أحمد جميل عزم[1]
إذا كان فهم واقع القضية الفلسطينية، يركز عادة على عوامل منها طبيعة الوضع الذاتي الفلسطيني، وخريطة السياسة الدولية، وتوازنات القوى العالمية؛ فإنّ من المهم ملاحظة أنّ أدوات التحليل القديمة، لم تعد كافية، فمفاتيح تحليل العلاقات الدولية والسياسة العالمية، تختلف باطّراد؛ فحتى التسعينيات من القرن الفائت، كانت الدولة ركناً أساسيّاً في فهم وتحليل العلاقات الدولية، عند الغالبية العظمى من منظري ومحللي السياسة العالمية، ولكن حدث تغيير كبير في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي ترافقت مع ظهور ثورة تكنولوجيا الاتصال التي أدت إلى تغيير في طبيعة النظام الدولي وطريقة دراسته، فضلاً عن تغيّر في شكل ووحدات السياستين الدولية والعالمية. على سبيل المثال، تراجع دور الأيديولوجيا عالمياً بشكل كبير، لا على مستوى النظام الدولي وحسب، بل وعلى صعيد السياسة داخل الدول، وعبرها، وبرزت ظاهرة “الشبكات”، التي سيتم توضيحها لاحقاً، بدلاً من أشكال التنظيم السياسي التقليدية من فصائل وأحزاب. وكل هذا يؤثر في طبيعة العمليات والسياسات الدولية الخاصة بالعمل على التوصل لحل أو تسوية للقضية الفلسطينية.
لو أنّ سؤال هذه الورقة (فلسطين في النظام الدولي)، طُرح في تسعينيات القرن الفائت، فإنّ الإجابة ستختلف، ليس لأنّه من البدهي أن تتغير الأمور عبر الزمن، ولكن أيضاً لأنّ مناهج التفكير ومقاربات البحث تغيرت، فضلاً عن تغير معطيات النظامين الدولي أو العالمي، فأسس التحليل لم تعد هي ذاتها. والمقاربة القائمة على تحليل النظام الدولي استناداً لمفهوم القطبية، ومركزية دور الدول العظمى أو الكبرى، وهي المقاربة التي طورتها النظرية الواقعية الجديدة (Neorealism)، التي برزت في العلاقات الدولية، نهاية السبعينيات؛ تراجعت كثيراً. وحلت محلها أسس تحليل جديدة، ستطرحها هذه الورقة.
تنقسم هذه الورقة إلى قسمين أساسيين؛ يعالج القسم الأول تراجع جدوى تحليل بنية النظام الدولي (structure)، بناءً على فكرة القطبية وعدد القوى العظمى في النظام الدولي وتوزيع القوة بينها، لصالح واقع “لاقطبي”. ثم يناقش هذا القسم مقولات صِدام الحضارات ونهاية التاريخ، لتوضيح فشل نظرية الليبرالية الجديدة في تفسير النظام الدولي الراهن، وربما عدم نضوج المدرسة البنائية في العلاقة الدولية التي برزت في أعقاب نهاية الحرب الباردة، والتي تحاول أن تقترب من العلاقات الدولية، بفهم علاقات القوة، وقضايا الهوية، أو ما سماها رائد هذه المدرسة، ألكسندر ويندت، “النظرية الاجتماعية في العلاقات الدولية”. ثم سيكون العنوان الثالث من هذا القسم، الأول، عن العالم في عصر مجتمعات الشبكات.
ويناقش القسم الثاني، الشأن الفلسطيني، في ضوء كل ما سلف، حيث سيجيب أولاً عن معنى العمل في نظام لا قطبية دولية فيه، وثانياً، معنى عصر السيولة الفكرية والأيديولوجية ما بعد الحداثية، وثالثاً تجربة مجتمع الشبكات، وأهم التحديات والفرص الفلسطينية في هذا العالم المتغير.
أولاً: عالم متغير: لاقطبي.. وسيولة أيديولوجية.. ومجتمع شبكات
- اللاقطبية
ما زال تفكير عدد كبير من المحللين والكتاب، خصوصاً في العالم العربي، ينصب أو ينطلق من إرث تحليلات الحرب الباردة، التي تنطلق من فكرة توازن القوى، والثنائية القطبية. ولكن مع ارتكاب خطأين جسيمين: الأول عدم التعمق في موازين القوة الحقيقية، والثاني عدم إدراك التغير الذي حدث في علاقات القوة، وطبيعتها، وفواعلها.
ما زالت الولايات المتحدة الأميركية القوة الأولى عالميّاً، في مختلف عناصر القوة الصلبة، والناعمة، على السواء. وبينها وبين من تليها من القوى فجوة كبيرة، في مجالات عدة، فبالنسبة لروسيا مثلاً، يرى البعض أنها أكثر من يتحدى الولايات المتحدة سياسيّاً، وينافسها في القوة العسكرية، ويستشهدون على ذلك بتدخلها في حالات مثل جورجيا عام 2008، وهجومها على ولاية أوستيا هناك، عسكريّاً، وتكرار تدخل شبيه في شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم التدخل الروسي في سورية. رغم ذلك، يجب تذكر أنّ الدخل القومي الروسي السنوي لا يزيد على 8 بالمئة من الدخل القومي الأميركي، أي أنّ الاقتصاد الأميركي قريب من 13 ضعف الاقتصاد الروسي، الذي يواجه مشكلات معقدة كلما تراجع سعر البترول والطاقة. مثلاً، وحسب أرقام صندوق النقد الدولي، تراجع الدخل القومي الروسي بمقدار 24 بالمئة بين عامي 2012- 2017، من 2.017 ترليون دولار إلى 1.52 ترليون دولار[2]. فيما يستمر الدخل القومي الأميركي بالنمو، وسجل عام 2017، مبلغ 19.75 ترليون دولار[3].
