نظير مجلي[*]

بالرغم من أن إسرائيل قامت بفضل جهود أجنبية، بدأت بمشروع القائد الفرنسي التاريخي، نابليون بونابرت، لإنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وبلاد الشام، مرورا بوعد وزير الخارجية البريطاني، بلفور، في العام 1917 لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبلغت أوجها بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المعروف بقرار التقسيم في سنة 1947، والعديد من المبادرات الدولية لتسوية الصراع الإسرائيلي العربي التي تبعته، فإن حكومات إسرائيل المتعاقبة– منذ تأسيسها سنة 1948 وحتى يومنا هذا- لم تتحمس ذات مرة لانعقاد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط. ولم تبادر يوما إلى مثل هذا المؤتمر. بل إنها لم تشارك في مؤتمر كهذا إلا على مضض. وقد سعت دائما لإجهاض الجهود لعقد مؤتمر كهذا، ونجحت بذلك غالبا. لذلك، فإن رفض حكومة بنيامين نتنياهو، للمبادرة الفرنسية الرامية إلى عقد مؤتمر دولي هذه السنة (2016)، لم يكن مفاجئا؛ ففي إسرائيل، اعتادوا على سياسة “الأخذ بلا عطاء” من المجتمع الدولي. واختاروا التهرب من مستلزمات التدخل الدولي، خصوصا بعد أن صار لهذا التدخل عنوان أساسي مثل “قرارات الأمم المتحدة بخصوص اللاجئين” أو “قرارات مجلس الأمن الدولي” (بشكل خاص القراران 242 و338). ورسموا صورة للمؤتمر الدولي كما لو أنه محكمة موقعهم فيها قفص الاتهام ومخرجهم منها “دهاليز العقاب”.

القيادات الإسرائيلية من مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، سارت على “تقويم” (رزنامة) وضع في مؤتمر تأسيس الحركة الصهيونية في بازل السويسرية سنة 1897، ويقضي بحثّ العالم على حل المسألة اليهودية بإقامة دولة في فلسطين، “أرض الميعاد”، تجمع يهود العالم من الشتات. وبعد أن تفاقم تضييق الخناق على اليهود في أوروبا، بدوافع عنصرية واقتصادية وسياسية، والتي بلغت حضيضها بالمشروع النازي لإبادة اليهود، عملت قيادة الحركة الصهيونية على تجنيد مختلف العناصر في المجتمع الدولي على مساندتها في مشروعها بكل الوسائل الممكنة. فالأغنياء اليهود صرفوا أموالا طائلة في المشروع. والقادة السياسيون والعسكريون عرضوا خدمات غير محدودة على الغرب مقابل إقامة الدولة اليهودية، بما في ذلك الاستعداد للتحول إلى “جبهة عسكرية متقدمة للغرب في الشرق الأوسط”، وهو الاستعداد الذي رأيناه يطبق عمليا في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. وبدا أن الحركة الصهيونية، ومن ثم حكومات إسرائيل، لا تتنازل أبدا عن الدعم الدولي بأي حال، لا في الماضي ولا اليوم.

ومع ذلك، فإنها عندما تصل إلى مرحلة تجد فيها أن هناك ثمناً للمساندة الدولية، وأن الثمن يطال “تقليص حجم سيطرة الدولة العبرية”، نجدها تتمرد وترفس وترفض وتكيل الاتهامات بالـ”لا سامية”.

مؤتمر البدايات

لقد قامت إسرائيل وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، والذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، يهودية وعربية. وقد حرصت حكومات إسرائيل على الإشارة إلى أن العرب رفضوا هذا القرار وردوا عليه بإعلان الحرب، وما زالت حتى اليوم، بعد مضي حوالي 70 عاما عليه، تستند إلى هذه الحجة في تبرير سياستها الرفضية.

في حينه، حاولت الأمم المتحدة العمل على تطبيق قرارها بواسطة الجهود الدولية. فأقامت لجنة أممية خاصة لهذا الغرض ودعت بعد اجتماعها الأول في كانون الثاني (يناير) 1949، في جنيف، إلى عقد مؤتمر دولي. وقد بدأت اللجنة بالتحضير للمؤتمر ثم التقت في 21 آذار (مارس) 1949 مع وفد الجامعة العربية، في بيروت. فأثارت بذلك قلقا شديدا في إسرائيل التي- كما تشرح صحيفة “دافار” التابعة للحزب الحاكم “ماباي”- «تفضل مفاوضات منفصلة مع كلّ دولة عربية. إن كلّ محاولة لتشكيل جبهة متحدة ضد إسرائيل ستزيد خطورة الوضع وتقلل فرص السلام[1]».

