دينا سليم حنحن[*]
التقيت به في أميركا أواخر سنة 2016 وتحديداً في سان فرنسيسكو عندما قام بزيارة الأقارب فيها قبل أن يعود إلى فريسكو في دالاس حيث يقيم، وهو يعمل مرشدا دينيا في إحدى كنائسها.
بشارة سمعان حنحن، ابن عم والدي..
جرفته الأقدار في مكيدة استخلص منها العبر طوال سنوات عمره التي قاربت القرن. بشارة من مواليد مدينة اللد سنة 1923 متخرج من الكلية الرشيدية في القدس، ودرّس بعد ذلك بالكلية ذاتها، غادر اللد سنة 1948 إلى رام الله، ومن هناك غادر إلى دولة الكويت سنة 1958 وزوجته الجميلة ليلى حيث عمل في هندسة المساحة مدة عشرين عاماً، لم يحصل على المواطنة، ومنها غادرا أخيراً إلى الولايات المتحدة الأميركية سنة 1978.
كرر جملته (لو تأخرنا في المدينة، لو لم نرحل عن اللد)، ثم صمت، وأخذ يعيد الذكريات محاولاً تشفيهها بعد استعادتها من العقل الباطن لتستفز الذاكرة مجدداً، طأطأ رأسه وأطال النظر داخل الأحداث التي ربما كانت قد تكومت أمامه في بلاط الأرض، يحصي قطع الفسيفساء تحت قدميه، تلك الأرض التي حملت أقدامنا جميعا، أنا ووالدتي وشقيقتي ومن كان في الدار غيرنا، حيث تجمعت الأقدام على مواطن الترحال في قارة أخرى بعيدة جدا، قارة تدعى أميركا.
لم تكتمل اللوحة فغبار الذاكرة يكون أصدق أحيانا، بقي صامتاً ونحن ننتظر منه، وعندما تسللت أعيننا إلى ما كان ينظر إليه ولم نجد شيئا، أو بالأحرى أنا التي لم تستطع أن تجد شيئاً سوى العبوس الذي ألمّ بالوجوه، حيث تناثر كل شيء وتطايرت الأفكار من عقلي، لكنه عندما بدأ يسرد بعد أن حك سبابته المعوجّة، وكأنه بهذه الحركة يحك مصباح علاء الدين، حينها بدأ الحديث مكررا بعض الجمل، قائلا:
- لو أخي أمين لم يُقتل، لو لم نعد إلى اللد، لو اكتفينا بما معنا، لكن قلنا إن بعضهم عاد حتى يأخذ ما تركه في بيته ونجح بالعودة، لذلك عدنا معا من رام الله في هذا اليوم المشؤوم لكي نأخذ نقود أخي الذي كان وما يزال عريسا يحتفل بأيام فرحه، في حينه، حمل أمين 3000 جنيه فلسطيني، أخذوها منه عندما قتله جندي يهودي، ربما يكون الجندي قد رآنا ونحن عائدان لذلك تذكّر وجهينا وانتظر عودتنا حتى يقبض على سرّ عودتنا إلى المدينة بينما الجميع يغادرها، وعندما عدنا بما نحمل أوقفنا نحن الاثنين فقط، أنا وأخي أمين الذي حمل حقيبة مليئة بالمدخرات والنقود، لم نقاومه أبدا، رفعنا أيدينا إلى أعلى واستسلمنا له بدون مقاومة، لكنه أطلق النار على شقيقي بمرأى من عيني وأصيب بناني بظرف الرصاص، سقط أخي جثة هامدة أمامي على الأرض بعد أن نشل الجندي الحقيبة منه، ثم صوّب البندقية نحوي وطلب مني الابتعاد (اركض…اركض…لا تشوف ورا) وأمرني صارخا ومتوعدا ألا ألتفت خلفي، ركضت مثل المجنون والدم يسيل مني، أردت أن أعود حتى أحمل جثة أخي، لكن انهال الرصاص على رؤوسنا مثل المطر، ركضت بين الناس دون أن أعرف كيف استطعت أن أفعل ذلك بينما قدماي بقيتا مقيدتين بالبقعة التي أوقفنا فيها العنصر اليهودي الذي حمل ملامح شرقية والذي تحدث بلغتنا العربية، تعثرت بالأمتعة التي رماها الراحلون الذين سبقوني وقد نجوا جميعا بأنفسهم، حجب الغبار الكثيف عني رؤية الطريق، كل شيء حدث بسرعة، بسرعة البرق، كل شيء انهار أمامي بسرعة، وعندما عدت إلى صوابي، تذكرت أن أخي ليس معي، توقفت في منتصف الطريق مثل غيمة تتوقف في صحن السماء، غيمة وحيدة تتسمر هناك والأخريات يسرعن حيث تأخذهن الريح، انتبهت للصراخ والعويل الذي زاحم رأسي، وكأني استفقت من صدمة، حينها قررت العودة حتى أعود بأخي، قبل دقائق فقط سرنا معا، فكيف له أن يختفي هكذا، غمرتني أفكار كثيرة لا أتذكرها وضعتني على محك الحادث، أتصور نفسي سائرا مع أخي حتى وصلنا بيتنا القائم على الشارع الرئيس للمدينة، وأتصور أننا اختبأنا فيه حتى تهدأ الأحداث، أتصور وأتذكر، لكنه أصرّ على حمل النقود والهرب بها عائدا إلى رام الله، بما أن عروسه أصبحت هناك… لو منعته من الخروج… لو فعلت! لكن صراخ الناس حولي أيقظني من معمعة أفكاري، وكأني أصبت بفقدان ذاكرة مؤقت، وعندما استفقت عدت، وعندما عدت بخطواتي المرتجفة بحثت عنه أو عن جثته فلم أجدها، أو ربما كنت قد فقدت السبيل الصحيح، لو حملته جثة… لم يتسن لي أن أفعل، لو حملته جثة، لو فعلت!
