نعيم ناصر[*]
لم يكن كتاب الدكتور علي سليمان الوحيد الذي تناول الأدب الصهيوني، بل سبقته كتب ودراسات عديدة لكتاب فلسطينيين وعرب تناولت هذا الأدب، من جوانبه كافة، المتساوق مع الأيديولوجية الصهيونية ونزعتها العنصرية تجاه العرب، عموماً، والفلسطينيين، خصوصا، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: غسان كنفاني، وخليل السواحري، ووليد أبو بكر، وأنطوان شلحت، وصالح العياري، وأحمد بهاء الدين، وغانم فرغل وغيرهم.
ومما يميز هذا الكتاب تحليله العميق لجذور العنف الصهيوني ومصادره تجاه العرب وتوظيفه في الروايات والقصص والأشعار التي كتبها أدباء وشعراء صهاينة، معتمداً على عشرات المراجع العربية والأجنبية، كما يقول عنه الشاعر السوري سليمان العيسى في المقدمة التي كتبها لهذا المؤلف: “دراسة مهمة جدا لقراء العربية، وغير العربية، وهو بمثابة وثيقة أدبية جديدة فيها من الجهد والدأب والبحث ما يجعلها قادرة على شدّ القارئ اليها بقوة ومتعة، تضاف إلى مثلها من الوثائق التي تفضح التزوير والعدوان، وتقف مع الحق والعدل والإنسان”.
يقع الكتاب، الصادر عام 2011 عن الهيئة العامة السورية للكتاب في دمشق، في 232 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن أربعة فصول، يتناول الفصل الأول العنف الصهيوني الموجه ضد العرب، عموماً، في حين يتناول الفصل الثاني روافد هذا العنف، وبخاصة التوراتية والاعتقادية وذاكرة الاضطهاد، وعقدة معاداة اليهود، ونزعة الانتقام. ويتناول الفصل الثالث العنف في الرواية والقصة الصهيونيتين والأدب الموجه للأطفال لزراعة الكراهية والأوهام في نفوسهم. أما الفصل الرابع والأخير فقد خصصه الكاتب للعنف في الشعر الصهيوني، من جهة ثقافة الكراهية والعنف المعنوي أو المبطن واختلاق العدو، وممارسة سياسة الخداع والابتزاز، وقلب الحقائق، والشكوى والتظلّم، كأحد أسلحة العنف، واستخدام العنف بحجة الأمن والدفاع عن النفس، ومضامين العنف في الشعر الموجه للأطفال.
وصاحب الكتاب لمن يجهله، هو شاعر سوري يحمل درجة “الليسانس” في مجال الوثائق والمكتبات من جامعة القاهرة، والدكتوراه في الأدب العربي القديم. وللكاتب عشرات القصائد المبثوثة في خمسة دواوين، وله عدد من الكتب والدراسات والمقالات في مجالات الشعر والسياسة. وترجمت نماذج من شعره إلى اللغات الإسبانية والصربية، والألبانية، والرومانية، والروسية.
قد يحمل عنوان الكتاب موضع القراءَة حسب مؤلفه د. علي سليمان، شيئاً من الغرابة أو المفارقة “إذ من غير المألوف، أو الطبيعي، أن نبحث عن العنف في الأدب، أو يكون الأدب أداة من أدواته، أو أن يسهم الأدباء والشعراء في توليد العنف وتغذيته، أو في الدعوة إليه وتسويقه. فالمألوف والبدهي أن يحمل الأدب فيما يحمله، نزوعاً إنسانياً وأخلاقياً وقيماً تؤكد معاني الحق والعدل والرأفة والجمال، وأن يعطي حياة الإنسان وكرامته وحريته القيمة الأولى، وأن يرتقي بالسلوك والوجدان البشريين، ويسهم في استئصال بقايا الوحشية والعنف والقسوة في سلوك البشر وفكرهم ومعتقداتهم .. لا فرق في ذلك بين أدب الشعوب القديمة وأدب الشعوب المعاصرة، أو بين أدب القبائل البدائية وآداب الأمم المتحضرة”.
وأضاف أن الشاعر والأديب ينحاز، منذ أقدم العصور، إلى المعاني الإيجابية ويدافع عنها ويدعو إلى انتشارها وتكريسها في الحياة، وإلى نبذ نوازع العنف والتحرر من هيمنة الغرائز والارتقاء بالمشاعر الإنسانية وتطهيرها من نزعة القسوة والكراهية، حتى لو عرّضه هذا الانحياز إلى أقسى أنواع العقاب والتنكيل.
وقال الدكتور علي سليمان: “لسنا نبالغ إذا قلنا: “إن أولى وأسمى القيم الإنسانية والأخلاقية والجمالية، وأكثرها رأفة واقتراباً من معاناة البشر وملامسة لأوجاعهم، قد وصلت إلينا على ألسنة الشعراء والأدباء، سواءً في بلاد ما بين النهرين أو سورية وبلاد كنعان، أو في مصر القديمة أو في بلاد الإغريق أو في بلاد الصين أو الهند”.
إن هذا التلازم بين الأدب والقيم الإنسانية على امتداد العصور- حسب الكاتب- “يجعلنا نتردد كثيرا في إطلاق تسمية الأدب، على أي نوع من أنواع الأدب أو الفن، إذا ما تنكر لهذه القيم وارتضى أن يكون خازناً للعنف أو رافداً له، أو تبنى قيماً مغايرة تبرر العدوان وتدعو إلى الكراهية وتسوّغ قهر الآخر، وإذلاله وانتزاع موقعه أو تغذي لديه شهوة التسلط والإرغام ونزعة العنصرية والتعالي”.
هذا التأثير المتبادل بين سياسة العنف التي تتبعها الحركة الصهيونية، وبين عنف أدبها، أسهم في توليد أدب أكثر عنفاً وقسوة ووحشية، وأكثر تحريضا على العنف والكراهية “وإن الصهيونية التي أمدت الأدب وغذته بمقولاتها ومسلماتها العنصرية العدوانية، قد غذاها الأدب بدوره، فتبنى مقولاتها ومسلماتها وقيمها وسوّغ ممارساتها العدوانية التوسعية، بل قد أسهم في تنشئة أجيال تؤمن إيماناً مطلقاً بسياسة القوة والعنف والإرغام .. سياسة تقتلع من نفوس هذه الأجيال أي حب وأي تعاطف إنساني مع الآخر المختلف” على حد تعبير الكاتب.
العنف في الرواية والقصة
يرى د. علي سليمان أن أدب الرواية والقصة الصهيوني أخذ شكلين، أو مظهرين مختلفين في الشكل، لكنهما يتفقان ويلتقيان في الغاية والهدف: الشكل الأول الأكثر وضوحاً ومباشرة، هو العنف المادي الذي يتجلى في الدعوة إلى اغتصاب الأرض وهدم البلدات والقرى والمنازل والمساجد والكنائس والمقابر الفلسطينية، أو في التحريض على عمليات القتل والتنكيل والإذلال والمطاردة، وفي المجازر اليومية وعمليات المداهمة المستمرة، أو الحض على قطع الأشجار وإتلاف المزروعات والمحاصيل وجرف التربة وطمس المعالم الجغرافية.
أما الشكل الآخر من أشكال العنف فهو العنف المعنوي، أو العنف المبطن، وهو عنف يخدم العنف الأول، ويكمله ويمهد له ويسوّغه، ثم يأخذ بدوره أشكالاً عديدة، تشوه كلها صورة العربي وتحطّ من شأنه وتسطو على الحقائق أو تزيفها أو تطمسها، وتستخدم مختلف وسائل التضليل والخداع والتحايل والابتزاز والترغيب والترهيب، والمتاجرة باللاسامية ومزاعم الاضطهاد والعداء لليهود ومزاعم التفوق والاصطفاء، وغير ذلك من أشكال العنف المعنوي.
وعلى هذا المنوال يقدم الروائي “يزهار سميلانسكي” في روايته “خربة خزعة” مشهداً من مشاهد العنف والقسوة وأساليب التنكيل والإذلال التي مارستها القوات العسكرية الإسرائيلية ضد سكان إحدى البلدات الفلسطينية التي تحمل اسم هذه الرواية لإرغامهم على الهجرة منها، وتركها للمستوطنين اليهود شأنها شأن مئات البلدات والقرى الفلسطينية التي نكلت قوات الاحتلال بسكانها وأرغمت من بقي منهم على الهجرة لتقام على أنقاضها المستوطنات اليهودية.
فسيملانسكي الذي يعترف في روايته بالممارسات اللاإنسانية غير المبررة، التي مارستها إحدى الوحدات العسكرية الإسرائيلية لإرغام سكان هذه البلدة على مغادرتها، والذي هو نفسه يستنكرها، ويظهر تعاطفه وشفقته على سكان البلدة الفلسطينية، قد مارس بدوره نوعاً من العنف والقسوة ضدهم، حيث جرد سكان القرية من الصفات الإنسانية، فوصفهم على لسان أشخاص الرواية بأقبح الصفات وأكثرها مدعاة للنفور والاحتقار، فهم “أشبه بالحيوانات أو الديدان أو الجيف، التي تلوث كل شيء، وهم قذرون محتالون، جبناء، ما أن يروا اليهود حتى يتغوطوا في سراويلهم، وهم أذلاء بلا كرامة يشبهون الكلاب في ملبوسهم، ومذعورون كالقطيع، مستسلمون للقدر لا تربطهم بالأرض أية رابطة، بل إن دوابهم وماشيتهم أهم عندهم من الأرض” (ص81). وحتى الطفل الفلسطيني، فإن “سميلانسكي” يمارس ضده نوعاً من العنف حين يشوه صورته ويحرض على قتله، ويصفه على لسان أحد أفراد الحملة بأنه “لا يمكن أن يكون حين يكبر إلا حية سامة”.
في معركة الإبادة الجماعية التي يعلنها “إسحق شليف” في روايته “حادثة جبرائيل بتروش” على لسان مدرس يعلم الطلبة لغة العنف والقتل والكراهية، لا ينسى أن يذكر الإسرائيليين بمصير الصليبيين، وأن يدعوهم إلى تفادي مصيرهم واستخلاص العبر.
وعقب د. علي سليمان على دعوة “شليف” للقتل قائلاً: يأخذ “شليف” وعدد من الأدباء والسياسيين الإسرائيليين بنظرية المفكر الصهيوني الألماني “ماكس نوردو” التي تتحدث عن العلاقة بين الفريسة والمفترس إلى اليأس وإلى الاقتناع بعدم جدوى المقاومة. والتي تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي (الحالي) “نتنياهو” ودعا إلى تبنيها في الصراع مع العرب في كتابه “مكان تحت الشمس” وإلى الاستمرار في سياسة القوة والإخضاع والضربات الموجعة المتتالية ضد العرب، حتى يصلوا إلى حالة اليأس والتسليم بواقع الاحتلال، والاقتناع بالعبث وعدم الجدوى من مقاومة الغزاة الإسرائليين، تدفعهم إلى الخضوع والتسليم بواقع الاحتلال، والتعايش معه لاعتقاده بأن العربي لا يفهم ولا يستجيب إلا للغة القوة والإخضاع” (ص88).