وفي ذلك الوقت كانت قد بدأت مفاوضات الهدنة لتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، لبنان وسوريا والأردن ومصر. وكان من المفترض أن تتم المفاوضات في مؤتمر واحد في رودس يضم الجميع. لكن حكومة إسرائيل بقيادة دافيد بن غوريون نجحت في تقويض فكرة المؤتمر ووجدت معينا لها في الخلافات الناشئة بين العرب أنفسهم. فقد ساد خلاف بين الأردن ومصر بشأن النقب وقطاع غزة، وعلى الأرض دارت معارك بين جيشي البلدين، فاستغلتها إسرائيل لتحتل النقب وبذلك حسمت الخلاف فما كان منهما إلا أن وقعا على اتفاقية الهدنة راضخين للسيطرة الإسرائيلية على النقب كله، بينما مصر حصلت على قطاع غزة، والأردن على الضفة الغربية. كما استفادت إسرائيل من الخلاف بين الأردن وسوريا حول الحمة.

واضطر مندوب الأمم المتحدة، د. رالف بانش، إلى تشكيل أربعة طواقم للتفاوض. في البداية تفاوضت إسرائيل مع مصر في رودس ثم مع الأردن في القدس وكذلك في رودس، ومع لبنان في رأس الناقورة ومع سورية في منطقة “محنايم” (قرب صفد). وانتهت هذه المفاوضات بـ”خطأ أردني” قاد إلى تسليم منطقة المثلث أيضا إلى إسرائيل.

وواصلت الأمم المتحدة جهودها للتسوية، إذ ضمنت اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول الأربعة بندا يقول إن هذه الاتفاقيات هي “التزام الأطراف بالحظر الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على استخدام الوسائل العسكرية في حل النزاع، و”التزام الأطراف بعدم التهديد أو التخطيط أو القيام بعملية عدوانية مسلحة ضد الطرف الآخر”. و”احترام حق كل طرف في العيش آمنا ومتحررا من خطر التعرض لعدوان من الطرف الآخر”.
و”تعتبر اتفاقات الهدنة خطوة حتمية في التمهيد لوضع حد للنزاع المسلح بينها ولإعادة السلام في البلاد إلى نصابه”[2]. ومن أجل إعادة السلام إلى نصابه تمت دعوة الأطراف إلى مؤتمر لوزان في سويسرا في 28 نيسان (أبريل) 1949، والذي استمر عمليا حتى 12 أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها، وشاركت فيه كل من إسرائيل ومصر والأردن وسوريا ولبنان وكذلك وفد فلسطيني برئاسة المحامي محمد نمر الهواري، الذي تم تعريفه على أنه ممثل للاجئين الفلسطينيين[3].

لقد كان مؤتمر لوزان ذا أهمية تاريخية بالغة، بالنسبة للطرف الإسرائيلي، حيث إنه تحول إلى تجربة بُنيوية تبلورت فيها وعلى أساسها النظرة الإسرائيلية إلى المؤتمرات الدولية اللاحقة. ففي حينه كانت إسرائيل قد سيطرت على منطقة تزيد بأكثر من 50% من الأراضي المخصصة للدولة اليهودية حسب قرار التقسيم وكانت قد فرضت وجودها على القدس الغربية، رافضة البند الذي ينص على تدويل المدينة. وكان العرب يطالبونها بالعودة إلى حدود التقسيم. وفي الوقت ذاته، كانت إسرائيل تسعى لقبولها عضوا في الأمم المتحدة. ولذلك، وقعت على برتوكول لوزان الذي ينص عمليا على قبول العرب بإسرائيل وعلى قبول إسرائيل بتسوية قضية اللاجئين عن طريق استيعاب قسم منهم في تخومها وتعويض القسم الآخر بالنقود.

