كمال قبعة[*]
قلما وقع عبر التاريخ أن تمت سرقة وطن بكامله، وتفكيك وتشريد شعب بأكمله، واقتلاع وتهجير نصف سكانه وتحويلهم إلى لاجئين ونازحين في العديد من دور الجوار والعديد من دول المنافي والشتات، وحتى في أرض وطنه باعتباره غائباً حاضراً ومقيماً مؤقتاً، كما حصل مع الشعب العربي الفلسطيني. فمنذ ما يزيد على مائة عام ونكبة هذا الشعب مستمرة بمراحل متعددة، بفعل مؤامرة ابتدعتها بريطانيا عبر تنفيذ استعمار استيطاني إجلائي إحلالي صهيوني في فلسطين. وقد اعتقدت بريطانيا والدول المتآمرة الأخرى أنها فعلت ذلك، دون أي مساءلة من أحد، واعتقدت مخطئة أن السنين قد تمحو ذاكرة الضحايا والشعب الفلسطيني.
تتناول هذه الدراسة، أبعاد وجوانب وأسانيد طلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، “فتح ملف الجرائم الدولية التي ارتكبت بحق شعبنا من الانتداب مرورا بالمجازر عام 1948 وما بعدها. ومع حلول 100 عام على هذه المجزرة التاريخية، ومع استمرار هذه الكارثة”. وتستهدف الدراسة المساهمة في تبيان المواضيع الرئيسة في ملف الجرائم التي ارتكبتها بريطانيا المنتدبة آنذاك على فلسطين، والمرور سريعاً على السوابق الدولية بهذا الشأن، وتناول الجوانب والمبادئ والقواعد والأحكام القانونية، لمساءلة الدول عن الجرائم والانتهاكات التي تقترفها تجاه الدول والشعوب الأخرى، وتقديم بعض التوصيات بها الخصوص.
خطوة شجاعة وتاريخية
طالب الرئيس محمود عباس في كلمته بالقمة العربية التي انعقدت في نواكشوط، بتاريخ 25 تموز 2016، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، بمساعدتنا لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية لإصدارها وعد بلفور المشؤوم ما تسبب في نكبة الشعب الفلسطيني. وأردف يقول: “لقد انقضى قرابة قرن من الزمان على صدور الوعد المشؤوم بلفور، وتم نقل مئات الآلاف من يهود أوروبا إلى فلسطين على حساب ملايين الفلسطينيين، ولاحقاً لذلك فقد سمحت سلطة الانتداب البريطاني والقوى العظمى باقتلاع وتهجير نصف سكان فلسطين إلى دول الجوار، وفي أعقاب النكبة قامت القوات الإسرائيلية بتمدير أكثر من 531 قرية وبلدة عربية فلسطينية. وأضاف “هذا ونعمل من أجل فتح ملف الجرائم الدولية التي ارتكبت بحق شعبنا من الانتداب مرورا بالمجازر عام 1948 وما بعدها. ومع حلول 100 عام على هذه المجزرة التاريخية، ومع استمرار هذه الكارثة، فإننا نطلب من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية مساعدتنا لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية لإصدارها وعد بلفور ما تسبب في نكبة الشعب الفلسطيني”[1].
وأعلنت جامعة الدول العربية، دعمها للقيادة الفلسطينية، إزاء عزمها مقاضاة بريطانيا على إصدارها وعد بلفور عام 1917. وقال سعيد أبو علي، الأمين العام المساعد لشؤون فلسطين والأراضي العربية المحتلة بالجامعة، “إن مسؤولية الحكومة البريطانية قائمة ومؤكدة ومستمرة وهي مسؤولية مضاعفة؛ كونها أولاً لا تملك مثل هذا الحق، فكيف تطلق بريطانيا هذا الوعد وتعمل على تحقيقه بنفس الوقت على أرض لا تملكها بل هي ملك شعبها الأصلي وهو الشعب الفلسطيني؟ وكونها ثانياً تتحمل المسؤولية؛ بحكم التفويض الممنوح لها من عصبة الأمم بوصفها الدولة المنتدبة على فلسطين، وهي الإقليم المصنف وفق معايير عصبة الأمم ونظام الانتداب، في ذلك الوقت، ضمن الفئة القابلة للاستقلال كدولة. ودور الحكومة الانتدابية هو مساعدة هذا الإقليم على بناء مؤسسات دولته وتحقيق استقلاله وممارسته سيادته”[2]. وأضاف أن “جريمة وعد بلفور لا تسقط بالتقادم، ولن تسقط من ذاكرة وتاريخ الشعب والمنطقة، أو من وعيه ووجدانه”. الأمر الذي يتطلب في الذكرى المئوية الأولى لهذا الوعد “وقفة للمراجعة على طريق المساءلة والملاحقة الأخلاقية والقانونية”، وقال “إن إعلان بريطانيا عن الاحتفال بالذكرى المئوية لـ وعد بلفور يشكل تحدياً سافراً لأبسط حقوق ومشاعر الشعب الفلسطيني، وللقيم والمبادئ والمواثيق الدولية التي تتطلب وقفة للمراجعة على طريق المساءلة والملاحقة الأخلاقية والقانونية”. وقال إن “وعد بلفور المشؤوم يعد جريمة كبرى بحق الشعب الفلسطيني وهي جريمة لا ينبغي أن تسقط بالتقادم ولو بعد مرور مائة عام”.
البداية كان تصريح بلفور
منذ نحو مائة عام وفي 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 أصدر وزير الخارجية البريطاني بلفور تصريحاً على شكل رسالة وجهها إلى اللورد روتشيلد، عرف هذا التصريح فيما بعد بوعد بلفور، وجاء فيه “أن حكومة جلالته تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، على أن يفهم بجلاء بأنه لا يؤتى أمر من شأنه أن يجحف بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق والأوضاع التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد أخرى”[3].
واعتبرت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها هذا الوعد مستندا قانونيا لتدعم به مطالبها المتمثلة، في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، علماً أنه حين صدر الوعد كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان. وقد أرسلت الرسالة قبل احتلال الجيش البريطاني لفلسطين عام 1917، وأصدرت الحكومة البريطانية أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن، وعملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمتين لهم.
ولا شك أنّ بريطانيا تتحمل المسؤولية الكبری عن نكبة الشعب الفلسطيني من كافة النواحي السياسية والأخلاقية والقانونية. فبريطانيا هي التي أصدرت وعد بلفور، وهي التي مكّنت للصهاينة في فلسطين من خلال استقدام مئات الآلاف من المهاجرين اليهود إليها، ومن خلال دعم العصابات الصهيونية المتمثلة في “هاغاناه” و”اشتيرن” و”آرغون” وغيرها بالمال والسلاح، ومن خلال طلبها من عصبة الأمم الموافقة على صكّ الانتداب لتنفيذ وعد بلفور، وكذلك من خلال ملاحقتها وقمعها للشعب الفلسطيني ومنعه من امتلاك السلاح لمقاومة العصابات الصهيونية والقوات البريطانية الداعمة لهذه العصابات. وأخيراً كان الانسحاب البريطاني من فلسطين مفاجئاً بالنسبة للعرب، حيث أنهت بريطانيا انتدابها في 14 أيار (مايو) 1948، وانسحبت ولم تعط للفلسطينيين أي فرصة حتی آخر لحظة لأن يمتلكوا أي مقومات للدفاع عن أنفسهم، بينما كانت قد انسحبت من المناطق اليهودية قبل ستة شهور تاركة للصهاينة الكثير من السلاح والعتاد ومعسكرات الجيش البريطاني المجهزة، وأهمها خط تحصينات “أيدن” في شمال شرق البلاد الذي كان مجهزا لصد أي هجوم ألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. وبالتالي بريطانيا تتحمّل المسؤولية الكاملة سياسياً وتاريخياً وأخلاقياً وقانونياً، عن المحرقة الحقيقية والنكبة الشاملة التي حلت بالشعب الفلسطيني وما زلنا نعيشها حتی اليوم.
