ماجد كيالي[*]

باتت التحليلات المتعلقة بالوضع السوري مشوبة بشحنات من المرارة، والقلق، وربما الإحباط أو اليأس، فقد مضى قرابة خمسة أعوام على اندلاع الثورة السورية، وثمة مئات الألوف من الضحايا، شهداء وجرحى ومعوقون ومعتقلون وملاحقون، وملايين المشردين، الذين باتوا بلا عمل وبلا مأوى، وبلا وطن، مع خراب مهول في العمران، بما يمكن تشبيهه بتداعيات النكبة الفلسطينية، بل ربما أن ما يحصل في سورية أفظع وأشد هولاً بكثير.

 باختصار ثمة كارثة، بكل معنى الكلمة، ولا يبدو أن ثمة في الأفق ما يحمل على الاعتقاد باقتراب الخلاص، ووضع حد للمأساة في هذا البلد، فالأوضاع الدولية تعاند السوريين، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى لمتطلباتهم، والأوضاع العربية والإقليمية لا تساعدهم على نحو جيد، بل إن بعض الأطراف وجدت في ما يجري فرصتها لفرض ذاتها كلاعب إقليمي، من خلال فرض مسارات أو خطابات معينة عليها، ينطبق ذلك على “أصدقاء” النظام، كما على قائمة “أصدقاء” الشعب.

والمشكلة أن الأوضاع على الصعيد الداخلي، أي وضع الثورة ذاتها، وقدرتها على التحكم بأحوالها، وعلاقتها بمجتمعها، لا تبدو أفضل حالاً، لا بالنسبة للقوى السياسية المدنية ولا بالنسبة للجماعات العسكرية، لا بل إن هذه الثورة لم تعد ذاتها، بعد كل المداخلات والتحولات التي حصلت.

بيد أن هذا الكلام لا يعني أن الأحوال قد تعود إلى سابق عهدها في سوريا، إذ أن هذه الثورة، أو هذه الحراكات الشعبية، على علاتها ومشكلاتها ونواقصها وآلامها، أنهت إلى الأبد، فكرة «سوريا الأسد»، التي تحيل هذا البلد إلى مجرد مزرعة لعائلة مالكة، بكسرها الانسداد الحاصل في التاريخ السوري، الذي مثله هذا النظام، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق، بالنسبة للشعب السوري، ومجتمعات هذه المنطقة.

التعقيدات

منذ البداية بدا واضحا أن النظام لن يسلم بسهولة، وهو ما تجلى واضحا بشعار: “سورية الأسد أو نخرب البلد”، ومع استخدامه للجيش في مواجهة الحراكات الشعبية، حتى في أيام الثورة السلمية، في الأشهر الست الأولى، مع رفضه الاعتراف بالمطالب المشروعة للسوريين، وادعائه أن ما يحصل مجرد مواجهة مع الإرهاب، وصبغه الحراك الشعبي بصبغة طائفية ومذهبية، ولا سيما مع فتحه البلد أمام التدخلات الخارجية، من إيران إلى الأذرع الميلشياوية، اللبنانية والعراقية، التي تشتغل في إطار سياستها، وسعيه الحثيث للتلخص من عبء ما يعتبره حواضن الثورة، بتدمير الأحياء الشعبية أو محاصرتها وتشريد سكانها.

في هذا الإطار يمكننا ملاحظة أن النظام اشتغل على عدة مستويات، الأول، يتمثل برفع الكلفة البـشـرية والـمادية للثورة، بانتهاجه القوة المفرطة ضدّ البيئات الحاضنة لها، من دون التورّع عن استخدام الطائرات والدبابات والمدفعية، وهذا شـمـل خـصوصاً الأماكن التي وجدت فيها جماعات «الـجيـش الـحر» أو الجماعات العسكرية الأخرى مـلاذاً آمـناً. والمستوى الثاني لا يتمثّل فقط بحرمان الثورة من الكتل الشعبية، الحاضنة، وإنما حتى بتحويل هذه الكتل عبئاً عليها، ناهيك عن إخراجها من دائرة موازين القوى في الصراع الجاري، بحيث بات ملايين من السوريين يـفتقدون بـيـوتـهم، وممتلكاتهم، ومصادر رزقهم، مشرّدين داخل سورية، أو لاجئين خارجها. وهذه سابقة لم تحصل في أية تجربة سابقة، فحتى في عراق صدام لم تحصل على هذا النحو، وفي فترة وجيزة. والمستوى الثالث، يتعلق بتشويه صورتها، إزاء شعبها، وإزاء العالم، بوصمها بالإرهاب، واسباغ صفة طائفية ومذهبية عليها، وأيضا، بإظهار عجزها عن طرح ذاتها كبديل.

بيد أن كل ذلك لا يعفي من رؤية أوجه القصور التي اعترت الثورة السورية، والتي أضعفت من مكانتها، ومن صدقيتها، وأثارت المخاوف منها لدى قطاعات من السوريين. وفي الواقع فإن هذه الثورة انطوت على مفاجآت خطيرة، أولها، تمثل في عجز الطبقة السياسية السائدة، في المعارضة، عن إنتاج قيادة، أو أقله، مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، وعدم محافظتها على خطابات الحرية والديموقراطية والكرامة الذي صدرتها الثورة في بداياتها، ما أضر بصدقيتها وبصورتها. وبالمحصلة، فإن هذه الطبقة لم تثبت أهليتها، بالقدر الذي يتناسب مع الأهمية المفترضة أو المتخيلة للثورة السورية، وبالقياس للعذابات التي يكابدها السوريون، والتضحيات التي يبذلونها. بمعنى آخر فإذا كان من المفهوم قبول الطابع العفوي للثورة في بداياتها، بحكم حرمان السوريين من العمل السياسي، طوال عقود، فإن هذا الأمر لم يعد مفهوما ولا مقبولا بعد عام أو عامين، فما بالك بأربعة أعوام من انطلاق هذه الثورة.

المفاجأة الثانية، تمثلت في حجم المداخلات الخارجية المضرة في شؤون الثورة السورية، وخطاباتها وأشكال عملها. والحديث هنا بالطبع لا يجري عن التدخل لصالح النظام من قبل روسيا وإيران وحزب الله وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس ونظام المالكي (السابق)، ولا عن صعود داعش وجبهة النصرة واخواتهما في المشهد السوري، كلاعب مختلف، ذي أجندة خاصة تختلف عن أجندة السوريين وتتعارض مع مقاصدهم. فإلى هذا وذاك، ثمة، أيضا، التدخل المتأتي من الأطراف الداعمة لهذه الثورة، والتي اشتغلت بشكل متضارب، وحسب مصالحها، ووفقا لحساباتها الخاصة، ما أربك الثورة وزجّها في معارك غير محسوبة، استنزفت طاقتها وأضعفتها، وأخرجت شعبها من دائرة الصراع. وبدهي أن المسؤولية هنا لا تقع فقط على عاتق الدول المعنية فقط، إذ ثمة قسط من المسؤولية يقع على عاتق أطراف المعارضة ذاتها، أيضاً، كونها سكتت عن هذه التلاعبات والمداخلات، عن غير وجه حق، ولأنها كانت في أحيان كثيرة مطية لها.

المفاجأة الثالثة، تمثلت بالهشاشة والتفكك التي بدا عليهما المجتمع السوري، والذي ظهر على شكل مجموعات سكانية متباعدة ومتفارقة، يكاد لا يجمعها جامع، فضلا عن أن هذه المجموعات بدت كأنها لا تبالي بما يجري، أو كأنها سلمت لاعتبار سوريا بمثابة مكان للإقامة، وليس وطنا لكل السوريين. وقد كشف هذا الواقع المؤلم عبث النظام في المكونات السورية، وتعمده وضع حيطان فيما بينها، ووضعها في مواجهة بعضها البعض، ما يعني أن النظام سقط ليس في مجال ادعاءاته القومية، إذ أنه أخفق حتى على صعيد تحقيق الاندماج الوطني، رغم أن له من العمر قرابة نصف قرن. والحال فإن هذا الواقع هو نتاج سياسة سلطوية قوامها تعويق إقامة دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، الأفراد والمتساوين.