وقبل أن توافق إسرائيل على هذه البنود، شهدت خلافات صاخبة ليس بين الحكومة والمعارضة فحسب، بل داخل الحكومة نفسها، بين رئيسها دفيد بن غوريون وبين وزير الخارجية موشيه شاريت[4]. ومع ذلك، تقرر المشاركة “حتى لا تتم عرقلة قرار قبول إسرائيل للأمم المتحدة. وقد كشف رئيس الوفد الإسرائيلي إلى المؤتمر، والتر إيتان، الذي أشغل منصب مدير عام وزارة الخارجية، عن نواياه الحقيقية من المؤتمر إذ كتب يقول: «هدفي الرئيس كان البدء بتقويض برتوكول 12 أيار، الذي أُرغمنا على توقيعه في إطار معركتنا للانضمام للأمم المتحدة (..). كان من المهم جرّ اللجنة للتآلف مع فكرة أن البروتوكول ليس هو الشيء الأساسي، وبأنه عاجلاً أم لاحقاً، سنتكئ على اتفاقية الهدنة»[5].

لقد فشل مؤتمر لوزان بسبب الهوة العميقة التي ظهرت بين الأطراف في قضايا الحدود، حيث إن إسرائيل أصرت على تثبيت الحدود حسب اتفاقيات الهدنة بينما طلب العرب حدود التقسيم، ورفضت إسرائيل عودة أكثر من 100 ألف لاجئ فلسطيني (من مجموع 530 ألفا وفق حساباتها و900 ألف وفقا لحسابات العرب)، بينما طلب العرب عودة 250 ألفا على الأقل، وطلبت إسرائيل الاعتراف العربي بها كشرط مسبق لمحادثات ثنائية حول التفاصيل، بينما رفض العرب الاعتراف بها ورفضوا المفاوضات الثنائية معها. وكان هذا الفشل بمثابة إضاعة فرصة ذهبية من جميع الأطراف.

وفيما بعد كتب الدبلوماسي الإسرائيلي الذي شارك في مؤتمر لوزان، غرشون أفنير، يقول: “لم تكن هناك أية فرصة حقيقية للوصول إلى اتفاقية سلام في لوزان، لأن إسرائيل كانت “ثملة” بالنصر والدول العربية لم تكن تريد حقاً التفاوض”. ويضيف: “في عام 1949، كان العرب يعترفون بحق إسرائيل في الوجود، وكانوا يريدون أن يتفاوضوا معها حول السلام وجهاً لوجه (…) وإسرائيل رفضت هذه الشروط، ليس لأنها تتناقض مع بقائها كدولة مستقلة، إنما لأنها كانت تصر على الاحتفاظ بكل الأراضي التي كانت تمتلكها وعلى رفض إعادة اللاجئين”. ويستند بذلك إلى شهادة رئيس الوفد الإسرائيلي في لوزان: «لا أحد غير إلياهو ساسون، اليهودي الشرقي الوحيد على مستوى عال في وزارة الخارجية الإسرائيلية، رأى أن الدفاع العنيد لإسرائيل عن الوضع الراهن سدّ الطريق إلى اتفاقية مع العرب، وأوصل مؤتمر لوزان  إلى الإخفاق[6]». وكان ساسون قد وجه رسالة مؤرخة في 16 حزيران (يونيو) 1949، إلى مرؤوسه زياما ديفون، يعبر فيها عن قلقه قائلا: «ليس لديك فكرة كم أنا آسف لمجيئي إلى لوزان. (..) جئنا إلى هنا من أجل هدف خاص، هدف واحد، ألا وهو الوصول إلى سلام مع الدول العربية. لكننا هنا منذ شهرين، ولم نتقدم بوصة واحدة (..) يعتقد اليهود، أولاً، أنهم يستطيعون الوصول إلى سلام دون دفع الثمن، سواء كان صغيراً أو كبيراً. يريدون تحصيل أ) تخلي العرب عن كلّ الأرض المحتلة من قبل إسرائيل، ب) موافقة العرب على استيعاب كل اللاجئين في دول الجوار، جـ) موافقة العرب على تعديلات الحدود في الوسط والجنوب ومنطقة القدس لمصلحة إسرائيل. د) تخلي العرب عن كل ملكياتهم في إسرائيل مقابل تعويض(..) هـ) اعتراف واقعي وقانوني بدولة إسرائيل مع حدودها الجديدة، و) موافقة العرب على إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية فورية بين دولهم وإسرائيل. الخ. ثانياً، بالرغم من إدراك العرب أن إسرائيل أصبحت حقيقة، فإنهم يتساءلون، إذا كانت هذه شروطها، فما الذي يجبرنا على الإسراع بالاعتراف بها؟ (…) قد يكون الوضع مختلفاً فيما إذا كان ممكناً إنشاء دولة مستقلة في الجزء الآخر من فلسطين، غير أن العامل الكابح، اليوم، هو إسرائيل. بموقفها وبطلباتها الحالية، تجعل إسرائيل الجزء الثاني من فلسطين غير قابل للاستخدام لأي مشروع، ما عدا إلحاقه بدولة مجاورة، والحالة هذه، شرق الأردن. (…) أما فيما يتعلق باللاجئين، وهم كبش المحرقة، ما دام لا أحد يعير لهم أقل اهتمام. لا أحد يسمع طلباتهم، إيضاحاتهم، ومقترحاتهم. من جانب آخر، تستخدم كل الأطراف هذه المشكلة لغايات ليس لها علاقة بآمال اللاجئين أنفسهم»[7].

