
د. محمد جبريني
في خطوةٍ رمزية ظاهرًا، واستراتيجية جوهريًا، صوّت الكنيست الإسرائيلي يوم 23 تموز 2025 لصالح بيانٍ سياسي يدعو إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، بموافقة 71 عضوًا مقابل معارضة 13 فقط. ورغم أن هذا البيان غير مُلزِم قانونيًا، إلا أن توقيته ومضامينه ودلالاته، تجعله حلقة مركزية في سلسلة خطوات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية من جذورها.
التمهيد بالتاريخ والتوراة
البيان يبدأ بتمهيد غني بالرموز الدينية والتاريخية، يعيد إنتاج الرواية الصهيونية عبر تسميات توراتية (“يهودا، السامرة، غور الأردن”)، ويربط بين المواقع الفلسطينية التاريخية كـالخليل ونابلس وبيت إيل، وبين مفاهيم “رؤية الأنبياء” و”عودة صهيون”. هذا التمهيد لا يُقصد به تأريخ الماضي، بل تسييس الذاكرة، وتحويل النصوص الدينية إلى أداة تبريرية لاحتلال سياسي قائم.
من الأمن إلى الإلغاء
البيان يستحضر هجوم السابع من تشرين الأول 2023 ليُقدّم “دولة فلسطين” بوصفها خطرًا وجوديًا، ليس فقط على إسرائيل، بل على “المنطقة بأسرها”. وتبعًا لذلك، يُذكّر الكنيست بقراره في يوليو 2024 الرافض بشكل قاطع لإقامة دولة فلسطينية غربي نهر الأردن، ويعتبر أن هذا الرفض بات بمثابة إلغاء رسمي لحل الدولتين من جدول الأعمال الإسرائيلي.
مصطلحات ملطّفة لسياسات متطرفة
واحدة من أخطر أدوات هذا المشروع هي اللعب بالمصطلحات القانونية والسياسية، فالحديث عن “فرض السيادة” يبدو أقل حدّة من “الضم” و”فرض القانون الإسرائيلي” يبدو تقنية إدارية أكثر منه احتلالًا، بينما الواقع الميداني يُشير بوضوح إلى ضم زاحف منظم، يتدرّج من إخضاع إلى تمكين، ومن تمكين إلى سيادة، ومن سيادة إلى نفي الوجود الفلسطيني برمّته.
التمييز بين هذه المفاهيم ليس ترفًا لغويًا، بل تكتيكٌ سياسي مُخطط، يُمكّن إسرائيل من الالتفاف على التبعات القانونية الدولية، وبناء وقائع ميدانية تحت مظلة خطاب “سيادي” أخلاقي زائف.
قانون بلا شرعية
رغم أن “القرار” لا يحمل قوة تنفيذية مباشرة، إلا أنه يعبّر عن تحوّل نوعي في البنية القانونية والدستورية الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، من تعاملٍ مؤقت مع “أراضٍ مُتنازع عليها” إلى اعتبارها جزءًا من “الوطن التاريخي”. وهو ما يُحوّل الاحتلال من فعلٍ طارئ إلى وضع دائم يُصاغ دستوريًا ويُسوّق أخلاقيًا.
لكن هذا “القانون الجديد” لا يستند إلى شرعية دولية، بل يناقضها صراحةً:
واقع أبارتهايد قانوني
ما يحدث اليوم في الضفة الغربية هو نموذج صريح لـ نظام قانوني مزدوج:
هذا الواقع لا يحتاج إلى “تصنيفات سياسية”، بل إلى توصيف قانوني واضح: نظام فصل عنصري (أبارتهايد)، كما أقرّت منظمات دولية عديدة.
الخلاصة: العودة إلى أصل الصراع
هذا التصويت الأخير لا يُمكن قراءته باعتباره مجرد قرار داخل البرلمان الإسرائيلي، بل هو بيان نوايا استراتيجي، يُعبّر عن تصعيد تدريجي نحو إنهاء أي إمكانية لحل سياسي يقوم على الشراكة أو الاعتراف بالآخر.
إن ما يُسمّى “فرض السيادة” هو مجرد تغليف لغوي لضم ميداني ممنهج، تُمارسه إسرائيل منذ عقود، لكنها تُعلنه اليوم بصوتٍ عالٍ، بعد أن ضمنت صمتًا دوليًا وضعفاً فلسطينيًا.
الرد الحقيقي على هذه الخطوة لا يكون عبر البيانات الغاضبة أو الإدانة الأخلاقية فقط، بل يتطلب: