ماجد كيالي[*]

  انشغلت معظم الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية في الساحة العربية، طوال النصف الثاني من القرن المنصرم، بشعارات ومقولات التحرير والوحدة والاشتراكية، على اعتبار أنها التحديات الجمعية الأساسية، أو القضايا المركزية، التي تواجه الأمة العربية، في سعيها للنهوض    بأوضاعها وتعزيز مكانتها.

هكذا، فإن هذه الأحزاب والتيارات لم تشتغل على مسألة الديمقراطية، إلى الدرجة المناسبة كطريقة لتنظيم الحكم، ولا على مسألة الدولة كمعطى سياسي وقانوني ومجتمعي، ولا على مسألة المواطنة، باعتبارها أمراً يخصّ الإنسان، كفرد حر ومستقل، يقف على قدم المساواة مع غيره من أفراد المجتمع، ففي معظم الأحوال ظلت هذه القضايا مغيّبة أو مهمّشة، في سلّم الاهتمامات الوطنية و”القومية”.

الوعي المتعثّر بالديمقراطية

مع بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بدا وكأن مسألة الديمقراطية باتت تحتل مكانة محورية في الخطابات التغييرية العربية، بعد أن انحسرت مكانة الخطابات القومية المتعلقة بمسألة الوحدة والتوحيد العربيين، والخطابات اليسارية المتعلقة بمسألة العدالة الاجتماعية (أو الاشتراكية)، وذلك لأسباب داخلية وخارجية؛ بحيث أضحت مسألة الديمقراطية بمثابة مخلّص، أو بديل. ويصحّ القول، أيضاً، أن مسألة الديمقراطية، طوال الفترة المذكورة، باتت لدى معظم التيارات السياسية العربية تنافس، وربما تزيح جانباً، الأولوية المتعلقة بالصراع العربي. الإسرائيلي (وضمنها قضية فلسطين)، ولأول مرة.

وكدليل على هذه الاهتمامات، فقد شهد العقد الماضي عقد كثير من المؤتمرات والندوات وورش العمل، وصدور الكثير من الكتب والدراسات والتقارير، التي تخصّصت في بحث مشكلات العالم العربي وسبل إصلاح أوضاعه وتطويره من مختلف النواحي. ويمكن أن نذكّر هنا بتقارير «التنمية الإنسانية العربية»[1] التي صدرت تباعاً، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، في النصف الأول من العقد الماضي (2002-2005)، وشاركت في إعدادها نخبة من الأكاديميين والمثقفين والباحثين في السياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد، والتي لخّصت أزمة التنمية الإنسانية العربية بثلاثة نواقص هي: نقص الحرية، ونقص المعرفة، ونقص تمكين المرأة، على أساس أن تمكين الناس منها (مع التنمية الاقتصادية والتعاون البيني) قد يمكّن العالم العربي من السير على سكّة التطور. ومعلوم أن هذه التقارير كانت موضع اهتمام الحكومات العربية، أيضاً، إلى درجة أن مؤتمرات القمة العربية، التي عقدت في تلك الفترة، تحدثت عنها، وأدرجت في مقرراتها بنوداً عن الإصلاح السياسي في العالم العربي.

لكن تجربة السنوات الماضية أكدت استعصاء مسألة الديمقراطية في الواقع العربي، على الصعيدين السلطوي والمجتمعي، بما لا يقل عن الاستعصاء الحاصل في قضايا فلسطين والوحدة والاشتراكية.

وقد بينت التجربة أن الواقع العربي: السياسي والمجتمعي والثقافي لم يستطع تمثّل مسألة الديمقراطية، وهذا يتعلق بالحكومات (وبالأصح السلطات) وبالمحكومين، أو “الرعية”. والمعنى أن مسؤولية ذلك، بحسب جورج طرابيشي[2]، على عاتق الطرفين، فالذين “فوق” يسيطرون بسلطاتهم، والذين “تحت” يسيطرون بثقافاتهم وعاداتهم. لكن هذا القول لا ينبغي أن يستنتج منه أن إعاقة الديمقراطية، واستعصاءها، وتشوّهها، في الواقع العربي إنما يصدر عن جوهر ثابت أو مطلق، على ما يذهب بعض من المستشرقين والمتغرّبين، وإنما هو يصدر عن تكلّس الواقع العربي، وهشاشة تفاعلاته، السياسية والثقافية، وضعف الفاعلين فيه، ما يضعف قدرته على النهوض والتطور الديمقراطيين.

هكذا، مثلاً، دخلنا في مسار التحديث من دون حداثة، وعرفنا من الحداثة مظاهرها وتجلياتها، دون التعمق في جوهرها، والأهم من دون المشاركة في إعادة إنتاجها. وهكذا، أيضاً، تحولنا إلى إطار المدينة من دون تمدين، بحيث بتنا مدنيين نفتقد للمدنية، بمعناها وثقافتها الهوياتية والأداتية؛ أي أخذنا المكان (المدينة) من دون أن نتمثل زمان المدنية ودلالاتها وتعبيراتها المجتمعية والمؤسسية.

فضلاً عن كل ما تقدم فإن محنة الديمقراطية في العالم العربي تنبع من افتقاد الموروث التاريخي، السياسي والثقافي، لمفهوم الدولة والمواطنة، واتكاء هذا الموروث على مفاهيم “الخلافة” الدينية، و”الأحكام السلطانية” والنماذج “المملوكية”، بحيث بات ثمة في الواقعين الثقافي والسياسي ما يعمل على تكريس هذا الموروث وإعادة إنتاجه، بتلاوين مختلفة.

طبعاً، ثمة اجتهادات كثيرة، أيضاً، أحالت ذلك الاستعصاء (في مسألة الديمقراطية) إلى طبيعة البنية الاجتماعية العربية، وتقليدية الفكر العربي، وعدم التمييز بين الديني والدنيوي، أو بين مجالي السماء والأرض، كما ثمة من أحال ذلك الأمر إلى العوامل الخارجية، وضمنها الاحتلالات والتدخلات الغربية في الشؤون العربية.

وعلى الأغلب فإن استعصاء العملية الديمقراطية في العالم العربي إنما ينبع من مجموعة عوامل، يمكن ملاحظتها في الإشكاليات التالية:

– الدولة أولاً، وهنا مكمن الإشكالية الأولى، التي تتعلق بظروف تشكّل الدولة في البلدان العربية، التي نشأت، في الأغلب، إما على حامل المؤسسة العسكرية (الجيش)، وإما على خلفيات قبلية/عشائرية، بحيث باتت الدولة العربية، في الأغلب، بمثابة دولة تسلّطية، بحسب تعبير لخلدون النقيب[3]. هكذا قادت هذه الأوضاع إلى تآكل الدولة المفترضة (دولة المؤسسات والقانون) لصالح السلطة، وإلى تهميش المجتمع، وعرقلة تحديثه وتمدينه، كما أدت إلى التحكم بمصادر الثروة والقوة والتشريع.

وبدهي فإن تجاوز هذه الحال لا يكمن فقط في إرساء تكريس الشرعية السياسية عبر الانتخابات والاستفتاءات (على ما يحصل في بعض البلدان العربية)، وإنما هو يكمن بداية في إعادة الاعتبار للدولة (المؤسسات)، وإعلاء شأن القانون، وفصل السلطات، واحترام الحريات الفردية والعامة، وتحقيق المساواة بين المواطنين. وفي الواقع فهذه هي المداخل الحقيقية اللازمة لإرساء التحول الديمقراطي في العالم العربي، وبعد ذلك تأتي قضية الانتخابات والاستفتاءات، وتداول السلطة؛ أي أن الديمقراطية تأتي تالياً لقيام الدولة والمواطنة، والاعتراف بالحريات والحقوق الأساسية، وليس العكس على ما يروج البعض. هكذا، فالحديث هنا لا يدور حول الديمقراطية، وإنما عن أهمية قيام الدولة أولاً، باعتبارها معبر العالم العربي نحو الحداثة والتحديث، نحو العقل والعقلانية، نحو السياسة والمشاركة السياسية. ويستنتج من ذلك أن الجهود يجب أن تتركز، أولاً، وقبل كل شيء على إعادة الاعتبار للدولة، أو تأسيس الدولة الحديثة في واقعنا العربي، دولة المؤسسات والقانون والدستور، باعتبار ذلك مقدمة ليس للديمقراطية فقط، وإنما لأية تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية في الواقع العربي. فدولة المؤسسات والقانون (ونحن هنا لا نتحدث عن شكل النظام السياسي)، هي سابقة على الديمقراطية، إذ لا يمكن أن تتحدث عن التأسيس لديمقراطية في غياب هكذا دولة بمعنى الكلمة، أو في ظل وجود مجرد سلطة.

– تمكين الديمقراطية، وهي الإشكالية الثانية، وتتعلق بمستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المجتمعات العربية، وهو عموماً مستوى متدن وضاغط، ويحول دون تمكين الأغلبية المجتمعية من الاستحواذ على وعي سياسي واجتماعي لائق، ويحد من قدرتها على الوصول إلى مصادر المعلومات، ويضعف إمكانية معرفتها لحقوقها ومصالحها، وبالتالي ممارستها حرياتها، بعيداً عن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية. وقد أكدت على ذلك تقارير “التنمية الإنسانية العربية”، التي أشارت إلى أن النقص في المعرفة والنقص في التنمية يؤديان بداهة إلى النقص في الحرية، أو التمكين من الحرية، وبالتالي النقص في التمكين من الديمقراطية[4].

ثمة دول ذات مستوى اقتصادي واجتماعي متدن تمارس عملية الديمقراطية وعملية تداول السلطة (مثلا الباكستان والهند)، إلا أن التجربة تفيد أن وجود مستوى لائق من التنمية يبقى على غاية الأهمية بالنسبة لضمان مشاركة سياسية حقيقية، وإرساء ديمقراطية فاعلة، بعيداً عن سلطة أو هيمنة المال والضغوطات المالية. ولا شك هنا بأن الفرد الأكثر تعليماً، والذي يحظى بحد مناسب من العيش بحرية وكرامة، هو أكثر قدرة على معرفة مصالحه والذود عن حرياته وعن حقوقه؛ في حين أن الفرد العربي، على الأغلب، يعيش في غربة عن مجتمعه وعن دولته، وهو بالكاد يدرك حقوقه ومعنى مواطنيته، فيما هو غارق في هموم تحصيل لقمة العيش، وتأمين مستلزمات المأكل والملبس والمسكن، فضلاً عن تكاليف التعليم والطبابة وغيرها. وفي هكذا أحوال من البدهي أن الديمقراطية الناشئة يمكن أن تكون ناقصة أو مقيدة، أو خاضعة للسلطات المهيمنة على أحد المجالات أو عليها كلها (السلطة السياسية أو السلطة المالية أو السلطة القبلية).