ويكتب شاول زيتوني قائلا إن رئيس الحكومة الإسرائيلية، دافيد بن غوريون، كان يرى أن على إسرائيل أن لا تسارع إلى اتفاقيات سلام مع العرب قبل أن تتمكن من مضاعفة عدد اليهود في إسرائيل. وأن وزير الخارجية، موشيه شاريت، كان قد أبلغ لجنة الخارجية والكنيست في 2 أيار (مايو) 1949 بأن “مؤتمر لوزان بالنسبة لإسرائيل ليس مؤتمر سلام بل إن التكتيك الإسرائيلي تجاهه يتمثل في: أ- محاولة ترتيب لقاءات مباشرة مع الدول العربية ب– منع حالة يتم فيها التداول بين إسرائيل من جهة والدول العربية مجتمعة من جهة ثانية ج– رفض التفاوض حول القدس مع سوريا ومصر أو لبنان د– رفض التفاوض مع سوريا قبل أن توقع على اتفاق الهدنة، (سوريا تأخرت في التوقيع على اتفاق الهدنة ثلاثة شهور بعد الأردن)، هـ– إذا كان لا بد من تفاوض على الحدود فيتم مع كل دولة عربية على حدة، و– فتح باب المحادثات الاقتصادية لمنفعة الطرفين ز– إثارة قضية يهود الدول العربية ووقف الاعتقالات وحرية الهجرة وعدم مصادرة ممتلكاتهم ح– صد فكرة عودة اللاجئين والموافقة فقط على لم شمل عائلات ط– إثارة قضية تعويض إسرائيل عن خسائرها في الحرب ي- إقناع بريطانيا بأن لا يفرض الأردن قوانينه على الضفة الغربية ك– إبقاء موضوع قطاع غزة مفتوحا.

مؤتمر السبعينات

عادت قضية المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط لتطرح من جديد في مطلع السبعينات من القرن الماضي، لكن الولايات المتحدة استبقت الأحداث ورفضته واستبدلته بما يعرف بمشروع روجرز، على اسم وليام روجرز. وتضمنت المبادرة البنود التالية: 1) دعوة الفرقاء (مصر والأردن وإسرائيل) إلى العمل تحت إشراف المبعوث الدولي غونار يارينغ لإيجاد الخطوات التفصيلية اللازمة لتنفيذ القرار 242. 2) العودة إلى وقف إطلاق النار لمدة محددة تبدأ: على أقل تعديل، من 1/7 حتى 1/10/1970. 3) إعلان الفرقاء استعدادهم لتنفيذ القرار 242 بكل أجزائه وموافقتهم على تعيين ممثلين إلى مباحثات تعقد تحت إشراف يارينغ في المكان والزمان اللذين يحددهما. 4) الغاية من هذه المباحثات التوصل إلى اتفاق على إقامة سلام عادل ودائم بين الفرقاء قائم على أساس: (أ) اعتراف متبادل بين كل من مصر والأردن من جهة، و(إسرائيل) من جهة أخرى، بسيادة كل من الأطراف الثلاثة وسلامة كيانه الإقليمي واستقلاله السياسي. (ب) انسحاب (إسرائيل) من أراض احتلت في العام 1967 عملاً بما جاء في قرار مجلس الأمن 242.