بانوراما سرقة وطن
كل الحقائق والوقائع التاريخية التي أثبتتها المصادر الصهيونية والبريطانية نفسها التي نشرت، تشير إلى أنّ اليهود قبل عام 1917 لم يكونوا يملكون من فلسطين سوى واحد في المائة من أراضيها. ومن عام 1917 حتی عام 1948 (فترة الانتداب البريطاني) ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 6.6 في المائة من مجموع مساحة فلسطين حصل اليهود على معظمها من خلال دعم الاحتلال البريطاني لهم، في حين حافظ الشعب الفلسطيني حتی قيام الكيان الصهيوني في 15 أيار (مايو) 1948 على 93,4 في المائة من مساحة فلسطين. ومن ثم بدأت النكبة تتسع من خلال المجازر والدمار الذي حلّ بالشعب الفلسطيني أثناء حرب 1948 وبعدها، حيث دمّرت العصابات الصهيونية مئات القری والمدن الفلسطينية، وشرّدت أهلها منها واغتصبت أراضيهم بالقوة المسلّحة، ليسيطر الكيان الصهيوني في حرب 1948 على 78 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية، ثم سيطر الكيان الصهيوني على مساحة 22 في المائة الباقية في حرب عام 1967 والمتمثلة في الضفة الغربية والقدس، التي كانت جزءاً من المملكة الأردنية، وقطاع غزة الذي كان يتبع للإدارة المصرية.
وبشكل عام فإن حكومة الانتداب البريطاني ساهمت إلى حد كبير في تحول اليهود من أقلية دينية إلى جماعة لها ثقلها العددي في فلسطين، فزاد عدد اليهود من حوالي 84 ألفاً عام 1922، إلى حوالي 650 ألفاً في 15 أيار عام 1948، وأدت تلك الزيادة إلى رفع نسبتهم إلى جملة سكان فلسطين من 11 في المائة إلى 31 في المائة خلال الفترة 1922-1948، وقد ساهمت الهجرة خلال الفترة المذكورة بنحو 400 ألف يهودي، من مجموع الزيادة الكلية لهم والبالغة 566 ألفاً. وتشير الإحصاءات البريطانية إلى ارتفاع مجموع سكان فلسطين من 757 ألفاً في عام 1922 إلى 2.1 مليون نسمة عام 1948، من بينهم 1450000 عربي فلسطيني. ويمكن الإشارة إلى أن الحركة الصهيونية استطاعت خلال الفترة من 1897-1948 تحقيق هدف ديموغرافي هام تمثل بتجميع 650 ألفاً من يهود العالم في فلسطين، هذا فضلاً عن امتلاك 1800 كيلو متر مربع، تشكل 6.6 في المائة من مساحة فلسطين البالغة 27009 كيلو مترات مربعة، وقد ارتكبت بحق العزل الفلسطينيين 18 مجزرة في فترة الاحتلال البريطاني ذهب ضحيتها 300 شهيد، ومع إنشاء إسرائيل في أيار 1948 تكون الحركة الصهيونية قد حققت هدفها في إنشاء الدولة اليهودية بعد خمسين عاماً من المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا، ولتحقيق القسم الديموغرافي من التطلعات الصهيونية، تمّ طرد نحو 850 ألف فلسطيني من ديارهم خلال عامي 1947 و1948، وتغير تبعاً لذلك اتجاه التطور الديموغرافي للعرب الفلسطينيين قسراً، إذ كان للتهجير القسري وقع وأثر كبيران على الأوضاع الديموغرافية وعلى النسيج الاجتماعي الفلسطيني.
وتجدر الإشارة إلى أن فترة الانتداب البريطاني على فلسطين 1920– 1948 قد شهدت موجات هجرة يهودية مكثفة منها:
- موجة الهجرة الثالثة 1919-1923: وقد تم تهجير نحو 35100 يهودي باتجاه فلسطين.
- الهجرة الرابعة 1924-1931: تمّ تهجير نحو 78898 يهودياً باتجاه فلسطين معظمهم من ألمانيا ودول أوروبا الغربية وبولندا.
- الهجرة الخامسة 1932-1939: وتم خلالها تهجير نحو 224784 يهودياً باتجاه فلسطين، وهي الهجرة الأهم في تاريخ الحركة الصهيونية، وقد استغلت الحركة الصهيونية الظروف الدولية السائدة خاصة في ألمانيا، وجذبت المزيد من اليهود إلى فلسطين عبر إغراءات مختلفة، مادية ومعنوية.
- الهجرة السادسة 1940-1948: فقد تمّ إبانها جذب 118300 يهودي إلى فلسطين عبر تمويل المؤسسات والمنظمات اليهودية المنبثقة عن الحركة الصهيونية.
وقد رافق التسلل اليهودي إلى فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني 1920-1948، بناء مزيد من المستعمرات اليهودية، فوصل عدد المستعمرات اليهودية إلى 110 مستعمرات في عام 1927، ما لبث أن ازداد إلى 291 مستعمرة زراعية حتى عام 1948. وهو العام الذي تم فيه الإعلان عن إنشاء إسرائيل في الخامس عشر من أيار (مايو).
جرائم جسيمة
يتبين مما سبق أن بريطانيا مسؤولة مسؤولية سياسية وقانونية وأخلاقية عن بروز نكبة الفلسطينيين في عام 1948. ولعل بيان “مالكوم مكدونالد” وزير المستعمرات البريطاني في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1938 في مجلس العموم، الذي شرح فيه الوضع القائم في فلسطين، يشكل وثيقة دامغة على مسؤولية بريطانيا عن نكبة فلسطين بقوله: “إن مسألة اللاجئين في أوروبا الوسطى لا يمكن تسويتها على حساب فلسطين، بل يجب أن تحل في ميدان أوسع كثيراً من ذلك الميدان”، مستطرداً: “إن الشعب العربي عاش في تلك البلاد منذ قرون عديدة، ولم يؤخذ رأيه عندما صدر وعد بلفور ولا عندما وضعت صيغة صك الانتداب، وقد كان العرب خلال السنوات العشرين التي تلت الحرب يرقبون هذا الاجتياح السلمي الذي يقوم به شعب غريب، ويرفعون عقيرتهم بالاحتجاج الصارخ بين الحين والآخر، حتى أصبحوا يخشون أن يؤول مصيرهم في بلادهم إلى الخضوع لسيطرة هذا الشعب الجديد النشيط من النواحي الاقتصادية والسياسية والتجارية، فلو كنت أنا عربياً لتولاني الذعر أيضاً”[4].
يشير كل ما تقدم إلى وقائع ودلائل وقرائن المسؤولية الدولية لبريطانيا عن النكبة الفلسطينية، والتي تتجسد في العناصر الرئيسة التالية:
- كان لوعد بلفور في عام 1917 الأثر المباشر في فتح أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها إلى فلسطين. وفي ظل الانتداب تحول الوجود اليهودي على أرض فلسطين من 7% من مجمل السكان إلى 33% بفضل تسهيلات الهجرة، وازدادت نسبة الأرض التي يملكها اليهود من 2% إلى 7% بفضل القوانين البريطانية التي سهلت تملك الأراضي من قبل اليهود والتشدد حيال العرب. يقول المؤرخ البريطاني المشهور أرنولد تويني عن التواطؤ البريطاني في قيام الكيان الصهيوني: “إذا كانت الدول الغربية تتحمل قسطاً كبيراً من مسؤولية ما حدث في فلسطين، فإن بريطانيا المحتلة والمنتدبة تتحمل القسط الأكبر من محنة الحق والإنسانية في فلسطين، فقد كان موقفها الشامل لجميع حكوماتها المتعاقبة ولكل أحزابها الحاكمة هو التواطؤ المرسوم مع الصهيونية والتآمر المرير ضد فلسطين والتعالي الجدير بالإدانة والاتهام”[5].
- انهت احتلالها لفلسطين في 14 أيار 1948، ومكنت العصابات الصهيونية، التي شكلت نواة الجيش الإسرائيلي فيما بعد، من الاستيلاء على القسم الأكبر من أراضي فلسطين التاريخية.
- تم ارتكاب 18 مجزرة في فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين ومن أهمها مجزرة دير ياسين قبل شهر من الانسحاب البريطاني، وبسبب مساعدة بريطانيا في إقامة دولة إسرائيل ارتكبت العصابات الصهيونية 44 مجزرة ضد المواطنين الفلسطينيين العزل، ذهب ضحيتها أكثر من 2500 شهيد في عام 1948.
- تشريد 850 ألف فلسطيني من ديارهم خلال عامي 1947 و1948، استحوذت الضفة على 323 ألفاً من اللاجئين، وقطاع غزة على 219300 لاجئ، في حين اضطر نحو 19.5 في المائة من مجموع الشعب الفلسطيني، يمثلون نحو 307200 لاجئ، للهجرة قسراً إلى الدول العربية المجاورة لفلسطين، إثر نكبة عام 1948، منهم 97800 لاجئ إلى سورية، و115600 لاجئ إلى لبنان، و80800 لاجئ إلى الأردن، وإلى العراق 4300 لاجئ، وإلى مصر 8500 لاجئ.