– البنى المجتمعية، وهنا تكمن الإشكالية الثالثة، إذ أن البنى الاجتماعية والثقافية السائدة  في البلدان العربية هي، على الأغلب، بنى تقليدية، أي ترتكز على علاقات القبيلة، والعشيرة والعائلة والطائفة والمذهب والأصل الإثني، وتنتمي لمرجعيات دينية، ومذهبية، وعشائرية وهوياتية. وبدهي أن هكذا خلفيات تعيق الاندماج المجتمعي في البلدان العربية، وتحد من الانتقال إلى مسار الحداثة (مسار المواطنة والدولة والعقل)، وتساهم في إبقاء المجتمعات في حال من التفكك والاستنفار، وتحول دون تبلور المجتمع المدني أو مجتمع المواطنين الأفراد، الأحرار والمتساوين. وبدهي أن النظم السياسية السائدة، الجمهورية أو الملكية، القائمة على الاستبداد، بواسطة العسكر أو القبيلة أو الطائفة، عملت على كل ما من شأنه تأبيد هذا الواقع، لأنها ترتاح له، فهو أفضل وصفة لتأبيد سلطتها، ناهيك أنه يجعلها حكماً أو منظماً لهذه التناقضات، بحيث تبدو كأنها بمثابة ضامن للأمن والاستقرار. علماً أن أهم وظيفة للدولة هي تحقيق الاندماج الاجتماعي بين المواطنين، عبر المواطنة والمساواة أمام القانون، وصوغ هويتهم الوطنية الجمعية، وتعزيز المشتركات بينهم.

– التدخلات الخارجية، وهي الإشكالية الرابعة، وتتعلق بالاحتلالات والتدخلات والضغوط الخارجية، فلا شك أن قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والترتيبات الأمريكية في العراق، والسياسة الأمريكية المنحازة لإسرائيل في المنطقة، والمداخلات الإيرانية من العراق إلى لبنان، كلها تسهم في إعاقة الديمقراطية، وتثير الشبهات بشأنها؛ ما يعزّز، ولو بشكل غير مباشر، نزعة التسلط، وتغييب الحريات، في البلدان العربية، التي جعلت للصراع العربي-الإسرائيلي، الأولوية على قضايا التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولا شك هنا بأن محاولة إدارة بوش المنصرفة تبني مسألة الديمقراطية، في العالم العربي، ورفع شعار “نشر الديمقراطية” في البلدان العربية[5]، كتغطية لسياساتها الابتزازية والتدخلية، شوّش على عدالة مطلب الديمقراطية في بعض الأوساط الشعبية (كما السلطوية)، وأسهم بخلق نوع من الريبة والبلبلة إزاء كيفية التعاطي مع مطلب الديمقراطية في العالم العربي.

– دورة التطور، وهذه هي الإشكالية الخامسة، إذ تتمثل محنة الديمقراطية في العالم العربي، أيضاً، في عدم اكتمال دورة التطور باتجاه الحداثة، أي باتجاه العقلانية والتمدين والدولة والمواطنة والحريات الأساسية (بما فيها حرية الرأي والمعتقد)، فضلاً عن التشوهات التي باتت تحيط بهذه الدورة، بشأن ما يتعلق بالتطور الاجتماعي أو الاندماج الاجتماعي، وما يتبع ذلك من تطورات في مجالات الثقافة والتقانة والتنمية الاقتصادية.

والحقيقة أن ثمة سياقاً تاريخياً (سياسياً واجتماعياً) لهذه العملية، نشأ بداية من قيام الدولة، أي دولة المؤسسات والقانون، التي تتأسس على الفصل بين السلطات، مروراً باحترام الحريات الفردية وحقوق الإنسان أو المواطن، والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن مراتبهم الاجتماعية والوظيفية وانتماءاتهم المذهبية والطائفية والإثنية، وصولاً إلى ضمان الحق في التعبير والتنظيم والمشاركة السياسية (ما يعني الحق في إنشاء الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام)، وأخيراً، أي وبعد كل ذلك لا قبله، احترام مبدأ تداول السلطة، عبر صناديق الانتخاب والإقتراع.

يستنتج من كل ما تقدم أنه لا يمكن التعاطي مع الديمقراطية بوصفها مجرد شعار، فهي عملية، وهي نتيجة أو ثمرة لمجمل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبهذا المعنى لا يمكن استنساخ الديمقراطية، ولا استيرادها، كما لا يمكن اختزالها بمجرد عمليات انتخابية، شكلانية، أو مسيطر عليها. فمن دون الدولة، ومن دون مجتمعات تتألف من مواطنين أفراد، أحرار ومتساوين، من الصعب توقع إرساء ديمقراطية في الواقع العربي، أي أن الليبرالية، أو الحرية والمواطنة، هي المدخل الضروري لأية تجربة ديمقراطية.

طبعاً، لا يعني هذا الكلام الموافقة على مصادرة أو تأخير العمليات المتعلقة بالديمقراطية، فهذه رغم كل ما يشوبها من عيوب، أو نواقص، أو ثغرات، هي بداية ضرورية لتعلم الديمقراطية، والدخول في مختبرها، أولاً. وثانياً لا يوجد ديمقراطية كاملة، أو نظيفة، مئة بالمئة. وثالثاً، لأن الديمقراطية عملية ينبغي تعلمها بالممارسة، حتى تتحول إلى ثقافة شعبية حقاً. ورابعاً، لأن الحديث عن تأخير الديمقراطية، بهذه الحجة أو تلك، وضمنه القول بعدم اقتصارها على الانتخابات، هو مجرد ذريعة لوأد الديمقراطية. وخامساً، لأن المسألة الأساسية المقصودة هنا هي مسألة الحرية، أي ربط العملية الديمقراطية بقيمة الحرية، لأن الديمقراطية لا يمكن أن تتأسس من دون حرية، والمقصود هنا بالضبط، حرية المواطنين، الأفراد والمتساوين في الحقوق، وليس فقط الحرية المتعلقة بالجماعات الدينية أو الإثنية أو غيرها.

إشكالية تلازم الديمقراطية بالليبرالية

كنا تحدثنا عن خمس إشكاليات لأسباب تعثر الديمقراطية في العالم العربي، لذا فقد تبقت إشكالية أساسية، وجدت أن من الأجدى تخصيص حيّز مستقل لها بالنظر لأهميتها، وهي المتعلقة بإشكالية الليبرالية في العالم العربي، وضرورة التلازم بين الديمقراطية والليبرالية.

فمنذ مطلع القرن العشرين ظلت الثقافة السياسية العربية تكابد في سبيل توطين مضامين التحولات الفكرية والسياسية الكبرى، التي كانت ظهرت في المجتمعات الغربية، وبالخصوص منها نزعات العلمانيّة والليبرالية والديمقراطية والشيوعية والقومية، والتي كانت أسست لحداثته ونهضته، وأيضاً لمجادلاته وانقساماته.

وكما هو معلوم فقد تمت محاربة كل هذه التيارات بدعوى أنها مستوردة من الغرب وباعتبارها دخيلة على الواقع والثقافة العربيين، في وضع عربي كل شيء فيه مستورد، من الملابس، إلى تنظيم الجيوش والطرق والمدن، ومن أنظمة التعليم والصحة والريّ والقضاء والاقتصاد والحكم، إلى العادات الاستهلاكية والترفيهية والصحية؛ ناهيك عن الثلاجة والغسالة والتلفاز والساعة والميكروييف والمكيف والسيارة والطيارة والكومبيوتر والهاتف والموبايل وشبكة الإنترنت، والبنوك والجامعات والمستشفيات والمصانع والشركات.

في هذا المجال لا نضيف جديداً إذا قلنا بأن ثمة انفصاماً في التعاطي مع منجزات الحضارة الغربية (المادية والاجتماعية والثقافية)، باعتبارها منجزاً إنسانياً، إذ ثمة قابلية للتعامل مع منجزات الغرب المادية، أي العلمية والتكنولوجية، وطرق الإدارة والتنظيم والترفيه إلى حد ما، في حين ثمة حذر شديد، مشوب بالعداء أحياناً، في التعاطي مع منجزاته في حقول الثقافة والفكر والفن والمجتمع والسياسة.

على أية حال فإن مدركات الثقافة العربية السائدة للأفكار المذكورة جاءت جد متفاوتة، إذ تم تمثلّ فكرة القومية، مثلاً، أكثر من غيرها (مع أنها فكرة غربية)، بسبب وجود خلفيات تاريخية وثقافية لها، وبواقع استنادها لزعامة كبيرة بحجم الرئيس جمال عبد الناصر، ولنا أن نتخيّل مآلات هذه الفكرة لولا هذه الزعامة؛ بدليل عدم نشوء أحزاب قومية، إذا استثنينا حزب البعث، الذي نشأ في سورية والعراق اساساً، وحركة «القوميين العرب»، التي انتهت في فترة مبكرة.

وبالنسبة لفكرة الشيوعية فقد لاقت نجاحاً محدوداً، في مراحل معينة، على خلفيات سياسية فقط، وليس لاعتبارات أيديولوجية أو ثقافية، أي بحكم قوة الاتحاد السوفييتي، وشبكة العلاقات التي كانت ربطته بالأنظمة (كما بالأحزاب الشيوعية) في البلدان العربية، وبواقع المناخ الجماهيري المعادي للإمبريالية الأميركية المتحالفة مع إسرائيل؛ وربما بحكم توق الناس في هذه البلدان للعدالة الاجتماعية (المتضمنة في فكرة الاشتراكية) أيضاً.

أما فكرة الديمقراطية فقد لاقت قبولاً أكبر، بالقياس لغيرها، في الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية، باعتبارها تغذي الحاجة، عند أطراف وتيارات متضاربة، للتغيير السياسي، وتمهد لوضع حد لنظام الحكم المطلق، وللتخلص من ويلات الفساد والاستبداد، في آن. وكان أن بات ثمة نوع من إجماع على الديمقراطية لدى مختلف التيارات الفكرية والسياسية العربية (يسارية وإسلاموية وقومية ووطنية وليبرالية وعلمانية)، باستثناء الأنظمة المتسيدة التي ناهضتها العداء؛ مع الأخذ في الاعتبار أن كل تيار اشتهى الديمقراطية كوسيلة، وبالمعنى المحدود لها.

مقابل ذلك فإن فكرتي العلمانيّة والليبرالية ظلتا في مكانة محاصرة، أو هامشية، أو في مكانة استبعادية وعدائية في الثقافة السياسية السائدة. الأولى (أي العلمانيّة) بسبب عداء التيارات الدينية لها على طول الخط، إلى درجة «التكفير»! وأيضاً بسبب عدم هضمها من قبل التيارات الأخرى (القومية والوطنية والليبرالية)، التي أبدت أيضاً نوعاً من الانتهازية في تعاطيها مع فكرة العلمانيّة (وهذا ينطبق على النظم السياسية السائدة)؛ وذلك بدعوى مراعاة الميول الدينية في المجتمعات العربية، وبهدف توظيف المشاعر الدينية في الأغراض السياسية.

