
- عن المركز
- دراسات وأبحاث
- متابعات
- مراجعات
- إصدارات المركز
- وثائق
- مركز الإعلام
- مؤتمرات
مراجعة: نعيم ناصر·
كُتب الكثير عن معركة الكرامة، التي خاضتها حركة "فتح" وقوات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، والجيش الأردني جنباً إلى جنب، في يوم الخميس الموافق بتاريخ 21/3/1968، وقيلت كلمات عديدة ومتنوعة بهذه المناسبة، تمجد هذه الملحمة.
لكن ما ميز هذا الكتاب للواء المتقاعد محمود الناطور (أبو الطيب) عوامل عديدة أبرزها أن مؤلفه عاش طفولته وشبابه في مخيم الكرامة بعد أن هُجّر هو وعائلته من قرية "بيت دجن" قضاء يافا، فعرف شوارعه وأزقته، وتجول فيها، وتسلق التلال المحيطة به، وفيه ذاق مرارة المأساة التي لحقت بأبناء شعبه الفلسطيني الذي أجبر على النزوح من وطنه، فتعمق لديه الشعور الوطني مبكراً، ودفعه هو ومجموعة من شباب المخيم إلى الالتحاق بحركة القوميين العرب، ثم بحركة "فتح" في الفاتح من شهر كانون الثاني (يناير) 1966.
والميزة الثانية التي انفرد بها هذا الكتاب هي أن "أبو الطيب" ساهم مع رفاقه، تحت قيادة الشهيد ياسر عرفات وعدد من رفاقه الشهداء، أبرزهم أبو جهاد وأبو إياد وأبو اللطف وأبو صبري، في الإعداد العسكري واللوجستي لمواجهة الهجمة الإسرائيلية على قواعد الفدائيين ومرابض المدفعية الأردنية في التلال المحيطة بالكرامة، وفي خوضها، ما أعطى مصداقية أكثر لمحتواه.
أما الميزة الثالثة فتتمثل في أن مؤلفه رجل عسكري خضع لدورات عسكرية متقدمة، وخاض مع رفاقه معارك عديدة ضد القوات الإسرائيلية على امتداد مسيرة الثورة الفلسطينية، وتبوأ مناصب عسكرية عديدة أبزرها رئاسة قوات الـ(17) التي كانت منوطة بحماية الشهيد ياسر عرفات والقادة الفلسطينيين، وحماية الثورة الفلسطينية من أعدائها، وبخاصة الجواسيس والعملاء الذين كانت تجندهم إسرائيل لصالحها. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن فحوى هذا الكتاب صيغ بقلم خبير عرف دقائق الأمور العسكرية التي استخدمها العدو الإسرائيلي في معركة الكرامة، وكذلك طبيعة المواجهات المشرفة التي واجه فيها الفدائيون الفلسطينيون والجيش الأردني القوات الإسرائيلية الغازية.
يضاف إلى ذلك أن أبا الطيب في هذا الكتاب لم يغمط دور الجيش الأردني الفاعل والمؤثر في هذه المعركة، وإنما أنصفه، على عكس بعض الأقلام، سواء الفلسطينية أو الأردنية، التي عمدت إلى تجاهل طرف على حساب طرف آخر.
عدا ذلك، فإن هذا الكتاب "يعتبر أفضل الأعمال، حتى الآن التي تناولت معركة الكرامة. فهو يوثق للأجيال القادمة. إحدى المعارك، التي كان لها أثر كبير في انتشار العمل الفدائي الفلسطيني وعلانيته، وإعادة الاعتبار إلى الجيوش العربية التي أصابها الإحباط والوهن بعد نكبة عام 1967. ويصف الكتاب أيضاً وبشكل متوازن ما قام به الجيش العربي الأردني، وما قام به الفدائيون الفلسطينيون، مما يؤكد على امتزاج الدم الأردني والفلسطيني في أكبر معركة عربية مشرقة في التاريخ الحديث". حسب وصف الأخ سليم الزعنون، رئيس المجلس الوطني الفلسطيني وأحد مؤسسي حركة "فتح".