والعرب عند الروائي “يهودا بيرلا” عدوانيون يحرقون ويخربون ويذبحون الأبناء أمام أعين آبائهم. وعند الروائي “موشيه ستافي” يتصفون بالوحشية والغدر والجبن ومعتادون على الخضوع. وهم عند الروائي “موشيه سلابيسكي” في روايته “القرية العربية” قذرون جهلة يعتبرون أن القذارة والاتساخ تقويان جسم الطفل، وأن العربي يبصق في فنجان القهوة كي لا ينظفه، ويلبس ثوبه ولا يغيره إلى أن يبلى ويكون مليئاً بالقمل والبراغيث.
والعربي عند الروائي “موشيه شمير” في قصته “حياة شعب إسماعيل” إذا أراد الاستحمام فإنه يدخل قليلاً من الماء في فمه ثم يدخل إصبعه ويفرك أسنانه ثم يتناول حفنة من الرمل والوحل ويفرك بها جسده.
وقد بلغ الجنوح والتجني أقصاهما عند بعض الأدباء الإسرائيليين في تشويه صورة العربي والحط من شأنه، أن بعضهم لم يجد فرقاً بين العربي وحماره، كما في رواية “الأرض العطشى” للروائي “يورام كانيوك”.
وفي قصة “رحمة” للروائي “حاييم هزاز” يصف العربي بأنه مفرط الغباء، ضيق الأفق والتفكير حتى يصعب التمييز بينه وبين حماره الذي يركبه. أما المرأة بالنسبه للعربي فإنها في نظره مجرد وسيلة للمتعة الجنسية.
ويصف الروائي “جون كليري” العربي في روايته “موسم الشك” بالكذب والخداع والجشع واللؤم والخبث، لا فرق في ذلك بين أميّ جاهل وبين من تخرج من الجامعات.
أما الروائي “موشي ستافي” فقد دخل في قصته “الضيف” عالم الحيوانات وأسبغ على الكلاب في إحدى القرى الفلسطينية طبيعة بشرية تشبه طبيعة الإنسان العربي. وواضح أن المقصود بالكلاب هم العرب “فهم مزاجيون سريعو الغضب” .. وفي هذا إشارة للخصائص العربية التي تحول دون تفاهم العرب مع اليهود، على حد قوله.
أما الروائي “بنحاس ساديه” فإنه لا يرى في الفلسطيني في روايته “العشب الأحمر والنهر الأخضر يتدفق للأبد” أكثر من شبح قبيح وعدواني لا يظهر إلا في الظلام متربصاً باليهودي المسالم صاحب الأرض المتمسك بها والمحب للحياة، من خلال تهديده لعلاقة الحب الحميم والسامي التي تربط بطلي الرواية: “أفشالوم” الذي يرمز للشعب اليهودي و”أفيجيل” التي ترمز إلى أرض إسرائيل التاريخية. والعربي الفلسطيني في هذه الرواية يشكل الحائل دون تلاقي الشعب اليهودي وتلاحمه بأرضه. كما يشكل الخطر الذي يتهدد هذه العلاقة الإنسانية ويحاول فصمها والحيلولة دون تحقيقها حين يطعن بالسكين “أفشالوم” العاشق وهو في حالة عناق وتلاحم مع حبيبته “أفيجيل”.
وبينما يحتضر “أفشالوم” دافعاً ضريبة العناق والتماهي بـ”أفيجيل” رمز أرض الميعاد، وتحقيقا للحلم الصهيوني في امتلاك فلسطين، يحض الروائي الصهيوني على الهجرة إلى فلسطين، التي رمز إليها بأسراب الكراكي المهاجرة التي كانت تعبر الفضاء فوق “أفشالوم” النازف و”أفيجيل” التي تحتضنه بتفاؤل حالمة قائلة له: “بعد قليل، الآن أدفئك يا “أفشالوم” .. إن يديك باردتان .. ولكن بعد قليل عندما تطلع الشمس ستدفأ.. إن الشمس ستدفؤنا جميعاً .. ستدفئ الأرض والأعشاب والزهور. كلنا سنصحو وسنفيق ونلبس ثياباً ملونة .. فقط انتظر قليلاً، من العسير عليك أن تتنفس الآن، إنني أسمع هذا، لو استطعت أن أعطيك هوائي الذي أتنفسه .. أن أعطيك كل شيء .. ألست أنت يا “أفشالوم” .. وألست أنا أنت وسأكون لك دائماً وستكون لي، وسآتي إليك دائماً وستجدني” (ص92).
*****
وعقب عرضه ملخصاً مقتضباً لمضامين قصص وروايات بعض الروائيين الصهاينة العنصريين، يخصص د. علي سليمان في كتابه، موضوع القراءة، صفحات عديدة لأعمال الكاتب الإسرائيلي “عاموس عوز” الذي يعد من أبرز الكتاب والروائيين الإسرائيليين وأغزرهم إنتاجاً، وأقدرهم على التقاط وفهم المتغيرات الاجتماعية، والذي انتقل من صفوف اليمين إلى صفوف اليسار الصهيوني، وصفه بأنه يمارس سلاح التضليل والتعالي وتجاهل الحقائق، ويسهم إسهاماً كبيراً في زرع بذار العنف والعنصرية والكراهية في البنية العقلية الإسرائيلية وفي نفوس الأجيال “حين يشارك في تشويه صورة العربي والحط من شأنه والانضمام إلى جوقة المتاجرين باللاسامية واضطهاد اليهود وطمس الحقائق التاريخية والتلاعب بها وفي السطو على تاريخ الفلسطيني وعلى تراثه” (ص94).