قد تكون هذه المفاجآت غير متوقعة على هذا النحو، وإلى هذه الدرجة، لكنها ولدت مخاطر كثيرة، أولها، أن المداخلات الخارجية باتت أكثر تأثيرا بالنسبة لتقرير مستقبل سوريا، لا سيما بسبب زيادة اعتماد الثورة على الدعم الخارجي المالي والتسليحي، وغياب بعدها الشعبي، وضعف تنظيمها لذاتها، وأيضا بسبب انتهاجها خيارات عسكرية معينة عن غير دراسة، أو تبصر. وثانيها، أن النظام استطاع بمساعدة حلفائه إخراج أغلبية المجتمع السوري من معادلة الصراع، بتدميره البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، وبتشريده ملايين السوريين؛ الأمر الذي أسهمت به الجماعات المسلحة، بطريقة عملها، عن إدراك أو من دونه. وثالثها، أن الثورة السورية ما زالت بحاجة لقيادة أو مؤسسة قيادية، وأن الأمور لا يمكن أن تشتغل على نحو صحيح، من دون ذلك.

طبقات الصراع

على ذلك فإن الوضع في سوريا تجاوز منذ سنوات وضعية الثورة، شعب ضد نظام، مع وجود طبقات صراع أخرى. ويمكن تمثل أولى هذه الطبقات في وجود نوع من الصراع الإقليمي والدولي في سوريا، وعلى سوريا، وهذا صراع تنخرط فيه عديد من القوى، على اختلاف مواقفها وأجندتها ومصالحها وتوظيفاتها، وهذا لم يعد خافياً على أحد، انطلاقا من حقيقة سياسية مفادها أن سوريا تمثل بلدا “مفتاحيا” في العالم العربي وفي الشرق الأوسط، وأن التغيير فيها لا بد سينقل عدواه إلى الدول المجاورة في المشرق العربي، وربما إلى أبعد. في هذا الإطار، أي إطار الصراع في وعلى سوريا، تبدو روسيا وإيران أكثر دولتين، على الصعيدين الدولي والإقليمي، تدعمان النظام. إذ ترى روسيا في وقوفها إلى جانب نظام الأسد جزءاً من معركتها لتعزيز نفوذها كقطب دولي في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، ومحاولة لاستعادة مكانتها كدولة كبرى مقررة. وبالنسبة لإيران فإن سوريا بالنسبة لها بمثابة حجر الأساس في سعيها للحفاظ على مكانتها ونفوذها الإقليميين، من العراق إلى لبنان، ما يعني أن الدفاع عن النظام السوري هو دفاع عن ما تعتبره أمنها الإقليمي ومجالها الحيوي. طبعاً، ثمة دور للقوى الأصغر، التي باتت تضطلع بدور رئيس في حماية النظام من السقوط، مثل حزب الله في لبنان، وكتائب أبو الفضل العباس وعصائب الحق العراقيتين، وهي كلها بمثابة ميلشيات سلطوية وطائفية (“شيعية”)، تشتغل لذاتها، وكذراع عسكرية لإيران، في سوريا كما في مجالها الجغرافي والمجتمعي في لبنان والعراق.

في مقابل ذلك تقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والدول العربية (لا سيما الخليجية) التي تدعم سقوط النظام السوري، والتي تشتغل على التأثير في الثورة، والوقائع السوريتين، لكن مشكلة هذه القوى أنها لا تدعم السوريين بقدر ما تدعم روسيا وإيران النظام. كما أن مشكلتها تكمن في أن كلاً منها يشتغل بحسب مصالحه وأجنداته، بغض النظر عما يريده السوريون حقا، أو بغض النظر عن المقاصد التي اندلعت من أجلها الثورة السورية. إذ ثمة من هذه القوى من يدعم التغيير السياسي في سوريا باتجاه قيام دولة ديمقراطية، وثمة منها من يحاول أن يحد من عمق هذا التغيير، ومنع امتداد تأثيراته، أو عدواه، إلى محيطه، وربما أن معظم هذه الدول يهمه إضعاف سوريا والانتهاء من دورها الإقليمي.

