[*]رشيد الحجة
لمع أولوف بالمه في طفولته، واستقام طيلة حياته، ووقف شجاعاً عند المنعطفات السياسية الكبرى.. وفتح أبواب دول الشمال ومن ثم باقي الدول الأوربية والاشتراكية الدولية، بالتعاون مع المستشار النمساوي الاشتراكي برونو كرايسكي، أمام منظمة التحرير الفلسطينية. كان أصدقاؤه كثراً ومسالمين من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكن أعداءه كانوا أقوياء وخطرين، الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وجنوب أفريقيا “وقتلوه”.
جريمة الاغتيال
في الساعة الحادية عشرة وإحدى وعشرين دقيقة من ليل يوم الجمعة الواقع بتاريخ 28 شباط (فبراير) من عام 1986، وفي الوقت الذي كان رئيس الوزراء السويدي، ورئيس أكبر حزب سويدي، على مدى مئة عام، وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، السيد أولوف بالمه، خارجاً برفقة زوجته السيدة ليسبيت بالمه من إحدى صالات السينما، متوجهين لأخذ قطار الأنفاق المحلي إلى منزلهما، وبدون أية حراسات، أطلق مجهول عدة عيارات نارية استقرت مباشرة في جسد بالمه وصادرت منه أنفاسه الأخيرة، وذلك في شارع سفيا وسط العاصمة السويدية ستوكهولم.
طرق العمل للكشف عن الجريمة
ومنذ تلك الساعة وحتى كتابة هذه السطور، أي بعد مرور سبع وعشرين سنة، صرفت عشرات الملايين من الدولارات في عملية البحث عن الجاني. واشتغل بهذه القضية مئات الأشخاص، من رجال شرطة واستخبارات، وشكلت لجان خاصة من ذوي الخبرات، كما تم التواصل والتعاون بين جهاز الأمن السويدي مع أجهزة دولية عديدة للتوصل إلى حل لهذا اللغز.
هذا وقد وصل إلى اللجنة المختصة بالتحري عن القاتل الآلاف المؤلفة من الرسائل، في محاولة من مواطني السويد وغيرها لمساعدة اللجنة في التقاط بعض خيوط الجريمة. كما تم تأليف العديد من الكتب التي حاولت إلقاء الضوء على أحد مسارات التحقيق، وأُعد الكثير من البرامج التلفزيونية والإذاعية، وأجري العديد من المقابلات مع المتخصصين في عالم الجريمة والسياسة، وكتبت آلاف المقالات محلياً ودولياً، ووصل على سبيل المثال في شهر شباط (فبراير) لهذا العام أكثر من مئة مكالمة لمجموعة العمل للتحقيق في مقتل بالمه؛ وذهبت كل تلك المحاولات حتى اليوم أدراج الرياح، ولم يتم العثور على الجاني. ومن اللافت بأن السويد لم تيأس حتى اليوم من المتابعة في البحث عن الجاني، أي لا زال الملف مفتوحاً.
لقد توجهت أصابع الاتهام والشبهات لطرف ما ولفترات طويلة دون أي نتائج، واسدلت الستائر عنه لتتوجه إلى طرف آخر. وصل الأمر ذات مرة أن صدر الحكم، من قبل المحكمة الابتدائية، بالمؤبد على رجل سويدي لكنه استأنف الحكم فبرئ من قبل محكمة الاستئناف. كما وجهت خيوط الجريمة إلى حزب العمل الكردستاني الشيوعي (ب ب ك) ولوحق الكثير من الشباب الكرد، وتم التحقيق مع البعض، والبعض الآخر وضع تحت الإقامة الجبرية، وتم التنصت غير القانوني بأجهزة حديثة استوردت من بلدان أخرى كبريطانيا.
مني جهاز المخابرات السويدية (سابو) بالفشل الذريع بعد فشله في فك اللغز والكشف عن الفاعل من جهة، واستخدام رجالات هذا الجهاز الأساليب غير القانونية وفي عملهم البطيء من جهة أخرى. لقد تم على إثر هذا الفشل طرد العديد من رجال المخابرات من أعمالهم وصدرت أحكام ضد الآخرين منهم، وتم تبديل شخصيات كبيرة في الجهاز، وتوجت الأمور بأن أقيلت وزيرة العدل أيضاً.
الشبهات
1- لقد كان بعض رجال الأمن يؤمن بنظرية أن الأكراد هم من كان وراء مقتل رئيس الوزراء أولوف بالمه.
2- توجهت أنظار ثانية إلى أماكن أخرى فأوردت مثلاً صحيفة “أوبسالا ديمقراط” في عددها الصادر بتاريخ السابع من أيار (مايو) من عام 1987، من خلال مقابلتها لشخصية سويدية حضرت الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر تفيد بأن القائد الفلسطيني ياسر عرفات قد أشار إلى أن آثار الجريمة هذه تتجه نحو أمريكا اللاتينية.
3- ووجهت ثالثة الشبهات إلى جنوب أوروبا وبالتحديد نحو إيطاليا حيث اتهم فرع الماسونية هناك بأن له يداً في الجريمة بالتعاون مع أفراد من جهاز المخابرات الأمريكية (سي آي إيه).