ففي روايته “الحروب الصليبية” يتلاعب “عوز” بالتاريخ، فيتجاهل ما يشاء من الحقائق التاريخية أو يقفز فوقها أو يزيفها حين يغفل دور الطرف العربي والإسلامي إغفالاً تاماً في الحروب الصليبية التي كان هدفها الرئيسي تخليص الأراضي العربية في فلسطين من الفرنجة. ولجأ إلى إيهام القارئ بأن هدف الحروب الصليبية كان قتل اليهود والتنكيل بهم واغتصاب أموالهم وممتلكاتهم ونسائهم، فحسب، تحت راية الصليب وبحجة تحرير القدس.
هنا لا بد من تعقيب على ما أورده د. علي سليمان بخصوص المضامين العنصرية لأعمال “عاموس عوز”، التي يبدو أنه أنجزها في مطلع حياته عندما كان متطرفاً في أفكاره العنصرية، إذا ما قورنت بعمله الروائي الجديد الذي حمل عنوان: “سلاماً أيها المتعصبون” ويحذر فيه من هاوية العنصرية وخطورتها على المجتمع الإسرائيلي، ويحذر من التعصب والمتعصبين الذين “لا يفكرون بأنفسهم مقدار انشغال فكرهم بالآخرين، فهم يريدون أن تكون مثلهم، وتنتمي إلى عالمهم غير السوي، وغير المتسامح والمأخوذ بالتعميمات والوعي المزيف”. وينتقد مفهوم “الطابع اليهودي” كمصطلح عنصري “لم يرد ذكره في الكتب الدينية كالتوراة والتلمود”، على حد تعبيره.
وتحت عنوان: “أحلام يحسن الإسرائيليون صنعاً لو تحرروا منها” يقدم “عوز” في روايته سالفة الذكر قراءة في الراهن السياسي الإسرائيلي، وفرض السيادة العسكرية على الضفة الغربية، ويؤكد أن الحرب التي لا تحقق هدفاً تعتبر هزيمة. والخيار الأمثل في نظره قيام دولتين (فلسطينية وإسرائيلية) “لأن خيار دولة ثنائية القومية لا يمكن تطبيقه داخل منظومة التعريف “دولة يهودية ديمقراطية”. أما تأجيل قيام دولة فلسطينية، وهذه جهود اليمين الاستيطاني، فإنها تزيد من إحكام قبضة المتعصبين على مقاليد البلاد” يقصد إسرائيل.
ويبدي “عوز” تشاؤمه وتخوفه من استمرار الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة متنبئاً بما هو أسوأ (لإسرائيل) على غرار خراب الهيكل الأول على يد البابليين، والثاني على يد الرومان بسبب مواقف المتعصبين وقناعاتهم بالخوارق وقوى ما فوق الطبيعة. (صحيفة القدس المقدسية 25/8/2017).
*****
من سمات الأدب الصهيوني، وبخاصة في الرواية والقصة، المؤسسة للدولة العبرية- حسب د. علي سليمان- أنه لا يتعمد إغفال الحقائق والقفز فوقها، فحسب، بل يتعمد تزويرها لصور خادعة مقلقة مغايرة للواقع. “فصاحب الأرض في هذا الأدب غاصب، معتد، مدان، لا حق له في أرضه، بحجة أنه مخلوق بدائي، متخلف، قبيح، منفّر، جبان، أو بحجة أنه محدود الذكاء، غافل غير قابل للتطور، معاد للحضارة والتقدم بفطرته. وقد يصل العمى الأخلاقي عند أصحاب هذا النوع من الأدب العنصري المضلل، أن أصحابه لا يجدون حرجاً أو تناقضاً بين الدعوة إلى قتل العربي والانتقام منه واغتصاب أرضه ووطنه بحجة أن النازيين اضطهدوا اليهود ونكلوا بهم، بل يجدون في ذلك ما يكفي من المبررات المقنعة لقتل الفلسطيني واغتصاب وطنه، أو بذريعة أن لا خيار أمام الإسرائيليين إلا قتل الفلسطيني، وتهجيره لأنه قاوم احتلالهم .. أو حين يزعمون أنهم لم يفعلوا في احتلال فلسطين أكثر من استعادة الأرض الموعودة، التي وعدهم بها الله دون أن يكونوا ملزمين بتقديم أية وثيقة أو صكوك ملكية موقعة من الله الذي وعدهم وملّكهم هذه الأرض، أو حين يزعمون أنهم احتلوا فلسطين خوفاً على العرق اليهودي الصافي والسامي من الاندماج والذوبان في الأعراق الأخرى، وحفاظاً على نقاء عرقهم وتفوقهم، أو حين يزعمون أن العرب لا يستاهلون هذه الأرض، ولم يدافعوا عنها حين احتلها المهاجرون اليهود، إلى آخر هذه السلسلة من الأكاذيب والمزاعم المضللة” (ص97).
والروائي “شوموئيل يوسف عجنون” يعد من أبرز هؤلاء الأدباء الإسرائيليين الذين وظفّوا الأدب واستخدموه في عملية تزوير الحقائق وطمسها، وفي توليد البغضاء والكراهية والعنف ضد العرب، وشارك في حملة التهييج العنصري والانتشاء العرقي في المجتمع الإسرائيلي، وقدم لقرائه صورة زائفة ومضلله عن حقيقة الصهيونية وأهدافها الاستعمارية التوسعية، وعن الشعب الفلسطيني وحقوقه، فجعل منه خصماً دخيلاً على أرضه ووطنه. بل جعل منه عنصر هدم وتخريب وتدمير للحضارة، وحاول إزاحته عن مسرح التاريخ، فلا وجود لفلسطين أو للفلسطينيين في أعماله .. هناك فقط أرض إسرائيل وشعب الله المختار. أما وجود الفلسطينيين، “إذا ما وجد”، فليس أكثر من ظاهرة شريرة عدوانية معادية للحضارة، على حد وصفه.