والأهم من هذا أنّ الانتشار العسكري الروسي حول العالم، والأنظمة الحليفة له محدودة جدّاً، مقارنة بالانتشار العسكري الأميركي صاحب الحلفاء الكثر، ما يجعل القطبية في الحالة الأميركية– الروسية خارج إطار النقاش. وفي عام 2017، مثلاً، تراجع الإنفاق العسكري الروسي، بسبب الصعوبات الاقتصادية. وبينما نما الإنفاق العالمي العسكري 1 بالمئة، انخفض الانفاق الروسي 20 بالمئة[4].
إذا كانت الصين هي الأقرب للولايات المتحدة اقتصاديّاً، (الدخل القومي الصيني نحو 60 بالمئة من مثيله الأميركي، ويشكل نحو 15 بالمئة من الدخل القومي العالمي، مقابل نحو 24.8 بالمئة للولايات المتحدة)، فإنّ حقيقة أنّ التبادل التجاري بين البلدين كبير جدّاً، يجعل المصالح المتبادلة أكبر كثيراً من التفكير بقطبية واستقطاب وصراع، فحجم التجارة البينية هو 648.6 مليار دولار بحسب أرقام عام 2016، وتصدّر الولايات المتحدة 169.8 مليار دولار للصين وتستورد بمقدار 478.8 مليار، والصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وتوفر صادرات الولايات المتحدة، وهي أقل من نصف الصادرات الصينية للولايات المتحدة، وبأجور –بالطبع- تفوق الأجور في الصين كثيراً، نحو مليون فرصة عمل للأميركيين، ما يعني أن صادرات الصين توفر ملايين فرص العمل على الأقل، ما يجعل السلام بينهما مهمّاً لشعبي البلدين[5]. أمّا عسكريّاً، فالعقيدة العسكرية الصينية، بعيدة عن الطموحات والتدخلات خارج نطاقها الإقليمي، لدرجة الإحجام عن المشاركة الفاعلة في قوات حفظ السلام. ولنتذكر أنّه بينما ذهبت دول من أوروبا الغربية حد التحفظ والإدانة للتدخل الأميركي في العراق عام 2003، اكتفت الصين، رغم مصالحها الاقتصادية مع العراق آنذاك، بأن قامت “بالتعبير عن القلق” من الغزو.
على صعيد القوة الناعمة، فإنّ الولايات المتحدة لديها مقومات لا تتوافر لأي طرف في العالم، بدءاً من انتشار اللغة الإنجليزية، إلى انتشار إنتاجها العلمي والمعرفي والأكاديمي، فضلاً عن الفني والسينمائي حول العالم.
مقابل هذه الصورة، فإنّ الولايات المتحدة لا تشكل قطباً واحداً منفرداً رغم كل هذه العلاقات والتفوق والمصالح، وذلك لعدة أسباب؛ أولها أنّ الولايات المتحدة منتشرة في كل مكان، وبقدر ما يشكل هذا نقطة قوة، بقدر ما يعتبر عبئاً ذا كلفة سياسية، واقتصادية، وعسكرية. ولكن الأهم من هذا أن عدم قدرة دولة مثل روسيا، أو دول طامحة، مثل إيران، وفنزويلا، أن تكون قطباً أو حتى جزءاً من استقطاب دولي، وعدم رغبة أو عدم قدرة الصين، في الوقت الراهن على الأقل للتحول إلى قطب يتمدد سياسيّاً وعسكريّاً عالميّاً؛ لا يعني استتباب الأمر لأحادية قطبية، بل لقد نشأ نظام يسمى اللاقطبية، تحدث عنه بشكل مفصل ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، في مقال وكتاب لخص فيهما وجهة نظره حول ما سماه “عصر اللاقطبية”، وقد تناول ذلك أولاً في مجلة فورين أفيرز عام 2008، قبل أن يكتب كتاباً حول الموضوع[6].
من مظاهر الحالة اللاقطبية في العلاقات الدولية، السمات التالية:
أ- تغير طبيعة الفاعلين الدوليين وطبيعة التهديدات العالمية: لم تعد المواجهة الأهم بين الجيوش النظامية، أو حتى الحروب بالوكالة (proxy wars)، كما كانت زمن الحرب الباردة، بصعود ظاهرة الإرهاب، وهذا ما تؤكده تقارير هيئات الأمن الأميركية، التي تضع إرهاب الفواعل غير الدول، باعتباره الخطر رقم (1)، وتضيف إليه الهجمات الافتراضية (الإنترنت)، وأسس مكافحة التمرد (بأبعادها الاجتماعية، والسياسية، والعسكرية)، هذا إضافة للأخطار التقليدية[7]. وكما توضح تقارير مختلفة تصدرها أجهزة الاستخبارات الأميركية، فإنّه بعد عصر الحروب بالوكالة زمن الحرب الباردة، نشأ الآن خصوم أقل قوة يرفضون النصر الأميركي في الحرب الباردة “بواسطة إستراتيجيات لا متماثلة، وأيديولوجيات، والتوتر الاجتماعي”[8]. وإنّ هذه إستراتيجية قد تستخدمها دولة مثل باكستان ضد الهند، أو تنظيمات مثل القاعدة، وبوكو حرام، والدولة الإسلامية، وغيرها، أو حتى روسيا التي تستخدم الحروب الإلكترونية وغيرها من الوسائل الأقل تكلفة[9].