يضم الكتاب بين دفتيه اثني عشر عنواناً رئيسياً، والعشرات من العناوين الفرعية، إضافة إلى الخرائط والبيانات والجداول والسجلات وصور الشهداء التي تعزز مصداقية ما حواه من معلومات، كما يضم ملحقاً بأسماء شهداء معركة الكرامة من الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني.
وليس صدفة أن بدأ "أبو الطيب" كتابه بالحديث عن المرأة الفلسطينية، ليحيي الأم الفلسطينية، التي صادف الاحتفال بعيد الأم العالمي، بدء معركة الكرامة. وفي هذا يقول أبو الطيب: "لقد أشرق تاريخ يوم الكرامة 21/3/1968 بنفس تاريخ يوم الأم. وهل هناك أعظم في دنيانا من الأم.. الروح.. والدم.. والشوق.. والدمعة.. والقلب.. والصوت.. الأم والحياة.. وكل الأيام بيوم الكرامة.. وهي روح الكرامة".
وتقديراً منه للأم الفلسطينية فقد أهدى كتابه هذا إلى المرأة الفلسطينية، عموماً، لما قدمته من تضحيات من أجل فلسطين، وإلى المرحومة نعمة محمد شحادة (أم يوسف) خصوصاً "التي عرفت باسم أم الفدائيين، والتي يعرفها كل من عاش بالكرامة وخاض معركتها. وكانت أم يوسف تعتبر نفسها أماً لجميع الفدائيين، وقد حولت منزلها في الكرامة إلى عيادة لإسعاف الجرحى والمصابين".
وينتقل الكاتب بعد هذا ليتناول باختصار انطلاقة حركة "فتح" الأولى واندلاع الثورة الفلسطينية في الأول من شهر كانون الثاني (يناير) العام 1965، وتفاصيل عملية عيلبون في الجليل الأعلى، التي قادها الشهيد أحمد موسى الدبكي، حيث كانت نتيجتها تدمير وتعطيل محطة الكهرباء التي تغذي أحد أنفاق مشروع تحويل مجرى نهر الأردن إلى بحيرة طبريا، واستشهاد خمسة من مناضلي حركة "فتح".
كما تناول تفاصيل عملية بيت فوريك الواقعة في محافظة نابلس، التي تمت في أوائل شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1967، وكان من نتيجتها إسقاط طائرة مروحية إسرائيلية ومقتل طاقمها، وتدمير أربع آليات مدرعة، ومقتل وجرح نحو 30 جندياً إسرائيلياً واستشهاد ستة من مناضلي حركة "فتح".
وتناول الكتاب بالتفصيل، كذلك، عملية موشيه ديان/ حولون، وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، التي تمت بتاريخ 20/3/1968، أي قبل يوم من اندلاع معركة الكرامة، حيث استهدفت موكبه، فجرح هو، وقتل سبعة من الجنود المرافقين له، وجرح اثنان.
وقد أحصى الكتاب عدد العمليات التي قامت بها حركة "فتح" منذ مطلع العام 1968 وحتى اندلاع معركة الكرامة بتاريخ 21/3/1968، حيث بلغ 68 عملية عسكرية، قتل وجرح فيها المئات من الجنود الإسرائيليين، وتم تدمير العديد من المنشآت.
كما أورد الكتاب تفاصيل التحضير للانطلاقة الثانية لحركة "فتح" التي امتدت من تاريخ 28/8/1967 إلى 31/12/1967، التي أسهم فيها عدد من العوامل أبرزها تصاعد المقاومة المدنية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة وتدفق أعضاء جدد إلى الحركة.
وأبرز بالتفصيل دور الشهيد "أبو عمار" في مجال التحضير لهذه الانطلاقة، وكذلك أدوار عدد من الشخصيات والقيادات البارزة في حركة "فتح"، وفي مقدمهم الشهيد أبو جهاد.
ثم تعرض الكتاب إلى جيل النكبة وجيل الثورة، مستعرضاً طفولته وشبابه في مخيم الكرامة (تأسس في عام 1950). وفي هذا يقول "أبو الطيب": "كانت جميع شرائح شعبنا ممثلة بهذا المخيم المناضل، القادمين من المدن والقرى، من أبناء يافا وحيفا واللد والرملة، وبيت دجن وبيت محسير، والفالوجة، وأبو زريق، وأبو شوشة، وجمزو، وعجور، ويازور، وعنابة، وعرب التعامرة، وأبو كشك، وبيسان، كلّ في تواصل وتفاعل".