لكن صراخاً آخر حجب عني التفكير، صراخ العامة الذين ابتعدوا وابتعدت أنا أيضا معهم عن الوطن، دفشوني حتى أسير معهم، جرّني أحدهم حتى أفسح له مجال العبور، آخر قال (ليش واقف متل العمود في الطريق)! سرت .. لا أذكر كم من الوقت سرت بين الأشواك، لكن صرخات ما لأصوات أعرفها جيدا أيقظتني أمام حقيقة أخرى مؤلمة، حقيقة وليست مجرد قصة عابرة، رغم أن الناس قد تناقلت الخبر وعبر السنين التي مرّت سريعا حيث أصبح خبرا عاديا فيما بعد، لكنه لم يكن عاديا أبدا بالنسبة لي، وذلك عندما سقطت شقيقتي الحامل في شهرها الأخير في الطريق، حاول زوجها حملها لكنه أخفق، سقطت من بين يديه مثلما سقطت المدينة من بين أيدينا، سال دمها طوال الطريق بعد أن أصيبت بنزيف حاد، نزل الطفل من أحشائها، لقد صفي دمها كما صفت الهغاناه أهل اللد، مشهد صعب لا يمكن نسيانه هو مشهد أطفالها وهم يبكون من حولها، تاه زوجها بين الصراخ والعويل ومحاولة إنقاذ زوجته، لم يملك خياراً آخر. طرح جثتها تحت شجرة محاولاً إنقاذها، لكن روحها كانت أسرع، رحلت تاركة خمسة أبناء على قارعة الطريق… قامت ابنتاها الكبيرتان برعاية اخوتهما بعد وفاة والدتهم عندما استقروا في رام الله.
- إنها جدتي، إنكم تتحدثون عن جدتي!
صرخت المضيفة التي استقبلتنا في بيتها وهي تردد أنها حفيدة الراحلة المذكورة والتي تُركت ميتة على قارعة الطريق بعد أن قام زوجها بتغطيتها ببطانية، تركها تحت شجرة جثة هامدة، وسار مع السائرين في طريق الترحال هاربا بأبنائه من أزيز الرصاص، قاطعها بشارة قائلا:
- أخي وأختي اختطفا مني في الوقت نفسه والموقع ذاته، أمامي وأنا مكبل اليدين، أختي المسكينة اختطفها الموت بلمح البصر، مأساة أخرى تضاف إلى عائلتنا في الوقت عينه، ضحية أخرى أصبحت حكايتها على كل لسان!
لقد حمل بشارة، وطيلة أيام حياته ذنب أخيه أمين الذي قتل أمامه، قائلا:
– كنا بقينا في دارنا، لو ربطته من قدميه ومنعته من الخروج، ماذا كان سوف يحصل لنا يعني؟ خشي الجميع من اليهود كثيرا، لكننا نحن كمؤمنين نستطيع أن نحيا معهم ومع الجميع لأن نبينا لم يتدخل بالسياسة، وعلمنا على احترام الآخرين وعلى المحبة، وكنت وجدت طريقة ما أرسل فيها نقودا لإخوتي ووالدتي حتى لا يحتاجوا لأحد، بما أنهم سبقونا إلى رام الله، لكن أمين أراد أن يلتحق بعروسه، وهذا من حقه طبعا… يا إلهي لماذا لم أفعل؟
– هل تتمنى لو أنك بقيت في المدينة رغم ما حصل فيها من أحداث مريعة؟ سألته.