ب- الأنظمة الإقليمية: لعل ثاني أهم متغير بعد تغير طبيعة الفاعلين الدوليين، هو نشوء الأنظمة الإقليمية، فرغم حقيقة عدم وجود أي خصم للولايات المتحدة ينافسها على مستوى العالم، ولكن لديها منافسون وخصوم على مستوى كل منطقة (إقليم). والمقصود أنّه في زمن الثنائية القطبية، كان السوفييت ينافسون الأميركيين في كل مكان، وفي زمن التعددية، كانت الدول الاستعمارية تتنافس في أنحاء مختلفة في العالم. ولكن الولايات المتحدة تتواجد الآن في كل مكان في العالم. ولكن يوجد في المقابل أقطاب إقليميون على مستوى كل منطقة؛ فلا يمكن تجاوز الصين في شرق آسيا، ولا بد من التفاهم معها. ولا يمكن تجاوز البرازيل وفنزويلا في أميركا اللاتينية، وإيران والسعودية في الشرق الأوسط. وروسيا في منطقتها. بكلمات أخرى، تلعب الولايات المتحدة دوراً في كل مكان، ولا يوجد من يجاريها في هذا، ولكن لديها منافسون وخصوم أو حلفاء في كل منطقة إقليمية، لا بد من رضاهم، ويمكن أن يتحدوها.[10]
ج المنظمات الدولية: ثالث المتغيرات هو أنّ المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة، لم تعد تعكس الإرادة الأميركية، مع رفض الصين وروسيا، وأحياناً أوروبا، مجاراة خطط واشنطن، ولكن هذا ينعكس بتخلٍّ أميركي عن هذه المنظمات. وبالتالي، تسير المنظمات الدولية، والقانون الدولي، باتجاهين متضادين، فتزداد قدرة الضعفاء على دخول هذه المنظمات واللجوء للمحاكم الدولية، ولكن مع دور أقل وقدرات أقل لهذه المنظمات، التي تُعاقب من دول كبرى إذا انصاعت لرغبة المجتمع الدولي وليس للدولة العظمى، ومن هذا تقليص وإلغاء الولايات المتحدة وإسرائيل لدفع اشتراكاتها لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)[11]، وخروج الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ[12].
وإذ يدعو جوزيف ناي، عالم العلاقات الدولية الليبرالي، لضرورة الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي، فهو يحذر “ربما لا يلاحظ الأميركيون والآخرون أن الأمن والازدهار اللذين حققهما النظام الليبرالي، يتلاشيان، وحين يفعلون، سيكون الوقت متأخراً”[13]. بالمثل، يقول روبن نيبليت، مدير مركز تشاتام هاوس، في لندن، إنّ “الليبرالية في تراجع”، وإن “الحلم في تراجع”، وإن فكرة الليبراليين أنّ العالم يسير للأمام (بما في ذلك بناء المؤسسات الدولية) يبدو الآن تفكيراً “ساذجاً”[14].
وبالنتيجة، إذا كان التوزيع القطبي الذي تحدث عنه الواقعيون الجدد نهاية السبعينيات، وتحديداً كينيث وولتز[15]، لم يعد صالحاً كمدخلٍ للتحليل، أو لرسم السياسات استناداً له، فإنّ مدخل الليبرالية الجديدة، الذي يركز على متغير المنظمات الدولية والقانون الدولي، أو ما سموه أيضاً “استقرار الهيمنة”، بالحديث عن دور “دولة قائدة”، أشبه بإمبراطورية، ولكن ذات خصائص ليبرالية، تفرض نظاماً عالميّاً[16]. وذلك في إشارة لحال الولايات المتحدة باعتبارها قطباً دوليّاً، يلعب دور الشرطي العالمي، ودور الحكومة المركزية العالمية، لم يعد مطروحاً فعلاً، وتتخلى الولايات المتحدة ذاتها عن هذا الدور. وهذا ربما يقودنا إلى متغير الهويات والأفكار التي تحدثت عنها النظرية البنائية في العلاقات الدولية، التي ظهرت في التسعينيات، وتركز على الأفكار والهويات، وعلى المجتمعات، ولكن يصبح السؤال عن أي هويات نتحدث، وعن أي أفكار وأيديولوجيات.
د. سقوط “صِدام الحضارات” وصعود سياسة الهوية (Politics of Identity): ظهرت النظرية البنائية في العلاقات الدولية، في بداية التسعينيات من القرن العشرين، لتركز على أهمية الأفكار وما سمتها العلاقات الاجتماعية في العلاقات الدولية، وكان هناك من أيدها داخل المدرسة الليبرالية، تماماً كما عارضها آخرون من هذه المدرسة، فصموئيل هنتنغتون دخل بمقولة صِدام الحضارات، في كتابه الذي حمل هذا الاسم (صِدام الحضارات)، ليتحدث عن تقسيم العالم إلى عدد من الحضارات، تقل عن عدد أصابع اليدين، ستكون متعارضة ومتضادة، وخالفه من داخل المدرسة ذاتها، تلميذه فرانسيس فوكوياما، في كتابه نهاية التاريخ، الذي توقع أو زاد من احتمال نهاية الأيديولوجيات والعقائد لصالح الليبرالية. ولكن اتضح أن كليهما على خطأ.
يعرف القرن العشرون بأنّه قرن “فكر الحداثة”. وبحسب هذا الفكر، ساد الاعتقاد بوجود أيديولوجيات كبرى تصف طرق الخلاص البشري والقومي. وكانت الأحزاب هي الإطار الذي يمتزج فيه البشر بهذه الأيديولوجيا بأنواعها الماركسية والعلمانية والدينية. ثم جاء عصر وفكر “ما بعد الحداثة”، حيث رفض فكرة الأيديولوجيات الجامعة المخلّصة للبشر، ورفض فكرة وجود قوانين للحياة الاجتماعية والسياسية. وبموجب هذا الفكر، أصبح يُنظر للمجتمع باعتباره أفراداً وأشخاصاً ومواطنين، وأصبحت القضية هي حقوق الإنسان والمجتمع من فئات وأقليات ومزيج لا يمكن فهم حركته وفق قوانين موحدة شاملة. بل هناك عوامل متداخلة، وحسب هذا الفكر، فإنّ الأيديولوجيا وهم. وفي هذا السياق، تراجع دور الأحزاب في كل العالم، وتراجع في عالمنا العربي كثيراً. وأصبحت منظمات حقوق الإنسان والمرأة، والبيئة، ونشر الديمقراطية، ومراكز الأبحاث، وغيرها، بديلاً للأحزاب. انقسم الحزبيون والناشطون بعيداً عن الأحزاب.[17]
بدا إذاً، ربما، أنّ مدرسة ما بعد الحداثة هي التي تنتصر. فهذه المدرسة تزعم منذ عقود أو تتنبأ بنهاية الأفكار الكلية، والفلسفات الجامعة، والحديث عن حالة من تراجع الأيديولوجيا والنظريات، لصالح التفكير بكل حالة على حدة. ولكن ربما تحتاج هذه المقولة تعمقاً كبيراً للتأكد من دقتها. ففي الحالة العربية، أصبحت الأحزاب طائفية، وقبلية، ومرتبطة بشخص واحد، وبالمال السياسي. والواقع أن الباحثة البريطانية، ماري كالدور، طورت منظوراً جديداً لفهم الصراعات الحديثة استناداً لمفهوم “سياسة الهوية”، حيث تحدثت في كتابها الصادر عام 1999، بعنوان “الحروب القديمة والجديدة.. العنف المنظم في عصر عولمي”[18]، عن الصراعات الجديدة القائمة على فكرة الهوية، متناولة صراعات البلقان، وناغورنو كرباخ، والصراع بين أرمينيا وأذربيجان هناك. وقالت إنّ الأمر يمتد إلى أفريقيا وربما جنوب آسيا. كما أصدرت عام 2013 طبعة جديدة، أضافت فيها كيف أن طرق التفكير القديمة بالحرب في الولايات المتحدة والعالم، سببت ما حدث في العراق وأفغانستان من أخطاء وعثرات.