وقد تعطلت هذه المبادرة أولا لأن إسرائيل لم تقبلها، والعرب اختلفوا حولها، ومنظمة التحرير الفلسطينية اعتبرتها تجاهلا للقضية الفلسطينية. كما أن سخونة الأوضاع في حرب الاستنزاف مع مصر والتوتر على الحدود مع سوريا ثم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد وجهت الضربة القاضية لها.

وتجدد الحديث عن مؤتمر دولي في سنة 1973 في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) في تلك السنة. وقد اتفقت عليه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، اللتين كادتا تنجرفان إلى حرب عالمية ثالثة خلال تلك الحرب، بينما هما كانتا قد أحدثتا انقلابا في العلاقات بينهما على نحو إيجابي منذ سنة 1972. وعقد فعلا مؤتمر جنيف للسلام في كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه (1973)، الذي تمخضت عنه اتفاقيات فصل القوات على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أنه فشل في التقدم نحو اتفاق سلام، لأن إسرائيل رفضت مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية فيه كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. ومع تحسن العلاقات السوفييتية الأميركية في سنة 1977، عادوا إلى طرح فكرة المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط من جديد، القائم على أساس تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338 والاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. وكان الاتفاق بين الدولتين العظميين على هذه الصيغة بمثابة انقلاب في الموقف الأميركي، أحيا آمالا كبيرة في النجاح. إلا أن إعلان الرئيس المصري أنور السادات عن نيته زيارة إسرائيل ثم قيامه بالزيارة فعلا، سرق الأضواء ولم تتقدم الجهود لعقد المؤتمر الدولي. وتم التوصل إلى اتفاقيات كامب ديفيد.

مؤتمر مدريد للسلام

في أواخر العام 1984، تصاعدت من جديد الدعوات لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، وهذه المرة من طرف الدول الأوروبية. ووصلت ذروة هذه الجهود خلال النصف الثاني من العام 1986 والنصف الأول من العام 1987، لكنها لم تسفر عن نتيجة وبالأساس بسبب الرفض الإسرائيلي، الذي استند إلى تجربة الفشل في لوزان.

وفي هذه الأثناء اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى (نهاية 1987)، والتي اجترحت تعاطفا شعبيا عربيا ودوليا وفرضت القضية الفلسطينية من جديد على الأجندة الدولية. ومع أن حرب الخليج غطت على أحداثها، وانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية الأخرى أحدث انهياراً في توازن القوى الدولي، إلا أن شيئا لم يطمس الاهتمام العالمي بهذه القضية.

وفي سنة 1991، طرحت الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش الأب، بالاشتراك مع الرئيس السوفييتي الجديد، ميخائيل غورباتشوف، فكرة المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط من جديد. ومع أن رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق شمير كان معاديا لأية مفاوضات على سلام حقيقي، وأجهض فكرة مشابهة طرحها وزير الخارجية الأميركي، جورج شولتس في عهد الرئيس رونالد ريغن، فقد فرضت إدارة بوش إرادتها هذه المرة، لأنها كانت ترى ضرورة ملحة في تغيير صورتها كدولة حرب في العراق لتبين صورة “الولايات المتحدة الأميركية الساعية إلى عملية سلام ناجحة في الشرق الأوسط”. ولا بد من التذكير بكلمة بوش في افتتاح المؤتمر، إذ قال: “هذا المؤتمر جاء ليطلق عملية المفاوضات، التي سوف تستمر في مسارين بين إسرائيل والدول العربية، وبين إسرائيل والفلسطينيين وسوف تتم المفاوضات على أساس القرارين 242 و338. وبالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين فإن المفاوضات يمكن أن تتم على مراحل وتتحدث عن إقامة حكم ذاتي مؤقت، فإن هذه يمكنها أن تستمر على مدى خمسة أعوام، وبعد ثلاثة أعوام فإن المفاوضات سوف تكون حول الوضع النهائي ولا يمكن لأحد أن يقول بدقة ما هي النتائج النهائية لذلك”. وأضاف: “وبالنسبة للوضع في الأراضي المحتلة، فمن المهم أن يتحلى الطرفان بضبط النفس وأن تمتثل إسرائيل لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة، ونحن نتطلع إلى تحسن ملموس في الوضع السائد في الأراضي المحتلة وذلك حتى قبل تنفيذ الترتيبات المؤقتة أو غيرها من الترتيبات”.