- من بين 531 قرية وخربة فلسطينية تم تهجير أهلها في عامي 1947 و1948، فإن هناك 90 في المائة من تلك القرى نزح أهلها عنها بسبب هجوم عسكري يهودي صهيوني، و10 في المائة تحت تأثير الحرب النفسية وايحاءات بتوقع هجوم قادم.
- تشير واحدة من أحدث الدراسات الإسرائيلية حول اللاجئين الفلسطينيين وأملاكهم (“قدسية الستاتيكو- إسرائيل ومسألة اللاجئين الفلسطينيين 1948- 1967″، للجامعي أريك أريئيل ليبوفيتش، 2014)، إلى أن اللاجئين الفلسطينيين تركوا وراءهم أملاكا شملت من ضمن أشياء أخرى أراضي بلغت مساحتها أكثر من أربعة ملايين دونم، و73 ألف غرفة، و8000 حانوت ومكتب[6]. وبموجب “قانون أموال الغائبين” في 14 آذار 1950 صودرت أملاك الفلسطينيين والعرب في نحو 300 قرية مهجورة أو شبه مهجورة والتي قُدرت في المرحلة الأولى بنحو 3,250 مليون دونم في الأرياف، علاوة على نحو 25 ألف مبنى وأحد عشر ألف محل تجاري في المدن. وبهذه الغنائم صار القيِّم على أملاك الغائبين أكبر مالك للعقارات في فلسطين المحتلة، التي كانت تزداد تباعاً كلما توسعت عمليات المصادرة. ففي أوائل سنة 1952 كان لدى القيِّم نحو 40 ألف مبنى تحت سيطرته، فضلاً عن 7880 مؤسسة تجارية[7].
- حتى أوائل سنة 1954 كان ثلث السكان اليهود في إسرائيل يعيشون في منازل اللاجئين. وعملية الإسكان هذه أدت إلى تحوُّل في المشهد المكاني والثقافي للفلسطينيين، فحلّت مجمعات يهودية حديثة في محل القرى الفلسطينية القديمة، واستحوذت حتى على الأسماء التاريخية.
- اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل المندوب السامي الأول في فلسطين، وكان وزيراً للداخلية البريطانية وملتزماً بالحركة الصهيونية، حوّل الحلم الاستعماري الصهيوني إلى واقع على أرض فلسطين، وترجم ذلك عبر خطط وإجراءات وقوانين، وإنشاء المؤسسات والبنى السياسية والبنوك والمؤسسات الاقتصادية، وفتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية، وأشرك الوكالة اليهودية في إدارة فلسطين، وتعزيز وجودهم الديني والثقافي. وخلال ثمانية وعشرين عاماً قام الانتداب بإحلال العصابات اليهودية الاستيطانية وسرقة أراضي الفلسطينيين، وتسليح وتمكين الوجود الصهيوني، وتسهيل وصول المساعدات العسكرية والمالية والمقاتلين المدربين في الجيوش الغربية وتحديداً البريطانية إلى فلسطين[8]. ولعل قانون انتقال الأراضي الذي أصدره المندوب السامي في أيلول/ سبتمبر1920، كان تمهيداً لانتقال الأراضي الفلسطينية احتيالاً وقسراً إلى اليهود المهاجرين. وبناء على هذا القانون تمكنت الجمعيات اليهودية من شراء أراضي وادي الحوارث ومرج ابن عامر، بعدما كانت القوانين العثمانية تمنع انتقال الأراضي إلا لمن كانت تابعيته عثمانية.
- مع نشاط الهجرة المتزايد إلى فلسطين، وتحيز السلطات البريطانية للحركة الصهيونية أدرك العرب ضرورة مقاومة الصهيونية، تفجرت حركات الرفض الفلسطينية التي كانت شرارتها ثورة البراق في 24 أيلول (سبتمبر) 1928، حيث حاول اليهود الاستيلاء على الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي يملكه المسلمون، وحينها هبت القوات البريطانية للدفاع عن اليهود، مستخدمةً أقصى درجات القمع ضد المتظاهرين العرب، وقدم للمحاكمة ما يزيد على الألف شخص معظمهم من العرب، كما صدر الحكم بإعدام 26 شخصاً بينهم 25 عربياً ويهودي واحد.
وقد تمت كافة الجرائم الجسيمة هذه، إبان فرض الانتداب من فئة (A) وفقاً للمادة 22 من عهد عصبة الأمم: “على الدول التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية، التي وصلت إلى درجة من التطور والرقي تسمح بالاعتراف مؤقتاً بوجودها كأمم مستقلة وتنال استقلالها، بعد أن تسترشد بنصائح ومساعدة الدول المنتدبة كي تتمكن من إدارة شؤونها الداخلية والخارجية. وقد أوجبت العصبة ألا تزيد مدة الانتداب على ثلاث سنوات[9]. وقد خضعت فلسطين لانتداب (A) الذي باشرته بريطانيا، وقد أقر مجلس العصبة في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1922 إخضاع شرق الأردن لإدارة منفصلة عن إدارة فلسطين.
ولعل ما تقدم من وقائع تطبيقات الانتداب البريطاني في فلسطين، يدلل على أن بريطانيا قد انتهكت الالتزامات الدولية التي توجبت عليها بموجب ميثاق عصبة الأمم، واقترفت كل ما تقدم من انتهاكات جسيمة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني؛ الأمر الذي يفرض واجب مساءلتها وتحميلها مقتضيات المسؤولية الدولية وأحكامها.
وأكدت محكمة العدل الدولية في أكثر من سابقة، على وجوب التزام الدول المخلة بأحكام القانون بجبر الضرر الناشئ عن انتهاكها لمبادئ القانون الدولي، وأن تتحمل هذه الدول تبعات الآثار الناشئة عن العمل غير المشروع، وقد سبق لمحكمة العدل الدولية الدائمة أن أكدت مبدأ التعويض في حكمها الصادر بتاريخ 26 تموز (يوليو) 1927، بشأن النزاع الألماني البولوني الخاص بمصنع شورزوف حيث قالت: “إنه من مبادئ القانون الدولي، أنه يترتب على مخالفة الدولة لالتزاماتها التزاماً بالتعويض عن ذلك بطريقة كافية، وأن هذا الالتزام بالتعويض هو المكمل الطبيعي لأية معاهدة دولية بدون حاجة للنص عليه”[10]. ولعل في فتوى محكمة العدل الدولية المتعلقة بإنشاء المحتل لجدار الضم والإلحاق على صعيد الأرض الفلسطينية المحتلة، ما يؤكد على ذلك، إذ أشارت المحكمة في أكثر من بند في الفتوى إلى وجوب تحمل الطرف المخل بالتزاماته الدولية لتبعية التعويض وجبر الضرر الذي ترتب على إخلاله.[11]
الأموال والأرصدة الفلسطينية بالجنيه الفلسطيني
ولعل ملف مصير الأموال والأمانات الفلسطينية، التي كانت في عهدة مجلس النقد الفلسطيني وبنوك ومؤسسات مصرفية بريطانية، كانت تعمل في فلسطين قبل إعلان المملكة المتحدة نهاية انتدابها، منتصف ليل الخامس عشر من أيار (مايو) عام 1948، يمثل واحداً من أبرز الملفات التي يتوجب إعدادها وإثارتها مع الحكومة البريطانية. فقد أصدرت الحكومة البريطانية قراراً بإنشاء مجلس النقد الفلسطيني في العام 1926، واستمر نشاط المجلس حتى العام 1952 حين حوّلت ودائعه إلى صندوق السيولة الفلسطينية الذي تولت إدارته أجهزة تابعة للحكومة البريطانية، ما لبثت أن أمرت بحله في العام 1986.