ثمة، أيضاً، طبقة صراع أخرى، وهذه باتت تتمثل في قوى لا دولتية، محسوبة على الإسلام السياسي الجهادي، الذي يتبع منظمة “القاعدة” وتفريخاتها، وهي تشتغل على نحو آخر. وهذه بدورها قوى لا تعترف بالحدود الوطنية، ولا بالشعب السوري، ولا بكل ما يتعلق بالديمقراطية، فضلا أنها لا تعترف سوى بالمسلمين “السنّة” فقط، لكن هذا لا يعني أنه يشمل المسلمين السنّة تلقائياً، فحتى هؤلاء يعتبرون في نهجها “تكفيريين” إن لم يتبنوا أطروحاتها، ولم يمنحوا البيعة لأبي بكر البغدادي أمير ما يسمى “دولة العراق والشام”! ومعلوم أن هذه الجماعة، ومثيلاتها، تعتبر أن الصراع في سوريا هو جزء من الصراع العالمي لفرض الإسلام، وإعلاء شأنه، واستعادة دولة الخلافة، وأنها لا ترى في الديمقراطية وغيرها إلا مجرد هرطقة ينبغي صدها أو التخلص منها. ولا شك أن هؤلاء أضروا بالثورة السورية، وبمقاصدها الأساسية، كما أثاروا المخاوف في مجتمع السوريين، بتكويناته المختلفة، فضلا عن أنهم شوّهوا صورة الثورة لدى الرأي العام العربي والدولي. وبديهي أن هؤلاء لا يعتبرون أنفسهم ضمن هيكلية الثورة السورية من الأصل، ويصرحون علنا بأنهم غير معنيين بأهدافها.

معلوم أن صعود هذه القوى أثار الشبهات بشأن طبيعة تكوينها، وحقيقة توظيفاتها، وصدقية ادعاءاتها، إذ بدت معادية للثورة أكثر مما هي معادية للنظام. واللافت أن هذه القوى قدمت خدمة للنظام بإسهامها بترويج ادعاءاته، بشأن أن ما يجري في سوريا ليس ثورة شعبية من أجل الديمقراطية وإنما مجرد هجمة لقوى إرهابية ومجرد مؤامرة خارجية. وما يلفت الانتباه أن ظهور هذه القوى في المناطق “المحررة” حصراً، مع مواقفها المتشددة والغريبة عن نمط عيش السوريين، وممارساتها الشاذة والقاسية ضدهم، في المناطق التي تخضع لسيطرتها، أسهمت في عزلها، وإظهارها بمظهر المساند للنظام، وإن بشكل غير مباشر. وقد شهدنا أن هذه القوى، المتمثلة بـ”دولة العراق والشام”، دخلت مؤخّراً في حرب مكشوفة وشرسة مع جماعات “الجيش الحر”، وحتى مع الجماعات الإسلامية العسكرية الأخرى، في حين أن النظام لم يستهدف البتة هذه الجماعة.

