأحكام المشار إليها سالفا، بأن جبر الضرر بما فيه التعويض عن الضرر الناتج عن انتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني، هو واجب تلتزم به الدولة المنتهكة. ويتوجب التنويه في هذا الخصوص أن تقدير الضرر ومتطلبات إصلاحه يشمل: إعادة الحال إلى ما كان عليه، والتعويض عن الأضرار المباشرة، والتعويض عن الأضرار غير المباشرة، والتعويض عن الأضرار المعنوية، وتعويض تفويت فرص الكسب الفائت.
إن إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الضرر وإعادة الشيء إلى طبيعته، هو الصورة الأصلية لإصلاح الضرر ولا يتم التعويض المالي أو الترضية إلا في حالة استحالة إعادة الحال إلى ما كان عليه، وهذا ما أكدته المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية مصنع كورازو فقد جاء في حكمها: “إن المبدأ الأساسي الذي يستخلص من العمل الدولي ومن قضاء التحكيم، هو أن إصلاح الضرر يجب أن يزيل بقدر الإمكان كافة الآثار المترتبة عن الفعل غير المشروع، ويعيد الحال إلى ما كان عليه قبل ارتكاب هذا العمل، كما لو لم يرتكب هذا العمل، وذلك بالتعويض العيني أو بدفع مبلغ يعادل التعويض العيني إذا لم يكن التعويض العيني ممكنا”[40]. ويحق للدول المطالبة بالتعويض المالي، عن الأضرار النفسية والأدبية والجسمانية التي تصيب رعاياها، من جراء مخالفة دولة ما لالتزاماتها الدولية، إذ إن الآلام النفسية جراء الاعتداء على المتضرر وانتهاك حقوقه والمساس بحريته تُعد سببا للمطالبة الدولية[41]. ومن صور التعويض المالي تلك التي يتم دفعها بوساطة سلطات الاحتلال إلى السكان عند إتلاف أو تدمير أو الاستيلاء غير الشرعي على ممتلكاتهم، فقد نصت لوائح لاهاي ومن بعدها اتفاقيات جنيف على التعويض عن الأضرار التي تصيب ممتلكاتهم.
حق الفرد في المطالبة الدولية لإصلاح ضرر
يترتب أحيانا على المطالبـة الدوليـة بإصـلاح الضرر الذي يقع على رعايا الدولة حق مطلق لها، وفي حال عزوف الدولة عن ذلك وعدم تقديم الحمايـة الدبلوماسـية لرعاياها، أو عدم حصول الأفراد على التعويض الكـافي الـذي يجبـر ضررهم، يجعل من حق الأفراد المطالبة بذلك. كما قد تتنازل الدولة عن المطالبة الدولية، أو عن تنفيذ الحكـم الصادر لصالح رعاياها، نتيجة ضغوطات وصفقات معينة. نتيجة لهـذا، رأى بعض الفقهاء أن الفرد يمكنه مطالبـة الدولـة الأجنبيـة مباشـرة للحصول على ما يصلح الضرر الذي أصابه. ويستند هذا الـرأي فـي إعطاء الفرد حق ممارسة المطالبة الدولية لإصلاح ضرره، إلى أن الفرد شخص من أشخاص القانون الدولي العام، وأنه هو المخاطـب الوحيـد بالقواعد القانونية دولية كانت أم داخلية؛ وبالتالي فإِن من بـين الحقـوق التي يتلقاها مباشرة من القانون الدولي، أهلية اللجوء إلى المحاكم الدولية للمطالبة بإصلاح أضراره[42].
ومن القواعد الدولية التي تخاطب الأفراد مباشرة، تلك القواعـد التـي وردت في كل من الإعلان العـالمي لحقـوق الإنسـان عـام 1948، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1951، والعهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك العهد الدولي المتعلق بالحقوق السياسية والمدنية اللذين أقرتهما الجمعية العامة للأمم المتحـدة عام 1966 .ويعطي القانون الدولي شخص القانون الدولي المتضرر وخاصة الدولة، الحق في المطالبة بإصلاح الأضرار التي تقع عليـه أو علـى رعاياه، نتيجة لأعمال غير شرعية ومخالفة للقانون الـدولي، ارتكبهـا شخص آخر من أشخاص القانون الدولي. ولقد اتجه الفقه الحديث، إلـى إعطاء الفرد الحق في المطالبة الدولية بإصلاح ما أصابه من أضرار، في مواجهة أشخاص القانون الدولي، وذلك لما يتمتع بـه الفـرد مـن شخصية دولية.