أما الثانية (أي الليبرالية) فقد نبع العداء لها من عدم تبني معظم التيارات السائدة قضايا الحرية والتحرر، أي حرية الرأي والفكر والمرأة والأفراد والجماعات، ومن ضعف الثقافة الحـــقوقية، وأيضاً بسبب ارتكازها إلى فكرة الفرد المواطن، والمساواة أمام القانون، وفصل السلطات، والدولة الدستورية، في واقع يؤبد السيـــــطرة الأحادية والشـــمولية (الأب في الأسرة وزعيم العشيرة في عشيرته، ورجل الدين في مسائل الدين، وزعيم الحزب في حزبه، ورئيس الدولة في دولته).

وعلى الرغم من كل ذلك فإن الدعوة إلى العلمانيّة لم تلق ما كابدته الليبرالية من إشكاليات أو ادعاءات، مع أنها في حقيقتها دعوة للحرية والتحرر، للأفراد والمجتمعات، إزاء مختلف أنواع الهيمنة الفكرية أو السياسية، المجتمعية أو الدولتية. هكذا وصمت الليبرالية بشبهة التبعية السياسية (وليس فقط الفكرية) للغرب (الداعم لإسرائيل)، أي أنها وصلت إلى درجة «التخوين»، مع أن قوامها التحرر من أية تبعية، ربما لارتباط هذه الفكرة بالفئات المدينية التي صعدت في بلادنا في مرحلة الاستعمار، وأسست للاستقلال، في بلاد عانت من الاستعمار. ومشكلة الليبرالية عندنا، أيضاً، أنها ارتبطت بالليبرالية الاقتصادية، أكثر من ارتباطها بالدولة الدستورية وبالحريات السياسية وبحقوق المواطنين، ما وضعها على الضد من العدالة الاجتماعية، في مجتمعات ترزح تحت نير الفقر والحرمان. المفارقة اللافتة أن الفكرة الليبرالية راجت في البلدان العربية في المجال الاقتصادي، وفي مجال علاقة البلدان العربية مع الدول الغربية، أي فقط في المجالات التي نبذت من أجلها، في حين أنها ما زالت محاصرة، وموضع شبهة في المجالين السياسي والثقافي، حيث الحاجة لها ملحة.

ويستنتج من ذلك أن العداء لهذه الفكرة إنما هو عداء مصطنع، ومزيف، وهو عداء يستهدف فقط المضامين السياسية والحقوقية لفكرة الليبرالية، التي قوامها احترام حرية الفرد وحقوق الإنسان وقبول الرأي الآخر والتسامح مع المختلف والمساواة أمام القانون، والمواطنة في المجتمع وإزاء الدولة، وإعلاء شأن الدستور. وعلى ما يبدو فإن هذه المضامين، في منظور غالبية النظم القائمة، والتيارات الفكرية والسياسية السائدة، من المحظورات، والمستوردات والبدع الدخيلة على عقيدتنا ومجتمعاتنا وتقاليدنا؛ كونها تشكل تهديداً لهويتنا، ولحال الاستقرار والسلم والازدهار التي نرتع فيها في بلداننا.

في المحصلة فقد نشأت كل تلك التيارات مأزومة، إذ لم تتشكّل بوصفها تيارات واعية لذاتها، لا من جهة تمثيلها لكتل مجتمعية معيّنة، ولا من جهة تعبيراتها أو دلالاتها السياسية أو الثقافية.

ثمة عدد من الأسباب التي تفسّر ذلك، أهمّها أن هذه التيارات لم تنشأ في البيئات المحليّة لهذه البلدان، أي في جامعاتها وأحزابها ومنتدياتها وصحفها ودور النشر والثقافة فيها، وإنما بفضل الاحتكاك أو الاصطدام مع الغرب؛ لا سيما في التجربة الاستعمارية. والمفارقة أن هذه البلدان تمثلت المنجزات المادية، الاستهلاكية والتكنولوجية، للحداثة الغربية، في حين تحفّظت على منجزاتها الثقافية، وضمنها أفكارها السياسية والثقافية الكبرى؛ فيما بات يعرف بالتحديث من دون حداثة.

يمكن إحالة هذا التحفّظّ إلى المصادفة التاريخية، التي جمعت بين الاستعمار الذي يمثّله الغرب والأفكار السياسية والثقافية الصادرة عنه، والتي ظُهِّرَت باعتبارها بمثابة دعوة للالتحاق بالغرب، لا للّحاق به، وباعتبارها محاولة جديدة لطمس الهوية، لا لمواءمتها مع حقائق العصر ومتطلّبات التطوّر.

عدا كل ذلك ثمة، أيضاً، العامل المتمثّل بقوّة الموروث الديني، الذي بات بمثابة خطّ دفاع عن الذات وعن الهويّة، والذي تفاقم دوره بعد أن تجاذبته الأهواء السياسية وحوّلته إلى نوع من أيديولوجيا مغلقة؛ مع التحفّظ على الادّعاء المتعسّف القائل بأن ثمة شيئاً جوهرياً في الإسلام يحول دون التطبّع مع الحداثة الثقافية.

لكن السبب الأساس لتعثّر الأفكار الأساسية للحداثة الغربية، باعتبارها منجزاً إنسانياً، لا سيما المتمثلة بالعلمانيّة والليبرالية والديمقراطية واليسارية، إنما يعود إلى طبيعة السلطات التي تحكّمت في البلاد والعباد في العالم العربي، وهي في أغلب الأحوال سلطات توسّمت ادعاءات أو شعارات القومية والتحرير والوحدة والاشتراكية والتقدم.

وقد بيّنت التجربة أن هذه السلطات بطبيعتها الشمولية، القائمة على الاستبداد والفساد، عوّقت قيام الدولة، باعتبارها دولة مؤسّسات وقانون ومواطنين، وعوّقت تحوّل الكتل المجتمعية إلى مجتمعات بمعنى الكلمة، بتكريسها إياها عند حدود الانتماءات الأوليّة، ما قبل المدنية (المذهبية والطائفية والإثنية والقبلية)، كما عوّقت قيام الفرد، المواطن، بتنميطه على صورتها، وبحرمانه من حريته وحقوقه، وامتهان إنسانيته وفرديته. فهذا النوع من الأنظمة هو المسؤول عن تأخّر البلدان العربية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والتعليم والثقافة والفن، وعن غياب المجال العام المشترك (الجامعات والسينما والمسرح والمنتديات الثقافية والفنية)، وعن ترييف المدينة، فضلاً عن أنه المسؤول عن تحريم السياسة والحياة الحزبية.

هذا الوضع، الناجم عن تسلط النظم الاستبدادية، هو الذي أدّى إلى تأزّم مفاهيم العلمانيّة والليبرالية والديمقراطية واليسارية، وضعف تمثلها، في البلدان العربية، كما تشوّه ونقصان مفاهيمها وحمولاتها الثقافية والسياسية والحقوقية؛ وهو ما بتنا نشهد تمثّلاته وعواقبه في معمعان الثورات الشعبية الحاصلة، التي تتوخّى قيام الدولة القائمة على المواطنة وعلى الحرية والكرامة. ففي خضم هذه الثورات بدأت المجتمعات تنفتح على ذاتها وتكتشف تعدديتها وتنوّعها، وتصوغ إجماعاتها الوطنية، وتتعرّف على هويتها الجمعية، وعلى مشتركاتها واختلافاتها، بطريقة هادئة وصامتة أو بطريقة عنيفة وصاخبة.

المشكلة أن هذه الثورات كشفت حدود مكانة مختلف التيارات العاملة في المجتمعات العربية، وصدقيّة ادعاءاتها، وتناقضات مواقفها. هكذا شهدنا، مثلاً، وقوف أحزاب شيوعية ويسارية مع نظم استبدادية، تتبنى الليبرالية الاقتصادية المتوحّشة، وهذا ما حصل أيضاً مع اتجاهات يفترض أنها ليبرالية! كما شهدنا اتجاهات علمانية وديمقراطية ويسارية تمحض تأييدها لهكذا نظم لمجرّد رفضها صعود التيار الإسلامي، ولو في انتخابات حرّة! هذا يعني أن النظم الشمولية التي عمّمت خاصيتها على المجتمع، طبعت، أيضاً، مختلف التيارات بطابعها، أي بـ”طبائع الاستبداد”، بحسب عنوان الكتاب الشهير  لعبد الرحمن الكواكبي، ما يفسّر تحالف بعض من تيارات ليبرالية وعلمانية وديمقراطية ويسارية معها، والتي تعاني، بدورها، من قصور في النضج، ومن تشوّه في محاولاتها تمثل مدلولاتها السياسية والثقافية.

وقد يمكننا ملاحظة كل ذلك في قصور التأسيس لمفاهيم ونظم الديمقراطية، فهذه، مثلاً، لا يمكن اختزالها إلى محض عملية انتخابية، أو مجرّد تبادل أو تقاسم للسلطة، بين لاعبين سياسيين باسم أكثريّات معيّنة. وفي الواقع فإن منشأ هذا القصور ناجم أساساً عن نقص تمثّل الديمقراطية عندنا للحمولات الليبرالية، في محدّداتها السياسية والقانونية والثقافية، التي تعلي من قيمة الفرد، ومن حريته، واستقلاليته، ومن حقوقه، والتي تؤكّد الدولة باعتبارها دولة مؤسسات وقانون ومواطنين. فالديمقراطية من دون ليبرالية (كمذهب في الحرية الفكرية والفردية) تبدو ناقصة ومشوّهة، لأنها لم تنبن على حرية الأفراد والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان. في المقابل فإن الليبرالية من دون ديمقراطية هي ليبرالية ناقصة ومشوّهة، أيضاً، لأن حرية المواطنين المتساوين في الحقوق هي الأساس في الليبرالية، أي في مذهب الحرية، لأن هذا النوع من المواطنين هم الذين يتمثّلون ويتخيّلون ذواتهم الجمعية كشعب ويقيمون العقد الاجتماعي اللازم لبناء الدولة الديمقراطية.

عدا ذلك فإن مناهضة الليبرالية للديمقراطية، بدعوى عدم ملاءمة الديمقراطية للبيئة المحليّة، وبدعوى الحفاظ على استقرار الواقع السائد، وهي نفس خطابات النظم التسلّطية القائمة، يفيد بانحيازها إلى الاستبداد، أي إلى نقيضها المفترض، وخيانتها لقضيتها، ما يفاقم من عزلة التيار الليبرالي وبقائه هامشياً، ونخبوياً، ومن دون صلة بقاعدة شعبية وازنة. وبدهي أن هذا السلوك يضعف من شرعية الفكرة الليبرالية في البلدان العربية، التي طالما رُوِّج لاعتبارها مجرد فكرة تتأسّس على التبعية للغرب، على حساب الهوية الوطنية أو القومية، وعلى نبذ العدالة الاجتماعية.