كانت أطروحة كالدور الأساسية أنّه “ظهر في الثمانينيات والتسعينيات نوع جديد من العنف المنظم، خصوصاً في أفريقيا وشرق أوروبا، وهو سمة جديدة للعصر الجديد المعولم”. وسمّت هذا النوع من العنف بأنّه “الحروب الجديدة”.
لقد قامت أفكار هنتنجتون على صراع الحضارات، ولكن الحقيقة أنّ ما حدث، أنّ الحضارة الواحدة، انقسمت إلى أقسام مختلفة، وتحديداً إلى طوائف وأعراق. كما سقطت مقولة نهاية التاريخ بالوصول لليبرالية التعاونية.
بالنسبة لكالدور، فإن الحروب القديمة هي تلك التي “تحدث بين الدول والمجموعات المسلحة المنظمة لدوافع سياسية”، أمّا الحروب الجديدة، فعادة فيها “جريمة منظمة (عنف تقوم به جماعات منظمة تنظيماً ذاتيّاً خاصّاً لأغراض خاصة، وعادة مالية)، وأيضاً خرق كبير لحقوق الإنسان (عنف تقوم به دول أو جماعات منظمة سياسيّاً ضد أفراد)”.
وكما توضح، فإنه “رغم أنّ معظم هذه الحروب محلية، فإنها تتضمن مستويات من التداخل العابر للدول، ما يجعل التمييز بين الدولي والخارجي، وبين العدوان (الهجوم من الخارج) والقمع (repression)، (الهجمات من الداخل)، وحتى بين المحلي أو العالمي، صعباً”. وتقول “يمكن مقارنة الحروب الجديدة بالقديمة من حيث أهدافها، وأدواتها الحربية، وطريقة تمويلها. فالحرب الجديدة هي حول سياسة الهوية، على عكس الأهداف الجيوسياسية والأيديولوجية في الحروب السابقة”.
وتحدثت عن صراع بين ما تسميه “كوزمبولوتونية، قائمة على قيم الجماعية (inclusive)، والعالمية، والتعددية الثقافية، من جهة، وسياسة الهويات الخاصة”.
ويعود لكالدور فضل التركيز على مصطلح “سياسة الهوية”، وحسب تعريفها، فإنّ هذا المصطلح يشير إلى “السعي إلى السلطة على أساس هوية معينة- قد تكون قومية، أو قبلية، أو دينية، أو لغة”، ولا تنكر كالدور أنّ الصراعات عموماً، بما فيها القديمة، تتضمن هذه العناصر، بقدر أو آخر، ولكنها عادة ما ترتبط بدولة أو أفكار وقيم، أمّا الآن، فالأمر يقوم على السعي للسلطة على أساس الوسم label)). وتصبح السيطرة على السكان هي الأهم، وتستخدم حرب العصابات، ولكن لأهداف جديدة.
في حرب العصابات الكلاسيكية كما طورها ماو تسي تونغ وتشي جيفارا، وكما تلاحظ كالدور، كان السعي للحصول على “عقول وقلوب الناس هو الأساس”. أمّا في الحروب الجديدة، فالمطلوب هو زرع بذور “الخوف والكراهية”، والمطلوب هو “السيطرة على السكان بالتخلص من كل من لديه هوية مختلفة (وكذلك كل من له رأي آخر)”.
إحدى مشكلات هذا الواقع الذي بات يفرض نفسه من حيث صراعات الهوية، هو فسيفسائية المشهد السياسي العالمي، وبالتالي، يصعب على أي سياسي صياغة تحالفات واضحة، فضلاً عن الفسيفسائية، فإنّ المشهد في تغير مستمر.
وتغير المشهد يحدث بأكثر من شكل، منها مثلاً: من هي القوى المسيطرة، وموازين القوى في كل منطقة، وبموازاة الصراع الذي تحدثت عنه كالدور، في مناطق مثل البلقان، والشرق الأوسط، وأفغانستان، وباكستان، فإنّ هناك درجة من السيولة في التوجهات الدينية والفكرية حول العالم والأيديولوجية، وهذه السيولة تمتاز بسمتين: الأولى التغير المستمر، والثاني عدم تحديد شكل وأهداف محددة.
فعلى نطاق التغير المستمر، ساد مثلاً في عام 2001 بعد انتخاب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة، أنّ الدين دخل عاملاً أساسيّاً في الانتخابات الأميركية، ولكن انتخاب باراك أوباما رغم جذوره المسلمة قلل من شأن تلك الفرضية، ثم عاد دونالد ترامب بدعم كبير من كنائس إنجيلية. أضف إلى ذلك أنّ كثيراً من القوى في العالم تعجز عن تفسير ما تريد، ولا تُعرّف نفسها إلا بما ترفضه، لا بما تسعى إليه؛ فلدينا حركات مناهضة العولمة، ومناهضة الرأسمالية، ومناهضة الصهيونية، ومقاومة التطبيع.. إلخ، دون أن تقدم هذه المجموعات نفسها ضمن تصور واضح متكامل لما تريد، فهي تعرف ما ترفض أكثر مما تعرف ماذا تريد.