وبناءً على ذلك، فإن الحق في جبر الضرر والتعويض حق للشعب الفلسطيني بأكمله، كما أنه حق فردي لا تستطيع أن تتجاوزه أو تقفز عنه الحكومات أو الدول، إذ لـيس لأي سلطة أو دولة القوة الشرعية لإلغاء حق الأفراد فـي التعـويض عـن الأضرار، كما لا تسقطه الاتفاقيات والتسويات السلمية. وهذا ما أكدتـه المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1996 أثناء نظرها في الدعوى المقامة من سيدة تدعى لوسيدو، وهي من القبارصة اليونانيين الذين تم تجريدهم من ممتلكاتهم أثناء الغزو التركي لشمال جزيرة قبـرص عـام 1974؛ فقد أكدت المحكمة حق المرأة المذكورة في أن تتمتع بأملاكهـا وحقها في الوصول إلى هذه الأملاك وإلى الأراضي التي كانت تملكهـا. وعندما ادعت تركيا أن حقوق الأفراد قد تمت معالجتها على المسـتوى السياسي، وأن قرار المحكمة المذكور يتدخل في الشؤون السياسية، قالت المحكمة في ردها بأنه “لا تستطيع المزاعم القائلة أن حقوق الأفراد بالتملك قد تم معالجتها بين الجاليتين في قبرص، ولا يعتبر ذلك تبريراً لحرمان المرأة من التمتع بأملاكها”[43].
ولعل في حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1996 سابق البيان، ما يبين بأن واجب الدولة أن تتابع سياسياً وقانونياً وقضائياً، قضايا جبر وإصلاح الضرر الواقع عليها وكذلك على مواطنيها؛ على أن واجب وحق الدولة هذا، لا يعني مطلقاً إلغاء حق مواطني الدولة الذين أصابهم الضرر جراء الاعتداء على حقوقهم العينية والأصلية والتبعية، من قبل دولة ليست دولتهم خلافاً لمبادئ وقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، أن يتولوا بأنفسهم رفع المطالبة بذلك، في حال الانتقاص من حقوقهم جراء أية تسويات قد تبرم بهذا الخصوص.
خطوات واجبة
يظهر من كل ما تقدم في هذه الدراسة، أن الحكومة البريطانية قد أبت أن تتجاوب مع مساعي دولة فلسطين والفعاليات الأهلية الفلسطينية، الرامية إلى الوصول إلى اتفاق بطرق حل المنازعات الدولية بالطرق الديبلوماسية والسياسية، بشأن مخالفاتها الجسيمة التي ترتقي إلى مستوى الجرائم الدولية، جراء إصدارها وتنفيذها وعد بلفور وكذلك ما انطوت عليه ممارستها في إصدار قرار انتدابها على فلسطين لتنفيذ ذلك الوعد المشؤوم. فهي حتى قد رفضت مجرد الاعتذار وتتمادى بالتصريح في ردها على مطلب الاعتذار بـ”أنها فخورة بدورها”، وأن ما اقترفته من جرائم بحق الشعب الفلسطيني “كان هو الشيء الصحيح والأخلاقي لفعله”!؟
ولم يكن أمام الطرف الفلسطيني في ظل هكذا مواقف، إلاً وأن تبدأ الإعداد لاستخدام الطرق والوسائل القضائية في حل هذا النزاع، وفقاً لمبادئ وقواعد القانون الدولي بشأن الطرق والوسائل السلمية في حل النزاعات الدولية، تلك الطرق والوسائل التي تناولتها هذه الدراسة بكثير من الاختصار. ويحتاج الموقف الفلسطيني هذا إلى جملة من الخطوات الواجبة لعل أبرزها:
أولاً: اتخاذ قرار سياسي واضح وصريح بالشروع في الإعداد لمقاضاة بريطانيا، بشأن جرائمها التي ترتبت عن وعد بلفور والانتداب والتسبب بنكبة الشعب الفلسطيني.
ثانياً: تشكيل لجنة وطنية متخصصة في القانون الدولي الجنائي، لجمع وإعداد وتحضير الوثائق والملف الاتهامي بحق بريطانيا.
ثالثاً: تجديد الدعوة والطلب من الجامعة العربية، للمساعدة والشروع في المساهمة في إعداد الملف الاتهامي بحق بريطانيا، والاستفادة من أرشيف الجامعة العربية بهذا الخصوص، وطلب توفير تغطية المستلزمات المالية اللازمة من خلالها واعتمادها وصرفها من قبلها.
رابعاً: الإشراك الفاعل والعضوي لاتحاد الحقوقيين العرب واتحاد المحامين العرب.