ويستنتج من ذلك أن مجتمعاتنا، على تنوّعها وتعدّدها، في حاجة إلى اعتماد النظام الديمقراطي الليبرالي، الذي يعني قيام دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، دولة المؤسسات والقانون، لأنه في هكذا نظام فقط ليس ثمة أغلبية دائمة وأقليّة دائمة، وليس ثمة أكثريّة لا تحترم رأي الأقليّة، ولا أكثريّات وأقليّات على أساس هويّات فرعية، دينية أو إثنية، وإنما ثمة أكثريّات وأقليّات وفق المصالح الاقتصادية – الطبقية والتوجهات السياسية والفكرية.

قصارى القول، ففي نظام الديمقراطية الليبرالية، أكثر من أي نظام غيره، تكون الحرية مضمونة للجميع، أفراداً وجماعات، على قاعدة المساواة، فلا حظر ولا منع لأي تيار أو حزب، طالما هذا التيار أو الحزب يؤمن بالحرية وبالمواطنة المتساوية، وطالما أنه يدعو لأفكاره، أو لبرنامجه، بتوسل الطرق السلمية، وطالما أنه يحاول الوصول إلى السلطة بالطرق الديمقراطية.

جدل الديمقراطية والعلمانيّة والليبرالية

أيضاً، وفي خضم النقاش بشأن الديمقراطية والليبرالية، على ضوء تجربة الربيع العربي، طرحت فكرة العلاقة، أو التأزم، بين العلمانيّة والديمقراطية، كما لاحظها حازم صاغية، في تعبيره “كما لا يمكن، في أوضاعنا، الاطمئنان لـ”الديمقراطية وحدها” لا يمكن، أيضاً، الاطمئنان لـ”العلمانيّة وحدها”. هكذا فالعلمانيّون يخشون الديمقراطية لأنها قد تهدد “العلمانيّة”، في حين أن التيارات الدينية تخشى العلمانيّة لأنها تعتبرها تهديداً للدين، ضمن مفهوم ضيق أو أحادي. أيضاً ثمة وجهة نظر ترى عدم تلازم الديمقراطية بالعلمانيّة بسبب الخصوصيات العربية، ولأن هذا الأمر لم يطرح في التجربة الأوروبية، ولعدم ارتباط مفهومي الديمقراطية والعلمانيّة. لكن ما ينبغي الانتباه إليه أن مسألة العلمانيّة لم تقترن بالديمقراطية في أوروبا لأنها كانت سابقة لها، ولأنها باتت أمراً بدهياً (بأشكالها المعتدلة والمتطرفة)، خصوصاً أن المجتمعات الأوروبية باتت في نمط تفكيرها أقرب إلى العقلانية، بحكم التطورات العلمية والتكنولوجية، بحيث بات بإمكانهم التمييز بين الديني والدنيوي أو بين الروحي والعقلي. وفي هذا المجال يرى برهان غليون أن “الديمقراطية تستدعي حتماً العلمانيّة، أي حياد الدولة تجاه الأديان جميعاً حتى تضمن المساواة بين مواطنيها كافة. بينما لا تستدعي العلمانيّة الديمقراطية ولا تتضمنها بالضرورة.” وهو ما يوافق عليه جورج طرابيشي فعنده “لا ديمقراطية بلا علمانيّة، لأنه في ظل العلمانيّة فحسب يمكن للمرء أن ينعتق من عقليته، الدينية والطائفية، لكي يفكر وينتخب بالتالي على أساس عقله. الديمقراطية تُرتهَن ليس فقط بصندوق الإقتراع، بل أيضاً وأساساً بصندوق جمجمة الرأس”[6].

في هذا الإطار بالضبط تأتي أهمية تمثل الليبرالية، إذ لا يمكن تفسير تعثر انفتاح مسار الديمقراطية في البلدان العربية (خصوصاً)، دون ملاحظة غياب الدولة فيها. والمقصود دولة المواطنين والمؤسسات والقانون والدستور، وهي ذاتها الدولة الليبرالية المحايدة، بحسب سعيد زيداني[7]، التي تكفل لمواطنيها الحرية والمساواة أمام القانون، والفصل بين السلطات، وهي سابقة على الدولة الديمقراطية، وتشكل الشرط اللازم لقيامها، كما سبق أن ذكرنا. ومنعاً للالتباس هنا فقد يجدر التنويه إلى أن الليبرالية ليست مذهباً جامداً، أو محدداً، وأنه ينبغي التمييز بين الليبرالية السياسية، أي المتعلقة بضمان الحريات السياسية والفكرية وحقوق الإنسان والمساواة أمام القانون وإزاء الدولة، والليبرالية الاقتصادية، التي هي موضع نقاش أو موضع عدم إجماع.

أخيراً، تبقّت إشكالية تتعلق بالتاريخ، أو بكيفية تشكل الدولة عبر التاريخ، لتفسير تعثّر تمثّل الديمقراطية والليبرالية في بلداننا، بالإضافة إلى كل ما تحدثنا عنه. هكذا، ففي حين نشأت الدولة عندنا، على الأغلب، بصورة مشوهة، في رحم الحقبة الاستعمارية، بوساطة الجيش، أو بواسطة القبيلة، والجهاز البيروقراطي، وعلى قاعدة وصائية وزبونية وتسلطية. وفي حين أنها لم تنشأ بواسطة التطورات الطبيعية السياسية والاقتصادية والمجتمعية؛ ما أدى إلى إقصاء المجتمع، وتهميش الفرد، وتحويل جهاز الدولة إلى مجرد جهاز للسلطة والسيطرة والتحكم. في مقابل كل ذلك نشأت الدول الأوروبية الحديثة، بواسطة البرجوازية، وعلى قاعدة الضرائب والتمثيل والمساواة أمام القانون، وبدفع من الثورة الصناعية، والتطورات في مجال العلوم والتكنولوجيا وانتشار التعليم والمعرفة في المجتمع؛ والتي أدت إلى ظهور المدن، ونشوء الأسواق القومية، ونمو الطبقة الوسطى (من المثقفين والمتعلمين)، والمجتمع المدني. وكانت هذه التطورات قد أفضت، في حينه، إلى نشوء دولة مدنية، ودستورية، تكفل حقوق الإنسان، وتحد من السلطة المطلقة، بواسطة الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)؛ وتلك هي الدولة التي أمكن لها التوجه نحو المسار الديمقراطي.

على ذلك يمكن التمييز في التحقيب للأفكار الثقافية والسياسية في أوروبا، حيث جاءت حركات الإصلاح الديني والنزعة العلمانيّة أولاً (في القرن السادس عشر) مع اللوثرية والكالفينية، ثم جاءت حقبة العقلانية متلازمة مع حقبة الليبرالية مع ديكارت وكانط وهيغل، ومع لوك وروسو وستيوارت مل (بين القرن السابع عشر والتاسع عشر)، ثم حقبة الدولة الديمقراطية الليبرالية منذ أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين. هكذا فإن الديمقراطية الليبرالية لم تأت لأوروبا دفعة واحدة، وإنما هي نتاج ثورات في مجال الفكر والثقافة (هي انعكاس للثورات الحاصلة في مجال العلوم والتكنولوجيا وللتحولات المجتمعية والسياسية الدولتية).

ويلاحظ أن أياً من هذه التطورات (الثقافية والاقتصادية والسياسية والدولتية) لم تحصل في البلدان العربية، ما يفسر ضعف توطّن النزعة الليبرالية (الخاصة بحريات الفرد والمجتمع) في الثقافة والمجتمع؛ ما يفسر أيضاً، بين عوامل أخرى، تعثر الديمقراطية، حتى في تلك البلدان التي “تنعم” بالانتخابات وتزخر بالأحزاب (لبنان مثلاً، وحتى في إيران).

هكذا، لا يمكن تأسيس الديمقراطية من دون حامل ليبرالي، أي بدون حمولات تتضمن معنى الحرية، وهذه أيضاً مسألة لم تطرح في التجربة الديمقراطية الأوروبية، لأنها مسألة ناجزة، كونها أسبق من الديمقراطية (أجاز البرلمان الإنجليزي مُسوَّدة حقوق الإنسان عام 1789)، فالديمقراطية ينبغي أن تتأسس أصلاً على الحرية والعقلانية والدولة الدستورية، وعلى فصل السلطات، والمساواة أمام القانون، وتداول السلطة، واحترام حقوق الإنسان والجماعات، من دون أي تمييز ولا لأي سبب.

وإذا كانت النزعة العلمانيّة ثورة على السلطة الكنسية المستبدة والفاسدة  وعلى توظيف الدين في السلطة، فإن النزعة الليبرالية بمثابة ثورة للانعتاق من ربقة السلطات المستبدة، وإعلاء شأن حقوق الإنسان والحريات، أما الديمقراطية فهي ثورة في نظام الحكم وأشكال التمثيل والتعبير والتداول على السلطة وضمان استقرار وتوازن النظام العام، وهي تعبر عن تزايد دور المجتمع في تحديد مجال السلطة.

وربما يمكن القول بأن الليبرالية تهذّب العلمانيّة، كونها لا تذهب نحو الاستبعاد النهائي للدين والمتدينين، وبأنها ترشّد الديمقراطية كونها لا تترك الأغلبية تتحكم بالأقليّة، ولا تعطيها سلطة مطلقة، إذ تفرض عليها احترام الأقليّة والتقيد بالدستور وبالقوانين.

تمثيل الحرية في المجتمعات العربية

عندما قامت الثورات الشعبية، في بعض البلدان العربية، كانت تتوخّى تحقيق الحرية والكرامة والعدالة، لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو أن التخلّص من النظم الاستبدادية شيء وتحقيق المتوخّى شيء آخر. هذا يعني أن النظم التي شكّلت حاجزاً صلباً أمام تطوّر الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي قد ترحل، لكنه يعني، أيضاً، أن الأحوال لن تتغيّر بسهولة أو من دون تعقيدات ومعوقات.

وقد بيّنت التجربة بأن الثورات في العالم العربي تكابد من مشكلة أساسية ستؤثّر كثيراً على مساراتها، ومستقبلها، وهي المتعلقة بالإجابة على معنى الحرية، وهي الشعار الجامع لها وللقوى المنخرطة فيها، لا سيما أن هذه القوى (العلمانيّة أو الدينية أو الوطنية أو اليسارية) كشفت عن ضعف تمثلها لهذا المعنى في إدراكاتها، وفي سلوكياتها السياسية؛ وذلك على رغم ميلها نحو الديمقراطية.

هكذا بتنا، في غضون التجربة المعيشة، في مواجهة مسارين مختلفين ومتمايزين: الأول، يجري فيه التشديد على الديمقراطية، وتشكيل الأحزاب والانتخابات، وتداول السلطة والاحتكام لإرادة الشعب باعتباره مصدراً للسلطة، والثاني يتم فيه الاشتراط على معنى الحرية وحدودها، بالنسبة للمواطن الفرد، بدعوى خضوع الأقليّة للأكثريّة، وبدعوى الحفاظ على الخصوصيات والعصبيات الهوياتية (الدينية أو الإثنية)، لكأن الثورات تناقض نفسها، أو تقيد نفسها.