كما تناول بالتفصيل الحركات والأحزاب السياسية التي كانت فاعلة في المخيم، قبل انطلاقة حركة "فتح"، وهي حركة الإخوان المسلمين، وحركة القوميين العرب، وحزب البعث، والحزب الشيوعي. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على معرفة أبو الطيب بدقائق الأمور في المخيم، بجوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ما ساهم في وضع خطة عملية الاستعداد لمواجهة الاعتداء الإسرائيلي على الكرامة.
وهو ما أكده سليم الزعنون أبو الأديب، في معرض تقديمه للكتاب بقوله: "إن أهمية هذا العمل، الذي قام المؤلف (أبو الطيب) بإعداده تنبع من كونه يبحث في جوانب تفصيلية لمعظم الأحداث، التي حدثت قبل وأثناء وبعد معركة الكرامة، حيث اعتمد في ثنايا كتابه القيّم على مذكراته الثرية، خاصة عندما يتعلق الأمر بحركة فتح، والانتماء إليها ووصفه للمحطات المهمة في تاريخ الثورة الفلسطينية، ولذلك فإن هذه المذكرات تزيد من أهمية الكتاب، كونها تضيف إليه من معلومات وحقائق لا يمكن الاطلاع عليها في موضع آخر".
معركة الكرامة برواية فلسطينية
قبل أن يعرض الكتاب بالتفصيل شهادات عدد من القادة الفلسطينيين عن معركة الكرامة، عرّج "أبو الطيب" على العملية العسكرية الإسرائيلية في الكرامة التي أطلق عليها "عملية توفت"، وكان مسرح عملياتها الطرف الشمالي للبحر الميت وصولاً إلى جسر دامية شمالاً، وامتداداً من نهر الأردن غرباً وحتى مرتفعات مدينة السلط شرقاً.
ثم تناول الخطة التي وضعتها القيادة الإسرائيلية لمواجهة الفدائيين والقوات الأردنية، التي هدف من ورائها العدو إلى تصفية قواعد الفدائيين في بلدة الكرامة ومخيمها والجبال المحيطة بها، ووصف بدقة سير المعركة وبتفصيل نمّ عن خبرة "أبو الطيب" وتجاربه العسكرية الواسعة التي اكتسبها خلال مسيرته النضالية الطويلة.
كما تناول بالتفصيل الخطة العسكرية للقوات الفلسطينية (قوات العاصفة، التابعة لحركة "فتح" وقوات التحرير الشعبية التابعة لجيش التحرير الفلسطيني) التي اعتمدت حرب العصابات "مع الحرص على الصمود في المعركة وتنفيذ مهام القتال الاعتراضي، والقتال التراجعي ضد العدو بهدف إيقاع أكبر الخسائر البشرية والمادية في صفوفه، والعمل على إعاقة تقدمه، وإرباكه في مسرح العمليات، والحرص على الإفلات من فكي الكماشة التي يهدف العدو لتنفيذها بهدف الإطباق على قيادات ومناضلي الثورة لسحقها وإنهائها".
وخلال سرده لسير المعركة ركز "أبو الطيب" في كتابه على تضحيات وبطولات الفدائيين الفلسطينيين، الفردية والجماعية، والمسلحين بالإرادة والعزيمة المتينتين، والتنافس على الاستشهاد من أجل الوطن.
وعودة إلى الرواية الفلسطينية عن معركة الكرامة فقد أورد "أبو الطيب" خمس شهادات مفصلة، زاخرة بالمعلومات عن وقائع معركة الكرامة، والأعمال البطولية التي قام بها الفدائيون الفلسطينيون، الشهداء منهم والأحياء، ضد القوات الإسرائيلية الغازية، إلى جانب القوات الأردنية، والخسائر التي لحقت بالجنود الإسرائيليين ومعداتهم.
والشهادات الخمس تعود إلى اللواء الركن المتقاعد صائب العاجز، والعميد الراحل ممدوح نوفل، أحد قادة الجبهة الشعبية العسكريين في ذلك الوقت، وأسعد سليمان حسن عبد القادر (صلاح التعمري) والعميد المتقاعد عبد الإله الأتيري، ومنذر الدجاني (أبو العز).