ويستغل “عجنون” الحديث عن تلك الهجرة اليهودية التي تمت في الماضي البعيد، للدعوة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، وإلى توسيع حدود الدولة العبرية في كل الاتجاهات “فليأت ذلك اليوم الذي تمتد فيه القدس في كل الاتجاهات حتى تصل إلى دمشق”. وهنا يستغرب د. علي سليمان، مؤلف هذا الكتاب (العنف في الأدب الصهيوني) كيف منح “عجنون” جائزة “نوبل” في الأدب التي حولها إلى أداة احتلال وتوسع، وإلى ترويج للخرافة والاستعمار دون أن يجد في ذلك حرجاً.
ونحن بدورنا نقول أن لا عجب في هذا لأننا نعيش في عصر الرأسمالية المتوحشة، وفي عالم لا يحترم إلا القوي المخادع والويل للضعفاء والمستكينين.
العنف في الشعر الصهيوني
يفصّل د. علي سليمان هذا العنوان بقوله إن الحركة الصهيونية وشعرها لم يولدا من رحم الشرق، ولم ينشآ في حاضنته، أو أن يتنفسا من مناخه الروحي والثقافي والأخلاقي، ولم ينهلا من مثله وقيمه وإرثه الحضاري، بل ولدا من رحم الغرب الاستعماري، ونشآ وترعرعا في حاضنته وتنفسا من مناخه، ونهلا من ثقافته وحضارته وقيمه ومفاهيمه العنصرية الاستعمارية. “فالحركة الصهيونية تفاخر بانتمائها للحضارة الغربية، وبأنها تشكل قلعة متقدمة للغرب وللحضارة الغربية في وجه الشرق البربري”. وأضاف: “بل إن الحركة الصهيونية دخيلة على روحية القيم والمثل العليا اليهودية نفسها وغريبة عن جوهر الدين اليهودي، وأنها لم تأخذ من أسفار العهد القديم، إلا ما يحض على العنف والكراهية واحتقار الآخر”.
وفي هذا السياق يرى الكاتب أن الموضوعية والأمانة العلمية تفرض عليه التفريق بين اليهودية كدين، وبين الحركة الصهيونية كأيدولوجية وحركة سياسية استعمارية لها أطماعها التوسعية تحاول أن تخلط وتدمج ما بينهما من اختلاف وتباين في الجوهر، خدمة لأهدافها الاستعمارية التوسعية.
كما يرى أن من الانصاف التفريق بين الشعر اليهودي، بل بين بعض الشعراء الإسرائيليين، وبين شعراء الحركة الصهيونية، لما بينهما من تباين واختلاف. بل يمكن القول على لسان الكاتب: “إن بعض الشعراء والمفكرين اليهود هم أشد نفوراً ورفضاً للصهيونية وممارساتها العدوانية التوسعية من بعض الأدباء والمثقفين والسياسيين العرب”. فالشعر الصهيوني الذي هو أحد مواضيع بحث الكاتب “هو الذي بشر بالدولة الصهيونية وروج لها وأسهم في تأسيسها، وسوّغ قيامها على أنقاض الشعب الفلسطيني وعلى أرضه وممتلكاته وحقوقه. بل كان موّلداً للحركة الصهيونية وحاملاً لأيديولوجيتها، ومسوغاً للأجيال الإسرائيلية ونهجها في اللجوء إلى استخدام العنف والتنكيل بالعرب ومزكياً في نفوسها أوهام الحق الإلهي في فلسطين والتفويض باحتلال أرض الآخرين”.
وبحسب الكاتب، فإن الشعر الصهيوني استند إلى المفاهيم والمقولات والإرث اليهودي التي تخدم الأيديولوجية الصهيونية وعنصريتها وأهدافها، وأغفل ما عدا ذلك من قيم الشرق ومن تعاليم الدين اليهودي وقيمه ومثله. وأخذ من الأيديولوجية الاستعمارية عدوانيتها وعنصريتها، فجاء شعراً مخضباً بالعنف فريداً وشاذاً بين تجارب الشعر، عموماً، وتجارب شعر الشرق، خصوصاً، في تنكره لدور الشعر ورسالته الإنسانية والفنية والجمالية، متباهياً بالعنف والقتل والاحتلال ورفض السلام العادل، وإظهار الجانب المتوحش المفرط بالقوة والسادية.