فالتيار اليساري (الماركسي)، مثلاً، يرى المجتمع تكويناً منمّطاً في طبقات عدّة، فقط، بحسب الموقع من ملكية الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لا باعتباره يتألف من مواطنين أحرار، مختلفين ومتعددين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطبقية، على أساس أن الانتماء الطبقي يحدّد الوعي الطبقي، هكذا بشكل مسبق، ومن دون قراءة للواقع المتعيّن، ومن دون دراسة لمعنى الانقسامات الطبقية في مجتمعات تفتقر إلى ذلك عموماً. فضلاً عن ذلك فإن هذا التيار يعتقد بأن دوره التاريخي يتحدّد في القضاء على الملكية الخاصّة وإقامة المجتمع الاشتراكي، بغض النظر عن ملائمة الظروف والمعطيات والحاجات إلى ذلك من عدمه. وكنا شهدنا النتائج الكارثية للتأميمات الحاصلة في مصر وسورية، على سبيل المثال، والتي قوّضت البنى الجنينية للبرجوازية الصناعية (الوطنية) في مصر وسورية، في حين نشأ بدلاً عنها نوع من برجوازية طفيلية ناشئة في حضن الدولة التأميمية ذاتها؛ التي التهمت السلطة فيها الدولة والمجتمع والموارد. ومعلوم أن ثمة في العقيدة الشيوعية مفهوماً مركزياً ينطوي على عداء للديمقراطية، كما لاحظت ذلك حنة ارندت[8]، وهو يتمثل في فكرة “ديكتاتورية البروليتاريا”، التي شرّعت اختزال الشعب في طبقة ثم في حزب، وبعده في مكتب سياسي أو أمين عام، وكانت بمثابة وصفة لمصادرة الحريات الفردية وسيادة الاستبداد. وهذه الفكرة بالذات، أي الدكتاتورية، والجوع إلى الحرية، لعبت دوراً كبيراً في

انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، على ما رأى زبيغنيو بريجنسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي (عهد كارتر) كان تحدث عن انهيار الاتحاد السوفييتي، في كتابه الشهير (بين عصرين)، الذي صدر قبل عقدين من حدوث ذلك، أي عام 1970.[9] القصد من كل ذلك القول أن مشكلة «اليسار» قديمة، وليست وليدة الثورات العربية، التي ربما كشفته أكثر من أي وقت مضى، في تماهيه مع نظام الاستبداد الأسدي، بدعوى صد المؤامرة الإمبريالية، أو تبييضه صفحة حزب الله، الذي يقاتل السوريين، بدعوى الحفاظ على مقاومة متوقفة منذ 13 عاماً!

ولسنا بحاجة للحديث كثيراً عن التيار القومي، فهذا التيار هو الذي غطى الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، وروج لها، وبرر سياساتها، لا سيما تلك المتعلقة بمصادرة الحريات، وتأخير عملية التنمية، وإعاقة الدولة الوطنية، باعتبارها مجرد دولة قطرية، وكل ذلك بدعوى القضية المركزية، أي قضية فلسطين، والتركز في مواجهة إسرائيل. وبالنتيجة فإن الأنظمة التي تأسست على هذا النحو ليس فقط أجهضت أي محاولة للتكامل والتوحد العربيين وإنما هي لم تفلح حتى في بناء إجماعات وطنية، في مجتمعاتها، إذ إنها عاشت على سياسة “فرق تسد”، بمحافظتها على الانتماءات والعصبيات القبلية، أي العشائرية والطائفية والإثنية، باعتبارها جزءاً من منظومتها للسيطرة، ناهيك عن إعاقتها لإقامة دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، وهذا ما حدث في تجربة البعث في سوريا والعراق وإبان حكم القذافي لليبيا.

ولا يبدو التيار الإسلامي من جهته أحسن حالاً فهو بدوره يقسّم المجتمع على أساس ديني إلى مسلمين وغير مسلمين، أو مؤمنين وغير مؤمنين، ما يقوّض مفهوم الهويّة الوطنية، والمواطنة المدنية والوحدة المجتمعية، التي تفترض المجتمع تعبيراً عن مجموع المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون وإزاء الدولة، كما أنه لا يشرعن الدولة القائمة لإيمانه بالدولة الإسلامية أو دولة الخلافة. وهذا التيار يعتقد بأن حصوله على أكثريّة في الانتخابات، يخوّله أخذ الدولة والمجتمع حيث يريد وفرض الدستور والتشريعات التي تتلاءم مع عقيدته الدينية على الدولة الدنيوية (مع ضمان حق «الملل» الأخرى في فرض شرائعها على أتباعها)، وهذا ينطبق على مناحي التعليم والإعلام. وهذا ما سنأتي عليه بتفصيل أكثر، في مناقشتنا لتجربتي مصر وتونس.

العلمانيون، أيضاً، لايشذّون كثيراً عن هذه القاعدة فلديهم تقسيماتهم ومخاوفهم وهواجسهم، رغم الاعتقاد الرائج أو المفترض بأنهم أقرب ميلاً إلى حرية التفكير والتعبير. ففي حيّز الممارسة يتكشف كثير من هؤلاء، مثلهم مثل قطاعات من اليساريين والمتدينين، عن مستبدين من نوع آخر، إذ يستكثرون على غيرهم الحرية وحتّى الديمقراطية، وقد يصل بعضهم حدّ استمراء الاستبداد السياسي المغلّف بإطارات علمانيّة، كونه يضمن نمط عيشهم، على الديمقراطية التي قد تحرمهم من ذلك (كما يحصل مع كيانات «يساريّة» اليوم). ومعلوم أن العلمانيّة تختلف عن الإلحاد، وهي سليلة ثورات الإصلاح الديني والعقلانية والحد من سلطة رجال الدين ومن تدخلهم في شؤون الدنيا، بإعطاء مالله لله وما لقيصر لقيصر، وعدم تسييس الدين أو تديين السياسة.

قصارى القول، نحن هنا إزاء إشكالية كبيرة وعميقة بشأن معنى الحرية في الثورات العربية تنبثق من عدّة مستويات، بعضها سياسي نابع عن الغياب التاريخي للمشاركة السياسية ولتقاليد العمل السياسي والحزبي، وعن الخضوع لأنظمة استبدادية لقرون. وبعضها اجتماعي- اقتصادي ناجم عن ضعف التمدين وعن تخلّف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية. وبعضها ناجم عن سياسات «الهوية» في هذه المنطقة، التي تعمل على ترسيخ الانقسامات العمودية (الدينية والإثنية)، وإضعاف مسارات الاندماج المجتمعي في البلدان العربية، وتغييب المواطن الفرد.

ثمة أيضاً أن الثورات الحاصلة هي الأولى من نوعها في تاريخ المجتمعات العربية، وأن هذه المجتمعات تتوخّى الدخول مباشرة في الثورة الديمقراطية، على خلاف التجربة الأوروبية، أي من دون المرور في ثورة العلمنة وتحرير العقل، ومن دون الدخول في الثورات الليبرالية التي أدّت إلى تحرير الفرد بوصفه قيمة عليا وإلى اعتبار المواطن الوحدة الأساسية في المجتمع، بعيداً عن أي تنميطات أو انتماءات أخرى (على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو الوضع الطبقي)؛ وهما أمران لا يبدو أن بمقدور الثورات الراهنة تحقيقهما في ظل هيمنة سياسات الهوية والتنميطات الجمعية العمودية.

وإذا كان يمكن القول بأن الثورات التحريرية («الليبرالية») في أوروبا استوعبت أو هضمت العلمانيّة، أو هذبتها، فإن فكرتي الحرية والمواطنة الفردية/المدنية لم يكن بالإمكان هضمهما أو تجاوزهما في الديمقراطية، التي تتعلق بكيفية تنظيم العلاقات وإدارتها في المجتمع وبين المجتمع والدولة، إلا من خلال الديمقراطية الدستورية، أو من خلال ما بات يعرف بالديمقراطية الليبرالية، لأن الحمولات الليبرالية هي التي ترشّد الديمقراطية وتضبطها بحيث لا تتحوّل إلى نوع جديد من استبداد أكثريّة، برلمانية أو تصويتية (دينية أو إثنية أو عرقية) بأقليّة، وبحيث يتم ضمان حريات المواطنين الأفراد، ومساواتهم أمام القانون بصفتهم المدنية.

هذا يعني أن الديمقراطية في البلدان العربية ستبقى ناقصة ومشوّهة، وقد تنطوي على ما يثير المخاوف، إذا لم تتطعّم بحمولات ليبرالية، تتعلق بالحرية والمواطنة وإعلاء شأن الإنسان الفرد، وضمن ذلك ضمان حقه في الاختيار والمساواة وتكافؤ الفرص.

على أي حال يجدر بنا التذكير هنا بأن إشكالية الديمقراطية والليبرالية هي إشكالية خاصّة بأوضاعنا، على خلاف التجربة الأوروبية التي عرفت حقبة الإصلاح الديني والنزعة العلمانيّة أولاً، ثم حقبة العقلانيّة متلازمة مع حقبة الليبرالية، ثم حقبة الدولة الديمقراطية الليبرالية؛ وهذا بعض ما يفسّر إجماعاتنا على قضية الديمقراطية وإنقساماتنا من حول قضية الحرية.

بين الشرعيتين الثورية والديمقراطية

طرحت الثورات العربية إشكالية العلاقة بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية، وهي مسألة جدّ قديمة ومعقّدة، فضلاً عن أنها تنطوي على التباسات وتوظيفات مختلفة. فبصرف النظر عن موقف التيار الإسلامي من الدولة المدنية، وضمن ذلك مسألة مصدر السلطة، والقوانين الوضعية، والشبهات التي تحوم من حول اعتباره الديمقراطية، وضمنها الانتخابات، مجرّد سلّم، أو جسر للعبور إلى السلطة، وانتهى، فإن موقف التيارات الأخرى من الديمقراطية لا يخلو كذلك من الالتباسات والشبهات. فمنذ عقود، ثمة نوع من التوتّر المتبادل بين دعاة الحرية («الليبراليين») من جهة، والديمقراطيين من جهة أخرى. فالتحرّريون أو الليبراليون، الذين يقفون مع المساواة في الحقوق والحريات بين المواطنين، يرون أن ثمة في الديمقراطية نوعاً من اللامساواة في توزيع المنافع، لأنها في ذلك تساوي بين غير المتساوين، وتحدّ من الإبداع بالتالي من تأمين الفرص؛ ما يقلل قيمة العدالة الحقيقية فيها لمصلحة عدالة شكلية. وإضافة إلى ذلك، يرى هؤلاء أن الديمقراطية ربّما تتضمّن، أيضاً، نوعاً من فرض ديكتاتورية الأكثريّة على الأقليّة، ما قد يؤدي إلى سلب الأقليّة حريّتها.