ه. عصر مجتمع الشبكات Network Society: لا يكتمل الحديث عن العالم الراهن “اللاقطبي”، دون الحديث عن عصر الشبكات، أو مجتمع الشبكات، وهو مصطلح ربما يعود الفضل في تطويره إلى مانويل كاستيلس، الباحث الإسباني الأصل، فعصر الإنترنت فرض متغيرات على التنظيم السياسي، وعلى طرق التعبئة والاتصال والتواصل، من نوع تقليل الحاجة للأحزاب والفصائل، وتقليل الحاجة للقيادات المركزية. وقد وجد كاستيلس في الربيع العربي فرصة مهمة لاختبار مقولاته وفرضياته التي أصدرها في عدد من الكتب والدراسات[19]. والواقع أنّ الكثيرين كتبوا عن أثر العولمة والشبكات على سيادة الدولة، ودورها، إلا أنّه يمكن الآن الإشارة لأثر هذا الدور على التنظيم والحزب وحركات التحرر، حيث تراجع أيضاً دور الحزب ودور القيادات الشخصية الكاريزمية.
وجزء من هذا الدور يفسر كثيراً العالم اللاقطبي، حيث الفواعل غير الدول العابرون للحدود، وحيث الإعلام الفردي والمجتمعي يحل مكان الإعلامين الجماهيري والرسمي، ويتحول إلى جزءٍ من محددات الحراك السياسي عالميّاً.
في الواقع، يمكن ملاحظة أثر المعالم المذكورة للعصر الراهن في الشأن الفلسطيني، وإن كان تَبَيُّن معالم أثرها يحتاج أحياناً لبعض الدراسات المتعمقة. وفي الجزء الثاني من الورقة تتبع لهذا الأثر.
ثانياً: الفلسطينيون في العالم الجديد
- الفلسطينيون واللاقطبية
لقد كانت الثورة الفلسطينية المعاصرة تمرداً على واقع النظام الدولي، وآلياته، بما في ذلك الثنائية القطبية. ورغم أنّ الاتحاد السوفييتي مد علاقات جيدة في بعض المراحل مع القيادة والفصائل الفلسطينية، إلا أنه حتى في زمن الحرب الباردة، لم يعتمد الفلسطينيون على تناقضات أو معطيات النظام الدولي، بقدر الاعتماد على العامل الذاتي. رغم ذلك، كان انهيار الاتحاد السوفييتي ضمن المبررات والذرائع للسير في إطار العملية السياسية والتسوية مع الطرف الإسرائيلي. وبعد هذا، أصبح التفكير بردة فعل الولايات المتحدة أساسيّاً في الفكر الفلسطيني.
هناك شبه اتفاق بين المنظّرين، كما مرّ سابقاً، بما في ذلك تقارير الاستخبارات الأميركية، أنّ مفهوم المواجهة اللامتماثلة asymmetric يزداد أهمية في العصر الراهن، حيث يمكن لقوة لا تمتلك القدرات التقليدية الضخمة، أو الكافية، التي تمتلكها الدول، أو يمتلكها الخصوم، أن توظف أدوات شعبية، وغير تقليدية، وغير معتادة. وهذا جوهر فكرة حركات التحرر. ورغم أنّ هذا المصطلح يستخدم في الأغلب للإشارة للمواجهة العسكرية، وبات يرتبط بالإرهاب إلى حد كبير، إلا أنّه يمكن تطويره واستخدامه للمواجهة المدنية والسياسية والقانونية والشعبية.
الواقع أنّ القيادة الفلسطينية، وباستثناء مرحلة محدودة من انتفاضة الأقصى، ظلت تبني خطواتها على أساس الإقرار بالنظام القطبي، وتقوم بتبنٍّ ضمني لفكرة الأحادية القطبية الأميركية، وإن بدأ المسار يختلف منذ سنوات، وتعزز هذا بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 6 كانون الأول (ديسمبر) 2017، حيث رفضت القيادة الفلسطينية اعتبار الإدارة الأميركية الراعي الوحيد لعملية التفاوض، وبدأت تبحث عن آلية دولية أخرى.
ربما من المهم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تستنفر بالفعل الكثير من عناصر القوة وأدوات السياسة الخارجية، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، لتقديم الحماية المطلوبة، أكثر مما تفعل تقريباً في أي قضية أخرى. ويؤدي هذا التشخيص الذي يذهب لقبول نسبي على الأقل، بمقولة، الأحادية القطبية الأميركية في المسألة الفلسطينية.
من الصحيح أن الفلسطينيين ومن آمن بقضيتهم يتبنون خطط عمل مثل حملات المقاطعة BDS وغيرها، وقد تبنى المجلسان المركزي والوطني الفلسطينيان عام 2018، هذه الحملات والوسائل، إلا أنّه، حتى إعداد هذه الورقة، لم تطور خطة فلسطينية وطنية شاملة ورسمية، تتبنى فعلاً الدبلوماسية الشعبية، بجانب أو بدلاً من الدبلوماسية التقليدية.
لم يجرِ أي تأطير لحملات المقاطعة والتضامن الدولي ضمن أطر منظمة التحرير الفلسطينية أو الدبلوماسية الفلسطينية. بل إنّ المعارضة الفلسطينية، وتحديداً حركة “حماس”، سابقت منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، في تبني سياسات تصلح للدول، وتقر بالولايات المتحدة قطباً واحداً[20]. فعلى سبيل المثال، عندما زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الولايات المتحدة، لمقابلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 3 أيار (مايو) 2017، أعلنت “حماس” قبل الزيارة بيومين، وثيقة سياسية، جاء فيها: “ترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك -وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة”.
