الدعوة لجدول أعمال إسرائيلي جديد

عليّان الهندي·

عقد من 11-14/2/2013 مؤتمر هيرتسليا الثالث عشر في ظل أوضاع تراها إسرائيل صعبة عليها، خاصة أنها لا ترى أن التغييرات التي تمر على الشرق الأوسط مريحة لها. وتسود في إسرائيل حالة من القلق والانتظار والاستعداد بسبب: المشروع النووي الإيراني، وعدم الوضوح المستقبلي في العلاقات الإسرائيلية – العربية، خاصة ما يتعلق باتفاقيات السلام الموقعة مع مصر والأردن، والجمود في المسيرة السلمية مع الفلسطينيين، والانجرار السريع نحو الدولة الواحدة، خاصة إذا تحقق احتمال انهيار السلطة الفلسطينية، وانهيار نظام بشار الأسد ولما لذلك من انعكاسات محلية وإقليمية ودولية على المنطقة والعالم وإسرائيل.

ويعتقد منظمو المؤتمر والمحاضرون أن على إسرائيل اليوم أن لا تقف مكتوفة الأيدي أمام التغييرات في محيطها القريب والبعيد، وعليها أن تعيد تفكيرها الاستراتيجي وتبحث عن فرص لاستغلالها، وفي الوقت نفسه الانتباه إلى التهديدات والمخاطر التي تواجه إسرائيل والاستعداد لمواجهتها.

المؤتمر الحالي رغم عدم تركيزه وللمرة الثالثة على التوالي على القضية الفلسطينية، إلا أنه طالب إسرائيل بالتحرك وعدم الانتظار خاصة أن الوقت لم يعد لصالحها من أجل التقدم بمبادرة ودراسة الخيارات المختلفة الموضوعة أمام الحكومة الإسرائيلية الجديدة في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لأن البديل هو دولة واحدة لشعبين.

وألقيت خلال المؤتمر 224 محاضرة، تناولتها شخصيات إسرائيلية ودولية في مختلف التخصصات العسكرية والأكاديمية والدبلوماسية والاقتصادية وغير ذلك. وكانت المشاركة الدولية لافتة، ربما لرغبة المنظمين في المساعدة على إخراج إسرائيل من العزلة التي تمر بها في المجتمع الدولي. أما المشاركة العربية، فكانت مشاركة محدودة جداً واقتصرت على بعض الشخصيات الفلسطينية من حدود عام 1948 والصحفي الأردني سلامة النماط مراسل جريدة الحياة في واشنطن.

وخلال المؤتمر تم طرح (48) موضوعاً من المواضيع التي تشغل إسرائيل اليوم من أهمها: الحصانة الوطنية، الصهيونية في القرن الواحد والعشرين، استراتيجية اقتصادية جديدة لإسرائيل، تحديد سلم الأوليات في تقليص ميزانية الدولة، إيران والخطوط الحمراء وقت للسيف أم وقت للاتفاق، الحرب الأهلية في سوريا: يوم ما بعد سقوط بشار الأسد، الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية في الشرق الأوسط، وتحديات الأمن القومي الإسرائيلي، الخ.

وقدم خلال المؤتمر (25) ورقة عمل. وكتبت هذه الأوراق باللغتين العبرية والإنجليزية. وتناولت الأوراق المذكورة، المجالات الأمنية والاقتصادية والطاقة والعلاقات الخارجية والثورات العربية والحركات الإسلامية والتعليم وغير ذلك من المواضيع، وأهم هذه الأوراق هي: تقييم هيرتسليا الاستراتيجي الذي تمت صياغته بعد نقاشات كثيرة وشاملة عقدت استعداداً لعقد المؤتمر، والتقرير يلخص ما طرح فيه، وحان الوقت لجدول أعمال إسرائيلي جديد في الشرق الأوسط التي أعدها الجنرال احتياط داني روتشيلد وتومي ستينر، وتأثير اكتشاف الغاز على الاقتصاد الإسرائيلي، ومفهوم الردع في الفكر العربي والإسلامي – تركيا نموذجاً، التي أعدتها مجموعة عمل برئاسة شموئيل بار، التكنولوجيا التي تغير السياسة التي كتبها رامي ليفي، بين المواطن والدولة بقلم عوفيد يحزقيل، وغير ذلك.