شمير كان يرتعد خوفا من هذا المؤتمر وحاول التملص منه بمختلف الطرق. وقد دخل في مفاوضات شرسة مع وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، تسببت في أزمة في العلاقات، وهدد بيكر بوقف المساعدات المالية التي خصصت لتمويل استيعاب الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي. وجمدت الإدارة الأميركية البحث في تقديم ضمانات لإسرائيل بقيمة 10 مليارات دولار. فحاول شمير تخفيف حدة هذا الموقف باشتراط أن لا تشارك في المؤتمر منظمة التحرير الفلسطينية، وأن لا يقوم المؤتمر على أساس إقامة دولة فلسطينية، وأن يكون المؤتمر بمثابة مهرجان افتتاحي تعقبه مفاوضات ثنائية مباشرة بين إسرائيل وبين كل دولة عربية على حدة. ووافقت الإدارة الأميركية على الشروط، وسلمته إدارة بوش رسالة خطية تتعهد فيها بعدم إشراك منظمة التحرير وتؤكد فيها أن المفاوضات العملية ستكون مباشرة وثنائية وتتعهد فيها بعدم تأييد إقامة دولة فلسطينية، فلم يستطع إيجاد حجة أخرى، وقرر أن يترأس الوفد الإسرائيلي بنفسه، مما جعل وزير خارجيته دافيد ليفي يقاطع المؤتمر. وحضر مكانه نائب وزير الخارجية، بنيامين نتنياهو، الذي كان ناطقا بلسان الوفد أيضا.

وعقد المؤتمر في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1991، وكان الوفد الفلسطيني جزءا من الوفد الأردني برئاسة، عبد السلام المجالي، الذي أصر على فصل المفاوضات مع إسرائيل إلى مسارين، أحدهما برئاسته ويتناول القضايا الأردنية، والآخر برئاسة د. حيدر عبد الشافي ويتناول القضية الفلسطينية، بينما تولى رئاسة المفاوضات من الجانب الإسرائيلي في المسارين، الياكيم روبنشتاين، وهو شخصية قضائية من اليمين المتطرف. وقد كانت تلك مفاوضات جدية على جميع المسارات، مما أحدث خلافات وصراعات داخل حكومة شمير، فانسحب اليمين المتطرف منها فسقطت واضطر شمير إلى تبكير موعد الانتخابات.

لقد أحدث مؤتمر مدريد انقلابا في الرأي العام الإسرائيلي شبيها بالانقلاب الذي أحدثته زيارة السادات. وكما يقول شلومو بن عامي، الذي شارك في مؤتمر مدريد وكان يومها سفيرا لإسرائيل في إسبانيا وأصبح لاحقا وزير خارجية في حكومة إيهود باراك (1999-2001)، “انبعثت من جديد آمال السلام في إسرائيل وتحولت إلى رياح عاصفة لا يقف في وجهها حتى شمير واليمين الإسرائيلي من ورائه”[8]. وقد انعكس ذلك في نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز حزب العمل برئاسة إسحق رابين في 1992.