ويطرح باسكال سلان، في كتابه عن الليبرالية[10]، هذه الإشكالية من خلال فكرته الافتراضية عن وجود قرية تتألف من 100 فرد، وقد تشكلت فيها غالبية من 51 لصاً تحاول سلب الـ49 الآخرين أموالهم، لمجرّد كونهم يشكلون غالبية تريد ذلك. وعلى أي حال، فقد أدّت هذه التساؤلات والشبهات إلى تحصين العملية الديمقراطية من خلال تحميلها بمضامين ليبرالية، تتعلق بتحصين حقوق الأفراد السياسية واعتبار حرية الفرد وخصوصيته وكرامته بمثابة قيمة عليا، يتم النصّ عليها في الدستور. لكن مصدر الاحتجاج الأقوى على الديمقراطية لا يأتي من «الليبراليين» وإنما من «اليساريين»، لا سيما من الذين يتبنّون النظرية الماركسية- اللينينية، التي ترفض الديمقراطية، أصلاً، لأنها ترى في البرلمانات مجرّد نواد للسفسطة الفارغة، في حين أن لعبة السلطة في مكان آخر، ولأنها تعتبرها، أيضاً، مجرّد عملية أداتية تتلاعب البرجوازية من خلالها بالمجتمع وتعزّز سيطرتها عليه. معلوم أن هذه النظرية تتأسّس على فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا»، التي تتناقض مع مبدأ الديمقراطية للجميع، وتداول السلطة، والتي ترتكز على الصراع الطبقي، لا التعايش الطبقي، وعلى الاستيلاء على السلطة بالعنف لا بوسيلة الانتخابات، وكذا على سيطرة الحزب الواحد، بدل التعددية الحزبية وتداول السلطة. وفي حيّز التجربة التاريخية للأحزاب الشيوعية تم التعامل مع الديمقراطية أحياناً باعتبارها مجرد وسيلة للصراع السياسي، وليست وسيلة لحسم التوازنات وضبط الصراعات في المجتمع.

عموماً تم تأصيل ذلك في وجهات النظر التي سطّرها ماركس وانغلز انطلاقاً من تجربة كومونة باريس (1871)، التي أثاروا فيها الشبهات حول الجمعية الوطنية المنتخبة باعتبارها أداة في يد الثورة المضادة من ناحية، والتي أخذوا فيها على البروليتاريا الفرنسية عدم استعدادها الكافي لأخذ السلطة بقوة السلاح. وقد دعمت وجهات النظر هذه، فيما بعد، بكتابات لينين، المتعلقة برهن المشاركة في مجالس الدوما، باللحظة السياسية، وموازين القوى، مع التحفّظ على التعويل على النضال البرلماني والديمقراطي الذي وُصِم بأنه أداة للبرجوازية ليس إلا.

 وفي المحصلة، فإن تجربة الثورة الاشتراكية في روسيا (1917) انحازت إلى فكرة الشرعية الثورية بدل الشرعية الديمقراطية، بحل الجمعية التأسيسية المنتخبة باعتبارها مجرد جهاز للسلطة البرجوازية القديمة وأداة للثورة المضادة، وذلك لمصلحة لجان العمال، وتشكيلات الحزب الشيوعي. اللافت أن فكرة «الشرعية الثورية» لم تبق حكراً على التيارات اليسارية، إذ استهوت أيضاً النظم التي اعتبرت نفسها أنظمة ثورية ديمقراطية، وكذلك حركات التحرّر الوطني التي باتت هذه الفكرة جزءاً من ثقافتها السياسية، بتأثير من هيمنة التيارات اليسارية والمنظومة الشيوعية السابقة… علماً أن تلك الدول قامت أساساً من طريق الانقلابات العسكرية، فيما الحركات الوطنية هي بمجملها حركات مسلحة، تعتمد العنف لفرض ذاتها في المعادلات السياسية، سواء على السلطات المحتلة، أو في مجتمعها، وهذه أمور حصلت في التجارب العربية، في الجزائر وفلسطين ولبنان والعراق.

فوق كل ذلك، ينبغي الاعتراف بأن واحدة من أهم مشكلات الديمقراطية إنما تكمن باختزالها في مجرّد انتخابات، وهذه تخضع في البلدان النامية كـ«بلداننا» إلى محدّدات القوة والسيطرة، بوسائل المال والدين والقوة العسكرية ودرجة النفوذ السياسي التي قد تفرّغ العملية الديمقراطية من مضمونها؛ كما أظهرت بعض التجارب.

عموماً، فقد سهّل على وجهات النظر السابقة أن نتائج تطبيقات الديمقراطية لم تكن كلها مرضية، لا سيما وقد نجم عنها، مثلاً، صعود كل من هتلر في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا. وفي العراق فقد نجم عن «نقل» الديمقراطية بطريقة قسرية وعنفية وخارجية كسر المجتمع العراقي، وصعود الهويات الدينية والإثنية والعشائرية فيه، وصولاً إلى تحكم المالكي بالعراق، وتحوله إلى سلطة استبدادية جديدة، مدعومة من القوى الطائفية، ومن إيران. وها نحن إزاء مصر وقد وُضع المصريون، بعد ثورة يناير (2011)، في أول انتخابات رئاسية (2012) في مواجهة خيارين صعبين، إما أحمد شفيق وما يمثله من استمرار للعهد السابق الذي أُسقِط بالثورة، وإما محمد مرسي مع ما يمثله من صعود لتيار الإسلام السياسي، في وضع قد لا يكون الوضع فيه مناسباً للإخوان، أو مقبولاً من الآخرين؛ كما حصل.

ولكن مع كل المشكلات التي تعطّل معنى الديمقراطية، فإن ما يسمى الشرعية الثورية ليست أحسن حالاً، لأنه باسم هذه الشرعية هيمن الاستبداد، وسادت عبادة الفرد، وباسمها جرى تهميش الشعوب التي باتت مجرد كتلة صماء تهتف للقائد الملهم. فوق ذلك، فإن الشرعية الثورية تصبح غاية في ذاتها، فهي فوق الدولة والقانون، وفوق حريات المواطنين، وهي المرجعية السياسية والأخلاقية. هكذا فإن الديمقراطية الدستورية، المقترنة بضمانات الحرية والحقوق السياسية المتساوية لمجموع المواطنين، هي الحل، على رغم مشكلاتها ونواقصها، فهي الصيغة التي توصل إليها العقل البشري عبر تجربته التاريخية لحل الخلافات وضمان سلام التعايش السلمي والإيجابي بين المختلفين. أما المشكلة كما تبدّت في التجربة المصرية فهي نتاج غياب السياسة والتعددية الحزبية، ونتاج ضعف التفاعلات السياسية والخبرة الشخصية، فضلاً عن أنها الانتخابات الأولى من نوعها في تاريخ المصريين، وسيكون لها ما بعدها.

 الديمقراطية واختباراتها بعد الثوراتبناء على ما تقدم يمكن أخذ تجربتي مصر وتونس لملاحظة الإشكاليات التي تمخضت عنها هاتان التجربتان، لا سيما في شأن مسألة الدستور، وقضية الحرية والمواطنة، أو بما يخص قضية الانتخابات والشرعية. مع ملاحظة أن هذه أول تجربة، في مصر وتونس، يتم فيها صوغ الدستور وفقاً لإرادة شعبية، وأول مرة تجري فيها الانتخابات، في حرية وشفافية ورقابة شعبية. مع ذلك ثمة شبهات، أو نواقص، أحاطت بهذه التجربة، إذ لم يتم التمهيد للدستور أو للانتخابات بفترة زمنية مناسبة، تتيح إنشاء أحزاب جديدة، أو تمكن التيارات والأحزاب الموجودة من عرض وجهات نظرها وبرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوساط الشعب. أيضًا لم تجر المعركة الانتخابية بالنسبة للجميع على قدم المساواة بالنسبة لتمويل الحملات الانتخابية، أو بالنسبة للظهور في وسائل الإعلام. فوق ذلك فإن هذه الانتخابات جرت في مناخات يشوبها العطف على التيارات الإسلامية، التي اضطهدت وحرمت من السياسة في بعض البلدان، بخاصة وأن هذه التيارات لم تجرَّب تماماً في الحكم ولم تُختبر في كيفية إدارتها للمجتمع وحاجاته المعيشية.

وعلى أي حال نحن هنا، في مصر وتونس، إزاء تجربتين متقاربتين ومتباينتين، في ذات الوقت، إذ استطاع التيار الإسلامي في كل منهما، المتمثل بـ”الإخوان المسلمين” في مصر وحركة “النهضة” في تونس، من حصد الأغلبية في الانتخابات، والوصول إلى السلطة. وفي كلا البلدين لاقى صعود التيار الإسلامي مخاوف التيارات الأخرى، وواجه تحركات شعبية معارضة، على خلفية الدستور، وعلى خلفية مفهوم الحرية والديمقراطية. لكن التباين في هاتين التجربتين ناجم عن ذهاب الإخوان المسلمين في مصر نحو التفرد بالسلطة، وبصوغ الدستور، واستعداء التيارات الأخرى عليهم، في حين ذهبت حركة النهضة منذ البداية نحو خيار التعاون مع التيارات الأخرى في تشكيل الحكومة وتقاسم السلطات، وفي التوصل إلى صوغ دستور جامع. هكذا كانت النتيجة انهيار حكم “الإخوان” في مصر،  ونجاح حركة “النهضة” في التعبير عن ذاتها كتيار إسلامي أكثر نضجاً في فهم الواقع والعصر والعالم. وبصدد المقاربة بين التجربتين يقول ياسر الزعاترة: “ما من شك أن إدارة المشهد في تونس من قبل حركة النهضة كانت مختلفة عنها في مصر، وكانت أكثر حنكة وذكاء.. النقطة الأهم التي يمكن أن نحسبها للنهضة في تونس هي أنها مالت إلى التوافق مع القوى الأخرى ما أمكنها ذلك، وقامت بتشكيل حكومة ائتلافية بعد الثورة.. النقطة الغائبة في هذا السياق، والتي لا يعترف بها الإخوان، بل مرسي على وجه التحديد، هي أن معظم الخطوات التي اتخذها من الناحية العملية طوال الوقت إنما كانت لاسترضاء الجيش من أجل تحييده، فيما كان جنرالاته يجرجرونه نحو النهاية المدروسة.. من العسير مواجهة الدولة العميقة بقضائها وأمنها وجيشها من دون إجماع شعبي، وكان الأولى هو تشكيل حكومة ثورية من رموز أكثرهم من المعارضة، وبحضور إخواني محدود، ومن ثم خوض المعركة مع الدولة العميقة، وحلفائها من رجال الأعمال الفاسدين، وفلول النظام السابق” (عن الفارق بين تجربتي تونس ومصر، الجزيرة نت 29/1/2013)[11].