وقدم في المؤتمر 37 محاضرة عرض شرائح (Power Point) ركزت في معظمها على الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل ومن أهمها: العنصر الداعم للحصانة الوطنية على ضوء عملية عامود الغيم ضد قطاع غزة التي قدمها البروفيسور غبرائيل بن دافيد وأخرين، تقييم الوضع السياسي التي قدمها مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية السفير رفائيل براك، واحتياجات الاقتصاد والمأزق الاجتماعي التي قدمها شلومو بن موشيه مدير قسم التأهيل المهني في وزارة الصناعة والتجارة. والتعليم والتكنولوجيا –إلى أين وكتبها الباحث ناحوم بلس. وكانت الميزة الأبرز لهذا المؤتمر هي غياب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي اعتبر مشاركته كرئيس وزراء أمر تقليدي منذ عقد المؤتمر الأول قبل 13 عاماً.

وأخيراً لا بد من الإشارة إلى التقييم الاستراتيجي الصادر عن المؤتمر، الذي قام بإعداده طاقم عمل ونورده هنا بالكامل نظراً لأهميته:

التقييم الاستراتيجي

يرى التقييم الحالي الصادر عن مؤتمر هيرتسليا أن إسرائيل ظلت هذا العام قريبة من العواصف الدولية والإقليمية التي ترسم محيطها الاستراتيجي. حيث ركزت الانتخابات الإسرائيلية على الشأن الداخلي المدني والإصلاحات الاقتصادية الحيوية. ورأى التقرير أن الحوار الإسرائيلي الداخلي أمرٌ حيوي لضمان الحصانة الوطنية المستقبلية لإسرائيل. لكن النقاش المدني الاجتماعي لن يحل مكان إدارة حوار جديد لصالح جدول أعمال إقليمي ودولي لإسرائيل، وإستراتيجية أمن شاملة تكون مشمولة فيه.

وتعزز توقعات العام القادم التوجهات المتشائمة. حيث أصبحت إسرائيل عام 2013 أكثر عزلة، وهناك إشارات لبداية انعطاف استراتيجي لأي من هذه التطورات يدفع باتجاه فرض عقوبات على إسرائيل، ما يغير من وضعها الاستراتيجي. وسيشهد العام القادم ثلاثة تغييرات مهمة لرسم المحيط الاستراتيجي لإسرائيل وهي:

1. التقلبات السياسية، الاجتماعية وصعود الإسلام السياسي في الشرق الأوسط.

2. الأزمة الاقتصادية العالمية.

3. تعاظم قوى المجتمع المدني دوليا.

ومن أجل الخروج من العزلة الحالية طالب الجنرال احتياط داني روتشيلد (رئيس المؤتمر الحالي) من الحكومة الجديدة عدم الاهتمام بالشأن المدني-الاجتماعي فقط. بل عليها التركيز على طرح مبادرة سياسة في المسار الفلسطيني، كي لا يتكرر الفشل الدبلوماسي العميق الذي لحق بإسرائيل بعد التصويت في الأمم المتحدة لصالح الدولة الفلسطينية.