خامساً: تشكيل لجان من الخبراء الفلسطينيين في الخارج، وخاصة هؤلاء المتواجدين في بريطانيا وهم كثر وعلى مستوى رفيع من الشهرة، والمتخصصين في المواضيع ذات الصلة بموضوع المقاضاة. ويمكن لهؤلاء ضم الكثيرين من الخبراء والمتخصصين البريطانيين والأوروبيين وغيرهم المؤيدين للقضية الفلسطينية. ولعل أبرز ما يرجى من هؤلاء، يتمثل في جمع ما يتوفر من وثائق في الأرشيف البريطاني على صلة بموضوع المقاضاة، وتشكيل طاقم المحامين الذي سيجري تكليفه وانتدابه للقيام بما يلزم.
(ملحق)
نص الرد البريطاني الرسمي على مطلب الاعتذار
بتاريخ 22 نيسان (أبريل) 2017
“إعلان بلفور هو وثيقة تاريخية لا تنوي حكومة صاحبة الجلالة الاعتذار عنها، نحن فخورون بدورنا في تأسيس دولة إسرائيل، والواجب الآن هو تشجيع الخطوات نحو السلام.
تمت كتابة الإعلان في عالم من القوى الإمبريالية المتصارعة وأثناء الحرب العالمية الأولى وفي نهاية عمر الإمبراطورية العثمانية. في هذا السياق، فإن تأسيس وطن للشعب اليهودي في الأرض التي كان لهم فيها ارتباطات تاريخية ودينية كان هو الشيء الصحيح والأخلاقي لفعله، خاصة بعد قرون من الاضطهاد.
بالتأكيد يمكن للمؤرخين عمل تقييم شامل للإعلان وتبعاته. وقعت الكثير من الأحداث منذ عام 1917، نعترف بأنه كان يجب على الإعلان حماية الحقوق السياسية للمجتمعات غير اليهودية في فلسطين، خاصة حقهم في تقرير المصير. على أي حال، فإن الأمر المهم الآن هو المضي قدماً وتأسيس أمن وعدل لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين عبر سلام دائم.
نؤمن بأن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هو عبر حل الدولتين: تسوية متفق عليها تقود إلى دولة إسرائيلية آمنة تعيش جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة، بناءً على حدود 1967 مع تبادل الأراضي، والقدس كعاصمة مشتركة بين الجانبين وتسوية واقعية وعادلة ومتفق عليها لقضية اللاجئين.
نؤمن بأن مثل هذه المفاوضات ستنجح فقط عندما تجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن بدعم مناسب من المجتمع الدولي. سنبقى في حالة التشاور الوثيق لكلا الجانبين والشركاء الدوليين لتشجيع مفاوضات ثنائية وبناءة.
لا نقلل من قيمة التحديات ولكن إذا أظهر كلا الجانبين قيادة شجاعة فالسلام ممكن تحقيقه، إن المملكة المتحدة مستعدة لتقوم بكل ما تستطيع القيام به لدعم تحقيق هذا الهدف”.
الهوامش:
[*] كاتب وباحث في شؤون القانون الدولي.
[1] هذه هي الدراسة الثالثة للكاتب حول الموضوع ذاته، ويمكن الاطلاع على الدراستين السابقتين في:
د. كمال قبعة، مساءلة بريطانيا عن تصريح بلفور والنكبة الفلسطينية، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 265، خريف 2016، ص20–40. والثانية في المصدر ذاته، تحت عنوان: مسؤولية بريطانيا عن عدم مشروعية ونتائج وعد بلفور والانتداب، العدد 266، شتاء، ص30–54.
[2] الصحف الفلسطينية بتاريخ 16 أيار (مايو) 2017.
[3] نص بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية 13/2/2017، الفقرة العاشرة، وكالة وفا بالتاريخ ذاته.
[4] وكالة “وفا” بتاريخ 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016.
[5] السلطة تدرس مقاضاة بريطانيا أمام المحاكم الدولية، موقع دنيا الوطن، بتاريخ 16 نيسان (أبريل) 2017.
[6] بريطانيا ترضخ للوبي الإسرائيلي وتقطع مساعدات السلطة الفلسطينية https://www.alaraby.co.uk/politics/2016/10/8، بتاريخ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2016. صحيفة هآرتس/ القدس المقدسية 16 كانون الأول/ ديسمبر 2016.