وفي معرض تقييمه للمعركة قال اللواء الركن صائب العاجز في شهادته كما وردت في الكتاب: "إن معركة الكرامة لم تكن معركة بالمعنى الكلاسيكي التقليدي، إلا إذا أخذنا الأمور من زاوية الجانب الإسرائيلي، وما زجّ به من قوات نظامية هائلة. كانت الكرامة المعركة الفلسطينية الأولى، إذ جرى ثبات وتطور العمل الفدائي لسنوات بعد صمود الكرامة.. لم يكن هناك انسحاب أو هروب، بل مواجهة مباشرة.. لهذا لم تحقق إسرائيل نصراً عسكرياً، كما اعتادت على ذلك، فهم الذين طلبوا وقف إطلاق النار وانسحبوا.
كانت خسائرهم واسعة حيث انفجرت فيهم مئات الألغام التي نشرناها بشكل عشوائي في كل مكان توقعنا مرورهم منه، فلم يحققوا هدفهم بالقضاء على العمل الفدائي وتدمير البنية التحتية للفدائيين، بل حدث العكس، حيث اندفع الآلاف من الشباب الفلسطيني والعربي للانضمام للعمل الفدائي.. وبالمعنى السياسي حققنا نصراً مؤازراً رغم الخسائر البشرية الواسعة التي تكبدناها، حيث خسرنا خيرة المقاتلين، لكن العبرة بالنتائج في نهاية الأمر".
معركة الكرامة برواية أردنية
وكي تكتمل ملحمة معركة الكرامة بجوانبها كافة، وبأبطالها وشهدائها، ضمّن "أبو الطيب" كتابه بشهادات عدد من الضباط والقادة الأردنيين، في مقدمهم الفريق المرحوم مشهور حديثة الجازي، قائد الفرقة الأولى، ونائب رئيس الأركان الأردني في ذلك الوقت.
ولشهادة الفريق الجازي مصداقية مهمة لأن تفاصيل هذه المعركة، كما وردت في شهادته، تنشر لأول مرة، وقد استمدها "أبو الطيب" من الوثائق الرسمية للجيش الأردني، ومن شهادات الضباط وضباط الصف. وتعتبر هذه الشهادة بمثابة السجل التاريخي العسكري للمعركة، حسب الرواية الأردنية.
في بداية شهادته قال الفريق مشهور حديثة الجازي: "كان للعمليات العسكرية التي تقوم بها الحركة الفدائية (الفلسطينية) ضد الكيان الإسرائيلي الأثر الأهم في استعادة ثقة الجندي العربي، وبأن سلاحه يمكن أن يرهب العدو ويثنيه عن الاستخفاف بحامله. وقد شكلت تلك العمليات نقطة تحول في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، فلم يعد قرار الاصطدام مع المغتصب يخرج من مكاتب المسؤولين أصحاب السلطة، بل صار هذه المرة يقفز من أزقة الشوارع المخفية عن الأضواء أو الجبال البعيدة عن ترف حامل القرار السياسي تلك التي يقطنها الفدائي الفلسطيني ببساطته وصدق انتمائه".
وأضاف في موضع آخر من شهادته: "أما عن الناحية المعنوية للمقاتلين فقد جعلت عودة الروح القتالية للجنود (الأردنيين) وتشوقهم للانتقام من مغتصب أرضنا المقدسة، ثم تدافع الفدائيين (الفلسطينيين) لملاقاة عدوهم الشخصي -إن جاز التعبير- جعل الأمر في غاية الكمال".
وعن التنسيق بين الجانبين الأردني والفلسطيني قبل المعركة قال الفريق الجازي: "أما بالنسبة للفدائيين فقد كان لي تنسيق معهم قبل شهور من المعركة. نسقنا معهم تنسيقاً كاملاً، وكانت قواعدهم ضمن مناطقنا العسكرية، ولقد استفدنا من حملة الـ(آر. بي جي) من الفدائيين لأنه لم يكن عندنا سلاح من هذا النوع بسبب طبيعة تسليحنا.. وقد قمنا بتوزيع هؤلاء المقاتلين حملة الـ(آر. بي جي) في مناطق محددة يستطيعون من خلالها ضرب الدبابات، وقد فعلوا ذلك بكفاءة عالية، حيث قاموا بحرب عصابات جيدة".