4- لكن أكبر صحيفة سويدية داجينز نيهيتر (أخبار اليوم) في عددها الصادر بتاريخ 28 نيسان (آبريل) من عام 1992 قد أشارت إلى أن حلف الناتو كان وراء عملية الإعدام. وتبرر الصحيفة بأن بالمه قد دعي لزيارة عاصمة الاتحاد السوفييتي، موسكو، في ربيع عام 1986 وكان من بين المواضيع التي سيتم مناقشتها هناك هو كيفية التوصل إلى ضمانات سوفياتية لتحييد منطقة شمال أوروبا (السويد، وفينلندا، والنرويج، والدانمارك، وآيسلندا) وجعلها منطقة منزوعة من السلاح النووي. وهذا ما لم تكن دول حلف الناتو ترغب به آنذاك، فخططوا للتخلص منه.
5- في حقيقة الأمر فإن ما يثير شهية المتتبع العربي في معرفة من هو قاتل أولوف بالمه، ومن هم الذين تدور حولهم الشبهات، هي الخيوط التي وجهت اتهاماتها نحو منظمات “المسيحية الصهيونية” فقد نشرت صحيفة اليوم “داجن” السويدية في عددها الصادر بتاريخ 12 كانون الثاني (يناير) من عام 1988 مقالاً للبروفسور السويدي سيجبرت أكسيلسون، وهو أحد مستشاري أولوف بالمه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يتهم فيه وبشكل مباشر أحد زعماء “المسيحية الصهيونية” في السويد المدعو شل شوباري. واستخدم كاتب المقالة التصريحات الدينية التي أدلى بها شوباري ضد بالمه قبل مقتله وهي: (لقد خالف أولوف بالمه قوانين الرب عندما دعى ياسر عرفات لزيارة السويد، من هنا عليه أن يلوم نفسه بنفسه، وعليه إذاً واجب الموت…). وكان شوباري قد أكد مقولته هذه في مقابلة أجرتها معه الجريدة ذاتها بعددها الصادر بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1987.
6-وكباحث متخصص في الشأن الفلسطيني على الساحة السويدية كتبت، بعد مقتل الرجل بأيام قليلة، مقالاً في صحيفة أوبسالا ديمقراط بتاريخ 7 آذار (مارس) 1986 تحت عنوان “من قتل الكونت فولكة برنادوت – الوسيط الدولي في حرب فلسطين بين اليهود والعرب في عام 1948، وقد قتله اليهود الإرهابيون لمواقفه الإنسانية تجاه الفلسطينيين – قد قتل أولوف بالمه، وقلت (جميعنا يعرف الآن النتائج الوخيمة التي حصدها بالمه لجهوده من أجل نزع السلاح والسلام من أجل الفلسطينيين ومن أجل فقراء العالم ومستضعفيه من الشعوب كالفيتنام وأفريقيا الجنوبية وكامل أمريكا اللاتينية). كما وأخذت بعض الأقلام السويدية وكذلك الصحف العربية نفس المنحى في توجيه التهمة لإسرائيل وأصدقائها.
من هو أولوف بالمه وماهي أدواره المحلية والإقليمية والدولية.
بعد هذا العرض السريع والمختصر جداً لجهود بذلت على مدى 27 عاماً لمعرفة الجاني ومعرفة أهدافه من وراء عملية الاغتيال، لابد من طرح السؤال التالي: من قتل أولوف بالمه؟ أو بالأصح من كان المستفيد الأكبر من مقتله؟ من هنا يصبح من الضرورة إلقاء الضوء على تاريخ هذا الإنسان منذ نشأته وحتى يوم اغتياله؟ وما هي أبرز ملامح شخصيته؟ وما هي الإستراتيجيات التي كان يناضل من أجلها، ليل نهار، دون كلل أو وجل؟ ليتمكن القارئ العربي من المشاركة في “الحكم الغيابي على من هي الجهة الفاعلة”.
ولد أولوف بالمه في العاصمة السويدية ستوكهولم بتاريخ الثلاثين من شهر كانون الثاني (يناير) من عام 1927 لعائلة أرستقراطية. توفي والده جونّار عندما كان أولوف في سن الخامسة من العمر، فترعرع على يدي والدته اليزابيت، وهي ألمانية الأصل. كانت اليزابيت قد درست علوم الطب، وشاركت في إنقاذ المنكوبين من جراء الحرب العالمية الثانية بالتعاون مع الأمير السويدي فولكه برنادوت. تأثر أولوف بالمه بوالدته في الانتصار للحق والعدالة للضعفاء والمظلومين. تزوج بالمه من السيدة ليسبيت بالمه التي أنجبت له ثلاثة أبناء وهم يواكيم 1958، ومورتين 1961، ومتيّاس 1968.