لقد فشلت مفاوضات ما بعد مدريد في التوصل إلى اتفاقيات السلام المرجوة. ولكنها فتحت آفاقا كبيرة لعملية السلام الشامل بين إسرائيل والدول العربية. وأعطت ثمارها في تحسين مكانة إسرائيل في العالم وإقامة علاقات مع دول عديدة في العالم، بدءاً بالاتحاد السوفييتي والصين والهند وعشرات الدول التي كانت قد قطعت علاقاتها معها. وعلى الصعيد الفلسطيني، قادت مسيرة مدريد إلى المفاوضات السرية بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل بشكل مباشر، والتي انتهت باتفاقيات أوسلو. وهذه الاتفاقيات، برغم ما اعتورها من سلبيات، أحدثت انقلابا في رؤية الإسرائيليين تجاه الشعب الفلسطيني، بما نسف مواقف اليمين التقليدية. فجرى الاعتراف بالقضية الفلسطينية وبمنظمة التحرير والاعتراف بأن الأراضي المحررة في أرض إسرائيل هي أراض فلسطينية محتلة وبأنه ما من مفر من القبول بزوال الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية. وهذا تغيير بنيوي ليس فقط في الفكر الصهيوني بل أيضا في الأيديولوجيا اليمينية في إسرائيل. ومع أن اليمين لم يستسلم، بل تم اغتيال رابين وعاد إلى الحكم بقيادة بنيامين نتنياهو، إلا أن نتنياهو نفسه اضطر إلى القبول بأوسلو وأكمل انسحابا من الخليل ومن 13% إضافية من الضفة الغربية. وتعمق هذا الاتجاه في زمن حكم أرئيل شارون (2001-2005)، الذي برغم عدائه لمنظمة التحرير وحربه العدوانية على الضفة الغربية التي لم تتوقف إلا بمحاصرة الرئيس ياسر عرفات ووفاته، إلا أنه أكمل مسيرة أوسلو بالانسحاب من قطاع غزة بنسبة 100% وإزالة جميع المستوطنات هناك وأربع مستوطنات أخرى شمالي الضفة الغربية. وفي هذا سجل سابقة على ساحة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مشابهة لسابقة الانسحاب من سيناء بالكامل وإزالة المستوطنات منها وكذلك سابقة الانسحاب من الأراضي الأردنية المحتلة.

مؤتمر أنابوليس

لقد حاول خليفة شارون، القادم أيضا من صفوف اليمين الإسرائيلي، إيهود أولمرت، إكمال مسيرة شارون ولكن مع تعديل حقيقي وجوهري هو احترام المفاوض الفلسطيني والتعامل معه معاملة الند للند. وأحدث أولمرت تغييرا جوهريا آخر في التعاطي مع موضوع المؤتمر الدولي للسلام، إذ بادر سوية مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن والرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عقده. وكان ذلك مؤتمرا معنويا في أحداثه، حيث إنه لم يطل لأكثر من يومين (28 و29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007)، وتجلى فيه خلاف واضح حول أهداف المؤتمر، حيث أرادت فلسطين وضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، ورفضت إسرائيل ذلك. إلا أنه كان بداية موفقة.

وقد أعقبت المؤتمر مفاوضات جادة بين أولمرت والرئيس محمود عباس، كادت تنتهي باتفاق سلام كامل، إلا أنها انقطعت بإثارة ملف فساد ضده أدى إلى اضطراره للاستقالة ودخوله لاحقا إلى السجن. وقد حل محله بنيامين نتنياهو، الذي يعرقل حاليا هذه المسيرة.

أهمية أنابوليس أن إسرائيل كانت من المبادرين إليه وأن رئيس حكومتها أقنع الأميركيين والروس والأوروبيين بصدق نواياه. وقال بشكل واضح إنه يرمي إلى إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، مع تبادل أراض، وعاصمتها القدس الشرقية. كانت هناك خلافات حول التفاصيل، لكن طرفي المفاوضات أكدوا أنه لو استمرت المفاوضات لعدة شهور أخرى، لكان تم التوصل لاتفاق بشأنها.

وحسب شلومو بن عامي، فإن الفرق بين أنابوليس وغيره من المؤتمرات الدولية بخصوص الشرق الأوسط هو أن الطرفين وصلا إلى المؤتمر وكل منهما يعرف ماذا يريد وإلى أين يريد الوصول وماذا يستطيع الطرف الآخر الوصول إليه معه. فهذا شرط أساسي لنجاح المؤتمر الدولي.

المبادرة الفرنسية

لقد نجح نتنياهو في تعطيل مسيرة المفاوضات، ما بعد أولمرت، وذلك بافتعال الأزمات والحروب واعتماد سياسة تخويف الشعب من الأخطار الوجودية. ولكنه لم ينجح في طرح حل مخالف للحل المطروح: إزالة الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967. وقد ساعدته كثيرا في ذلك الأوضاع الفلسطينية الداخلية، الانقسام وسيطرة حماس على قطاع غزة، وكذلك الأوضاع في العالم العربي التي أسفرت عن انهيار الجيوش وبعض الدول. كلها ساهمت في التهرب الإسرائيلي من مستلزمات عملية السلام. ولكن ليس بشكل مطلق وليس إلى الأبد.