مع كل ما تقدم، فقد شهدت الثورة السورية، أيضا، نوعاً من الانقسام والانشقاق فيها، تمثل بظهور قوى دينية، ترى أن الثورة قامت من أجل إقامة نظام إسلامي في سوريا، وما يعزز من نفوذ هذه القوى أنها تتشكل في أجسام عسكرية، توحدت مؤخراً في “الجبهة الإسلامية” أو في “جيش الفتح” مؤخرا. طبعا ليست المشكلة مع هذه القوى في ما تطرحه، فهذا حقها، لكن المشكلة تكمن في أن هذه القوى تحاول مصادرة مستقبل سوريا وفرض رؤيتها الأحادية على السوريين بقوة الواقع، أو بقوة السلاح. ومن المفيد أن نذكر هنا أن هذه القوى المحسوبة على الجماعات السلفية تجد نفسها في تعارض مع القوى الإسلامية الأخرى من اليمين واليسار، إن صحّ التعبير. ومثلاً، فإن هذه القوى تقف في تعارض مع أطروحات “دولة العراق والشام” و”جبهة النصرة”، اللتين تنتميان للجهاد الإسلامي العالمي، وتدعوان للخلافة، ولا تعترفان بحدود سوريا ولا بالمواطنة؛ وهذا من اليمين. أما من اليسار فإن هذه القوى تجد نفسها في تعارض حتى مع حركة “الإخوان المسلمين”، التي تعترف بحدود سوريا وبواقع التنوع والتعددية في الشعب السوري، والتي تتوخّى قيام دولة مدنية ديمقراطية، يتم فيها تداول السلطة، وتضمن الحرية والمساواة بين المواطنين من دون أي تمييز، على ما جاء في “وثيقة العهد والميثاق” التي أصدرتها في (آذار (مارس) 2013)، هذا فضلا عن أن ثمة طيفاً واسعاً من الجماعات الإسلامية السورية لا تتوافق مع ما تطرحه الجبهة. المشكلة أيضا أن هذه الأوضاع أدت إلى إضفاء بعد طائفي وديني على الثورة السورية، ما زاد من تعقيداتها ومن مشكلاتها.

الأخطاء

لعل هذه مناسبة لتسليط الضوء على أخطاء كبيرة ارتكبتها الثورة، عن قصد أو من دونه، ضمنها، مثلا، الاعتقاد بأن معظم السوريين، على اختلاف مكوناتهم في صفها، في حين بَينت الأحداث أن تعقيدات الوضع الطائفي والمذهبي والإثني في سوريا أكثر صعوبة، وأكثر تعقيدا من أن يتم تأطيره في معادلة تتألف من مقولة بسيطة: ثورة في مواجهة نظام. وعلى النقيض من ذلك فقد استمرت بعض خطابات المعارضة في تفسير أحوال سوريا بوجود سلطة «علوية»، من دون تمييز بين هويتها وبين الطائفة التي تسيطر عليها أكثر من غيرها. وقد بينت التجربة أن هذا وحده لا يفسّر بقاء النظام، فإلى استخدام القوة العاتية والمداخلات الخارجية المتضاربة التي عوّقت الثورة وأضرت بها، فإن بقاء هذا النظام يرجع إلى كتلة اجتماعية صلبة تتألف من كل مكونات المجتمع، أي من المحسوبين على “السنّة” و”المسيحية” و”العلوية”، مشايخ وقساوسة، يساريين وعلمانيين وقومجيين وموظفين ورجال أعمال ومثقفين من كل الطوائف، ما يفسر عدم قدرة الثورة على تنظيم عصيان مدني مثلاً أو فكفكة جهاز الموظفين. طبعا مع الأخذ بالاعتبار الجوزة الصلبة للنظام التي تتألف من الأسرة الحاكمة، والتي تتحكم بكل شيء بالبلد وبالموارد، بالسياسة وبالاقتصاد، وضمنه بتراتبية هذا الشخص أو هذه الجماعة.