ومن قراءة الكتب والمقالات السويدية العديدة – انظر المراجع في آخر الدراسة – يمكن للمرء تقسيم حياة أولوف بالمه إلى ست مراحل، لكل منها مميزاتها:
المرحلة الأولى ما بين العام 1927 و العام 1953
كان أولوف بالمه كثير المرض في طفولته، ما سمح له بالقرب والاحتكاك والتواصل مع الكبار والنهل من معارفهم. ورغم مرضه فقد تعلم بالمه القراءة وهو في سن الرابعة، وأتقن لغة أمه الألمانية، كما علمته والدته اللغة الروسية التي كانت تعرفها، وتعلم الفرنسية من مربيته، وأضاف في شبابه وتعليمه المدرسي والجامعي اللغتين الإنجليزية والإسبانية، لقد كان متعدد الثقافات إلى حد العبقرية.
شغف بالمه بقراءة التاريخ والأدب. وبدأ يكتب للصحافة بعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة في عام 1944. درس بعدها الفنون في جامعة كانيون في ولاية أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية، وشكل هناك النادي الاشتراكي للطلبة، وقام بزيارة خمسٍ وثلاثين ولاية أمريكية، إطلع فيها على الفروق الطبقية الكبيرة بين الناس. وفي الوقت عينه تأثر أولوف بالمه كثيراً من عنف الانقلاب الشيوعي الذي حصل في براغ “تشيكوسلوفاكيا” عام 1948 . وهذا ما انعكس على حياته السياسية ليتخذ طريقاً وسطاً ما بين النظام الشيوعي والنظام الحر. وشارك للمرة الأولى في نفس العام في الانتخابات العامة للبرلمان السويدي وصوت لصالح الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهو أكبر الأحزاب السويدية منذ عام 1886، الحزب الذي أصبح أولوف بالمه فيما بعد رئيساً له.
بعد انتسابه للحزب عام 1951 بدأ بالمه حياته السياسية وذلك من خلال الحركة الطلابية. درس بالمه القانون في المملكة السويدية. وقال لأحد الصحافيين الفرنسيين، حين سأله عن تبنيه وانتمائه للسياسة الاشتراكية في عام 1977، على الرغم من أنه ينتمي إلى عائلة أرستوقراطية فأجاب (صحيح بأنني لم أترعرع ضمن الحركة العمالية، إلا أنني أنا جزء منها وأتبع لها…لقد تشكلت مواقفي السياسية ونمت تدريجياً، مستندة للدراسة والتفكير والتمحيص. إن أساس الاشتراكية عندي هو أنه إذا تلاحم الناس ووحدوا جهودهم فلن يكون أمامهم أية عوائق مستحيلة. فلا يكفي البكاء على الأطلال. لذا فإنني أقول دائماً: لاتحزن! بل قم بالتنظيم واعمل!)
استنكر بالمه أسلوب العمل والتعامل في اتحاد الطلاب العالمي، الذي كان يسيطر عليه الشيوعيون. لذا قام بإنشاء اتحاد طلابي عالمي مواز له عام 1951. لفت نشاطه السياسي والتنظيمي هذا نظر رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيس وزراء السويد يومئذ السيد تاجه إيرلاندر فقربه منه.
قام بالمه بزيارة عدد كبير من دول العالم الفقيرة، وخاصة الآسيوية، وفي مقدمتها الهند وسيلان. الأمر الذي خلق لديه أثراً عميقاً وعزز عنده صورة العالم. فقال مثلاً عن بلدان آسيا: (لقد جعلتني آسيا أعايش وأفهم معنى الاستعمار) وأضاف على إثرها القول (إن العالم ليس مقسماً إلى شرق وغرب فحسب وإنما إلى شمال وجنوب أيضاً). هذا وكان أولوف بالمه أول من قام بتنظيم حملات طلابية مناهضة للنظام العنصري في جنوب أفريقيا، ومكن الطلاب الأفارقة من الحصول على البعثات الدراسية في السويد.
المرحلة الثانية بين العام 1953 والعام 1963
تبلورت في هذه المرحلة شخصية أولوف بالمه السياسية، وارتفعت قدرته على التعامل بشكل يثير الدهشة لدى المراقبين. فمنذ التحاقه عام 1954 بمكتب رأس الهرم السياسي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، رئيس الوزراء السويدي، كسكرتير ومساعد، عمل بدأب وجد فاستطاع التدرج بمنصبه ليصبح اليد اليمنى للوزير الأول – رغم فارق العمر الذي يصل إلى خمسة وعشرين عاماً فيما بينهما – ومرافقه في كل أعماله ورحلاته.
وكان من أهم ما كان يناضل بالمه من أجله هو:
1- محاربة الكولونيالية، والعمل الدؤوب على استقلال الشعوب وتقرير مصيرها، تماماً كما كان الأمين العام للجمعية العامة للأمم المتحدة آنئذ السويدي داج همرشولد.
2- الوصول إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، الاشتراكية، من أجل تطبيق المساواة بين الشعوب.
3- محاربة العنصرية بكافة أشكالها وتطبيق ديمقراطية التعليم.