لذلك، تدور في الأفق محاولات فرنسية طيلة سنة كاملة لطرح مبادرة سلام، على الرغم من أن الأوضاع المذكورة أعلاه لم تتبدل. لقد أعادت المبادرة الفرنسية “كابوس المؤتمر الدولي” إلى حكومة نتنياهو، التي عادت إلى الحجج القديمة في رفضها: “الأسلوب الوحيد لتسوية الصراع مع الفلسطينيين والدول العربية هو فقط المفاوضات الثنائية المباشرة مع كل دولة على حدة، فهذا هو الطريق العملى للتوصل إلى السلام وهو ما تحقق فعلياً في معاهدتى السلام الإسرائيلية مع مصر عام 1979 والأردن عام 1994”[9].

ولكن الرفض الإسرائيلي لم يمنع فرنسا من الاستمرار في مساعيها فقررت عقد لقاء تحضيري لا يُدعى إليه الطرفان، لإعداد المؤتمر بشكل ناجع. والقصد من ذلك هو إتاحة الفرصة أمام شعبي الصراع لاستيعاب الفكرة والدخول في نقاشات حولها لعل الضغط من القاعدة يغير رأي حكومة إسرائيل.

وفي الواقع، إن الجمهور الإسرائيلي، ورغم تراجعه عن تأييد فكرة الانسحاب من المناطق الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة، إلا أنه يخشى من الجمود في عملية السلام ويخشى من فكرة الاستمرار في الوضع الحالي الذي تتحول فيه إسرائيل إلى دولة ذات أقلية يهودية. فإذا اقتنع بوجود آمال في المبادرة الفرنسية وبتأييد فلسطيني لها، فإنه سيدير ظهره إلى نتنياهو مثلما فعل في سنة 1999 عندما أسقط حكومته وانتخب المعارضة لقيادته (حكومة إيهود باراك في حينه). وهنا يأتي دور المعارضة الإسرائيلية من جهة وجدية الطرح الفرنسي وحشد تأييد دولي وعربي للمبادرة وموقف فلسطيني مقنع. عندها، لا تعود مسألة رفض المؤتمر الدولي مقبولة على الإسرائيليين.

الهوامش:

[*] كاتب وباحث.

[1] ايلان بابي  Elan Pappé, The Making of the Arab-Israeli Conflict 194 7-1951, 1. B. Tauris, Londres et New York, 1992, p. 201.

[2] وثائق الأمم المتحدة.

[3] محمد الهواري كان قائدا لحركة الشباب الفلسطيني “النجادة” في يافا وهاجر في النكبة إلى لبنان ولكن إسرائيل وافقت على إعادته إلى مسقط رأسه الناصرة. وقد ألف كتابا بعنوان “سر النكبة”، سنة 1956 فند فيه الاتهامات التي وجهت إليه في العالم العربي بأنه تعاون مع الحركة الصهيونية وحمى تل أبيب من الثوار اليافاويين، ودافع فيه عن مواقفه المختلف عليها قائلا إن كل همه كان إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلسطين، وأكد أنه في مؤتمر لوزان لم يقترح أن تضم إسرائيل كل أراضي فلسطين إنما أراد أن ترفع مصر والأردن يديهما عن الضفة الغربية وقطاع غزة لكي تقام عليهما دولة فلسطين المستقلة.

[4] شاؤول زيتوني- كتاب “الردع والسلام” بالعبرية، دار النشر “تريكوبر، تل أبيب ، ص 96.

[5] برتوكولات الكنيست الإسرائيلي، القدس، 3 كانون الثاني (يناير) 1950.

[6] غرشون أفنير، كتاب «تواطؤ عبر الأردن»، تل أبيب، 1956.

[7] ايلان بابي  Elan Pappé, The Making of the Arab-Israeli Conflict 194 7-1951, 1. B. Tauris, Londres et New York, 1992, p. 474 – 475.

[8] شلومو بن عامي– موقع واللا الإخباري على الإنترنت 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011.

[9] بيان وزارة الخارجية الإسرائيلية في 29 نيسان (أبريل) 2016.