 ومع عدم اغفالنا لحجم الهجمة التي تعرض لها نظام الرئيس مرسي في مصر، وضمنه من قيادة الجيش المصري الذي أراد أخذ السلطة، إلا أن أخطاء الإخوان لعبت دوراً كبيراً في عزلهم، بنوع من رغبة شعبية بإزاحتهم. ومفهوم أن مصدر العناد في موقف الإخوان المسلمين آنذاك أنهم جاؤوا إلى الحكم بواسطة الانتخابات وأن لديهم الشرعية الشعبية والانتخابية التي تخولهم فرض برنامجهم، وضمنه صوغ الدستور وسن القوانين. وفي الواقع فإن “الإخوان” ضمن نشوتهم بالوصول إلى السلطة لم يتبصّروا على نحو جيد بالقوة التصويتية المقدرة لهم، بالقياس لأغلبية المصريين (10ـ13 مليون من 52 مليوناً أصحاب حق الإقتراع)؛ وهذا ما سنعود إلى شرحه لاحقاً. إضافة إلى ذلك فهم لم ينتبهوا إلى أهمية الاستحواذ على رضى المصريين الآخرين في هذه المرحلة الانتقالية، ناهيك عن عدم إدراكهم لآلية عمل الدولة، وحقيقة موازين القوى فيها، وضعف قدرتهم على مواجهتها، وهذا لا يقتصر على الجيش وقوى الأمن، وإنما يشمل مؤسسات الأزهر والقضاء والإعلام والفنانين.

وقد اعتبر الإعلامي المعروف أحمد منصور، وهو مقرب من التيار الإسلامي، “أن اختيار مرسي للمنصب كان خطاً كبيراً.. لأن الرجل لا يملك المقومات الرئيسة لرجل الدولة”. ولأن مرسي “وجد نفسه في مكان لم يعدّ نفسه له ولم يفكر فيه فخُدع بمظاهر السلطة ولم يتمكن من أدواتها أو أن يدخل إلى جوهرها. وأنه “حكم الدولة بعقلية رجل الحزب والجماعة وجمع حوله فريقاً لا يتمتع بكفاءة إدارة الدولة”. (“المصري اليوم” 6/7/2013).[12] وفي السياق ذاته، أيضاً، رأى فهمي هويدي، الكاتب والمفكر الإسلامي، أن “الرئيس مرسي ارتكب الكثير من الأخطاء.. مما أعطى الفرصة لمعارضيه أن يستثمروا تلك الأخطاء لحشد الشارع المصري ضده، مؤكداً أن جماعة الإخوان المسلمين لم تفرق بين إدارة جماعة وإدارة دولة بحجم مصر. وأنه على التيارات والقوى الإسلامية أن تراجع نفسها مرة أخرى، وأن تعالج أخطاءها التي وقعت فيها في هذه الفترة وتعمل على البناء من خلال الشارع المصري، وتستعد للانتخابات البرلمانية القادمة بمستوى أحسن مما كانوا عليه في الماضي كما حدث في التجربة التركية؛ لأن من بين صفوف هذا التيار جيل حديث يستطيع أن يتقدم إلى الأمام وأن يعمل لصالح هذا الوطن.” (في موقع بوابة “الأهرام” وجريدة “الشروق”، 12/7/2013).[13]

هكذا، وعدا عن تدخل الجيش، واستعدائهم التيارات الأخرى، وأخطائهم في الحكم، ثمة مشكلة في فهم “الإخوان” للديمقراطية، ولمعنى الدستور، والمواطنة، والحريات، وهي للإنصاف مشكلة تشمل مجمل التيارات المدنية، اليسارية والليبرالية والعلمانيّة والقومية الأخرى، أيضاً. والمعنى أن “الإخوان” يتحملون المسؤولية عما جرى كونهم تبوؤوا السلطة، عبر الانتخابات، في مصر (كما تونس)، بتصرّفهم كأن المجتمع ملك أيديهم لمجرد رفعهم راية الإسلام، وظنّهم أن طابعهم الديني يحميهم من النقد والمساءلة والمحاسبة، الأمر الذي أغراهم بعدم الالتفات للقوى الأخرى، والتسرّع في محاولاتهم بسط هيمنتهم على الدولة والمجتمع، ما أوقعهم في مشكلات عديدة، وأسهم في تراجع شعبيتهم.

 ولعله من المفيد، في هذا الإطار، تفحّص التجربة المصرية من وجهة نظر خبرة التيار الإسلامي في تونس، أيضاً. فبحسب الشيخ عبد الفتاح مورو، وهو نائب رئيس حركة النهضة، فإن “الإخوان” في مصر، “لم يحسنوا التعامل مع المرحلة، وتصوروا أن الدولة بأيديهم، وما غاب عنهم أن الدولة بأيدي الدولة العميقة.. حين يكون لدينا تقاليد فى أي دولة، لا يمكن تغييرها في يوم أو شهر أو عام.. اليوم المرحلة ليست مرحلة مغالبة بل وئام ومشاركة، وما هو موضوع على الطاولة لننفذه أكبر من قدرات أي شخص منا، ولن نخسر شيئاً إذا خدمنا الشعب، والقضية ليست قضية الحكم، ماذا يعني الحكم إن لم يكن خدمة الشعب؟ والسؤال الأهم هل يحتاج المجتمع المصري أو التونسي إلى أسلمة؟ لا.. نحن مسلمون منذ مدة وإسلامنا قائم فى عقائدنا أو سلوكياتنا.. بعد الثورة خرج المشايخ بلحاهم الطويلة يطلبون تطبيق الشريعة.. يتصورون أن الشريعة لحية طويلة وحجاب امرأة.. أهم شيء فى الشريعة هو حق المواطن فى اختيار حاكمه، وعندما نحقق للشعوب حريتها وكرامتها ويصبح الإنسان محترماً هنا يكمن تطبيق الشريعة” (اليوم السابع، 17/2/2014).[14] اللافت أن الشيخ مورو لا يقف عند هذا الحد في نقده الجريء للتيارات الإسلامية، بل إنه يذهب إلى حد المطالبة بمراجعة شعار الإخوان “الأثير”: “الإسلام هو الحل”، الذي يرى أنه لا يقدم ولا يؤخّر، لأنه يحمّل الإسلام كدين فوق طاقته، ولأن المجتمعات تريد حلولاً لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. (برنامج “شاهد على العصر”، في تلفزيون الجزيرة، 19/3/2014).[15]

حدود الشرعية الانتخابية

الآن، وكي نتبين حجم الخطأ الذي اقترفه الإخوان في مصر، بحق أنفسهم، وبحق التجربة الديمقراطية، يمكننا العودة إلى الاحصائيات الانتخابية، مع تأكيدنا أن الديمقراطية لا تختزل ولا تتوقف على الانتخابات، وأن الأكثريّة الفائزة في صناديق الإقتراع يحق لها أن تحكم، لا أن تأخذ المجتمع بحسب ما تريد، لأن القيم المؤسسة للديمقراطية، كما ينص عليها الدستور، أو العقد الاجتماعي، أعلى من العملية الانتخابية. أي أن فوز أكثريّة ما في ظرف ما لا يبيح له مصادرة أو تقييد الحرية والمساواة والمواطنة، أو صوغها حسب مصالحه أو أيديولوجيته.

مع ذلك فإن الاحصاءات لا تخدم “الإخوان” وتؤكد التسرع أو التهور أو ضعف الخبرة الذي وسم تجربتهم في الحكم، ما شجع التيارات الأخرى على تأليب قطاعات واسعة من المصريين عليهم، للتشكيك في حكمهم وإضعافهم وعزلهم. فبحسب الجهات الرسمية المصرية[16] فإن عدد أصحاب حق الإقتراع في الانتخابات الرئاسية الأولى (أيار (مايو) 2012) بلغ 51 مليوناً، قام 24 مليوناً منهم، في المرحلة الأولى، بالإدلاء بأصواتهم في صناديق الإقتراع، أي ما نسبته 47% من مجموع من يحق لهم الانتخاب، وهذا يشكّل أقل من نصف عدد الناخبين، أما عدد الأصوات التي نالها المرشح (حينها) محمد مرسي فبلغت قرابة ستة ملايين صوت، في حين فاز أحمد شفيق بحوالي خمسة ملايين ونصف، وحمدين الصباحي بقرابة خمسة ملايين صوت، وعبد المنعم أبو الفتوح بأربعة ملايين صوت. أي أن مرشح “الإخوان” حاز على خمس أصوات الناخبين، وحوالي 10% من أصوات الذين يحق لهم الانتخاب.

أما في الانتخابات الرئاسية الثانية[17] أو جولة الإعادة حزيران (يونيو) 2012، والتي انحصرت بين أعلى مرشحين حازا أعلى قدر من الأصوات (مرسي وشفيق)، فقد أدلى فيها حوالي 26 مليون مصري بأصواتهم، أي 52% من أصحاب حق الإقتراع، وقد نتج عنها فوز الرئيس مرسي على شفيق بفارق ضئيل، إذ حاز على 13.250 مليون صوت (51%)، في حين حاز شفيق على 12.300 مليون (49%). أي أننا في الحالين إزاء عدد من ستة ملايين أو 13 مليوناً، منحوا مرشح الإخوان أصواتهم، من أصل 51 مليون من أصحاب حق الإقتراع، وهذا أقل بكثير من 50% من أصحاب حق الإقتراع.

ومن مقارنة الأصوات التي حصل عليها مرسي في المرحلة الثانية مع الأصوات التي نالها في المرحلة الأولى، يتبين أنه فاز على شفيق بالأصوات التي نالها من القوى المدنية، التي فضّلته على شفيق، باعتباره جزءاً من النظام السابق. وفي كل الأحوال، فحتى لو افترضنا أن كل الأصوات التي صبّت لمرشح حزب “مصر القوية”، التي يتزعمها الإسلامي المعتدل عبد المنعم أبو الفتوح ذهبت إلى مرسي، فإنه ما كان يمكن أن يفوز على شفيق لأن أقصى قوة تصويتيّة كان يمكن جمعها لن تتجاوز 10 ملايين صوت، أو أزيد قليلاً. والمعنى أن القوة التصويتيّة للإخوان، أو لتيار الإسلام السياسي في مصر تشكل حوالي 20% من أصحاب حق الإقتراع، أو حوالي 40% من الذين مارسوا حقهم في الإقتراع.

حتى في التصويت على الدستور (كانون الأول (ديسمبر) 2012)[18] فمن أصل حوالي 52 مليوناً يحق لهم التصويت، أدلى حوالي 17 مليوناً منهم فقط بأصواتهم، أي أقل من ثلث أصحاب هذا الحق (33%)، في تراجع عن المشاركة، بالقياس لحجم المشاركين في الانتخابات الرئاسية. وقد صوّت حوالي 10.7 مليون بنعم، وهذا ما نسبته حوالي 63%، مقابل حوالي 6 ملايين صوتوا بلا، وهنا أيضاً فإن نسبة المصوتين بنعم للدستور تشكل حوالي 20% من أصحاب حق التصويت.