ولما كان أولوف بالمه يتقن ست لغات دولية ويتقن فن السياسة فقد وصفه رئيس وزرائه تاجه إيراندر بأنه “شخصية لا يمكن تقديرها بثمن”. تم انتخاب بالمه لعضوية البرلمان السويدي ممثلاً للحركة الطلابية والشبيبة في حزبه الاشتراكي الديمقراطي وذلك في عام 1959، وكان يومئذ أصغر عضو برلمان بين زملائه الـ349. كان بالمه من أشد المعارضين لدخول السويد في مجموعة دول السوق الأوروبية المشتركة، مبرراً موقفه بالحفاظ على الحيادية، التي تميزت بها السويد لسنوات طويلة قبل دخولها الاتحاد الأوروبي في منتصف التسعينات من القرن الفائت. لكن بالمه كان يسعى بنفس الوقت لتمتين أواصر الصداقة والعلاقات الطيبة بين دول السوق نفسه. وكان بالمه من أوائل من طالب، عبر البرلمان السويدي، بدعم الشعوب والدول الفقيرة في مشاريع التطوير والتنمية.
المرحلة الثالثة ما بين العام 1963 والعام 1969
تم تعيين بالمه وزيراً من دون حقيبة في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1963، واعتبره سياسيو السويد النائب غير الرسمي لرئيس الوزراء في تلك المرحلة. أما أهم ما قام به من جهود في تلك المرحلة، التي تميزت باستقلال الكثير من الشعوب، فكانت مناهضته المركزة والعنيفة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الفيتنام. حتى إن أحزاب المعارضة السويدية، المكونة من الأحزاب البرجوازية، المحافظين والشعب والوسط، قد اتهمته في عام 1965 “بمغازلة” الكتلة الشيوعية العالمية.
تسلم بالمه حقيبة وزارة المواصلات عام 1965 قام على أثرها بتبديل نظام السير في السويد، الذي كان يتبع النظام البريطاني، ليصبح السير على الخط اليميني من الشارع وليس اليساري، النظام الذي تسير عليه معظم دول العالم. وعلى الرغم من تسلمه هذا المنصب كانت تنقلاته بأجمعها تتم بوسائل النقل العام، كأي مواطن في السويد، كالباص والقطار ومترو الأنفاق. السلوك الذي استغله أعداؤه فيما بعد ليغتالوه، بعد عشرين سنة، أمام أحد مخارج مترو الأنفاق عندما كان متوجها للركوب به مع زوجته للوصول إلى بيته. لم يبق بالمه لفترة طويلة على رأس وزارة المواصلات. تسلم بعدها مقاليد وزارة التربية والتعليم في عام 1967.
وكان الحدث الأبرز والمهم والذي لا زال يقترن به اسم أولوف بالمه حتى يومنا هذا هو مشاركته، إلى جانب سفير فيتنام الشمالية في موسكو، في مقدمة مظاهرة شعبية في العاصمة ستوكهولم ضد الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت “لجنة أنصار فيتنام” هي من قام بتنظيم هذه التظاهرة بتاريخ 21 شباط (فبراير) من عام 1968 – اللجنة التي حلت نفسها بعد تحرير واستقلال فيتنام، وتحول معظم شبابها اليساري لتشكيل “مجموعات أنصار فلسطين” التي لا زالت فاعلة حتى الساعة. لقد أحدثت هذه المظاهرة ردود فعل دولية قوية جداً، ولا زالت تذكر حتى اليوم عند الحديث عن بالمه. لقد كَتبت عن هذه المظاهرة 367 صحيفة أمريكية، وهذا ما أكسب بالمه شهرة دولية، وربما وضعه ذلك على القائمة السوداء الأمريكية. قامت الولايات المتحدة الأمريكية على إثرها بسحب سفيرها من العاصمة السويدية. وطالبت المعارضة السويدية وعلى الفور بإقالة الوزير أولوف بالمه ووصفته بأنه “خائن للوطن”. إلا أن بالمه لم يبال أو يتراجع عن موقفه، بل تابع جهوده وتنفيذ قناعاته. لم تكتف الحكومة الاشتراكية في إزعاج الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الحدث بل فتحت أبواب المملكة أمام الجنود الأمريكان الذين شكلوا فراراً من الجيش الأمريكي المشارك في الحرب ضد فيتنام.
خرج بالمه بعدها، ليؤكد على مواقفه المبدئية، متصدراً مظاهرة شعبية مشابهة، بتاريخ 21 آب (أغسطس) من عام 1968، في ثاني أكبر مدينة سويدية في جنوب السويد، مالمو. وكانت التظاهرة هذه المرة ضد دخول جيوش السوفييت، مع قوات حلف وارسو، إلى تشيكوسلوفاكيا. الغزو الذي دعى الحزب الشيوعي السويدي للخروج عن فلك موسكو.
لقد كان لموقف أولوف بالمه هذا أن خلق له مصداقية كبيرة في اتباعه سياسة الحياد، وأهّله ليكون الشخصية البديلة الوحيدة لتسلم منصب رئاسة الوزراء، بعد تنحي تاجه إيرلاندر عن هذا المنصب بسبب تقدمه في العمر.