وقد كانت مهمة مجلس النقد الفلسطيني تتلخص بإصدار عملات والتعامل مع البنوك وتحديد الموازنة العامة. وتولى “بنك باركليز دومنيان كولونيال لما وراء البحار” مهمة الوكيل المصرفي، فيما يتعلق بدفع السندات والشيكات المالية العائدة إلى المجلس، وتولى البنك المركزي البريطاني التغطية الذهبية من خزائنه للعملة التي يصدرها مجلس النقد. ومع انتهاء الانتداب البريطاني وقيام إسرائيل، رأت السلطات البريطانية ان العملة الفلسطينية المتداولة يجب صرفها بما يعادلها من جنيهات إسترلينية، فتولت وزارة الخزانة مسؤولية صرف العملة والتعامل بالسندات. ونفت ناطقة باسم المصرف المركزي البريطاني وجود أي أرصدة من الذهب أو أي تغطية تعود إلى حكومة فلسطين في ذلك الوقت، مشيرة إلى أن التغطية الذهبية كانت تتولاها الخزائن البريطانية، وأن البنوك الأجنبية التي كانت تعمل في فلسطين كانت تتولى تغطية إصدار العملة الفلسطينية بالذهب[12].
وقدمت وزارة الخزانة في الرابع عشر من آذار (مارس) عام 1986 عبر وزير الخزانة إلى البرلمان تقريراً عن صندوق السيولة الفلسطينية وودائعه، ومما جاء في كلمة وزير الخزانة ما يأتي: “في العام 1926 تأسس مجلس النقد الفلسطيني بقرار صدر عن وزير المستعمرات البريطاني بغية إصدار النقد في فلسطين ومراقبته. مع قيام دولة إسرائيل في العام 1948 لم تعد ثمة حاجة إلى نشاط مجلس النقد وأبدل به في العام 1952 صندوق السيولة الفلسطيني، الذي تولى مسؤولية تحويل العملة الفلسطينية إلى مقابلها من العملة البريطانية. وفي الوقت الحالي حولت الأموال والودائع التي يملكها صندوق السيولة إلى وكلاء التاج الذين يقومون بالمهمات نفسها التي كان الصندوق يقوم بها. ومع نهاية كل سنة مالية يحصى الفائض من المال بعد حسم الرسوم ويدفع لحساب وزارة الخزانة”. وفي 31 آذار 1985 كانت قيمة الودائع لدى صندوق السيولة الفلسطيني تصل إلى 777,372 ألف جنيه إسترليني في مقابل 337511 ألف جنيه فلسطيني أخرى لا تزال موجودة وتحتاج إلى تبديل.
ويعترف مسؤولون في بنك “باركليز” أن مؤسستهم كانت لديها أموال مودعة لفلسطينيين قبل العام 1948، إلا أنها سلمت في النصف الأول من الخمسينات إلى هيئة حكومية بريطانية تحمل اسم “حارس أملاك العدو”، وتقدر قيمتها بـ3,931,582 جنيه إسترليني. وأشار هؤلاء إلى أن بنك “باركليز” كان أكبر المصارف العاملة في فلسطين، “ولكن بسبب اندلاع المعارك وعدم قدرة الزبائن على الوصول إلى حساباتهم أو إجراء تحويلات، حولت الأموال المسجلة بأسمائهم إلى مقراتنا في لندن”[13].
وأوضحوا أن “البنك العربي المحدود” تقدم بشكوى ضدهم في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1952 للمطالبة بمبالغ مستحقة له وخسر الدعوى وأجبر على دفع نفقات المحكمة. وجدد “البنك العربي المحدود” مطالبته بالأموال في 21 أيار (مايو) 1953 وخسر مجدداً. وفسّر المسؤولون في “باركليز” إصرارهم على عدم دفع ما يطالب به البنك العربي في حينه بالقول: “إن قيمة حسابه كانت 931,582 ألف جنيه فلسطيني يوم الرابع عشر من أيار 1948، وكان الحساب جارياً ومسجلاً في فرع باركليز في ساحة اللنبي في القدس، ومع إنهاء بريطانيا انتدابها وإعلان قيام دولة إسرائيل اتخذت الدولة العبرية قراراً يقضي بمصادرة كل الأملاك والأموال العائدة إلى غائبين عن الأراضي التابعة لها. وقد سلمنا لمصرف يعمل تحت إشراف السلطات الإسرائيلية كل الودائع التي تخص الذين غادروا فلسطين بعد التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 إلى لجنة حراسة أملاك العدو، بعدما طالبت بها لجنة الحراسة الإسرائيلية في الثامن من شباط (فبراير) عام 1951، الأمر الذي يعني بالنسبة إلى باركليز أن طلب البنك العربي المحدود غير واقعي وعليه مراجعة السلطات الإسرائيلية”.
وتعطي إحدى وثائق دائرة المحفوظات البريطانية التي تحمل الرقم 120/27 Z، صورة عن حجم الأموال لدى هيئة “حارس أملاك العدو” حتى مساء الرابع عشر من أيار 1948. والتي بلغت ما مجموعه 994,514,278 جنيه فلسطيني[14].
ويلاحظ المدقق في وثائق دائرة المحفوظات البريطانية آلافاً بل عشرات الآلاف من الوثائق، التي تتحدث عن تقارير سرية ومراسلات عادية كشفت قبل سنوات، وتتضمن أرقاماً مالية وموازنات وديوناً مستحقة وتسويات وعمليات بيع أراضٍ وتحويلات مصرفية إلى مؤسسات حكومية بريطانية وغير بريطانية. وهناك مراسلات أخرى بين البنك الأنغلو فلسطيني والبنك العثماني وبنك باركليز وهيئة “حارس أملاك العدو” البريطانية والإسرائيلية، وتحويلات مالية تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من مليون جنيه إسترليني بعد العام 1948، ومبالغ مالية تشهد الأوراق المحفوظة في دائرة المحفوظات انها قبضت ثمناً لأراضٍ فلسطينية بيعت… كل هذه قد تدعو الفلسطينيين ومنظمة التحرير والحكومة البريطانية إلى عقد جلسات طويلة، لتسوية الأوضاع المالية تمهيداً لمطالبة “حارس أملاك العدو” الإسرائيلية[15]، بفتح ملفاتها وتعويض الأفراد والمؤسسات الفلسطينية عن الخسائر التي لحقت بهم جراء مصادرة أموالهم في البنوك الأجنبية وبيع أراضيهم.
ويؤكد مختصون بالوثائق الفلسطينية[16] أن أملاك الفلسطينيين وأموالهم عام 1948، كانت تقدر بما يلي: مزارع موز (مليون جنيه إسترليني)، مزارع فاكهة وزيتون (275 مليوناً)، أراض جيدة (30 مليوناً)، أراض نصف جيدة (220 مليونا) مبان وأراض للبناء (1100 مليون)، أموال منقولة (200 مليون)، ودائع بالبنوك وحسابات مجمدة (6 ملايين)، وأموال بشركات التأمين (مليون) والجملة مليار و800 مليون جنيه إسترليني. وعلماً بأن أي استثمار عادي للأموال يضاعفها كل 10 سنوات، ما يعني أن قيمة الأموال الفلسطينية عام 1948 والتي كانت تقدر بمليار و800 مليون جنيه إسترليني، كان من المفترض أنها تنمو حتى الآن لتكون 288 مليار جنيه إسترليني، وهي أموال اغتصبتها “إسرائيل” وحرمت أصحابها منها[17]، بالتواطؤ والتشارك مع حكومة الانتداب البريطانية.
وفي مواجهة هذا المخطط الإسرائيلي من الأهمية بمكان تعبئة جهود المؤرخين العرب، في إعداد ملف جديد ومتكامل لوثائق الملكية الفلسطينية للأراضي الزراعية والعقارات وللأحياء، ويمكن توظيف هذا الملف في رفع دعاوى أمام المحافل الدولية لاسترداد أملاك الفلسطينيين وأموالهم وعوائد استغلالها طوال سنوات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 إلى عام 1967.
سوابق دولية:
تشكل حملات ودعوات المطالبة بالتعويض والاعتذار ظاهرة دولية جديدة، وقوة ضاغطة باتجاه إقرار مبدأ ثنائية الاعتذار والتعويض، تماشياً مع تجارب سابقة مشابهة، وخاصة بعد اعتذار إيطاليا لليبيا ودفعها تعويضات مادية، وجعلت ألمانيا تعتذر لما لحق باليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وما زالت حتى يومنا هذا تدفع التعويضات المجزية لهم، واعتذار النمسا- المجر لشعوب دول البلقان وإرجاعها أرشيفاتها الوطنية. واعتذرت اليابان للصين ولكوريا، واعتذرت أستراليا للسكان الذين هجروا قسرا وسخروا لخدمة مستغليهم، وغير ذلك. ما تقدم يكسب المطالبة مزيداً من الشرعية والواقعية، كما أن المطالبة تمتلك وجاهة قانونية، من حيث إن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار طيلة عشرات السنين لا يمكن أن تسقط بالتقادم من وجهة نظر القانون الدولي الإنساني، إضافة إلى تاريخية المطالب بمبدأ التعويض والاعتذار. وقد حددت اللجنة التي شكلتها منظمة الوحدة الأفريقية في عام 2000، أنه يتوجب على المستعمرين دفع 777 تريليون دولار كتعويض عن الأضرار التي ألحقوها بأفريقيا في عهد الاستعمار[18].