ووفق العديد من المصادر، فإن إسرائيل ليست جاهزة لطرح مبادرة سياسية في الوقت الحالي، نظراً لرفض الجانب الفلسطيني أية حلول مرحلية جديدة، وعدم قدرة إسرائيل على طرح حلول بعيدة المدى نظرا للسياسة التي تبنتها خلال السنوات الأربعة الماضية التي تنص على الانتظار أو “اجلس ولا تعمل شيئاً” لحين اتضاح صورة الوضع الإقليمي. وأقصى ما تستطيع إسرائيل تقديمه للفلسطينيين في هذا المجال هي بوادر حسن نية تتمثل: بمنح الفلسطينيين بعض الصلاحيات في مناطق C ومنح رخص بناء في هذه المناطق وتحويل مناطق B إلى مناطق A والإفراج عن سجناء سجنوا قبل فترة أوسلو، وتزويد السلطة بأسلحة خفيفة مقدمة من بعض الدول، بهدف تشجيع السلطة الفلسطينية للعودة إلى طاولة المفاوضات، وبالتالي التخفيف من حدة العزلة التي تمر بها إسرائيل. وفي حالة رفض الفلسطينيين هذه البوادر لبدء المفاوضات تشن حملة هدفها تصوير السلطة الفلسطينية بأنها المسؤولة عن عدم بدء المفاوضات، وبالتالي الخروج من العزلة التي تعاني منها إسرائيل عند الكثير من أصدقائها الأوروبيين والأمريكان.

وفيما يتعلق بالتغييرات العالمية

1. عند دراسة المعايير الاقتصادية ودمجها مع التغييرات السياسية الدولية، يبدو أن الأزمة الاقتصادية العالمية لن تتعمق في العام القادم، وإشاراتها وانعكاساتها ستكون واضحة جداً.

2. الأزمة الاقتصادية العالمية، وبعيداً عن الانعكاسات الاقتصادية المباشرة، تؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي في كل ما يتعلق بميزان القوى الدولي وسياسات تعاظم القوة في الشرق الأوسط:

أ‌.          الولايات المتحدة: ما زالت منشغلة بمشاكلها، وتنطوي على ذاتها في الشرق الأوسط، واحتمالات نجاحها في المنطقة ضعيف، وهي من ناحية إستراتيجية تتجه من الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا.

ب‌.      أوروبا: منشغلة في محاولة استقرار اقتصادها ومؤسسات الاتحاد، وتظهر فشلاً في الساحة الدولية والإقليمية.

ت‌.      الصين: تظهر اهتماماً متزايداً بما يجري في الشرق الأوسط، لكنها بعيدة عن محاولات التدخل الحقيقي.

ث‌.     روسيا: تتطلع روسيا إلى إعادة مكانتها كقوة عظمى وتبدي اهتماماً بما يجري في الشرق الأوسط، لكن هذا الاهتمام مركز على سوريا، وهو اهتمام ليس شاملاً ومركزاً.

الشرق الأوسط

تزعزع الثورات التي تمر على الشرق الأوسط التسويات الإقليمية التي تم التوصل إليها قبل أكثر من قرن من الزمان في إطار اتفاقيات سايكس بيكو. وتسبب ذلك بانهيار الأنظمة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط العربي. وأحدث التغيير صعود جمهور متظاهر مليء بالطاقة، غير منظم ومنقسم. ولا تستطيع الحكومات العربية مواجهة وعلاج الأزمات الاجتماعية – الاقتصادية العميقة التي تعزز عدم الهدوء السياسي والعنف والمؤامرات. وفي السياق المذكور لا تستطيع مصر وسوريا وبدرجة معينة العراق المحافظة بفاعلية على سيادتها في منع دخول جهات إرهابية دولية وعصابات الجريمة لمناطقها. وعليه، حولت التقلبات الإقليمية عدداً من الدول الوطنية التي أقيمت بشكل رسمي، إلى دول فاقدة للسيطرة على مناطق واسعة من مساحتها. وفي نفس الوقت، حلت وجهات نظر دينية–طائفية للإسلام السياسي مكان الوطنية والقومية العربية. وأوجد انهيار أنظمة الحكم العربية في الشرق الأوسط ثلاثة عناصر أساسية هي: اقتصاد مدمر وبيئة إستراتيجية متقلبة، وأسلمة. وهذا ما قاد إلى مظاهر عدم الوضوح بعدد من مراكز الصراع الإستراتيجية.