واستشهد الكاتب على كلامه سالف الذكر بقصيدة للشاعر الصهيوني “يونثان غيفن” أثناء عودته في إجازة بعد مشاركته في العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 1982، هذا نصها:
حينما عدت من إجازتي إلى وحدتي التي تقاتل عند مداخل لبنان بادرني “بوعز” بالسؤال: كيف كانت الإجازة؟ قلت له: إن والدتي بكت كثيرا لأنني لم أحضر لها رأس أحدهم ..؟ والدتي بكت لأني لم أقتل المزيد .. (ص 131) |
وفي مقطوعة شعرية لهذا الشاعر الصهيوني بعنوان: “دماء صبرا وشاتيلا” قال:
هناك في مقهى بكريات شمونة
كان جمهور غفير يجلس أمام الشاشة الصغيرة .. لمشاهدة الأسرى الفلسطينيين صرخ الجمهور وصرخت أنا أيضاً ابتهاجاً بالحشد الجميل حيث الإرهابيون في طريقهم إلى المعتقل: اقتلوهم صرخ الجمهور صرخنا جميعاً: احصدوهم .. اذبحوهم .. اقتلوهم في صبرا وشاتيلا شاهدت دماءً كثيرة. فارتاحت نفسي (ص134) |
وليس الشاعر “غيفن” حالة فريدة في هذا التوجه المسرف بالقسوة والعنف، وليس استثناء بين شعراء الحركة الصهيونية. إنه واحد من بين عشرات الشعراء الإسرائيليين الذين تبنوا هذا التوجه، وساروا فيه وجندوا أنفسهم وشعرهم في خدمة أهداف الحركة الصهيونية. من هؤلاء أورد د. علي سليمان الشاعر “ابشلوم كور” الذي تشبع بثقافة العنف والكراهية، واعتبر من دعاتها والمبشرين بها. فقد قال في قصيدة عنوانها: “لو كنت قائداً لجيشنا الأسطورة”:
لو كنت قائداً لجيشنا الأسطورة
جيشنا العظيم ووقفت عند أبواب المدينة المحاصرة المختنقة مدينة “المخربين” مدينة الفلسطينيين لزرعت الموت والدمار في كل المزارع والشوارع في كل المساجد والكنائس هل يرحلون من المدينة المحاصرة المختنقة؟ إلى أين سيرحلون؟ وأين يسكنون؟ هل سيسكنون عندنا؟ سمعت أنهم سيسكنون في “مسعاف هاعام” أو أنهم يسكنون عند أسواق “معلوت” عند أسواق نهاريا ..! لا سكن لهم عندنا لا رحمة لهم عندنا لن يكون لهم وجود في عالمنا اليوم في حملة سلامة الجليل سنسفك الدماء الكثيرة ونقتل الأطفال والنساء والشيوخ كي يعلموا بأننا لن ننسى أطفال معلوت ومسعاف هاعام لو كنت قائداً لجيشنا الأسطورة لما تركتهم يرحلون من المدينة المحاصرة المختنقة (ص139) |
أما الشاعر الإسرائيلي “أفرايم سيدوم” فجعل من شعره منجلاً لحصاد رؤوس الأطفال والنساء والأمهات الحوامل والأرامل حين قال في إحدى قصائده التي أوردها الكاتب:
يا أطفال صور وصيدا
إني أتهمكم ألعنكم أيها المخربون الإرهابيون الصغار يامن تحملون (الآر بي جي) بدل الحقائب والكتب إني أتهمكم .. ألعنكم ستنامون محطمي العظام في الحقول، في الطرقات لا تسألوا لماذا؟ إنه العقاب والآن حان عقابكم (ص150) |
وفي قصيدة أخرى للشاعر نفسه وجهها إلى رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق “مردخاي غور” بعد توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في لبنان بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 24/7/1982 قال:
يا “مردخاي غور”
سأقص عليك قصة حتى لو حوّل ياسر عرفات اسمه في احتفال رسمي ليكون “موشيه” حتى لو تخلى عن كل الفدائيين عن أسلحتهم وعقيدتهم وأرسلوا بطاقات التهنئة لكل بيت يهودي في رأس السنة العبرية حتى لو شاركتنا المنظمة في بناء المستوطنات لليهود القادمين الجدد وحتى لو أعلنوا أمام الملأ أن الضفة أرض يهودية وحتى لو قامت نساء “فتح” بنسج قبعات الصوف لجنود إسرائيل وحتى لو اعترفوا بالدولة اليهودية وقدموا لنا كل أموال التبرعات التي يتلقونها وحتى لو التزم ياسر عرفات أمام الملأ بأننا الذئب وهم الغنم وحتى لو نقلوا اللاجئين إلى القطب الشمالي ورفعوا رايات الهزيمة أياما وليالي وحتى لو تحولت سيوفهم إلى أقلام ومساطر فلن نجالسهم أبداً ولن نحاورهم (ص152-153) |
والتحريض على قتل الفلسطينيين لم يقتصر على الجنود الإسرائيليين، بل طال طلاب المدارس في إسرائيل. فها هي الشاعرة “نعمي شيمر” تخاطب الطلاب اليهود وتشجعهم على قتل الفلسطينيين والعرب، ورجمهم بالقنابل والقذائف، وتدمير الشوارع، وهدم المنازل فوق رؤوسهم، معتبرة مهاراتهم في تنفيذ هذه المهمة مقياس النجابة والاجتهاد والتفوق.
وفي هذا يورد الكاتب قولها:
لو أنهم كانوا تلاميذ مجتهدين
يتقنون الدرس لكانوا نصبوا مدافعهم على مداخل المخيمات وأمطروها بالقنابل بالحديد الملتهب ثم لو أنهم تلاميذ مجتهدون لكانوا استخدموا الدبابة من مسافة قريبة ودمروا البيوت والشوارع ولم يتركوا أحداً .. (ص155) |
وفي إحدى قصائدها، التي أوردها الكاتب، تجرد “شيمر” شعوب ودول المنطقة من مميزاتها وصفاتها البشرية فلا ترى فيها أكثر من كلاب أو وحوش لا تكف عن التصارع والتقاتل:
ماذا علينا