– طبعا وأكيد، وبعد هذا العمر من الترحال والتهجير والتعب والمذلة، ماذا استفدنا جميعا، لكن يوجد شيء هام لم نفقده وهو (الشرف)، نعم فعلنا كما فعل (الخوري حنانيا) خوري اللد، الذي لم يبلّغ الرسالة التي وصلته إلى أهل المدينة، لأنه آمن أن مصيرنا واحد، إما أن نخرج معا أو نبقى معا، إما أن نحيا معا أو نقتل معا، مسيحيين ومسلمين، لقد استلم رسالة من قائد جيش اليهود يبلغه فيها بأن يحث المسيحيين على البقاء في الكنيسة وألا يرحلوا لأنهم خططوا لبقاء مسيحي داخل فلسطين، والكاهن رفض تبليغ الناس بالرسالة، ولذلك لم يقف حجر عثرة أمام من ترك الكنيسة وقرر هو الرحيل أيضا، أذكر جيدا كيف وقف حائرا أمام الجموع التي كانت، نسبيا، محمية داخل كنيسة الخضر، لم يقو على البوح، لم تخرج من فمه… لم يستطع!
لقد حمل بشارة همّ العائلة رغم أنه الثالث من بين إخوته وليس البكر، بلع دمعه وعاد ليبحث في الأرض عن قطع الفسيفساء التي تناثرت، فكلما حكى تباعدت القطع واختفت، هكذا أحسست، عاد إلينا بعد برهة، ونحن جميعا صامتون ننتظر منه المزيد، قال:
- الرب معي دائما، رغم مشاكسات الدنيا ومنذ بدأت أعمل بعد أن أنهيت دراستي وذلك قبل النكبة، نلت حصتي من الحياة، حصّة محترمة جعلتني أتفاخر بنفسي وبإمكانياتي، لقد تميزت وانفتحت السبل أمامي بعد ضيق، آخ يا ابنة عمي لو تدرين كم أشتاق لتلك الأيام، أتذكر الآن الصور الأكثر تفاهة بالمدينة فينتعش قلبي، والدي ودكان السمانة التي امتلكها، وسمعان ومسعود وداود جدك عندما جربوا العمل في صنع الصابون، أسموه صابون داود على غرار ابن العم إلياس حنحن، أبو خضر، الرجل الأكثر ثراء في العائلة والذي ملك مصبنة في حينه، والخ من ذكريات لا تمحوها السنون.
لماذا يا ترى أذكر كل هذا الآن؟ لقد أتيت يا ابنة عمي دينا حتى تنبشي الذاكرة المغمورة داخل العقل.
لن أنسى ما قالته لنا عمتي، أنا وإخوتي، عندما استقر بنا الحال في رام الله، بل لنقل عندما توقف بنا الحال ولم نجد عملا يقينا من جوع، قالت: (إنتو شو بتستنوا هنا يا شباب؟ مفكرين راح ييجي حدا ويطعميكم رغيف خبز؟ يالله قوموا ولا تقعدوا هيك، قوموا شوفوا مستقبلكم)، حينها سلمنا كرت المعونة وبحثنا عن عمل، توظفنا جميعا في التدريس ثم سافرت إلى الفحيص، في الأردن حتى أستلم وظيفتي بالتدريس هناك، استأجر لي سليمان الزغلول بيتا مقابل 100 دينار سنويا وعدت في العطلة إلى عائلتي حاملا في جيبي 64 دينارا، ثم تعيّنت مدرسا في كلية بير زيت مقابل 144 دينارا أردنيا أي ما كان يعادل 36 دولارا كل شهر، ثم ارتفع الراتب خمسة دنانير وذلك كله بفضل مديرة الكلية آنذاك السيدة جميلة بديري.
ودّعت ابن عمي وزوجه ليلى بالدموع، صمتت ليلى طوال اللقاء وكانت بذلك وكأنها تلهمه بأن يحكي أكثر، زوجان رائعان عاشا معا على حلو العيش ومره دون أن يرزقا بطفل يحكي من بعدهما فصول التاريخ الذي مضى بهما، زوجان ممتلئان مروءة وحناناً ودفئاً.
خرجنا من البيت وصوته يرن في أذني عندما قال:
- هل ترين هذا البنان الأعوج؟ لا يمكنه أن يستقيم أبدا، بل من المستحيل أن يحصل ذلك بدون تدخل جراحي، لقد حملته طوال عمري واحتملته أعوجَ، وكلما فكّرت بتعديله خشيت عليه من الكسر، هذا البنان يشبه حال ما نعيشه الآن وما يعشش دواخلنا، هذا البنان الأعوج يذكرني كثيرا بحالنا كفلسطينيين!