ولا شك أن البرنامج الألماني لتعويض الناجين من الهلوكوست، هو أضخم برنامج تعويض مالي من نوعه، حيث إن عدد المستفيدين فيه يتفوق على كل البرامج الأخرى، وهو أطول البرامج امتدادا عبر الزمن بفارق كبير، إذ انطلق عام 1951، وما زال مستمرا إلى الآن، حيث تنص المادة 2 من معاهدة التوحيد بين الألمانيتين لسنة 1990، على إنشاء صندوق جديد للتعويض عن الرفض التاريخي لألمانيا الشرقية للإقرار بأي مسؤولية تجاه ضحايا النازية.
وطلبت منظمة جزائرية، من السلطات الفرنسية تقديم اعتذار رسمي للشعب الجزائري، عما ارتكبه الجيش الفرنسي من مجازر وجرائم في حق الجزائريين، خلال مرحلة الاستعمار في الفترة ما بين (1830 إلى 1962)، ودعت السلطات الفرنسية إلى فتح ملف التجارب النووية في الصحراء الجزائرية وما ترتب عنه من أضرار طالت المواطنين الجزائريين والبيئة والحيوان .وفي سياق ذي صلة، دعت المنظمة السلطات الفرنسية إلى تمكين الجزائر من استرجاع أرشيفها الكامل وما أخذ من أموال، علاوة على معرفة مصير الآلاف من المفقودين خلال فترة الاستعمار.
يعتزم المرصد الوطني للعدالة الاجتماعية رفع دعوى قضائية لدى الهيئات القضائية الدولية ضد فرنسا، وذلك لكونها “مسؤولة عن انتهاكات جسيمة خلال فترة استعمارها للمغرب”، واختار المرصد لهذه العملية اسم “نداء من أجل العدالة الاجتماعية”. واعتبر المرصد أن المغرب ليس وحده المعني بانتهاكات الاستعمار الفرنسي، بل هناك العديد من الدول الإفريقية التي عانت من ممارسات الاستعمار الفرنسي نفسها، لذلك دعا المرصد إلى تأسيس “المبادرة الإفريقية لرد الاعتبار للقارة الإفريقية ومناهضة الهيمنة الفرنسية”. وينوي المرصد رفع دعوى قضائية دولية ضد فرنسا، ومطالبة باريس باعتذار “علني وفوري للمغرب، وكل دول الشعوب الإفريقية عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها”، وأن يكون هذا الاعتذار مصحوبا بتعويض وجبر ضرر ضحايا الاستعمار الفرنسي وعائلاتهم.
ويعد التحكيم واحداً من أهم وسائل تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وقد كان نجاح التحكيم في قضية ألاباما سنة 1872 عاملاً مشجعاً للاتجاه نحو هذا الأسلوب في تسوية المنازعات. ويتمثل موضوع القضية في أنه حدث أثناء حرب الانفصال الأمريكية، أن قدمت إنجلترا المساعدة سرا للولايات الجنوبية وذلك بالسماح لها ببناء السفن التي كانت تستعملها في الحرب في الموانئ الإنجليزية، وكانت ألاباما إحدى هذه السفن والتي اعتدت على مراكب الشمال فأغرقت 150 سفينة منها ما سبب خسائر مادية وبشرية. وبانتصار ولايات الشمال في الحرب طالبت إنجلترا بتعويضها عن هذه الأضرار، لأن موقفها كان مخالفا لقواعد الحياد. وطرح النزاع أمام هيئة تحكيم التي قضت بإلزام بريطانيا بدفع التعويضات لأمريكا عن الضرر المباشر الذي أصاب مراكبها وجنودها بمبلغ 15 مليون دولار.
وقد أفادت صحيفتا “الغارديان” البريطانية و”هآرتس” الإسرائيلية[19]أن بريطانيا وافقت على تعويض، ضحايا الاستعمار البريطاني في كينيا، وتجري مفاوضات بهذا الشأن مع قدامى المحاربين من رجال المقاومة الكينية المعروفة (الماو ماو) التي عملت في خمسينات القرن الماضي. ستقوم الحكومة البريطانية بدفع تعويضات للآلاف من سكان كينيا، الذين تم اعتقالهم وتعذيبهم في تلك الفترة. ويتوقع أن تدفع الحكومة البريطانية ملايين الجنيهات، على شكل تعويضات، لنحو 10,000 من المعتقلين الكينيين السابقين. ومن بين الذين تعرضوا للتعذيب في معسكرات الاعتقال البريطانية في كينيا، حسين أونيانغو أوباما، وهو جد الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما. جدير بالذكر أن ثوار “الماو ماو” الكينيين، شرعوا برفع قضاياهم أمام المحاكم البريطانية، بعد أن رفعت الحكومة الكينية الحظر عن هذه الحركة عام 2002. واستغرقهم الأمر ستة أعوام قبل أن توافق المحكمة العليا البريطانية السماح لهم بمقاضاة الحكومة، على ما ارتكبه الاستعمار البريطاني بحقهم قبل عدة عقود.
وتخشى الخارجية البريطانية من أن تدفع هذه القضية، أشخاصاً آخرين من سكان المستعمرات البريطانية السابقة، للمطالبة بتعويضات، علما أن عناصر منظمة “ايوكا” (المنظمة الوطنية للنضال القبرصي) التي نشطت ضد الاستعمار البريطاني، في الخمسينات من القرن الماضي، يفكرون برفع دعاوى تعويضات أمام المحاكم البريطانية.
ومن الضروري العمل والتنسيق مع جميع القوى والفعاليات المدنية العالمية من أجل وضع أسس مشتركة، تهدف إلى إجبار قوى الهيمنة والاستعمار على الرضوخ لمطالب الشعوب. كما أنه من المهم طرح ملف التعويض والاعتذار ودراسته وإعداده منهجياً، كي لا يتحول إلى مجرد ورقة ابتزاز سياسي في أيدي بعض الجهات والأنظمة[20]. والمأمول هو إحالته إلى لجان علمية مختصة، وإعداده بشكل تاريخي موثق ومدعوم بكل الوثائق والخرائط والإحصائيات الدقيقة، وتوفر قرار سياسي داعم، يخدم مصلحة الشعوب المستعمرة. وعليه، ينبغي العمل مع أجل تكوين هيئة عربية، هدفها التوجه إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختصة من أجل الدفع للمطالبة بالاعتذار والتعويض، وإقرارها.
وفي الذكرى الخامسة والتسعين لإصدار وعد بلفور أصدر عدد من الشخصيات المرموقة في بريطانيا من كتاب وصحافيين بياناً يتحدث عن مسؤولية المملكة المتحدة تجاه الشعب الفلسطيني، جاء فيه: “إننا ندعو الحكومة البريطانية إلى أن تقر علناً بمسؤولية الحكومات البريطانية السابقة من 1917 إلى 1948 عن النكبة التي حلت بالفلسطينيين، عندما طرد أكثر من ثلاثة أرباعهم عمداً وبصورة منظمة على أيدي الجيش الصهيوني. ومعظمهم ما زالوا لاجئين اليوم من دون إزالة ما لحق بهم من ظلم”[21]. وأضافوا: “من 1920 فصاعداً، شجعت بريطانيا هجرة مئات آلاف اليهود الأوروبيين جماعياً إلى فلسطين، بصورة مضادة بجلاء لرغبات غالبية السكان. وبينما غرقت فلسطين في الفوضى، غسل البريطانيون عن أيديهم مسؤوليتهم عن المشكلة العويصة التي تسببوا بها وتنحوا جانباً، بينما تعرض مئات ألوف الفلسطينيين للإرهاب لحملهم على الهرب من وطنهم، فيما كان يجري تحويل فلسطين إلى إسرائيل”. ويرى الكاتب والمحلل السياسي د. أحمد رفيق عوض، أن مسألة تجريم بريطانيا هي “عودة للمربع الأول، وإدانة ومحاكمة للمشروع الاستعماري والمسؤول عن وجود إسرائيل على أرض فلسطين”[22].