وبخصوص اندلاع حرب إقليمية جديدة، لا يعتقد أن هناك بوادر لمثل هذه الحرب نظرا لعدم امتلاك أعداء إسرائيل القدرة أو المبادرة بشن الحرب، لكن الأبرز هو أن عدم الاستقرار وعدم الوضوح، وربما عودة التهديدات القديمة، يأتي معه بتهديدات جديدة. وفي الشرق الأوسط العربي لم يعد الحديث يدور اليوم عن “محور المقاومة” و”محور الاعتدال”. الحديث اليوم هو “العالم الشيعي” و”العالم السني”، حيث تشهد المنطقة اصطفافاً جديداً لتحالفات قائمة على عالم سني تقوده مصر وتركيا والسعودية، مقابل عالم شيعي تقوده إيران وحزب الله.

وتعتبر سوريا اليوم المركز الاستراتيجي الأهم، حيث تجري فيها حرب أهلية طاحنة – تضع أمام سكان سوريا وجاراتها ،بما في ذلك إسرائيل، تحديات أمنية وسياسية وإنسانية- قد تفككها إلى كيانات طائفية وتقسم إلى مناطق تأثير إقليمي. وسيكون للواقع الإقليمي الجديد انعكاس مباشر على سلامة لبنان والعراق. والأكثر من ذلك، ما كان مرة معروفاً بالهلال الخصيب أصبح اليوم الهلال المنهار. وتعتبر سوريا اليوم من أكثر الدول التي تحتوي على أسلحة غير تقليدية، وقد تحولت إلى ساحة حرب بين الميليشيا المسلحة ومنظمات الإرهاب الساعية للسيطرة على مخازن الأسلحة. ويتحارب الطرفان في سوريا باسم قوى إقليمية تتنافس من أجل السيطرة على سوريا، وفي مقدمة هذه الدول إيران من جهة، والعربية السعودية وقطر من جهة أخرى.

وعلاوة على ذلك، يُعقِّد التحالف الاستراتيجي التاريخي بين نظام الأسد وموسكو والوجود العسكري البحري لروسيا في طرطوس، الأزمة في سوريا. وكلما زادت إمكانية تفكك سوريا، يزداد تنسيق الدول العظمى وشركاؤها الإقليميون خاصة تركيا وإسرائيل والأردن فيما بينهم من أجل منع فقدان السيطرة على الأسلحة العسكرية المتقدمة الموجودة، وفي ظروف معينه تنسق ميدانياً خشية أن يتطلب ذلك عملاً عسكرياً دولياً.

وتزعزع الأزمة التي تمر بها الدولة الوطنية العربية ميزان الاستقرار الإقليمي. ورغم تسبب الأزمة في سوريا بأضرار إستراتيجية لإيران، إلا أن هذا الوضع لم يمنع إيران من التطلع إلى السيطرة، والعقوبات الدولية لم تؤثر حتى الآن على النوايا النووية الإيرانية. وما رافقها من محاولات إيرانية لتقريب الدول العربية السنية لها، إلا أنها فشلت. لكن ذلك، لم يشكل حتى الآن محوراً سنياً يستطيع استيعاب إيران وتوابعها في المنطقة. ويمكن لمحور مركزي أن يتشكل من الملكيات العربية التي تخشى معظمها وبحق، من زحف الثورات العربية إليها.

وفيما يتعلق بمصر، نشير أن الأزمة الاقتصادية في هذه الدولة لا تبدو أن نهايتها قريبة، حيث فقدت مصر مصادر دخلها من السياحة وهي من مصادر الدخل الأساسية، وتراجع تصدير العمالة الذي شكل مصدر دخل كبير، وتسبب التباطؤ الاقتصادي في أوروبا إلى تراجع دخل قناة السويس. واضطرت مصر إلى استيراد الغاز، كما انخفض احتياط النقد الأجنبي إلى الخط الأحمر، والعجز في الميزانية تجاوز حاجز 13%، كما أن قرض صندوق النقد الدولي البالغ 5 مليارات دولار لم يمنح لمصر نظراً لعدم قدرتها على تنفيذ الشروط التي تتطلب إصلاحات اقتصادية موجعة. وإعاقة الاتفاق سيسلب مصر منحها قروضاً وهبات دولية. وفي جميع الأحوال وبعيداً عن الصراعات الداخلية، تمر مصر بأزمة توشك أن توقف مؤسسات الدولة عن العمل أمام الاحتياجات المتزايدة التي تشهد نسب ولادة عالية جداً، حيث يزداد عدد سكان مصر مليون نسمة كل تسعة أشهر، وستشهد مصر مجاعات وأزمات اقتصادية إذا تواصل التحريض والاحتكاك المدني الداخلي، وسيبعد أكثر وأكثر إمكانية استقرارها السياسي والاجتماعي.