من الصعب التسليم أنّ التوافق مع القوى الفلسطينية الأخرى هو الهدف من الوثيقة، إذ إنّ الحركة شنت بالتزامن مع إصدار الوثيقة، هجوماً على قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني، “فتح”، وسيّرت مسيرات تحرق صور الرئيس الفلسطيني في غزة[21]. وبموازاة ذلك، وبما يشير إلى أن الوثيقة الجديدة هدفت لاستمالة الولايات المتحدة، قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس”، آنذاك، خالد مشعل في مقابلة مع شبكة “سي إن إن” الإخبارية، إنّ الوثيقة تعطي ترامب الفرصة. وحسب نص المقابلة، فإن “ما ورد في وثيقة حماس يكفي لأي منصف في العالم، خاصة العواصم الدولية، أن يلتقط الفرصة وأن يتعامل بجدية معها ومع الفلسطينيين والعرب، وأن يضغط على الجانب الإسرائيلي. ودعا مشعل إدارة ترامب إلى أن تتعظ بالمقاربات الخاطئة التي كانت في الماضي، والتقاط فرصة الموقف الإيجابي الحمساوي والفلسطيني والعربي لعمل مقاربات جديدة.[22]
اتجهت القيادة الفلسطينية منذ عام 2011 تقريباً لتبني مقاربة كانت تبتعد قليلاً عن محورية الدور الأميركي، باللجوء للمنظمات الدولية والأمم المتحدة، لطلب الاعتراف الدولي، ولكن كانت خطوات تترك هامشاً دائماً لعودة دور أميركي شبه منفرد. والواقع أنّ النظام الدولي الليبرالي، أي القائم على حكم المؤسسات، هو أيضاً يبدو من زمن نظام الحرب الباردة، المهدد بشدة. ويجدر التفكير بأنّ التعويل على هذه المنظمات كسبيل للتصدي للإدارة الأميركية، والاحتلال، يبدو مراهنة خطرة. ويجدر بدلاً من ذلك، البحث عن الفواعل غير الدول، الجديدة، بشكل أكبر كثيراً، وهذه الفواعل قد تؤدي للضغط والتأثير في الحكومات، كما سيلي توضيحه لاحقاً.
لا يمكن تحميل الجانب الفلسطيني وحده وزر ضعف آليات الفعل الدولي. فالدعم العربي المطلوب يبدو كذلك في مستويات أقل من حدوده الدنيا.
هذا لا يلغي أن المداخل القانونية لدى الشعب الفلسطيني قد تشكل فرصة سانحة مهمة، وأن كثيراً من المحاولات تجري على نطاقات شعبية فلسطينية أيضاً، مثل ملاحقة المسؤولين السياسيين الإسرائيليين في محاكم دول أوروبية مختلفة. وهنا يمكن الاستعارة من رواية رضوى عاشور “الطنطورية”، التي تتخيل كيف أنّ حفيد فدائي فلسطيني حمل البندقية في زمن الثورة، يضع في كندا مع آخرين خطة تحرك كاملة لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين، وملاحقة الإسرائيليين قانونيّاً.
تراجع القطبية في العالم يرافقه تراجع في المؤسسات الدولية، ويجدر ملاحظة الأمرين معاً.
- صراعات الهوية والسيولة الأيديولوجية
تتأثر مصادر قوة الدعم للفلسطينيين بتراجع “الحلم الليبرالي” بعالم أكثر توحداً عبر مؤسسات جامعة وحرص على سلام عالمي وقانون دولي. وتتأثر بتشظي الهويات والمشاريع الوحدوية والعربية، وحتى بتشظي المشاريع الأيديولوجية لبناء دول عالمية كبرى. فمن انهيار يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي، إلى حالة التشظي في الهوية في العالمين العربي والإسلامي، على خلفية الانقسامات الطائفية والعرقية، فإنّ هذا يعني انشغال الأطراف المختلفة بأولويات وصراعات جانبية، تقلل من فرص الاهتمام بالشأن الفلسطيني، ولكن يبقى أنّ قدرة الفلسطينيين، على الفعل الذاتي، واستغلال رمزية قضيتهم، لا يساعد فقط نسبيّاً على تقليل الانشغال من قبل القوى المختلفة، عن الشأن الفلسطيني، بل قد توجد قواسم مشتركة بين بعض هذه القوى (العربية) لتقليل الفجوة بينها.
يحتاج الفلسطينيون للتركيز على إيضاح الطاقة السلبية التي ينشرها تعثر حل القضية الفلسطينية في المنطقة، وكيف أن قوى طائفية قد تتغذى على زعم تأييد المقاومة والممانعة لتعزيز وجودها، كما قد تستغل قوى الإرهاب الشأن الفلسطيني في خطابها.
هذا على صعيد الهوية، أما على صعيد الأيديولوجيا، فإنه وبنظرة “حداثية”، تبنى الفلسطينيون في الماضي أيديولوجيات عديدة، فتبعوا ماركس ولينين وماو وتروتسكي وسارتر وحسن البنا وسيد قطب وتقي الدين النبهاني، وغيرهم، واتبعوا الأيديولوجيا الوطنية ممثلة في حركة “فتح”، وأصروا حينها على الأيديولوجيا والفكر الخلاصي الجماهيري الجامع.
بنظرة “ما بعد حداثية”، حل الآن عصر الفرد، والعولمة، والإنترنت، والفيسبوك. وفي زمن المجتمع المدني وحقوق الإنسان، عاد الفلسطينيون وفصائلهم وأحزابهم وانقسموا وانتظموا في حملات متعددة: ضد الجدار، ولحركة العبور من وإلى الضفة الغربية، ولفك الحصار عن غزة، ولإنقاذ الأغوار، ولمساندة البدو في النقب، أو لبناء المكتبات، وللعون الطبي، ولتدريس الفلسطينيين من أميركا اللاتينية اللغة العربية، ولتقديم معلومات وإعلام للعالم في “انتفاضة إلكترونية”، ولحماية الثوب الفلسطيني.. إلخ. وهناك عوامل ذاتية فلسطينية وعربية لهذا التحول، مثل فشل الفصائل في التحرير وحالات فساد وترهل وجهوية و.. إلخ، ولكن هناك عوامل كونية محيطة عامة. وبدل الحديث عن أيديولوجيا الخلاص، أصبح الحديث عن خطوات وأهداف محدودة متخصصة لجمعيات وحملات غير حكومية، عصر الـNGOs)).