أيضا، يحتسب ضمن هذه الأخطاء، استسهال التحول نحو الثورة المسلحة، والتسرع في التعويل على العمل المسلح، مما كان له كبير الأثر في وصول الثورة إلى هذا المأزق، ووصول سوريا إلى هذا الخراب، مع التأكيد أن النظام يتحمل أغلب المسؤولية عن ذلك، فهو صاحب قرار الحرب ضد الحراكات الشعبية، وهو الذي يملك القوة النارية المدمرة، مع الدبابات والمدفعية والطائرات. وطبعا في حديثنا عن إشكالية الظاهرة العسكرية، ومع تقديرنا للتضحيات والبطولات التي بذلها السوريون، يفترض أن نميز، أو أن لا نخلط، بين ردات فعل الأفراد أو جماعات الدفاع المحلية، أو المنشقين عن الجيش، وبين الجماعات العسكرية التي جرى ترتيبها في الخارج وإقحامها في الداخل السوري، وتقديم الدعم لها، على حساب “الجيش الحر”، لفرض أجندة معينة، أو لصبغ الثورة بلون معين. وبالتأكيد فإن الأخطر من هذا التحول، هو انتهاج خط السيطرة العسكرية على المدن، والذي أدى إلى تحميل الثورة عبء «المناطق المحررة» (الأمن والخدمات)، وهو ما عجزت عنه. ومعلوم أن هذه الحال سهلت على النظام الإمعان في تدمير هذه المناطق وتشريد شعبها، وإفقاد الثورة البيئات الشعبية الحاضنة لها، ناهيك أنه أظهر قوى المعارضة المسلحة بمظهر الفاشل في إدارة المناطق المحررة، التي لم تبد كذلك، بالنظر للممارسات السلطوية التي حكمتها، وبالنظر إلى تعذر دخول المعارضة السياسية لإدارتها، أو للعمل من خلالها.

ولا شك بأن قائمة الأخطاء تتضمن المبالغة في المراهنة على أي شكل ما من أشكال المساندة أو التدخل الخارجيين، وهو لم يحصل، ما أثر بشكل سلبي، في انتهاج خيارات معينة، ولا سيما في التحول نحو حصر الثورة في العمل المسلح، وزيادة الاعتماد على الخارج، وتوهم قيام مناطق محررة، أو مناطق آمنة، وها نحن ما زلنا نجد أن ذلك لم يحصل، وحتى أن الجماعات العسكرية لم تمنح حق امتلاك مضادات طائرات لحماية مناطقها من القصف.

أخيراً، فإن صبغ الثورة بلون معين، أي بالتدين والطائفية، أضر بطابعها الوطني، وأدى إلى حرمانها من قطاعات واسعة من السوريين، من كل الطوائف والمكونات، علما أن هذا الطابع هو في جزء كبير منه نتيجة مداخلات خارجية، مع معرفتنا بالطابع الوسطي أو المنفتح للتدين الشعبي السوري. وفي ذلك فإن هذا التحول يعتبر أيضا نتاجا للتحول نحو العسكرة، أو مترافقا معها، مع الافتقاد للحاضنة الشعبية، والتعويل على الخارج، وقد كان لذلك أثره في التسهيل على جماعات «القاعدة»، وبالتالي على «داعش»، فرض ذاتها في المناطق «المحررة»، والتحول إلى نوع من ثورة مضادة، أثقلت على ثورة السوريين، وعلى مجتمعهم وشوهت صورة كفاحهم، وزادت أحوالهم صعوبة وتعقيداً.

المخاطر والاحتمالات

بناء على هذا الواقع، أي التعقيدات والإشكاليات، وضمنه حال التكافؤ بين الثورة والنظام، باتت الأوساط السياسية السورية، المحسوبة على الثورة، تتخوف من ثلاثة مخاطر، أولها، المشاريع التي تروّج لها بعض الأوساط الدولية والإقليمية والتي تتحدث عن فرض نوع من الحلول التي تتضمن تقسيم البلد، وفق معايير إثنية وطائفية. وثانيها، مشاريع الحلول التي تتضمن تعويم نظام بشار الأسد، ولو لمرحلة انتقالية، بدعوى الخوف من الفراغ، أو الافتقاد للبديل المناسب، أو باعتبار النظام القائم أقل خطورة من البديل المتمثل بـ”داعش” وأخواتها؛ وهذا ما تشتغل عليه كل من روسيا وإيران. وثالثها، يتمثل بالتخوف من تطييف المجتمع السوري، وزيادة نفوذ الجماعات الدينية المتطرفة فيه.