وفيما يتعلق بالأردن فهو يمر أيضاً بأزمة اقتصادية خانقة عبر عنها بزيادة البطالة والأعباء الاقتصادية والمدنية نتيجة تزايد أعداد اللاجئين السوريين الوافدين. ونتيجة ذلك وجد الأردن نفسه أمام وضع متواصل من عدم الهدوء من شأنه أن يؤثر في القريب على مستقبل وشكل الدولة.

الوضع الأمني والسياسي لإسرائيل

يعتبر منع إيران امتلاك أسلحة نووية مصلحة إسرائيلية من الدرجة الأولى، لكن الخيار الآخر هو مواجهة المشروع النووي الإيراني، بواسطة دولية تقوده أمريكا. ويجب منع إيران من أن تشكل تهديداً لوجود دولة إسرائيل، وعليها أن تدرس من جديد رسائل التهديد تلك.

ويزيد تراجع تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعلاقات الإسرائيلية الأوروبية المضطربة، من العزلة الإستراتيجية للحكومة الإسرائيلية. وستضطر الحكومة الجديدة للعمل من أجل المحافظة على علاقتها بالولايات المتحدة وتعميقها ومواجهة الصورة السلبية السابقة للحكومة في أوروبا وأمريكا رغم أن الانتقادات الدولية لها لم تكن معقولة. ويمنع على الحكومة الإسرائيلية الجديدة العودة إلى الفشل الدبلوماسي الذي حققته سابقتها.

وفيما يتعلق بالشرق الأوسط أصبح يتحول إلى قلعة للإسلام السياسي المتطرف أكثر من السابق، حيث وضع حداً لتطبيع علاقات إسرائيل بالعرب. وتدفع المسيرة السلمية المتوقفة مع الفلسطينيين، إلى خطوات عملية على الأرض. وعلى طاولة المفاوضات إن بدأت أن تدفع باتجاه تغيير هذا الواقع. وتشير التقلبات إلى أن التغييرات الممكنة في المنطقة ليست هي المتوقعة دائماً، ومستوى التغيير ربما يكون أسرع من قدرة إسرائيل على الاستعداد له أمام واقع متغير.

منذ اندلاع التقلبات الإقليمية، تحسن الميزان الشامل للأمن الإسرائيلي للأسباب التالية: أولاً، إمكانية اندلاع حرب تقليدية بين إسرائيل وجاراتها في المدى المنظور يصل لمستوى صفر. ثانياً، نظام الحكم في إيران هو عدو مرير لإسرائيل ولمعظم الشرق الأوسط السني، وقد تعرضت إيران لضربة إستراتيجية موجعة في العام الأخير على خلفية انهيار السوري، وفي حالة سقوطه ستخسر إيران موقعاً استراتيجياً مهماً ومركزياً في المنطقة. وطالما تواصل نظام العقوبات الدولية على إيران. وطالما تواصل المس بالاقتصاد الايراني وتعزز نظام العقوبات، وواصلت الولايات المتحدة وإسرائيل التلويح بأنهما سيستخدمان القوة لوقف المشروع النووي الإيراني، فان احتمال إنتاج إيران لقدرات نووية عسكرية تظل منخفضة.

وعلى الرغم من ذلك، أنتجت التقلبات في الشرق الأوسط، المدموجة بتغيير ميزان القوى العالمي والمصالح العالمية، تحديات إستراتيجية جديدة لإسرائيل. والمحيط الاستراتيجي الأقرب لها غير مستقر، وبدرجة أو أخرى تعيش في ظل سياسة إسلامية متطرفة.