المرحلة الرابعة بين العام 1969 والعام 1976
في عام 1969 تم اختيار أولوف بالمه، في المؤتمر السنوي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، رئيساً للحزب، ومن ثم رئيساً للوزراء. قام بالمه بعدد من الإصلاحات الداخلية. أمّا على المستوى الخارجي فقام بالمه بزيارة بلاد السوفييت وعدد من دول أفريقيا.
تابع ساسة أمريكا استياءهم من بالمه، فرفض الرئيس الأمريكي نيكسون لقاء بالمه عندما قام الأخير بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية. لكن غضب نيكسون هذا قد وصل إلى أعلاه في عام 1972 عندما عاودت أمريكا قصفها لفيتنام الشمالية. يومها كتب أولوف بالمه عن هذا القصف قائلاً: (علينا تسمية الأشياء بمسمياتها. إن ما يجري في فيتنام اليوم هو عملية تعذيب، حيث لا توجد أية مبررات عسكرية للقصف الأمريكي. إن هذا التعذيب والقتل الممنهج لشعب كامل، وإهانته، وإجباره على الخضوع بالقوة يشكل عملية قتل لها مثيلاتها في هذا العصر) وكان بالمه بذلك هنا قد قصد ما اقترفته أيادي النازية الألمانية من مذابح ضد الشعوب الأخرى ومن بينهم اليهود. طرد الرئيس الأمريكي نيلسون، على إثر مقولة بالمه هذه، السفير السويدي من واشنطن. وطالبت أحزاب تكتل المعارضة البرجوازية السويدية رئيس الوزراء السويدي بسحب أقواله والاعتذار، بدلاً من الوقوف إلى جانبه، جانب الحق والعدل. بيد أن بالمه في الوقت عينه قد حصل على العديد من رسائل الشكر من شخصيات أمريكية، كانت مناهضة لسياسة بلادها في الفيتنام.
هذا ووقف أولوف بالمه أيضاً وبكل حزم ضد الديكتاتور الإسباني آنذاك، الجنرال فرانكو، ووصف جهاز حكمه “بالقتلة الشياطين”. وهناك صور لأولوف بالمه وهو يقف في أحد شوارع ستوكهولم وهو يجمع التبرعات من المواطنين السويديين لصالح الشعب الإسباني والمعارضة هناك. وقام رئيس حزب المحافظين في السويد باتهام أولوف بالمه؛ بأن وقفته هذه هي “دعم للإرهابيين”. كما وقف بالمه ضد الديكتاتوريات في التشيلي وتشيكوسلوفاكيا واليونان، حتى إنه دعم زعيم المعارضة اليونانية آنذاك السيد باباندريو، الذي كان لاجئاً سياسياً في السويد.
إذاً كانت اهتمامات بالمه هي دعم دول وشعوب الجنوب الفقيرة. وهنا يتساءل القارئ العربي، أين بالمه من قضية فلسطين؟ وبالفعل فقد بدأ بالمه في هذه الفترة، مع بعض الشخصيات التي كانت حوله في الحزب بالاهتمام بقضية فلسطين، بعد أن كانت سياسة الحزب، في أيام سلفه تاجه إيرلاندر، تتميز بالتأييد المطلق والأعمى، حتى بداية السبعينات من القرن الماضي، لما تقوم به إسرائيل من سياسات وأعمال، والتي كان يقودها ويوجهها حزب العمل الإسرائيلي. وكان من بين أهم الأسباب في هذا التحول، أي الاقتراب من فهم السويديين لما يريده الفلسطينييون العرب في نضالهم التحرري، هو استخدام العرب لسلاح النفط في حرب تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1973 ضد من وقف إلى جانب إسرائيل. ومن ثم اشتراك السويد في الحوار البرلماني الأوروبي العربي على إثر تلك الحرب. إلى الاعتراف العربي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، الاعتراف الذي فتح الأبواب العالمية أمامها.
هذا وكان للرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين الفضل الكبير في جمع زعيم الثورة الفلسطينية وقائد منظمة التحرير الفلسطينية السيد ياسر عرفات مع السيد أولوف بالمه لأول مرة أثناء زيارته للجزائر بتاريخ 19 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1974، خلال دعوة على الغداء. كانت السويد تعتبر، بمعظم قياداتها السياسية لجميع الأحزاب، ما عدا الحزب الشيوعي، في وقتها منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية، وذلك في أعقاب اختطاف الطائرات من جهة وقتل الفريق الرياضي في ألمانيا عام 1972 على يد إحدى التنظيمات الفلسطينية. لقاء بالمه بعرفات هذا أقام الدنيا في السويد ولم يقعدها على المستوى الرسمي والشعبي ولفترة طويلة. وأثيرت الحوارات الحامية بين الأحزاب في قاعات البرلمان السويدي بين معارضين ومستنكرين كثر لهذا اللقاء، وبين أفراد قلائل مؤيدين للخطوة. خاصة وأن ذلك العام كان عام منظمة التحرير الفلسطينية على المستوى الدولي حيث كان لصوت الحكومة السويدية في الجمعية العامة للأمم المتحدة الترجيح لقبول المنظمة كعضو مراقب في الجمعية بنفس الشهر الذي التقى فيه بالمه مع عرفات عام 1974 في الجزائر. قال بالمه في معرض رده على المعترضين على هذا اللقاء:
(بعد أن أوضح لي بومدين بأن الجزائر قد دعت السفراء الأجانب وبعض ممثلي حركات التحرر، من بينها منظمة التحرير الفلسطينية إلى العشاء، أشار بو مدين لوجود السيد ويلي برانت، رئيس مجموعة الاشتراكية الدولية، أيضاً).