وتابع: "إنني أتحدث عن مقاتلي "فتح" فهم حسب علمي الذين قاتلوا.. كانت هناك ثقة بيننا وبينهم لأننا نعلم أنهم يعملون لتحرير وطنهم، ولا يريدون التدخل بشؤون الآخرين والاستيلاء على الحكم والسلطة.. وغير ذلك من شعارات رفعها آخرون وأضرت بهم وبغيرهم".
وقيّم الفريق الجازي ما تم إنجازه بقوله: "كانت معركة الكرامة واحدة من معارك العرب الخالصة، بعكس تصورات وأحلام الجنرال المتغطرس موشيه ديان، وزير الحرب الصهيوني، الذي وصل به الغرور، كما قيل يومها أنه دعا نحو ثلاثمائة صحافي ليشربوا معه الشاي في السلط الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم لكرامة.. لكنهم كانوا قبل ذلك التاريخ قد طلبوا وقف إطلاق النار لأول مرة في حروبهم مع العرب".
الرواية الإسرائيلية للمعركة
وكي تكتمل فصول معركة الكرامة، بمقوماتها الثلاثة (الفلسطينية والأردنية والإسرائيلية) حرص "أبو الطيب" على أن يورد الرواية الإسرائيلية للمعركة، من جهة أهدافها والقوات التي اشتركت فيها والعتاد الذي استخدم فيها، وهو ما أبرزه في ثنايا الكتاب بشيء من التفصل، نمّ عن قدرته، بحكم خبرته العسكرية، على أن يفي هذا الجانب حقه في التحليل والاستنتاجات الصائبة.
أما بخصوص الأهداف، فإضافة إلى تصريح إسرائيل العلني بأنها استهدفت قواعد حركة "فتح" في الكرامة، إلا أنها كانت تضمر إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو احتلال مرتفعات البلقاء والاقتراب من العاصمة عمان، وضم أجزاء من الأردن وتحويلها إلى ما يشبه منطقة الجولان السورية لتحقيق عدد من الأطماع، لعل أبرزها كان احتلال مرتفعات مدينة السلط وتحويلها إلى حزام أمني لإسرائيل بقصد المساومة، وزعزعة الروح المعنوية للجيش الأردني وللسكان المدنيين وحرمان المقاومة الفلسطينية من قواعدها العسكرية. الأمر الذي اتضح لاحقاً من الوثائق التي حصلت عليها المخابرات الأردنية في حينه. ولكن الهزيمة التي لحقت بها من قبل الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني، أفشلت هذه الأهداف الخبيثة.
وقد عبر عن هذه الهزيمة عدد من القادة العسكريين الذين خططوا للمعركة، أو أولئك الذين نفذوها. لعل أبرزها ما قاله رئيس الأركان الإسرائيلي حاييم بارليف في حينه للصحافة الإسرائيلية ونشرته جريدة "هآرتس" يوم 31/3/1968: "إن إسرائيل فقدت في هجومها الأخير على الأردن (يقصد بلدة الكرامة) آليات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران (يونيو) 1967، وإن عملية الكرامة كانت فريدة من نوعها ولم يتعود الشعب في إسرائيل مثل هذا النوع من العمليات. وبمعنى آخر كانت جميع العمليات التي قمنا بها تسفر عن نصر حاسم لقواتنا. ومن هنا اعتاد شعبنا على رؤية قواته العسكرية، وهي تخرج منتصرة من كل معركة. أما معركة الكرامة فقد كانت فريدة من نوعها، بسبب كثرة الإصابات بين قواتنا (...) وهذا هو سبب الدهشة التي أصابت المجتمع الإسرائيلي إزاء عملية الكرامة".
أما الكولونيل أهارون بيليد، وهو قائد دروع كان مكلفاً بقيادة القوة المهاجمة من جنوب الكرامة، فقال لجريدة "دافار" الإسرائيلية: "لقد شاهدت قصفاً شديداً عدة مرات في حياتي لكنني لم أر شيئاً كهذا من قبل. لقد أصيبت معظم دباباتي في العملية ما عدا اثنتين فقط".