أما في الانتخابات البرلمانية (كانون الأول (ديسمبر)2011)[19] فإن قائمة حزب “الحرية والعدالة” (المنبثق عن الإخوان) كانت قد حازت على عشرة ملايين صوت لوحدها، مايعني أن الإخوان خسروا، في الانتخابات الرئاسية، جزءاً كبيراً من القوة التصويتيّة، التي حازوا عليها، وأن جزءاً من المصريين انصرف عنهم، بعد تراجع زخمهم، ونتيجة ما نسب إليهم من السعي للتنسيق مع المجلس العسكري، والتصرّف بطريقة فوقية مع القوى الأخرى. ويبدو أن ذلك التراجع في شعبية “الإخوان” في مصر تزايد بعد وصولهم إلى الحكم، كونهم باتوا في إطار المساءلة والمحاسبة، بعد عام من وجودهم في السلطة، وللأسباب التي سبق أن ذكرناها.

ليس القصد من إيراد هذه الاحصائيات تبرير الحسم، بقدر ما يتعلق بتوضيح حالة الفوران والجيشان والسيولة التي عاشها الشعب المصري في هذه المرحلة الانتقالية التي وجد نفسه فيها، وقد بات في خضم السياسة، ومسؤولاً عن تقرير مصيره، لأول مرة في التاريخ.

وكما قدمنا فإن التجربة التونسية تضمنت أيضاً اضطرابات حامية، وتوترات كبيرة في علاقة التيارين الإسلامي والعلماني، أو الديني والمدني، لكن حركة النهضة تعاملت مع هذا الأمر بطريقة أكثر نضجاً، وبانفتاح على التيارات الأخرى، وعلى مفاهيمهم.

في هذا الإطار يقول رفيق عبد السلام (وزير الخارجية السابق ومن قادة حركة النهضة): “ليست تجربة الإسلاميين في الحكم مبرأة من الهفوات والأخطاء التي يتوجب تقييمها بعقول وقلوب مفتوحة بعيداً عن آفتي التهوين والتهويل.. لا شك أن الإسلاميين الذين صعدوا إلى سدة الحكم ارتكبوا أخطاء ناتجة في معظمها عن قلة الخبرة بإدارة شؤون الحكم، ولعل أكبر الأخطاء تتمثل في التردد وعدم حسم الأمور والخيارات سواء باتجاه عقد تسوية مع النظام القديم الماسك بأدوات السلطة على نحو ما فعل نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، أو الذهاب في خيار الثورة إلى نهايته وإقحام الشعب في المعركة على نحو ما جرى في أغلب الثورات الجذرية في عصرنا الحديث.. ولعل الخلل الأكبر يتمثل في العجز عن نسج تحالفات قوية على الصعيدين المحلي والخارجي، بما جعل الثورات العربية تتحرك من دون غطاء أو حماية حقيقية.” (“تأملات في ثورات الربيع العربي”، الجزيرة نت 15/1/2014).[20]

معلوم أن حركة النهضة خاضت تجربة مختلفة، كما قدمنا، فهي منذ البداية لم تشكل حكومة لوحدها، وإنما ذهبت نحو تشكيل حكومة ائتلافية مع شركاء آخرين، وعندما وجدت ذاتها في وضع حرج قبلت بتغيير الحكومة، ثم تنازلت عن ذلك لصالح تشكيل حكومة انتقالية محايدة، وهو ما تم نتيجة نزول الحركة عند رغبة القوى الأخرى، ونتيجة للضغوطات الشعبية، ولفهمها لمسألة الإجماع الوطني، على خلاف التجربة المؤسفة في مصر.

أما بالنسبة للدستور فقد أبدت “النهضة” تكيفاً أكبر مع واقع تونس ومع متطلبات العصر، وأبدت رغبة مدهشة في التوصل إلى دستور يحظى بإجماع ورضى مختلف الأطراف، بحيث توّج هذا المسار بصوغ دستور يؤكد على الديمقراطية والدولة المدنية وحرية المعتقد والضمير، اعتبره الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة “أعظم دساتير العالم”.[21] يقول الغنوشي: “دستور الثورة، دستور الوفاق، دستور لا غالب ولا مغلوب.. هذه الوثيقة.. أسست للحرية مطلب الإسلام الأسمى.. في الديمقراطيات المستقرة يكفي حزباً ليحكم الحصول على الأغلبية المطلقة 50+1، أما في الأوضاع الانتقالية مثل التي حال دول “الربيع العربي”، فإن ذلك غير كافٍ، بل المطلوب ليس فقط أغلبية واسعة تصل إلى الثلثين وتقترب من الإجماع، وإنما تنوع تلك الأغلبية وتمثيلها لأهم التيارات السياسية والفكرية.. تونس اليوم تؤكد.. أن الخطر على الديمقراطية، وعلى الأمن والاستقرار هو الاستبداد، والفساد، واحتكار السلطة.. تونس اليوم تقول للعالم والأصدقاء.. إنه لا تعارض بين الإسلام والديمقراطية، وإن الإسلاميين يقفون في مقدمة القوى المدافعة عن حق الاختلاف والتنوع الثقافي والتعددية السياسية، وحرية الضمير، وحقوق المرأة، وكل القيم الكونية التي تؤسس مجتمع الحرية والعدالة والتنمية.. أردنا دستوراً لجميع التونسيين، يحفظ حقوقهم وحرياتهم الأساسية ويؤسس لدولة القانون والمواطنة والمساواة.. نعتقد أن حزبنا له حظوظ كبيرة في الانتخابات القادمة، ولكن مع هذا فإننا نعتقد أن البلاد لا يمكن أن تحكم بتيار أو حزب واحد.. هذا هو الدرس التونسي، درس تونس الدولة الصغيرة برقعتها الجغرافية ومواردها الطبيعية، الكبيرة بشعبها المحب للحرية والديمقراطية والسلام.” (من نص كلمة ألقاها راشد الغنوشي في مركز كارنجي للدراسات بواشنطن، 26/2/2014).[22]

هكذا، فإن التجربتين المصرية والتونسية تؤكدان قابلية التيارات الإسلامية (والعلمانيّة أيضاً)، لهضم مسائل الديمقراطية والدولة المدنية والمواطنة والحريات باعتبار ذلك جزءاً من الصراع على الوعي السياسي والثقافي، للتكيف مع الواقع والعصر والعالم. كما تؤكدان زيف الفكرة التي روّجتها النظم الاستبدادية والتي مفادها أن ثمة شيئاً جوهرياً في الإسلام يميل إلى العنف، ونبذ الديمقراطية.

الهوامش:

[*] كاتب وباحث فلسطيني، مقيم في واشنطن.

[1] تقارير «التنمية الإنسانية العربية»، إصدار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وقد صدرت تباعاً في النصف الأول من العقد الماضي (2002-2009)، وشاركت في إعدادها نخبة من الأكاديميين والمثقفين والباحثين العرب، في السياسة والثقافة والمجتمع والاقتصاد، وصدر منها خمسة تقارير حول الفرص، والمعرفة، والحرية، والمرأة، والأمن.

[2] محمد علاء عبد المولى، “إشكاليات الديمقراطية كما يراها جورج طرابيشي”، “الأوان”، 3/7/2007.

[3] كان د. خلدون النقيب قد خصص كتاباً عن هذا الأمر، عنوانه: “الدولة التسلطية في المشرق العربي”، (مركز دراسات الوحدة العربيةـ بيروت 1996). في حين قام د. برهان غليون، بوضع كتاب عنوانه: “المحنة العربية. الدولة ضد الأمة” (مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1993).

[4] راجع، مثلاً، وسام منى: “بانوراما المشهد الانتخابي في محافظات مصر: خطاب ديني.. مال سياسي.. وعصبيات محلية”، “السفير”، 18/11/2011. أيضاً، “مخاوف من تأثير “المال السياسي” في الانتخابات المصرية، “الحياة”، 15/11/2011.

[5] مشروع “نشر الديمقراطية” في البلدان العربية طرحته إدارة بوش (الابن) عام 2003، وبعدها بات جزءاً من مشروع “الشرق الأوسط الكبير”. لمزيد من الاطلاع حول هذا المشروع يمكن مراجعة كتابي: “الشرق الأوسط الكبير، مشروع الشرق الأوسط الكبير.. دلالته وإشكالاته”، إصدار “مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية”، أبو ظبي 2007.

[6] هاشم صالح: “هرطقات جورج طرابيشي”، “الحوار المتمدن”-العدد: 2748، 24/8/2009.

[7] الليبرالية المحايدة، بحسب سعيد زيداني: ضمن حوارات أجرتها جريدة البيان حول ثورات “الربيع العربي”، “البيان”، 21/5/2011.

[8] تجادل حنة ارندت في كتابها: “في الثورة” بأن الماركسية ليست على وفاق مع الديمقراطية وتأخذ عليها أنها لم تول مسألة الحرية الأولوية المفترضة (88– 89).

[9] زبيغنيو بريجنسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي (عهد كارتر): “بين عصرين- أمريكا والعصر التكنتروني”، دار الطليعة، لبنان، 1980.

[10] باسكال سلان، “الليبرالية”،  المكتبة الأهلية، الأردن 2010، ص (116-118).

[11] ياسر الزعاترة: “عن الفارق بين تجربتي تونس ومصر”، “الجزيرة نت”، 29/1/2013.

[12] أحمد منصور: ” طوﻓﺎن اﻟﻛراﻫﯾﺔ ﻟﻺﺧوان اﻟﻣﺳﻠﻣﯾن.” “المصري اليوم” 6/7/2013.

[13] فهمي هويدي، “مرسي لن يعود للحكم مرة أخرى..”، موقع بوابة “الأهرام” وجريدة “الشروق”، 12/7/2013.

[14] الشيخ عبد الفتاح مورو، تصريحات في مجلة: “اليوم السابع” المصرية، 17/2/2014.

[15] في البرنامج الحواري “شاهد على العصر”، قناة “الجزيرة”، 19/3/2014. في الرابط:           http://preview.aljazeera.net/programs/pages/d7cd7c05-181c-4a8a-9b76-b664f45ec01f

[16] تقرير اللجنة العليا للانتخابات، في مجلة “اليوم السابع” المصرية، 28/5/2012. في الرابط:  http://www.youm7.com/News.asp?NewsID=690562&#.UzeRLYY71Ao

[17] الانتخابات الرئاسيّة المصريّة 2012، تقرير صادر عن وحدة تحليل السياسات في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات”، 24/7/2012، في الرابط:           http://www.dohainstitute.org/release/b8576869-81e1-40dd-bac9-fbc563933e68

[18] جريدة الأهرام، 25/12/2012.

[19] تفاصيل عن نتائج الانتخابات البرلمانية، في الأهرام، 21/1/2012، في الرابط:    http://gate.ahram.org.eg/News/162896.aspx

[20] رفيق عبد السلام: “تأملات في ثورات الربيع العربي”، “الجزيرة نت”، 15/1/2014.

[21] راشد الغنوشي: “هذا يوم آخر من أيام تونس”، “الجزيرة نت”، 1/2/2014.

[22] من نص كلمة ألقاها راشد الغنوشي في مركز “كارنجي” للدراسات، في واشنطن، 26 26/2/2014، عن جريدة “الشروق” المصرية، 27/2/2014.