وقبل تناول العشاء بقليل، أُعلمت بأن ممثل منظمة التحرير الفلسطينية سيكون قائد هذه المنظمة، السيد ياسر عرفات، الذي كان في طريقه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتوقف بالجزائر للتشاور مع قيادة الحكومة الجزائرية. وإن رؤيتي للأمر هي؛ أن المضيف هو من يقرر من هم المدعوون لحفلته، وليس لدي أي سبب أن أقيّم خيار المدعوين. لقد تحدثت قليلاً مع ياسر عرفات، قائد منظمة التحرير الفلسطينية، وقلت بعدها للصحافة بأن عرفات شكل لدي انطباعاً بأنه ليس متطرفاً في أفكاره ومواقفه في كثير من الأمور التي تحدثت معه فيها.
إن الجميع هنا، في قاعة البرلمان، يعلم بأن للسويد كتقليد نشاطاً فعالاً من أجل السلام والتفاهم في قضايا الشرق الأوسط. فنحن شاركنا وبدور متقدم، للوصول إلى قرار الجمعية، العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947، والذي أدى إلى قيام دولة إسرائيل. وقدم الأمير فولكة برنادوت حياته كوسيط دولي للأمم المتحدة عندما حاول التوصل إلى تفاهم سلمي حول فلسطين. كما قدم الأمين العام للأمم المتحدة السويدي “داج همرشلد” جهوداً كبيرة لوقف القتال في حرب السويس عام 1956. وأعطى الجمعية العامة للأمم المتحدة معنى ودوراً جديداً. وقد شارك الآلاف من الجنود السويديين في قوات حفظ السلام الدولية أيضاً. وساهموا من خلال عملهم هذا في منع حدوث صدامات مسلحة. وحاول السويدي الدبلوماسي جونّار يارينج، خلال زمن طويل، وبتكليف من الأمم المتحدة التوصل إلى نقطة اتفاق بين العرب والإسرائيليين في هذا النزاع الخطير… إن الأهم من هذا وذاك بالنسبة لنا هو العمل من أجل السلام والتفاهم. وهذا يتطلب الحرص على مصالح جميع الأطراف. لذا فإننا نحاول ودائماً أن نخلق هذا التعاون والثقة مع جميع الأطراف… إن في هذه المنطقة، التي تحمل اسماً تاريخياً هو فلسطين، يعيش شعبان. فالشعب الإسرائيلي يعيش هناك منذ عام 1948 في دولة معترف بها من قبل العديد من دول العالم، ولها الحق بالاستقلال والأمان. وأن وجودها حقيقة واقعة في الشرق الأوسط، ولا يمكن إزالتها بدون تغيير جذري سيؤدي إلى عواقب وخيمة، ستمتد إلى أوسع من حدود المنطقة. وهناك طبعاً الشعب العربي الفلسطيني وله هويته السياسية، فمن الحق والعدل الاعتراف بحقوقه الوطنية. إن الأمر ليس فقط مسألة لاجئين وإنما مسألة سياسية. ونحن نرى من شروط الحل وجود أرض يمارس عليها هذا الشعب استقلاله… إن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنذ عام 1948 ومن خلال القرار 194، القرار الذي تم تكراره عدة مرات، قد اعترف بحق اللاجئين الفلسطينيين، وبأسرع ما يمكن، العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم… ونحن كعضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد دعمنا اقتراح دعوة منظمة التحرير الفلسطينية للمشاركة في الحوار عن القضية الفلسطينية. هذا هو موقفنا الذي يستند إلى قناعتنا بأن كل الأطراف في النزاع المشاركة في الحل. والفلسطينيون العرب هم طرف واضح، وأن منظمة التحرير الفلسطينية في يومنا هذا هي المتحدث الأكثر شرعية باسم الفلسطينيين العرب. هذا وقد أعطت كافة الدول العربية انطباعا واضحا لهذا المفهوم… وإذا تم تكليف السويد بواجب مّا في هذا الموضوع فما عليها إلا إقناع الأطراف المعنية لرؤية أن الحل يتطلب روح التوصل إلى حلول وسط، وأول شرط مطلوب لذلك هو أن تتحدث هذه الأطراف إلى بعضها البعض من خلال الحوار السلمي.