ويبدو أن الغرب يتعامل مع الشرق الأوسط العربي وتحدياته المعقدة على أنه ظاهرة من الصعب استيعابها. وعليه، موقفه من التطورات في الدول العربية يتجه ما بين عدم الوضوح وعدم التدخل. وتبني إستراتيجية جديدة بالتوجه نحو آسيا، وتقليل التعلق بالطاقة الشرق أوسطية، يعزز المواقف الأمريكية السلبية تجاه المنطقة. وعلى هذه الخلفية تعزز الاعتقاد بأن على أوروبا إظهار مسؤوليات أكبر تجاه إدارة شؤون الشرق الأوسط. لكن التدخل الأوروبي ما زال محدوداً، ويتركز في الأساس على النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وكأن حل، النزاع مع الفلسطينيين سيؤدي بطريقة سحرية إلى تغيير حقيقي في الشرق الأوسط، وهذا ليس صحيحاً.

وفي محيط من عدم الاستقرار والعنف والتطرف، فإن التوصل لحل بخصوص مستقبل المناطق الفلسطينية، لن تكون خلاصته حل كل مشاكل الشرق الأوسط، وهي مشاكل أصبحت مسألة حاسمة أكثر من أي وقت مضى بالنسبة لإسرائيل. الوضع القائم في المناطق الفلسطينية ليس دائماً وبالتأكيد ليس أبدياً. وفي وضع، تضعف فيه المصادر المالية للسلطة الفلسطينية، ويؤدي استمرار الجمود القائم إلى انتفاضة شعبية فلسطينية وإلى عنف منتظم، أو تهيئة الأرضية لسيطرة حماس على الضفة الغربية وتحويل المناطق الفلسطينية إلى كيان معادٍ للغرب وإسرائيل، الرافض للسلام، ولن يكون هذا التطور في صالح إسرائيل ولا حتى لصالح جارتها من الشرق، الأردن. وعلاوة على ذلك، فإن المأزق من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الدعم الدولي والفلسطيني لفكرة حل (الدولة الواحدة) وهو الحل الذي يجتث الكيان الصهيوني. وأبدية فكرة “دولتين لشعبين” لم تعد فكرة قائمة ومفهومة.

ويجسد تدخل إسرائيل في التنسيق الدولي والإقليمي بالشأن السوري، وكذلك الآلية التي أدت إلى التوصل لتسوية في أعقاب العمل العسكري في قطاع غزة، قناة بديلة. وهناك إشارات واضحة للتنسيق المذكور أعلاه في إدارة الأزمة السورية، حيث عملت إسرائيل بشكل خلاق مع شركاء دوليين وإقليميين. وعليه، تستطيع إسرائيل استغلال مواردها من أجل العمل بفاعلية في رسم المحيط الإقليمي، وعلى الحكومة الإسرائيلية الجديدة أن تتبنى هذا النموذج أمام الفلسطينيين. أما القيادة الفلسطينية فهي تحتاج من جانبها إلى دعم سياسي فعال من القيادة السنية الإقليمية بهدف كسر حالة الجمود مع إسرائيل.

الأطراف التي دفعت باتجاه انتهاء الأزمة في أعقاب العملية العسكرية في قطاع غزة عام 2012 تجسد التغيير، الذي بدأ من العالم السني الذي يهتم بعلاقة مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل بهدف المحافظة على الاستقرار الإقليمي. التطورات الدبلوماسية حول العملية العسكرية في غزة والأزمة السورية تشيران إلى تعاون وتنسيق متزايد بين الولايات المتحدة ومصر وتركيا ودول الخليج والأردن، أي الجسم الموحد الذي بدأ يتشكل بالمنطقة، وهو بنية غير طبيعية وموحدة وممزقة ولن تقود لشرق أوسط جديد ومتقدم، أو يطبع علاقاته بإسرائيل. لكن المصالح المشتركة تهيئ الأرضية لصفقة شاملة وواسعة مثل grand bargain تكون جزءا منها الولايات المتحدة وأوروبا ودول الشرق الأوسط السنية وإسرائيل.