المسؤولية الدولية في القانون الدولي العام
استقر العرف الدولي منذ زمن على إعمال قواعد المسؤولية الدولية دون تفرقة بين الدولة والشخص الطبيعي في ذلك، حيث بات هذا الأخير مرتكز الاهتمام الدولي سواء لدى المشرع الدولي أو المؤسسات الدولية، ولم تستقر أحكامها إذ إن لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة التي شرعت في العمل منذ 20 آب (أغسطس) سنة 1961 لم تصل إلى إقرار نص دولي حول المسؤولية الدولية[23]. لذا فإن احترام المبادئ والقواعد المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والأعراف والسوابق الدولية ذات الصلة، تشكل بمجملها الواجبات التي تلقي على عاتق الدول الالتزام بها واحترامها، وأي عمل أو تصرف إيجابياً كان أو سلبياً يشكل خرقاً وانتهاكاً لالتزام يقوم به أحد أشخاص القانون الدولي، يترتب عليه المسؤولية الدولية”.[24]
والمسؤولية الدولية في العلاقات الدولية المعاصرة، هي “عملية إسناد فعل إلى أحد أشخاص القانون الدولي سواء أكان هذا الفعل يحظره القانون الدولي أو لا يحظره، ما دام قد يرتب ضرراً لأشخاص القانون الدولي، الأمر الذي يقتضي توقيع جزاء دولي معين سواء أكان هذا الجزاء ذا طبيعة عقابية أم كان ذا طبيعة غير عقابية”.[25]
وقد عرّفت المسؤولية الدولية بأنها “الجزاء القانوني الذي يرتبه القانون الدولي على عدم احترام أحد أشخاص هذا القانون لالتزاماته الدولية”[26] كما عرفت بأنها “الوضع الذي ينشأ حينما ترتكب دولة أو شخص آخر من أشخاص القانون الدولي، فعلاً يستوجب المؤاخذة وفقاً للمبادئ والقواعد القانونية المطبقة في المجتمع الدولي”[27] وعرفت أيضاً بأنها “المسؤولية التي تترتب عندما يأتي أحد أشخاص القانون الدولي، فعلاً إيجابياً محظوراً أو يمتنع عن القيام بواجب تفرضه قواعد القانون الدولي عليه، ويترتب عن ذلك ضرر لشخص آخر”.[28] وعرفت كذلك بأنها “الالتزام الذي يفرضه القانون الدولي على الشخص بإصلاح الضرر، لصالح من كان ضحية تصرف أو امتناع أو تحمل العقاب جزاء هذه المخالفة”،[29] واعتبرها فقيه آخر بأنها “ما تنشأ نتيجة عمل مخالف لالتزام قانوني دولي، ارتكبه أحد أشخاص القانون الدولي وسبب ضرراً لشخص دولي آخر، وأن غايتها تعويض ما يترتب على هذا العمل من ضرر”.[30] وهي كذلك “الجزاء الذي يرتبه القانون الدولي العام على مخالفة أحكامه أو التزاماته، بواسطة أحد أشخاص القانون الدولي، لإصلاح ما ترتب عليها من أضرار”.[31]
يظهر من مضامين كافة التعريفات السابقة، أن قواعد المسؤولية الدولية العرفية والاتفاقية ومبادئ القانون الدولي، قد استقرت على أنه إذا ارتكب أحد أشخاص القانون الدولي عملاً غير مشروع مخالفاً لأحكام القانون الدولي، ونجم عن ذلك إلحاق ضرر بأفراد أو أموال شخص من أشخاص القانون الدولي، فإنه يترتب على من ارتكبه تحمله للمسؤولية الدولية.[32] ولا يتم ذلك إلا بتوافر ثلاثة شروط رئيسة، وهي: ارتكاب سلوك غير مشروع أو الإخلال بالتزام دولي، وإسناد العمل غير المشروع إلى شخص من أشخاص القانون الدولي، وأن يحدث العمل ضرراً بالغير.
وقد أخذت لجنة القانون الدولي في مشروع المواد المتعلقة بالمسؤولية الدولية للدول بذلك، فقد نصت المادة الأولى من المشروع على أن “كل فعل دولي غير مشروع تقوم به الدولة يستتبع مسؤوليتها يرتب المسؤولية الدولية”[33]؛ بمعنى أن ينطوي هذا السلوك على مخالفة لالتزام دولي تفرضه قاعدة قانونية دولية، أياً كان مصدرها اتفاقية أو عرفية أو مبادئ القانون العامة، سواء كان هذا السلوك إيجابياً إذا حدث على أثر مباشرة أعمال يحظرها القانون الدولي، أو أن يظهر بسلوك سلبي عندما يحدث امتناع عن إتيان بأعمال يلزم القيام بها وفقاً لأحكام القانون الدولي.[34]
ولا تقوم مسؤولية الدول ما لم يكن الفعل غير المشروع، ذا أثر ضار يصيب أحد أشخاص القانون الدولي.[35] ويقصد بالضرر “المساس بحق أو بمصلحة مشروعة لأحد أشخاص القانون الدولي”[36]؛ حيث إن المسؤولية الدولية تقوم عندما يصدر من أحد أشخاص القانون الدولي تصرف دولي يلحق الضرر أو الخسارة بأحد أشخاص القانون الدولي بسبب فعل غير مشروع منسوب للدولة أو المنظمة، ويعتبر – الضرر- قوام المسؤولية وعنصرها الأساسي، فمهما كانت جسامة الخطأ فإنه وحده لا يقيم المسؤولية ما لم يحدث ضرر يصيب الغير، سواء كان الخطأ ناتجاً عن فعل أم امتناع عن فعل توجبه قواعد القانون الدولي. على أن الضرر قد يكون مادياً أو معنوياً أو ضرراً بالمصالح القانونية وكذلك ضرراً بسيطاً أو جسيماً. ويتوجب وجود رابطة سببية بين الضرر والفعل المنسوب إلى الدولة؛ فلكي يكون الضرر محلاً للمساءلة الدولية لا بُدّ أن تكون هناك علاقة سببية واضحة ومتصلة غير منقطعة بينه وبين العمل غير المشروع، وعليه فإن حدوث الضرر شرط أساسي لقيام المسؤولية الدولية.
وتطبيقاً لكل هذه القواعد الدولية الآمرة، فإن بريطانيا تتحمل كافة النتائج التدميرية والإجرامية التي ترتبت على النكبة الفلسطينية، كونها هي التي أصدرت وعد بلفور الذي منح من لا يستحق وهم الصهاينة، وطن ومقدرات وممتلكات وموارد الشعب العربي الفلسطيني الأصيل، وحوَل ما كان يجب من التزامات وضعتها عصبة الأمم للانتداب البريطاني على فلسطين، إلى تنفيذ تهويد كل تلك المقدرات والممتلكات والموارد التي تعود للشعب الفلسطيني الأصيل في وطنه.
وتقرر لجنة القضاء على التمييز العنصـري في الأمم المتحدة بهذا الخصوص، بأنها تدرك أن “الشعوب الأصلية[37] في كثير من مناطق العالم قد تعرضت، وما زالت تتعرض، للتمييز ضدها وللحرمان من حقوقها الإنسانية وحرياتها الأساسية، وخاصة أنها قد فقدت أرضها ومواردها لصالح المستعمرين والشركات التجارية ومؤسسات الأعمال المملوكة للدولة. وبناء على ذلك فإن الخطر قد تهدد وما زال يتهدد الحفاظ على ثقافة هذه الشعوب وهويتها التاريخية”. ولذا فإنها تطلب “بشكل خاص إلى الدول الأطراف الاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية في تملك أراضيها وأقاليمها ومواردها المجتمعية وتنميتها والسيطرة عليها واستخدامها وتطلب حماية هذه الحقوق، وأن تقوم هذه الدول، في الحالات التي حُرمت فيها هذه الشعوب من أراضيها وأقاليمها التي درجت على امتلاكها أو سكناها أو استخدامها بوجه آخر حرماناً تم دون موافقتها الحرة والمستنيرة، باتخاذ خطوات لإعادة هذه الأراضي والأقاليم إليها. وينبغي، فقط عندما يكون ذلك غير ممكن لأسباب تتعلق بالواقع، الاستعاضة عن الحق في الاسترداد بالحق في الحصول على تعويض عادل ومنصف وعاجل. وينبغي قدر الإمكان أن يتخذ هذا التعويض شكل أراضٍ وأقاليم”[38].