إننا نرى بأنه يوجد هناك شعب فلسطيني، ولهذا الشعب حقوقه الوطنية…لذا وبطريقة ما، علينا الاتصال مع هذا الشعب، وهنا بالنسبة للسؤال: هل منظمة التحرير الفلسطينية، هي الممثل لهذا الشعب؟ فأنا شخصياً أثبت هنا بأن الدول العربية قد اعترفت من جانبها بهذا التمثيل…إننا لا نستطيع القول بأن إسرائيل هي التي تقرر كيفية التعبير عن الهوية الفلسطينية، فهذا سيكون هراء بعينه…إننا لا نرى حتى الآن بديلاً آخر عن منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا ًأكثر شرعية للشعب الفلسطيني… وهناك من يقول بأن على منظمة التحرير الفلسطينية أن تستسلم قبل دخولها المفاوضات، فليعلم هؤلاء بأن ما انتقدنا به إسرائيل هو أنها ليست مستعدة، وقبل المفاوضات، أن تتخلى عن المناطق التي احتلتها، وهذا ما عرقل جهود مبعوث الأمم المتحدة، السويدي، جونّار يارينج).
إذاً بدأ بالمه ومن حوله يعرفون من أن هناك طرفاً آخر، فيما سمي بقضية الشرق الأوسط، مظلوماً ويجب مساعدته وهو الشعب الفلسطيني. وكان من أهم معاونيه في الحزب، السكرتير العام للاشتراكية الدولية السيد برنت كارلسون – الذي فقد حياته في حادثة الطائرة الأمريكية البان أمريكان فوق قرية لوكربي البريطانية عام 1989 – ووزير الخارجية السويدي السيد ستين أندرشون – الذي عرف بصاحب الدبلوماسية الصامته التي أدت في عام 1988 إلى توقيع وثيقة ستوكهولم التي اعترفت فيها المنظمة بحق إسرائيل بالوجود ونبذ الإرهاب، ومن ثم لقاءات الأمريكان مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية – ووكيل وزارة الخارجية السيد بيير شوري، ورئيس تنظيم الأخوة المسيحيين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي السيد إيفرت سفنسون وغيرهم من الشخصيات التي يتوجب على الباحث الفلسطيني دراسة كل شخصية من هؤلاء مع دورها في تحريك القضية الفلسطينية على الساحة السويدية والساحة الدولية.
قام بالمه وبنفس العام، 1974، بالتحدث أمام جماهير السويد في كنيسة القديس توماس الكبرى في ستوكهولم مؤكدا على الحقوق الوطنية والشرعية للفلسطينيين. وسمحت حكومته في العام الذي تلاه 1975 بفتح مكتب إعلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة ستوكهولم.
وبالطبع كان خط سير السياسة السويدية ولا زال حتى اليوم في تصاعد ووضوح في التأكيد على حق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وفي الوقت ذاته يعارضها للتمسك بالأراضي التي احتلتها في عام 1967 وبناء المستعمرات والتغيير الديمغرافي عليها.
في الحقيقة كانت هذه المرحلة من حياة أولوف بالمه هي مرحلة تكوين وبلورة الأفكار والمواقف من قضية الشعب الفلسطيني المظلوم. لذا يمكن القول بأن الانعطاف في سياسة السويد تجاه إسرائيل وتجاه منظمة التحرير الفلسطينية قد بدأ منذ بداية السبعينات. وكان العام 1974 نقطة التحول الرسمية. ومن الجدير ذكره هنا، بأن إسرائيل وأتباعها وأصدقاؤها وأحباءها على الساحة السويدية لم يكونوا راضين عن التطورات التي بدأت تحصل داخل أكبر حزب حاكم سويدي، الحزب الذي يعتبر الحزب الأخ لحزب العمل الإسرائيلي. لقد توجست إسرائيل من التوجهات السياسية لبالمه ورفاقه لحرف الحزب عن عشق إسرائيل والالتفات لجانب حقوق الشعب الفلسطيني، توجساً تطور إلى حد الكراهية لبالمه شخصياً.
المرحلة الخامسة بين العام 1976 والعام 1982
خسر بالمه وحزبه الانتخابات للمرة الأولى في تاريخ السويد للفترة ما بين 1976 و1979 بعد أن حكم البلاد لعقود طويلة، الأمر الذي نقل أولوف بالمه إلى تصدر صفوف المعارضة في تكتل الأحزاب اليسارية، ما جعله يتفرغ أكثر فأكثر للقضايا الدولية هو ومعاونه الأساسي رفيقه الراحل برنت كارلسون في منظمة الاشتراكية الدولية، بالتعاون مع المستشار الألماني ويلي برانت والمستشار النمساوي برونو كرايسكي. أصبح بالمه نائباً لولي برانت في قيادة الاشتراكية الدولية منذ عام 1976، ما مكنه من الاتصال مع الأحزاب الاشتراكية في الدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وكان بالمه يُوصَف في أفريقيا بأنه “صوت السود في عالم الرجل الأبيض”. أما بخصوص الفلسطينيين فقد صدق برونو كرايسكي حين ألقى كلمته أمام الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر وقال: (لقد كان السيد أولوف بالمه، ومنذ البداية، الوحيد داخل الاشتراكية الدولية الذي وقف معي موقفاً حازما لصالح منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني).