وعلى الولايات المتحدة وبمساعدة من أوروبا تعزيز الائتلاف السني وخلق مبررات التعاون مع الغرب وإسرائيل، ودعم مسيرة السلام والتقدم باتجاه التغيير الإقليمي الواقعي من خلال التوصل لصفقة تؤدي إلى تحقيق الأهداف التالية:

1. منع التسليح النووي الإيراني والالتفاف على تطلعاتها بالسيطرة من خلال تقديم ضمانات أمنية إستراتيجية غربية [للعرب كي لا يتطلعوا للتكنولوجيا النووية أسوة بإيران].

2. تشجيع دول الشرق الأوسط الغنية على تخصيص الميزانيات الكافية لمساعدة الدول ذات الاقتصاد الضعيف مثل الأردن ومصر.

3. التوصل لتفاهمات وتسويات تمكن من مواجهة المخاطر الأمنية القادمة من المناطق التي تعتبر فيها الدولة ضعيفة (سوريا وشبه جزيرة سيناء).

4. التقدم بمسيرة السلام الإسرائيلية الفلسطينية من خلال التوسع باتجاه سلام إسرائيلي-عربي.

5. وقف تصدير الدعاية الإسلامية المتطرفة المعادية للغرب.

تؤكد الرؤية أن المأزق في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية وحده لا يعتبر التحدي الأساسي في الشرق الأوسط. وهي رؤية تضع مسيرة السلام الإسرائيلية-الفلسطينية في الإطار الإقليمي الأوسع، تتضمن التوصل لصفقة إنشاء ائتلاف معني بالسلام، تشارك فيه دول الإقليم بصورة حقيقية من أجل المساهمة في أمن الشرق الأوسط والتمتع ببيئة إستراتيجية أكثر استقرارا. والتوصل إلى صفقة شاملة في الشرق الأوسط يتطلب وجود قيادة. وسيكون هذا التحدي لفترة الرئيس أوباما الثانية التي تمكن الإدارة الأمريكية من التركيز على المخاطر القادمة من آسيا.

والتوصل لصفقة شاملة تمكن إسرائيل، ليس فقط من التقدم في مسيرة السلام، بل لعب دور إقليمي فعال. وفي رؤية إسرائيل إلى الأفق الإقليمي المتشكل، وعلى خلفية التغييرات في ميزان القوى العالمي، على إسرائيل تطوير رؤية إستراتيجية أوسع تدمج بين الوسائل العسكرية والسياسية. وعلى إسرائيل أن تكون مشاركة أكثر في ترسيم مستقبل المنطقة، وفي طريقة التعامل مع الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية في الشرق الأوسط، حتى ولو بصورة هادئة. ولن تؤدي المساهمة الإسرائيلية إلى تطبيع العلاقات معها على الأقل في المدى القصير. لكن، لإسرائيل مصلحة قوية بتحسين اقتصادات الشرق الأوسط، التي تعتبر عنصراً حيوياً في السلام والأمن الإقليمي.

وعلى إسرائيل أن تكون منزعجة بخصوص قلة الاهتمام الأمريكي المتزايد في الشرق الأوسط. ويعتبر التدخل الأمريكي الاستراتيجي في الشرق الأوسط أحد الأسس المركزية في الأمن القومي الإسرائيلي، وداعماً أساسياً لعلاقات إسرائيل الخارجية. وفي الوقت الذي بدأ التوجه الاستراتيجي الأمريكي يتجه إلى ساحات جديدة، اتسم الائتلاف الإقليمي المتطلع للسلام والأمن الإقليمي المتشكل بالضعف، ويطالب بالمحافظة على التدخل الأمريكي في المنطقة. وعلاوة على ذلك، وبواسطة زيادة التدخل الفعال لإسرائيل في المنطقة وخارجها، عليها أن تعزز مكانتها كذخر استراتيجي للولايات المتحدة. وهذا الأمر مهم بحد ذاته في الوقت الذي تتزايد فيه الأصوات التي تشكك بالأهمية الإستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة.