وقررت اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات في لجنة حقوق الأنسان[39]، في قرارها بشأن الشعوب الأصلية وعلاقتها بالأرض، بأنه “لا يجوز نقل الشعوب الأصلية قسراً من أراضيها أو أقاليمها. ولا يجوز أن يحدث الترحيل إلى مكان جديد بدون الموافقة الحرة والمستنيرة للشعوب الأصلية المعنية، وبعد الاتفاق على تعويض عادل ومنصف، وحيثما أمكن، مع خيار العودة”. وأضافت “للشعوب الأصلية الحق في استرداد الأراضي والأقاليم والموارد التي ظلت بصفة تقليدية تمتلكها أو خلاف ذلك تشغلها أو تستخدمها، والتي صودرت أو احتلت أو استخدمت أو أضيرت دون موافقتها الحرة والمستنيرة، وحيثما يستحيل ذلك، لها الحق في تعويض عادل ومنصف. ويجب أن يُقدم التعويض في صورة أراض وأقاليم وموارد مساوية من حيث النوعية والمقدار والمركز القانوني، ما لم توافق الشعوب المعنية بحرية على غير ذلك”[40].
وتجيء مطالبة الرئيس الفلسطيني بمساءلة بريطانيا عن مسؤوليتها القانونية الدولية، لإصدارها وتسويقها و”شرعنتها” وتنفيذها لوعد بلفور قبل مائة عام، لتفتح أمام الشعب الفلسطيني بارقة أمل للاقتصاص ممن خطط وساعد ونفذ وشارك، بتنفيذ نكبته والاستيلاء على وطنه وتشريده إلى بلدان اللجوء القريبة والبعيدة. وبالإضافة إلى الأدوات والقواعد القانونية الدولية سابقة البيان، فإن من حق الشعب الفلسطيني ودولة فلسطين المطالبة بتطبيق ما نصت عليه المادة السادسة من الباب الثاني من مشروع مسؤولية الدول[41]، بنصها:
1– يجوز للدولة المتضررة أن تطلب من الدولة التي ارتكبت فعلاً غير مشروع دولياً:
- وقف هذا الفعل والإفراج عن الأشخاص والأشياء المحتجزة من خلاله وإعادة هؤلاء الأشخاص والأشياء ومنع ما استمر من آثار ذلك الفعل.
- تطبيق وسائل الانتصاف المنصوص عليها في قانونها الداخلي.
ج- إعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل ارتكاب الفعل.
د- توفير الضمانات المناسبة لعدم تكرار الفعل.
2 – يجوز للدولة المتضررة بقدر ما يتعذر عليها مادياً التصرف وفقاً لما تقضي به الفقرة (1/ج)، أن تطلب من الدولة التي ارتكبت الفعل غير المشروع دوليا إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل الخرق”، وحين يتعذر إعادة الحال إلى ما كان عليه، أو عندما يكون هناك أضرار لا يكفي لإصلاحها التعويض العيني، وبذلك يصبح التعويض المالي مكملاً بحيث يكون معادلاً للقيمة التي يمكن أن يؤديها إعادة الحال إلى ما كانت عليه”[42].
وقد أشارت إلى هذا النوع من التعويض المادة (44) من مشروع قانون مسؤولية الدول والتي نصت على أنه:
1– يحق للدولة المضرورة أن تحصل من الدولة التي أتت فعلاً غير مشروع دوليا،ً على تعويض مالي عن الضرر الناجم عن ذلك الفعل، إذا لم يصلح الرد العيني الضرر تماماً وبالقدر اللازم لتمام الإصلاح.
2– يشمل التعويض المالي في مفهوم هذه المادة، أي ضرر قابل للتقييم اقتصاديا يلحق الدولة المضرورة، ويجوز أن يشمل “الفوائد والكسب الفائض عند الاقتضاء”.
ويشمل التعويض المالي الأضرار المادية والمعنوية، سواء كانت هذه الأضرار مباشرة أو غير مباشرة، متى كانت هذه الأضرار-غير المباشرة- قريبة ونتيجة طبيعية للفعل غير المشروع. كما يشمل التعويض المالي– وفقاً لنص المادة (42) من مشروع قانون مسؤولية الدول– أيضاً “الفوائد والكسب الفائت عند الاقتضاء”، ويراد بالكسب الفائت الربح الذي كان سيجنيه المضرور في المستقبل لولا وقوع الفعل الضار.
وقد أشار مشروع قانون مسؤولية الدول إلى الترضية في المادة الخامسة والأربعين منه حيث نص على أنه:
- “يحق للدولة المضرورة أن تحصل من الدولة التي أتت فعلاً غير مشروع دولياً على ترضية عن الضرر، لا سيما الضرر الأدبي الناجم عن ذلك الفعل إذا كان ذلك ضرورياً لتوفير الجبر الكامل ويقدر هذه الضرورة.
- يجوز أن تتخذ الترضية واحدة أو أكثر من الصور التالية:
- الاعتذار.
- التعويض الرمزي.
- في حالات الانتهاك الجسيم لحقوق الدولة المضرورة التعويض المعبر عن جسامة الانتهاك”.
الخاتمة:
كانت مطالبة الرئيس الفلسطيني في كلمته بالقمة العربية التي انعقدت في نواكشوط، بتاريخ 25 تموز 2016، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بمساعدتنا لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية، لإصدارها وعد بلفور المشؤوم ما تسبب في نكبة الشعب الفلسطيني، رغم انقضاء قرابة قرن من الزمان على صدور الوعد المشؤوم بلفور، في غاية الشجاعة للاقتصاص من بريطانيا، وتحميلها المسؤولية القانونية والتاريخية والأدبية، عما اقترفته من جرائم ضد الشعب العربي الفلسطيني. وقد اقتضت تلك الجرائم المستمرة منذ مائة عام، فتح ملف الجرائم الدولية التي ارتكبت بحق شعبنا، من الانتداب مرورا بالمجازر عام 1948 وما بعدها. وقد أحسن الرئيس محمود عباس بإشراك الدول العربية من خلال الطلب “من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، بمساعدتنا لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية لإصدارها وعد بلفور، ما تسبب في نكبة الشعب الفلسطيني”.
ولعل ما تضمنته هذه الدراسة المختصرة والمستعجلة، ما يبين بأن ما تم طرحه وإعلان الجامعة العربية عن استعدادها لتنفيذ مطلب الرئيس عباس، يستند إلى وقائع تاريخية مثبته وموثقة، وترتكز على أسس ومبادئ وقواعد القانون الدولي والممارسة الدولية في مجال المسؤولية الدولية للدول، والتي أوجزتها باختصار هذه الدراسة. ولعل من نافلة القول أن إعداد وفتح ملف الجرائم الدولية التي ارتكبت بحق شعبنا، من الانتداب مرورا بالمجازر عام 1948 وما بعدها، يحتاج إلى عمل ضخم ودؤوب ومتراكم، من قبل الخبراء على اختلاف اختصاصاتهم وتنوعها، فلسطينيين وعرب وأصدقاء ومؤازرين من مختلف بلدان العالم، لإعداد ملف وثائقي شامل ومهني، واختيار أنسب الطرق القانونية والسياسة والقضائية في ملاحقة بريطانيا؛ الأمر الذي يستدعي تشكيل هيئة وطنية، وأخرى عربية برعاية جامعة الدول العربية، وثالثة دولية من الأصدقاء والمؤازرين الأجانب. ويمكن لهذه الهيئات أن تتقاسم أعباء العمل، وتنسق وتتشارك وتتكامل فيما بينها لإنجاز هذا العمل الضخم والشاق، استنادا إلى خطة تفصيلية بها الشأن.
الهوامش:
[*]كاتب وباحث في شؤون القانون الدولي.
[1]يعود السبب المباشر لهذا الطلب إلى المعلومات المؤكدة التي وصلت للرئيس عباس، أن عددا من نواب مجلس اللوردات بإنجلترا وبالتنسيق مع عدد من زعماء الأحزاب الصهيونية في إسرائيل، يحاولون تنظيم احتفال بالمناسبة في الأشهر القادمة، لتثبيت الخدعة إعلاميا وتمريرها على الرأي العام البريطاني والرأي العام العالمي مرة أخرى. راجع بهذا الخصوص: د. ناصر اللحام، ما الذي استفز الرئيس عباس ليقاضي بريطانيا على وعد بلفور؟ وكالة معا 26 تموز (يوليو) 2016.