بيد أن مشكلة سوريا لا تتمثل في وجود هذا المشروع أو ذاك، بغض النظر عن الموقف منه، وإنما هي تتمثل في الافتقاد المريب، لأي عملية سياسية جدية، يمكن أن تؤسس لتوافق دولي وإقليمي وعربي، يؤدي إلى وقف تعميم القتل والخراب والتشريد الجاري منذ أكثر من ثلاثة أعوام. ويستنتج من ذلك أنه لا يوجد، حتى الآن، مشاريع جدية وحقيقية معدة لسوريا، ويبدو أن هذه لم يحن أوانها بعد، من وجهة نظر اللاعبين الكبار، ولا سيما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما تؤكده الوقائع، تصريحات الرئيس الأميركي وأركان إدارته، بشأن السياسة المعتمدة في سوريا. كما تؤكده الخلفيات المتعلقة بقيام الائتلاف الدولي في مواجهة «داعش»، والتي لم تصل إلى حد استهداف النظام، رغم أنه المسؤول عن كل ما يجري في سوريا، وضمنه نشوء وصعود داعش ذاتها.

أما الفكرة الأخرى المتعلقة بالتقسيم، فهي تذكر بالأفكار السياسية المتسرعة والنمطية والساذجة، التي سادت إبان الاحتلال الأميركي للعراق، والتي كانت تروج لفكرتين مفادهما، أن الولايات المتحدة الأميركية تريد استعمار العراق والبقاء به ونهب ثروته النفطية، وأنها فوق كل ذلك تنوي تقسيم العراق. ومع كل الانتقادات والإدانات للسياسة الأميركية في العراق، وضمنها غزوه، وفرض ترتيباتها السياسية فيه، إلا أنها جاءت عكس تلك الادعاءات، إذ أن الولايات المتحدة تركت العراق، وسلمته لـ”أصحابه” موحدا، بعد أن أخرجت جيشها منه وفق جدول زمني معين. أما ما حدث بعد ذلك، فتقع مسؤوليته على كاهل العراقيين أنفسهم، وبالضبط، على الطبقة السياسية المسيطرة، التي تبينت عن طبقة سياسية غارقة في الفساد وضيقة الأفق وطائفية، ولا تجسد المصالح الوطنية للعراقيين، بقدر ما بدت كممثل لمصالح إيران في العراق وعلى مستوى الإقليم.

القصد من ذلك هو القول إن عهد الاستعمار التقليدي انتهى منذ زمن، إلى غير رجعة، وأن أشكال التبعية اليوم، لا سيما في عصر العولمة، باتت أكثر تشعبا وتعقيدا، وهي ربما أعمق من العلاقات الاستعمارية المعروفة. هذا ينطبق، أيضاً، على فكرة التقسيم إذ لم يعد ثمة ما يفيد بأن فكرة «فرق تسد» ما تزال تعمل، لأن الدول الكبرى، وشركاتها، بات يهمها التعامل مع أجسام واسعة، ومع مصالح ممتدة، أي أن القانون العام اليوم يدفع باتجاه التوحيد، أو التكتل، وليس باتجاه التفرق. وهذا يفيد بأن مفاهيم وطرق عمل القرن الماضي لم تعد تعمل في هذا القرن، وفي هذه الظروف، وأن محاكمة الحاضر بناء على الماضي، لا تفيد، ولا تنم عن نضج سياسي، ناهيك عن ضررها.

 أما التخوف من تطييف المجتمع السوري، وانزياحه نحو التعصب والتطرف الدينيين، فهذا أمر، على وجوب تداركه، ينم عن مبالغة، وعن عدم معرفة بطبيعة التدين الشعبي السوري، الذي يتسم بالانفتاح والمرونة، ونبذ التعصب والتطرف. ومع تمييزنا بين الطوائف وهي معطى تاريخي ديني وثقافي، والطائفية، وهي معطى سياسي ناشئ عن الصراعات على المكانة والهوية والسلطة، فإن مصدر التخوف هنا ناجم عن صعود جماعات عسكرية بعينها، في المشهد السوري، لكن أي تمعن في طبيعة هذا الصعود يمكننا ببساطة من ملاحظة أنه ناشئ من عوامل خارجية، وضمنها الاعتمادية على داعمين معينين، يوظفون هذا الدعم باتجاهات دينية ـ أيديولوجية، أي أن هذه الجماعات ليست نتاجا للحراكات الشعبية في سوريا، ولا تمثل تطورا داخليا في التيارات الإسلامية العاملة في سورية.