وبقيت جملته الأخيرة تطن داخل أذني طوال الليل.
لنكمل الحكاية:
علمت بأن زوجة أمين حنحن، أقصد أرملته تقيم في سان فرنسيسكو أيضا، مفاجأة كبيرة لم تخطر لي على بال، وصممت على مقابلتها رغم تمنّع والدتي، لكني أصررت وطرقت باب بيتها، فتح لنا ابنها ورحب بنا كثيرا، وعندما عرفتها على نفسي، ابتسمت وصمتت، كمحاورة جيدة استطعت أن أستخرج من فمها الكلام، وكلما بدأت من حيث فقدت زوجها غدرا تعود وتستدل الستار على الحادث وكأن شيئا لم يحدث، بصعوبة استطعت استخلاص بعض الكلام، قالت:
“كنت بنت 15 سنة ونصف عندما تزوجت الرجل، أنا من مواليد 1932، وذلك عندما انتشرت دعاية أن اليهود سوف يجندون الصبايا في الخدمة العسكرية، كنا نشوف المجندات اليهوديات وهن لابسات الشورتات وحاملات البنادق، لذلك أسرع الأهالي، ومنهم أهلي، بتزويج البنات الجاهزات للزواج، تكللنا في كنيسة الخضر، حضر كثيرون، لكن بعدها بساعات حصل منع التجوال وعلقت الناس في بيوتها، قامت الخياطة نصيفة الزغبابة، مقترنة لعائلة الأسمر في يافا بتصميم فستان الزفاف، واقتنى أمين سمعان حنحن، خطيبي، القماش من محل والدي وعمي يعقوب العاجز الذي كان شريكاً، في أشهر محل قماش في اللد”.
“هذا ما أذكره، قام الرجال بحراسة الحارات بالليل، لكني في اليوم الثاني تركت مخدع الزوجية وذهبت إلى اللعب مع أخواتي أستمتع بنط الحبل في الساحة، استمر زواجنا أربعين يوما فقط، وعندما قررت عائلتي الرحيل، أخذوني معهم لأن اليهود أوهمونا أننا سنعود بعد شهر، ذهبنا إلى بير زيت في البداية، لذلك قمنا بدفن النقود والصيغة داخل الأرض، وعندما أحس أمين باحتياجنا إلى المال قرر العودة إلى اللد حتى يستخرج المدفون ويعود مجددا، لكنه لم يعد نهائيا.
استقر بنا الحال بعد ذلك في رام الله، مع عائلتي، فتحنا مشغل صوف أنا وشقيقتي وحكنا البلايز للمواطنين، فشتاء رام الله قارس جدا، ودارت بنا الأيام حتى تقدم إلى خطبتي ميشيل البهو، وأصله من يافا، تزوجنا سنة 1963 واستمرت الحياة بنا، عاونته على تربية طفليه ورزقت منه بطفلين أيضا، وعندما قررنا ترك فلسطين سنة 1980 ذهبنا إلى سان فرنسيسكو، أظن أنها أصبحت اللد الجديدة، معظم من غادر اللد ومن ثم رام الله موجودون هنا الآن، هم ونسلهم. خرجت من بيت فيوليت، وأنا أفكر بموضوع أمين، زوجها الأول الذي هلك على الطريق، هل نعتبره بطلا من الأبطال الذين قضوا أثناء النكبة، أم رجلا منسيا، لا يعرفه سوى القليل، وحتى زوجته التي أحبها كثيرا وغامر لكي يؤمن لها حياة هنيئة لا تتذكر منه شيئا، سوى أنه كان ثريا.
حياتها عبارة عن بيتين من الشعر وزوجها الثاني الذي عشقته كثيرا وعاشت معه حياة تشبه القصيدة، وسيمة جدا، بيضاء البشرة نقية المسامات، حلوة العينين، لكنها بدأت تفقد بصرها رويدا رويدا، وما زاد في ذلك هو سقوطها في الحمام، والشيء المحير أن كنتها التي تقيم معها في البيت نفسه منذ عشرين عاما، لا تعلم بزواجها الأول، وتفاجأت بالحكاية كثيرا، حتى أنها أرادت ملامتها لكنها لم تفعل، هل تعمدت فيوليت نفي وجود أمين من حياتها أم احتفظت بالسرّ لنفسها؟ ولماذا سحبته، أي السرّ إلى أماكن منفية داخل عقلها وتأبى أن تتذكره أو تتحدث بشأنه؟.
[*]روائية فلسطينية تقيم في أستراليا.