[2]صحيفة الأيام الفلسطينية بتاريخ 1 آب (أغسطس) 2016.
[3]عرضت الحكومة البريطانية نص تصريح بلفور على الرئيس الأميركي ولسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918، ثم تبعها ولسون رسميا وعلنيا سنة 1919، وكذلك اليابان، وفي 25 نيسان (أبريل) سنة 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب، وفي 24 تموز (يوليو) عام 1922 وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 أيلول (سبتمبر) 1923.
[4] الانتداب البريطاني، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، www.wafainfo.ps
[5] النكبة ومسؤولية بريطانيا وضرورات مساءلتها – المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان– منظمة التحرير الفلسطينية، .www.nbprs.ps/news.php?action=show&id=16164، 17 أيار (مايو) 2013.
[6] أنطوان شلحت، الاستيلاء على أرض الفلسطينيين وأملاكهم: “إنجاز” الصهيونية الأهم، موقع العربي الجديد بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 2016.
[7] صدرت “أنظمة طوارئ خاصة بأموال الغائبين” في 22 كانون الأول (ديسمبر) 1948. وهذا القانون يعتبر أي شخص فلسطيني غائباً إذ كان في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 (تاريخ صدور قرار التقسيم رقم 181) مقيماً في إحدى الدول العربية، وللدولة الحق في مصادرة أمواله. وأنشئ لهذه الغاية مكتب جديد حلّ في مكان “القيِّم على الأملاك المتروكة”، وصار يدعى “القيِّم على أموال الغائبين”. ولم يطل الأمر كثيراً، فصدر “قانون أموال الغائبين” في 14 آذار 1950، وهو تطوير لأنظمة الطوارئ الخاصة بأموال الغائبين. وقد جعل هذا القانون “القيم على أموال الغائبين” المالك الشرعي لجميع أملاك الغائبين. راجع بهذا الخصوص: صقر أبو فخر، أملاك “الغائبين” ما زالت حاضرة – العربي الجديد،
https://www.alaraby.co.uk/supplementpalestine/953156eb-97d8-401f-b930-3e32275…
بتاريخ 5 حزيران 2016.
[8]النكبة ومسؤولية بريطانيا وضرورات مساءلتها- المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان– منظمة التحرير الفلسطينية، .www.nbprs.ps/news.php?action=show&id=16164، 17 أيار (مايو) 2013.
[9] د. سهيل حسين الفتلاوي، الموجز في القانون الدولي العام، ص150.
[10]د. عبد الواحد محمد يوسف الفار، أسرى الحرب دراسة فقهية وتطبيقية في نطاق القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية، عالم الكتب، القاهرة، 1975، ص483.
[11]انظر البنود 14 وما بعدها من بنود فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية A/ES-10/ 273 ، 2004/7/ المحتلة، الصادرة في وثيقة رقم 1.
[12]زكي شهاب، حارس أملاك العدو صادرها، صحيفة الحياة اللندنية، العدد 92، بتاريخ 1 كانون الأول (ديسمبر) 1993.
“حارس أملاك العدو” صادرها. ” daharchives.alhayat.com
[13] المصدر نفسه.
[14] المصدر نفسه.
[15] راجع بهذا الخصوص: صقر أبو فخر، مصدر سبق ذكره.
[16]واصلت إسرائيل احتلالها غزة حتى آذار (مارس) 1957 بعد العدوان الثلاثي، حيث استكملت عملية نهب وثائق السجل العيني لقطاع غزة، ما دفع الحكومة المصرية إلى إثبات ذلك في تحقيقات النيابة العامة (رقم 788 لسنة 1957- إداري غزة) وبعدها باشرت الحكومة المصرية إنشاء سجلات جديدة لملكية أراضي قطاع غزة بدلاً من التي سلبتها “إسرائيل” أثناء العدوان، وصدر قرار الحكم الإداري العام لقطاع غزة رقم57، لسنة 1958 ونص في مادته الثانية على إعداد جداول جديدة لبيانات الأراضي والأملاك وأسماء متصرفيها وملاكها والحقوق التي لها أو عليها الواقعة في قطاع غزة والتي كانت مسجلة بالسجلات المفقودة حتى تشرين الأول (أكتوبر) 1956.
[17]د. أحمد يوسف القرعي، دعوة اتحاد المؤرخين العرب لتوثيق ملكية الأرض الفلسطينية، صحيفة الأهرام المصرية 16/1/2003، وأعاد نشرها موقع المركز الفلسطيني للإعلام
https://www.palinfo.com/27281 بتاريخ الخميس 14 أيلول (سبتمبر) 2006.
[18] عمر كوش، الحق في التعويض والاعتذار عن أضرار الاستعمار- المستقبل، 14 تموز 2010.
www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=418802
[19] وكالة هيرمس برس- العصفورة – بريطانيا تعوّض ضحايا www.harmees.com/ بتاريخ 7 أيار 2013.
[20] عمر كوش، الحق في التعويض والاعتذار عن أضرار الاستعمار،
www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=418802، بتاريخ 14 تموز 2010.
[21] صحيفة «ذي غارديان» البريطانية بتاريخ 2 تشرين الثاني 2012. والموقعون هم: غادة الكرمي، تيم لويلين، كارل صباغ، جون روز، كامل حواش، نعومي فويل، منى بكر، وسيني سينفيرانتي.
[22] معا 25 تموز 2016.
[23] د. ولاء فايز الهندي، الإعلام والقانون الدولي، الأردن (عمان)، دار أسامة للنشر والتوزيع، ط1، 2012، ص86.
[24] د. بدرية العوضي، القانون الدولي العام، الكويت، مؤسسة دار الكتب، 2003، ص165.
[25] د. السيد أبو عيطة، الجزاءات الدولية بين النظرية والتطبيق، مؤسسة الثقافة الجامعية، 2004 ، ص249.
[26] د. عبد العزيز محمد سرحان، القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1975، ص227.
[27] د. محمد حافظ غانم، المسؤولية الدولية، القاهرة، 1975، ص10.
[28] د. رشاد عارف يوسف السيد، المسؤولية الدولية عن أضرار الحروب العربية والإسرائيلية، ص19.
[29] د. محمد طلعت الغنيمي، الوسيط في القانون الدولي، قانون السلام، ص439.
[30] د. إبراهيم محمد العناني، القانون الدولي العام، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984، 127.
[31] د. علي إبراهيم، الحقوق والواجبات الدولية في عالم متغير، ص570.
[32] د. عصام جميل العسلي، دراسات دولية، ص53.
[33] الأمم المتحدة، الجمعية العامة، الدورة السادسة والخمسون، البند 162 من جدول الأعمال، تقرير لجنة القانون الدولي عن أعمالها، ص7،
http://www.un.org/arabic/documents/GADocs/56/A_56_589.pdf
[34] د. حامد سلطان، القانون الدولي وقت السلم، ص284-285.
[35] د. إبراهيم العناني، القانون الدولي العام، مرجع سابق، ص165.
[36]د. عمر حسن عدس، مبادئ القانون الدولي المعاصر، شركة مطابع الطوبجي التجارية للتصوير العلمي، القاهرة، 1994، ص586.
[37]لجنة القضاء على التمييز العنصـري، التوصية العامة 23 (د-51) المتعلقة بحقوق الشعوب الأصلية والتي اعتمدتها اللجنة فـي جلستهـا 1235 المعقودة في 18 آب (أغسطس) 1997- الفقرة الثالثة.
[38] المصدر نفسه، الفقرة الخامسة.
[39] لجنة حقوق الإنسان، اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، الدورة الحادية والخمسون، حقوق الإنسان للشعوب الأصلية، الشعوب الأصلية وعلاقتها بالأرض، E/CN.4/Sub. 18/2/1999 بتاريخ3 June 1999 ، الفقرة العاشرة.
[40] المصدر السابق، الفقرة 27.
[41] اعتمدت لجنة القانون الدولي في القراءة الثانية في دورتها الـ53 المواد المتعلقة بمسؤولية الدول عن الأعمال غير الشرعية، واعتمدتها الجمعية العامة بقرارها 83/56 في 12/12/2001 ويمكن الاطلاع على النص على الموقع الإلكتروني التالي:http // www. Law. Com . ac . uk / rcil / statresp. Htm
[42] المصدر نفسه، ص750-754.