ليذبحوا بعضهم بعضا ليذبح أحدهم أخاه هذا ما قاله الجنرال “روفائيل إيتان” وهو يتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية لقد قالها “بيغن” ذات يوم: كلاب تقتل كلاباً فلماذا نتدخل نحن؟ العرب سيظلون هم العرب وما حدث في بيروت كان سيحدث لنا حتماً لو أن العرب كانوا المنتصرين (ص156) |
وكما كره الزعماء الصهاينة فكرة السلام العادل مع العرب، كرهها كذلك عدد من الشعراء الصهاينة.. فها هو الشاعر الإسرائيلي “حاييم حافير” يسخر من كلمة السلام، كون إسرائيل ليست، بنظره، بحاجة إلى هذا السلام وترفض أن يكون للفلسطينيين مكان في إسرائيل إلا تحت الاحتلال، وما عليهم إلا الاختيار، إما البقاء تحت الاحتلال، وإما الطرد خارج “إسرائيل” وأفصح عن معتقده هذا في قصيدة اختارها الكاتب بعنوان “حصار السلام”:
فلتكن حرباً
لسنا بالسلام واثقين التصريح أو البيان وحتى الإعلان لا يثبت لنا أن هذا ليس مناورة مضللة وانظر أية خدمة يستطيع سلام كهذا أن يعطي ..! ونحن، عموماً، لا نحتاجه وصدقني أي سلام مع العرب ليس إلا مراء وتقول لي ثانية: إننا وقّعنا اتفاق سلام مع مصر؟ (ص159) |
ويمضي الشاعر “حاييم حافير” في سخريته من دعاة السلام محذرا من خطر الوجود الفلسطيني داخل إسرائيل، داعياً إلى ضرورة التخلص منه قائلاً:
أما هنا عندنا في الدار
نراهم ونرى نظرة حقدهم من وراء الجدار لو استطاعوا .. ما تركوا بنا جزءاً سالماً يجب أن نبقى بالمرصاد انظر كيف بالمكائد يصنعون لنا سلاماً .. (ص160) |
****
أمام هذه الأصوات الحاقدة من الشعراء الصهاينة على الشعب العربي، عموماً، والشعب الفلسطيني، خصوصاً، التي تتخذ من أمن إسرائيل ذريعة لشن الحروب على الفلسطينيين، وبخاصة على المخيمات الفلسطينية في لبنان، برز شعراء إسرائيليون يكذبون هذا الادعاء والذرائع الزائفة. فها هو الشاعر الإسرائيلي “إيلي ألون” يعبر عن خجله من جرائم إسرائيل في لبنان بقوله:
إني أخجل من نفسي
يا شعبي .. يا كل شعبي فأنا قاتل طفل في عمر أطفالي الصغار هناك في أحراش بلاد الأرز |
أما الشاعر الإسرائيلي “ب. ميخائيل” فيفضح البراءة الزائفة للمسؤولين الإسرائيليين بادعاء أنهم
لم يشاركوا في مذبحة صبرا وشاتيلا:
حكومتي تدعي وتصر على ادعائها
بأنها حالت دون وقوع مذبحة كبيرة حكومتي تدعي البراءة نحن أنقذنا حياة كل هؤلاء الذين لم يقتلوا وبما أن الباقين على قيد الحياة هم أكثر من عدد الضحايا فمن الواضح إذن أننا منعنا وقوع مذبحة كبيرة هكذا تقول حكومتي البريئة ماذا يريدون مني؟ يداي لم تسفكا الدماء ولكنني أمسكت بالضحية فقط حين وضع الجزار سكينه فوق عنقها (ص207) |
وهنا صرخة احتجاج أخرى أوردها الكاتب عن مجلة “هعولام هزيه” اليسارية الإسرائيلية بتاريخ 9/3/1983، تفضح فيها القيادة الإسرائيلية في حربها ضد الفلسطينيين في لبنان التي أطلقت عليها اسم “حرب سلامة الجليل”:
اثنان من ضباطنا الكبار
وجيش كبير وقفوا في شاتيلا ورأوا كل شيء ذبحوا كل شيء وجاء القاضي فاستجوبهم وهذا كل شيء اثنان من ضباطنا الكبار ذبحوا كل شئ في دولة الأقزام تثور الضجة الكبيرة حول “سلامة الجليل” الجيش يرتدي اللباس يحمل العتاد وفي المقدمة يسير المجرم “أرئيل شارون” ويصدر الأوامر المجرمة دوماً، أسئلة تطرح يا حربنا المجنونة إني اكرهك يا دولة الأقزام إني ألعنك (ص209) |
أدب الأطفال وزراعة الكراهية والأوهام
تحت هذا العنوان يبرز الكاتب د. علي سليمان حرص الأدباء المؤسسين للحركة الصهيونية على أن يجعلوا من أيديولوجية الكراهية والعنصرية والعنف نهجاً وأسلوباً تؤمن به وتتبناه الأجيال الصهيونية اللاحقة وتتغذى منه، وذلك عن طريق صياغة أدب مخصص للأطفال وطلاب المدارس، يزرع في نفوسهم وعقولهم بذور العنف والكراهية والعنصرية ونزعة التعالي، واحتقار من ليس يهودياً، وبخاصة الإنسان العربي، فقد تجند عدد من كتاب أدب الأطفال الإسرائيليين للقيام بهذه المهمة، فكرسوا نتاجهم لخدمة أيديولوجية العنف والكراهية والتعالي وتغذية نزعة التفوق العنصري وترسيخها في الذهنية العقلية والسلوكية للأجيال الإسرائيلية المتعاقبة.
وبين الكاتب كيف أسرف هؤلاء في رسم صورة الطفل اليهودي فجعلوه أقرب إلى الإنسان الأسطوري حين سلبوه مزايا الطفولة وغذوه بأوهام التفوق والتمايز عن بقية أبناء البشر، وحقنوه بمشاعر الكراهية والبغضاء والعنصرية ونزعة الانتقام، وسوغوا له اغتصاب حقوق الآخر والاستهانة بكرامته وحياته.
“فالطفل اليهودي في هذا الأدب مخلوق جبار لا يقهر .. إنه بالغ الذكاء والقوة، واسع الحيلة سريع البديهة، سليل شعب مختار يجترح المعجزات، ويصل إلى أهدافه بسهولة ويسر. أما الإنسان العربي فهو في هذا الأدب عدو بغيض، قبيح، غبي، بدائي، مخادع، ذليل، معاد بفطرته للحضارة والتطور، لا يفهم ولا يستجيب إلا لمنطق القوة والغلبة .. وفضلاً عن هذا كله فإنه يكره الحب والجمال وينفر من كل ما هو جميل وجديد، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير ومتعلم وأميّ”، حسب الكاتب.
ومن أبرز الكتاب الإسرائيليين الذين كرسوا أدبهم لهذه المهمة، ومن أكثرهم رواجاً بين صفوف الناشئة الإسرائيلية، ذكر المؤلف كاتبين يكتبان باسمين مستعارين أحدهما يدعى “هازي لابين” واسمه المستعار “ايدواستير” ويعني المتكلم، وبطله يدعى “أوزيا أوز” أي القوي الشجاع، والكاتب الثاني هو “شراجا أغافني” واسمه المستعار “أن ساريج” ويعني الشبكة القوية الفعالة، وبطله يدعى “داندين” أي الطفل الخفي. وتدور أحداث قصصهما حول مغامرات وبطولات هذين الطفلين “المعجزين” ضد “العدو” العربي.
ويورد المؤلف قولاً للكاتب “شراجا أغافني” مفاده أن هدفه من وراء ما يكتبه هو تغذية الأطفال “بحب أرض إسرائيل، وإبراز الصفحات المجيدة لشعب الأنبياء كي يكون الطفل الإسرائيلي مثل بطل القصة”.
أما الكاتب “هازي لابين” فيقول حول هذا الموضوع، كما أورده الكاتب: “كنت أسأل نفسي باستمرار ماذا يمكن أن أقرأ لو كنت طفلا أعيش مثل هذا الواقع” ثم يجيب: “نحن نعيش في زمن صراع مع العرب .. نعيش فيما يمكن أن نطلق عليه حقول الدم. لهذا نجد من واجبنا أن نبتعد عن كتابة القصص الجميلة، التي تتحدث عن الفراشات والزهور”. ويضيف كاشفاً عن الهدف الحقيقي لكتاباته: “إنني أريد أن اخلق الجيل الذي ينتقم لي ويأخذ بثأري. وهذا الجيل هو مئات الآلاف من القراء الأطفال الذين يتهافتون على قراءة كتبي”.
وعندما سئل “لابين” عن مؤلفاته وكتبه التي تغذي الشعور بالنقمة والحقد والجريمة لدى الأطفال أجاب: “هذا هو مشهد الحرب التي نخوضها ضد أعدائنا، ولا يوجد أمامنا خيار إلا مواجهتهم وتحطيمهم”.
كلمة أخيرة
بالرغم من أهمية كتاب الدكتور علي سليمان، وما قدمه من إضافات جديدة للقارئ العربي عن الأدب الصهيوني الذي يروّج ويدعو إلى اضطهاد العرب ويحقّر من شأنهم .. بالرغم من كل ذلك، إلا أنه لم يتوسع في المقابل بذكر أعمال الأدباء والشعراء اليهود، عموماً، ونظرائهم الإسرائيليين، خصوصاً، الذين نبذوا العنف الموجه ضد العرب ودعوا إلى التعامل معهم كأنداد لليهود يستحقون كل الاحترام والتقدير، وأدانوا الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وممارسات جنوده اللاإنسانية بحق الفلسطينيين، من أمثال الكاتب إيلان بابيه، ونتان زاخ، ويتسحاق شامي، وبنيامين تموز، وأيهود بن عيزر وغيرهم من الكتاب الإسرائيليين من أصول عراقية من أمثال: مير بهري، وشمعون بلاص، وسمير نقاش، ونعيم قطان، وشموئيل موريه، وساسون سوميخ، وسامي ميخائيل، والكاتبة الموج بيهار وتسيوبنيت.
وقد عمد هؤلاء إلى الخروج عن الأسلوب التقليدي السائد في الأدب العبري، فقدموا شخصيات فردية عربية، عوض التعميم الحاقد على العرب لكونهم عرباً، المبثوث في الأدب الصهيوني. فقد اهتم الروائي “يتسحاق شامي” على سبيل المثال لا الحصر في رواياته بالعربي كفرد فوصفه كإنسان له مشاعر وأحاسيس، يكره ويحب شأنه شأن كل الناس. وتناول “بنيامين تموز” في رواياته شخصيات عربية متمدنة ومثقفة. وتساءل “أيهود بن عيزر” مستنكراً في إحدى دراساته عن الأدب الإسرائيلي: لماذا تواصل العقلية الصهيونية تشويه صورة العربي وتكريس العداء العرقي والعنصري له؟ ولماذا تقوم الصهيونية بتوريث دورها (كشرطي قمع وكلب حراسة) إلى الأجيال الصاعدة عبر المنهاج المدرسي وقصص الأطفال؟ وبعبارة أوضح يمكن القول إن هناك فرقاً في النظرة للشخصية العربية التي تناولها الأدب العبري في إسرائيل بين الكتّاب الذين ولدوا في فلسطين أو هاجروا، أو هجروا إليها من الدول العربية، والكتّاب الذين هاجروا إليها من أوروبا، وكذلك بين الكتاب الذين ينتمون لأحزاب اليمين واليمين المتطرف، أو لليسار، أو للتيار المعتدل، فكان لكل نظرته الخاصة تجاه العربي وحياته ومجتمعه .. فمنهم من عرف العربي على حقيقته فأبرز حسناته وسيئاته، كأي إنسان، ومنهم من أغمص عينيه عن حسناته وأبرز سيئاته لإظهاره على أقبح صورة. ومعظم ما كتب في مجال الأدب قبل العام 1948 لم يكن نتاج صلة وثيقة بالعرب، وإنما اعتمد على ما قرأه كتابه في الكتب أو في الصحف الصهيونية من آراء مسبقة خاطئة عن العرب .. ومع ذلك بقي الأسلوب الصهيوني هو الغالب على النتاج الأدبي الإسرائيلي عموماً.
[*] كاتب وصحفي مقيم في رام الله.