[7] www.alaraby.co.uk/politics/2016/12/14
[8] صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 2016.
www.alhayat.com/Articles/…/-
[9] وكالة معا بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2017. يذكر أن 98% من أعضاء صندوق المعاشات التقاعدية، ما يشكل أكثر من 23,000 مواطن بريطاني، عارضوا بشدة توجيهات الحكومة في استطلاع عام أجري العام الماضي، فيما كشف استطلاع رأي آخر أجرته مؤسسة YouGov للأبحاث أن حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) تعتبر “منطقية” من وجهة نظر نحو 43% من الجمهور في بريطانيا.
[10] موقع العودة الفلسطيني، لندن prc.org.uk/portal/index.php/ar/
[11] www.alaraby.co.uk/politics/2016/12/14
[12] صحيفة الأيام، بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2017.
[13] عمر كوش، الحق في التعويض والاعتذار عن أضرار الاستعمار. مجلة المستقبل، العدد 3710، بتاريخ 14 تموز 2010، صفحة 20، www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=418802
[14] نص بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية 13/2/2017، الفقرة العاشرة، وكالة وفا في التاريخ نفسه.
[15] المصدر نفسه.
[16] المصدر نفسه
[17] مصدر سابق، المصدر الأول.
[18] محمد السماك، قصة وعد بلفور، مجلة المستقبل – العدد 4517 – 12 تشرين الأول 2012، ص 19.
almustaqbal.com/stories.aspx?storyid=547046
[19] المصدر نفسه.
[20] المصدر نفسه.
[21] السيد أبو عيطة، الجزاءات الدولية بين النظرية والتطبيق، مؤسسة الثقافة الجامعية، 2004، هامش ص252.
[22] علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، ج 1 منشأة المعارف الاسكندرية، ط17، 1997، ص 246.
[23] السيد أبو عيطة، الجزاءات الدولية بين النظرية والتطبيق، مرجع سابق، ص 252.
[24] المرجع السابق، ص 255.
[25]علي صادق أبو هيف، القانون الدولي المعاصر، مرجع سابق، ص256.
[26] د. عبد الله علي عبو، المنظمات الدولية – مطبعة جامعة دهوك، ط1، 2010، ص140.
[27]اعتمدت بموجب قرار الجمعية العامة 2391 (د-23) بتاريخ 26/11/1968 وأصبحت نافذة في 11/11/1970.
[28] السلطة تدرس مقاضاة بريطانيا أمام المحاكم الدولية، موقع دنيا الوطن، بتاريخ 16 نيسان (أبريل) 2017.
[29]الدكتور عبد الغني محمود، المطالبة الدولية لإصلاح الضرر في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1986، ص 71 وما بعدها.
[30]وكالة هيرمس برس- العصفورة. بريطانيا تعوّض ضحايا www.harmees.com، بتاريخ 7 أيار (مايو) 2013.
[31] أ. د صادق أبو هيف، مرجع سابق ـ ج2، ص 740.
[32] أ. د صادق أبو هيف، المرجع السابق ـ ج2، ص 74.
[33] د. صلاح عبد البديع شلبي، حق الاسترداد في القانون الدولي دراسة مقارنة ـ الطبعة الأولى 1983، ص269.
[34] د صادق أبو هيف، مرجع سابق، ج2، ص 743.
[35] د. عبد الغني محمود، مرجع سابق ـ ص 82.
[36] د. عبد الغني محمود، المرجع السابق ـ ص 83.
[37] د. صلاح عبد البديع شلبي ـ حق الاسترداد في القانون الدولي دراسة مقارنة ـ الطبعة الأولي 1983م ـ ص209 وما بعدها.
[38]علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، منشأة المعارف، الطبعة الحادية عشرة، الإسـكندرية، 1975، ص251. انظر كذلك: حامد سلطان، القانون الدولي العـام في وقـت السـلم، الطبعـة الرابعة، 1969، دار النهضة العربية، القاهرة، ص200. وعبد العزيز سرحان، مبادئ القانون الـدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1980، ص506.
[39]د. عبد الواحد محمد يوسف الفار، أسرى الحرب دراسة فقهيه وتطبيقية في نطاق القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، عالم الكتب، القاهرة، 1975، ص483.
[40] د. عبد الغني محمود، مرجع سابق، ص 350.
[41] المرجع السابق، ص 259.
[42] إبراهيم العناني، اللجوء إلى التحكيم الدولي، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، ص70.
[43]عبد الرحيم طه، تعويض المتضررين مادياً جراء الأعمال العدائية خلال انتفاضة الأقصى، الهيئة المستقلة لحقوق المواطن، رام الله، آب 2001، ص13.