وتحت عنوان: "جهنم في الكرامة" كتب الكاتب الإسرائيلي افيتار بن تسيدف مقالاً في مدونته الإلكترونية "غلوبال ريبورت" وتداولتها الكثير من المواقع الإلكترونية الإسرائيلية، لما فيها من اعتراف واضح بالهزيمة، جاء فيها: "إن ما زاد من طعم مرارة الهزيمة، التي ذاقها الإسرائيليون في الكرامة، هو حقيقة أن الجيش الإسرائيلي هزم في واحدة من أكبر المعارك التي خاضها في تاريخه بعد أن أعدّ لها العدة جيداً، وخاضها مدعّماً بفرقة عسكرية بكامل عتادها وألويتها مثل لواء المدرعات السابع ولواء المظليين 35 ولواءي احتياط المدرعات "اغروف" و"روحاماه"، والمعززة جميعها بقوات من المدفعية والهندسة والمشاة، والتي كانت تعمل برّاً تحت غطاء جوي كثيف".
نتائج معركة الكرامة
كانت خسائر معركة الكرامة بالأرقام، كما وردت في الكتاب على الشكل الآتي:
الفدائيون | 101 شهيد (74 شهيداً من حركة "فتح" و27 شهيداً من قوات التحرير الشعبية). 100 جريح من المدنيين والفدائيين. 130 أسيراً من المدنيين والفدائيين. 200 بيت ومنشأة. |
الجيش الأردني | 87 شهيداً من بينهم 6 ضباط. 108 جرحى من بينهم 12 ضابطاً. تدمير 13 دبابة و39 آلية. |
إسرائيل | 250 قتيلاً وأكثر من 450 جريحاً. تدمير 88 آلية و27 دبابة و24 مركبة و18 ناقلة جند و19 سيارة شحن، وإسقاط 7 طائرات. |
وعرض "أبو الطيب" بشكل علمي وشامل التداعيات المختلفة لمعركة الكرامة على كل من حركة "فتح" والأردن وإسرائيل، وردود الفعل الدولية. فبالنسبة لانعكاساتها على "فتح"، كان للمعركة، كما قال الملحق العسكري في السفارة البريطانية في عمان حينها، العقيد ويستون سيمونز في تقريره الذي رفعه إلى وزارة الدفاع في لندن: "تأثير معاكس تماماً للأهداف الإسرائيلية". مضيفاً أن الرأي العام لا يعد الهجوم الإسرائيلي هزيمة لـ"فتح" أو للجيش الأردني.. وإن "فتح" والجيش صار لهما قضية مشتركة من خلال المعركة. وهذا قوّى من مكانة "فتح" وزاد من دعم الجيش (الأردني) لها. كما أن الدعم الشعبي لـ"فتح" وللجيش ظهر واضحاً بمشاركة جمهور ضخم جداً في تشييع جنازات شهداء معركة الكرامة يوم 22 آذار (مارس) 1968م.
وعليه فقد ازداد تأييد الرأي العام، الفلسطيني والعربي، لحركة "فتح" واشتركت مع الجيش والشرطة الأردنية في السيطرة على الكرامة، واستثمرت "فتح" المعركة خير استثمار، فأصبحت القوة الفعالة في الصراع العربي الإسرائيلي، بعد أن تضاعف عدد المنتسبين إليها، وبخاصة إلى قوات العاصفة، وتنامى مستواها العسكري، وتوافر التسليح، وازداد عدد عملياتها العسكرية، وازداد الدعم المالي والسياسي لها من الدول العربية. كما أدت المعركة إلى اندماج عدد من المنظمات الفلسطينية الصغيرة إلى الحركة.
وأبرز إنجاز سياسي لهذه المعركة، كما بينها المؤلف، هو ترؤس الشهيد أبو عمار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الدورة الخامسة للمجلس الوطني التي عقدت في القاهرة في الفترة من 1-4/2/1969، وتسميته القائد العام لقوات المقاومة الفلسطينية.
الخلاصة
في ختام كتابه خلص "أبو الطيب" إلى الغاية من مخطوطه هذا بقوله:
فأرض الرباط.. أرض الرسالات أرض مقدسة، وكلنا أبناء هذه الأرض المباركة.