خلاصات

بناء على كل ما تقدم، وعلى ضوء كل تلك التعقيدات والمداخلات والإشكاليات، وبعد مرور أكثر من أربعة أعوام على الصراع السوري، أو الكارثة السورية، أو الثورة السورية، يمكن القول بأن ثمة معطيات أساسية تولدت، ولم يعد بالإمكان تجاوزها، بل ينبغي على المعنيين قراءتها، واستخلاص الاستنتاجات المرجوة منها. وهذه يمكن تمثلها بالآتي:

أولا، لا شيء يقيني، في المدى المنظور على الأقل، في ما يتعلق بقراءة المستقبل السوري، لا انتصار المعارضة ولا سقوط النظام، فالقرار بالحسم لم يصدر بعد.

ثانيا، لم تعد الثورة هي ذاتها، في شكلها وفي خطاباتها، بمعنى أننا لم نعد إزاء معادلة صراعية قوامها طرفا السلطة والثورة، أو النظام وغالبية الشعب، إذ دخلت على المشهد أطراف أخرى، ربما باتت تستحوذ على أسهم أكثر في صوغ القرارات أو تحديد الخيارات، كروسيا وإيران والميليشيات التي تشتغل كامتداد للنفوذ الإقليمي لها، أو كالجماعات الإسلامية المتشددة المحسوبة على “القاعدة” أو المتماثلة معها (كجبهة النصرة وداعش مثلا).

ثالثا، إن الولايات المتحدة في الحقيقة هي التي تملك الفصل في تسيير دفة الأحداث بهذا الشأن، أي أنها حتى في دورها السلبي والانكفائي، على ما يظهر، هي التي توزع الأدوار وتوسع من هامش مداخلات الدولتين المذكورتين، أي إيران وروسيا، في إسناد النظام، تماما مثما هي التي تسمح بأدوار أخرى لتركيا وغيرها من الدول العربية، في الإسناد المحدود للمعارضة.

رابعا، بات السوريون كشعب، بمختلف أطيافهم، خارج المعادلات الصراعية، بعد أن تمت إزاحتهم من المشهد بطريقة أو بأخرى، لا سيما بسبب تعمد النظام تدمير ما يعتبره المناطق الشعبية الحاضنة للثورة، وتشديد الحصار عليها.

خامسا، فتح الانفجار السوري على مشكلات كبيرة، فهو لم يطل فقط علاقات النظام بالشعب، وإنما هو تجلى في تضعضع التوافقات المجتمعية، أو تصدعها.

سادسا، من وجهة نظر كل الأطراف فإن الصراع يجري على أساس القاعدة الصفرية، أي “يا قاتل يا مقتول”، فالنظام لا يبدو قابلا لأي تسوية سياسية، والمعارضة لا ترضى بأقل من إسقاطه، مع التأكيد بأن النظام هو المسؤول تاريخيا عن هذه الحالة، أي حالة غياب السياسة، بسبب احتكاره لها لنصف قرن تقريبا..

هكذا نحن الآن، أي بعد قرابة خمسة أعوام من الصراع الدامي والمدمر، إزاء معضلة سورية بكل معنى الكلمة، وهذه تشمل البعدين المجتمعي والدولتي، يفاقم منها المداخلات الخارجية، الدولية والإقليمية، التي تتوخى السيطرة على الوضع، والتحكم بوتائر الصراع السوري-السوري وتجييره لطرفها، أو لمصلحتها، بغض النظر عن مصالح السوريين ومستقبلهم. مع كل ذلك فإن الفكرة هنا أن نظام الأسد بات في حكم المنتهي، وأن المسألة تتعلق بالوقت، والظروف، والثمن.

[*] كاتب وباحث فلسطيني، مقيم في واشنطن.