هناك تراجع للأيديولوجيا والأحزاب حول العالم، وهناك فكر جديد ما بعد حداثي. ولكن الإشكالية التي تحتاج للنقاش: هل وكيف يمكن أن ينجح هذا التوجه في إطار حركة تحرر وطني؟. الفصائل غائبة عن التفكير في جوهر المرحلة وعن طبيعتها. ففصائل منظمة التحرير انكفأت على نفسها، فإمّا أنها تحولت لحزب حاكم، كما في حالة “فتح” في الضفة الغربية، و”حماس” في غزة، أو يسار مكابر يعيش على أمجاد الماضي. كما لا تعمل الفصائل على تأطير الجمهور وتنظيمه خارج فلسطين، سوى باستثناءات محدودة.
من المشكوك فيه أنّ منظمات المجتمع المدني، والحملات المتناثرة لقضايا مبعثرة هنا وهناك، تصلح أن تكوّن حركة تحرير. ولكنها هي من يستقطب الآن الطاقات الشابة وحتى الفصائلية السابقة. لذلك، هناك حاجة لتفكير دقيق في كيف يمكن أن تكون هناك حركة تحرير في عصر ما بعد الحداثة؟ وكيف يمكن جمع شتات هؤلاء الناشطين في إستراتيجيات تحرير موحدة، وربما التوفيق بينها وبين الفصائل، وربما تطوير الفصائل.
لم تنتهِ الفصائل، ولم تضعف بالمطلق، بل حدث تحول في شكلها، وأصبحت سلطة وجهازاً بيروقراطيّاً وأجهزة تلفزيون وإذاعة، توظف مذيعين ومذيعات، محترفين وليسوا بالضرورة جزءاً من التنظيم. ومن هنا، فهي أيضاً قوة فاعلة في المجتمع، ولكن بطبيعة مختلفة. ومن جهة ثانية، فإن هناك بنية قانونية وتنظيمية معدة لحفظ مكانة الفصائل، وسد الطريق على غيرها. فمثلاً، نظام الانتخابات في الجامعات الفلسطينية، والسلطة (الدولة) الفلسطينية، يقوم على انتخاب القوائم، أي على انتخاب الفصائل بالضرورة. وبالمثل، توافقت الفصائل أنّه بافتراض إصلاح منظمة التحرير، فإن انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني ستكون على أساس القوائم النسبية[23]، وهو ما يتطلب أيضاً تركيبة فصائلية، ويقلص فرص الأفراد المستقلين، الأمر الذي يتعارض مع الأشكال الجديدة للتنظيم السياسي غير المؤدلج وغير الحزبي.
اللافت أنّ الفلسطينيين، خصوصاً عبر حركة “فتح”، طرحوا في الماضي آلية ناجحة لتجاوز الأيديولوجيا والانخراط في حركة تحرر وطني جامعة، ولكن ما حدث الآن هو أشبه بالتحول لحزب السلطة.
إلى ذلك، فإنّ العولمة ربما توفر فرصة للفلسطينيين لحفظ هويتهم ووجودهم العابر للحدود عبر المناطق المختلفة في العالم، كما سيوضح الجزء التالي، والأخير.
ج- الفلسطينيون في عصر مجتمع الشبكات
إذا كان الفلسطينيون بمنأى إلى حد ما عن الانقسام الهوياتي المباشر الموجود في دول أخرى، وإن كان لديهم الانقسام السياسي على السلطة، فإنّ فكرة مجتمع الشبكات، وتداعياتها، تؤثر كثيراً في الحالة الفلسطينية.
يقدم توفر وسائل العولمة وشبكات الاتصال للشباب الفلسطيني منافذ تقدم بدائل تنظيمية، ونفسية، واجتماعية، عمّا كانت توفره الفصائل. فـ”فيسبوك” و”يوتيوب”، بديلان للمنشور الحزبي، وللمجلات التنظيمية، والخلايا التنظيمية، وها هم ينتقلون من الشبكات العنكبوتية إلى الشوارع وضد حواجز الاحتلال.
يستخدم الشبان الفلسطينيون الآن وسائل التواصل الاجتماعي، لتنظيم أي رد فعل لهم، من نوع مواجهة دورية إسرائيلية تدخل قرية ما لاعتقال شخص، فهناك مجموعات تستخدم تطبيق “وتسآب” على الهاتف النقّال للتجمع[24].
في هبّة عام 2015/ 2016، فوجئت في بيوت عزاء الشهداء ببث أغانٍ خاصة يكون قد تم تأليفها وتلحينها مع موسيقى كاملة، وتم تسجيلها، باسم الشهيد أو الشهيدة، وتبث في مكبرات الصوت، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد سهّلت هذه المهمة أجهزة الحاسوب الجديدة، التي تجعل عملية تسجيل الأغاني أسهل كثيراً، وحتى العثور على موسيقى جاهزة أحياناً واستخدام كلمات جديدة معها[25].
وتقدم شبكة الإنترنت فرصة التفاعل العابر للحدود بين الفلسطينيين، أكبر من أي وقت سابق.