وجاء هذا التقييم لتعزيز الادعاء بأن التغييرات الإقليمية والعالمية، غير الإيجابية بحد ذاتها يجب أن لا تعرض إسرائيل للمس والإضعاف من ناحية إستراتيجية. ومنذ بداية التقلبات الإقليمية قبل أكثر من عامين، حاولت إسرائيل الاختباء من العاصفة. لكن المحيط الإقليمي المليء بالأزمات، واستمرار مواقفها السلبية يعرضها لمخاطر مستقبلية. وفي الشرق الأوسط المتشكل فإن سياسة الاعتماد على الذات ليست دائمة، ويحق لدولة إسرائيل إستراتيجية جديدة تستطيع إحداث التغيير. وتبني استراتيجية جديدة يجب أن تكون المهمة الأولى للحكومة الجديدة.

يشار أن الأمن القومي يبدأ من الداخل، وبسبب ذلك قدم مؤتمر هيرتسليا ميزان الحصانة الوطنية. والنقاش العام حول “المساواة في تحمل الأعباء” هو أمر مركزي في مصطلحات الحصانة الوطنية لإسرائيل. لكن، الحصانة الوطنية لإسرائيل ليست وظيفة لعدد من اليهود المتزمتين دينياً الذين سيخدمون في الجيش. وعلى الهدف الاستراتيجي للحكومة الجديدة أن يتضمن تعميق الاندماج وتقليص الفوارق بين كل أجزاء المجتمع الإسرائيلي اليهود والعرب، وسكان الوسط والريف. ولتعريف هذا المصطلح عدة انعكاسات، مثل انعكاس ذلك في مجال التعليم في كل ما يتعلق بالمساواة في التعليم الأساسي للأطفال الذي يبدأ من الحضانة وحتى التعليم المهني والتكنولوجي وهو الأمر الذي يعارضه المتدينون.

وهدف تقليص الفوارق وتعميق الاندماج هو خلق فرص متساوية بين جميع فئات المجتمع الإسرائيلي، بعد أن استأثرت فئة محددة [المتدينون والمستوطنون] بالجزء الأكبر من الميزانيات، ما أدى لتراجع أبناء الطبقة الوسطى اقتصاديا، وارتفعت نسبة الفقر إلى ما يقارب 20%، وهو ما دفع إلى اندلاع المظاهرات في صيف عام 2011 وبداية عام 2012 للمطالبة بالمساواة في الفرص داخل المجتمع الإسرائيلي. وكانت آثار المظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية في إسرائيل بادية في الحملة الانتخابية ونتائجها، التي ركزت على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وأهملت الجوانب السياسية. الأمر الذي أدى إلى خسارة الأحزاب الإسرائيلية الكبيرة والتقليدية من قوتها لصالح قوى سياسية واجتماعية جديدة.

ويتطلب عدم قيام أزمة اقتصادية في إسرائيل تقليص ميزانية الدولة بمبلغ يصل إلى ما يقارب خمسة مليارات دولار أمريكي تقتطع من ميزانيات البنية التحتية ووزارة الدفاع الإسرائيلية، مع ضمان أن لا يسبب الاقتطاع زيادة في عدم المساواة داخل المجتمع. ودراسة وضع إستراتيجية اقتصادية تبحث طرق نفقات الحكومة، وتتصدى للعناصر المانعة للنمو الاقتصادي بما في ذلك البحث والتطوير العلمي والصناعي والتكنولوجيا الرفيعة واستغلال الغاز لتطوير الصناعة والمواصلات والاعتراف بأن السياحة صناعة مفضلة. وأمام الحكومة الإسرائيلية الجديدة الكثير من المهام والتحديات الداخلية والخارجية تتطلب الجهد والوقت لمواجهتها.

·  باحث في الشؤون الإسرائيلية، ومترجم عن اللغة العبرية، مقيم في رام الله.