حل الفيسبوك والوتسآب وغيرهما مكان المنشور السياسي، ولم تعد هناك حاجة ماسة لفرقة فنية ضخمة واستوديوهات لتسجيل أغنية. وهذه كلها أمور لها أكثر من معنى. فمن جهة، تراجعت الحاجة للفصائل والمنظمات حتى تنفق أو تنتج هذه المواد، وهذا أضعَفَ الحاجة والارتباط بهذه المنظمات والفصائل، وأضعف دورها. كذلك لم تعد هناك حاجة لخبرات كبيرة في إنتاج مثل هذه المواد، وهذا يعني أمرين: الأول سهولة الحصول عليها، ولكن أيضاً عدم تطور وجود مختصين وخبراء وقيادات مركزية تستمر في الوجود والنشاط، ما يضعف مفهوم الإعلام المركزي والقائد الميداني.
كذلك، فإنّ سهولة إنتاج هذه المواد، وبقدر ما يعني انتشارها، بقدر ما يعني تشظيها، وربما محدودية الحرفية فيها. فلا يعود هناك عقل جمعي وطني عام، ورموز عامة، فللمدن والمخيمات والقرى الآن رموزها الخاصة التي خُصصت لها أعمال فنية وكتابات تذكرها.
في الواقع، إن عصر الشبكات يعمل في اتجاهين متضادين دائماً، وهو ما يمكن أن نسميه “عومحلية”، فالمجتمعات المحلية تستخدم أدوات العولمة لتكريس وجودها. ولكن إذا وجد تفكير مركزي، فإنه يمكن استغلال هذه الأدوات لبناء عمل وهوية وتنظيم عابر للحدود.
خاتمة
لفهم السياسة العالمية والإقليمية، لا بد من التفكير ضمن مقاربات جديدة، أبرزها أن مركزية الدولة في السياسة العالمية تراجعت، وبالمثل، فإن فكرة التقسيم القطبي أو الأحادية القطبية، لم تعد كافية أو صالحة لتحليل السياسات الدولية. وبالتالي، فإنّ السعي الفلسطيني لحراك دولي بعيداً عن الولايات المتحدة، يساعده أن المركزية الأميركية في العالم في تراجع، ولكن التعويل كثيراً على المنظمات الدولية بديلاً، هو تجاهل لمحدودية قدرة المجتمع الدولي على تطبيق قرارات هذه المنظمات، وتجاهل لضرورة بلورة إستراتيجية جديدة لاستقطاب الشبكات والقوى العالمية الجديدة، وهو ما يحتاج دبلوماسية شعبية فاعلة.
للتحميل اضغط هناعضو الهيئة التدريسية، دائرة العلوم السياسية، جامعة بيرزيت.[1]
[2] Russian New Agency (TASS), PM Medvedev government’s achievements in 2012-2018, 7 May 2018.
More:
http://tass.com/politics/1003201
[3] Bureau of Economic Analysis, US Department of Commerce, Gross Domestic Product: Fourth Quarter and Annual 2017 (Third Estimate), 28 March 2018.
[4] Russian military spending falls, could affect operations: think-tank, Reuters, 2 May 2018.
[5] Office of the United States Trade Representative, The People’s Republic of China, https://ustr.gov/countries-regions/china-mongolia-taiwan/peoples-republic-china (accessed 23 May 2018).
[6] Richard N. Hass, Age of Nonpolarity, Foreign Affairs, May/ June 2008.
[7] Department of Defense- United State of America, Sustaining US Global Leadership: Priorities for 21st Century Defense, 3 January 2012.
[8] The National Intelligence Council, Global Trends, Paradox of Progress, January 2017. P. ix
[9] Ibid, p. 40, 118, 126
[10] Hass, the Age of Nonpolarity.
[11] Tovah Lazaroff, In Gratitude to US, Israel to Announce UNISCO Exit, Jerusalem Post, 24 December 2017.
[12] Valerie Volcovici, U.S. submits formal notice of withdrawal from Paris climate pact, Reuters, 5 August 2017.
[13] Joseph S. Nye Jr, ‘Will the liberal order survive? The history of an idea’, Foreign Affairs, January/ February 2017.
[14] Robin Niblett, Liberalism in Retreat, The Demise of Dream, Foreign Affairs, January/ February, 2017.
[15] Kenneth N.Waltz, Theory of International Politics, (Illinois: Waveland Press, Inc., 1979), pp. 42- 41
[16] G. John Ikenberry , Liberal Leviathan: The Origins, Crisis, and Transformation of the American World Order, (Princeton: Princeton University Press, 2011), p.70
[17] هيثم إبراهيم، أفق فلسفي يتجاوز ما بعد الحداثة، مجلة آفاق المستقبل، عدد 7، مجلد 2، أيلول(سبتمبر) – تشرين الأول (أكتوبر) 2010.
[18] Mary Kaldor, New and Old Wars, Organized Violence in a Global Era, (Stanford: Stanford University Press, 1999).
[19] Christian Fuchs, Some Reflections on Manuel Castells’ Book Networks of Outrage and Hope. Social Movements in the Internet Age, Triple C, Vol 10 No 2 (2012):
file:///C:/Users/ajaze/Downloads/459-Article%20Text-1655-1-10-20121212.pdf
[20] ربما تشكل مسيرات العودة التي بدأت في ربيع 2018، في قطاع غزة، بداية تغير في موقف حركة “حماس” نحو المزيد من الاعتماد على المقاومة الشعبية. انظر:
السنوار: الوضع الدولي والبيئة المعقدة قادتنا للمقاومة الشعبية، موقع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، 16 أيار (مايو) 2018.
http://bit.ly/2IEiYvb
[21] مسيرات (نذير الغضب) في قطاع غزة.. تنادي برحيل عباس، وكالة شهاب للأنباء، 2 أيار (مايو) 2017.
http://bit.ly/2J1i7nP
[22] Nic Robertson, Andrew Carey and Tamara Qiblawi, Hamas leader issues direct plea to Trump to seize ‘historic opportunity’, CNN, 3 May 2017
https://edition.cnn.com/2017/05/03/middleeast/palestinian-hamas-khaled-meshaal/index.html
[23] وهو ما أقره رسميّاً المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في 30 نيسان (أبريل) 2018.
[24] هذا ما أوضحه شبان وأقارب، للباحث، في أكثر من مناسبة، خصوصاً عند زيارته عزاء الشهداء.