جاء عام 1982 وجلب معه المتغيرات الكبيرة في الشرق الأوسط، التي عكست بظلالها على سياسة السويد الخارجية بخصوص تلك المنطقة. كانت إسرائيل يومئذ تعمل بسياسة القبضة الحديدية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وكانت السويد قد تأكدت من أن إسرائيل ستغزو لبنان، ولن تتراجع عن ذلك. وكان رد أولوف بالمه الجريء على ذلك بأنه رفض السماح لرئيس حزب العمل الإسرائيلي شمعون بيريس، وكذلك الهستدروت الإسرائيلي بالمشاركة، كعادتهم، في مظاهرة يوم العمال العالمي التقليدية، التي يقوم بها عادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي، في اليوم الأول من أيار (مايو) من كل عام. الرفض الذي أغضب إسرائيل وأحباءها في السويد. وكان بالمه يتصدر تلك المظاهرة في الأول من أيار (مايو) من عام 1982 وإلى جانبه زعيم ثورة نيكاراغوا دانييل أورتيغا، وهذا بدوره ما أغضب الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت توقعات السويد في مكانها حيث غزت الجيوش الإسرائيلية الأراضي اللبنانية وهدمت المدن والقرى والمخيمات هناك، وساهمت في ذبح آلاف الفلسطينيين بدم بارد في مخيمي صبرا وشاتيلا، أمور قلبت ظهر المجن في الرأي العام الرسمي والشعبي السويدي ضد إسرائيل نفسها. وكان أولوف بالمه في ثورة غضب عارمة ضد إسرائيل، حيث وبخ استخدام العنف الإسرائيلي، وذكر الساسة الإسرائيليين بما حصل للشعب اليهودي على يد النازية في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية.
المرحلة السادسة ما بين العام 1982 ويوم اغتياله في 28 شباط (فبراير) من عام 1986
عاد بالمه وحزبه لتسلم السلطة في انتخابات عام 1982 لتكون بداية المرحلة السياسية التي تكثفت فيها الاتصالات بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومنظمة التحرير الفلسطينية. ومباشرة بعد الانتهاء من مؤتمر الاشتراكية الدولية الذي عقد في مدينة بال السويسرية في عام 1982، المؤتمر الذي نادت فيه السويد والنمسا وألمانيا بحق الفلسطينيين في تقرير المصير وبناء دولتهم المستقلة، استدعى أولوف بالمه السيد عصام السرطاوي، الذي كان يشغل منصب رئيس مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، إلى مكتبه في ستوكهولم. كان السرطاوي ساعتئذ يحمل رسالة من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السيد ياسر عرفات، لتبدأ الاتصالات الفعلية بين منظمة التحرير الفلسطينية والاشتراكية الدولية. وكان من بين ما اقترحه السيد عصام السرطاوي هو عقد لقاء في ستوكهولم بين أولوف بالمه، كرئيس لوزراء السويد وياسر عرفات. هذا وقد تم على إثرها دعوة السرطاوي، من قبل ويلي برانت، لحضور مؤتمر الاشتراكية الدولية الذي عقد في البرتغال في عام 1983 لإلقاء كلمة منظمة التحرير الفلسطينية. وهناك، وبطلب من شمعون بيريس، ممثل حزب العمل الإسرائيلي، تم منع عصام السرطاوي من التحدث. يومها اغتيل السرطاوي في ليشبونه، لكن وبعد مصرعه خلال نفس المناسبة بتاريخ 7 نيسان (آبريل) من عام 1983 قام السكرتير العام للاشتراكية الدولية، ومندوب السويد آنذاك السويدي برنت كارلسون بقراءة الكلمة التي كان ينوي السرطاوي إلقاءها. الكلمة التي تضمنت خطة فلسطينية للسلام في المنطقة.
لقد عَجّل اغتيال مندوب منظمة التحرير الفلسطينية للاشتراكية الدولية بحكومة أولوف بالمه وحزبه للقاء قائد الثورة الفلسطينية، الذي أصبح بنظر العالم أجمع رئيساً لمنظمة تمثل شرعياً الشعب الفلسطيني بأكمله. لقد تمت دعوة السيد عرفات إلى السويد باسم تنظيم الأخوة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي باعتبار أن الظرف لم ينضج بعد، حسب تقديرات السياسيين في الحزب، لمثل دعوة رسمية باسم الحكومة، خاصة وأن أحزاب المعارضة ومجموعة الضغط الإسرائيلية القوية في المجتمع السويدي كانت حتى تلك الأيام قوية جداً ومؤثرة وتقف بالمرصاد ومؤذية، كما سيلاحظ المرء من قراءة ردة الفعل التي نشأت بعد حدوث زيارة الزعيم الفلسطيني.
ودعي لحضور هذا الحدث التاريخي في ستوكهولم زعماء الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في دول الشمال، على أمل أن يصدروا بياناً مشتركاً عن الزيارة هذه، وتقدم للعالم رسالة سلام تتضمن الاعتراف بإسرائيل. وقد استندت منظمة التحرير في مرونتها تلك على قرارات مؤتمر القمة العربية الذي عقد في مدينة فاس المغربية.
وفعلاً وطئت قدما الزعيم الفلسطيني أرض العاصمة الأكبر في دول الشمال، ستوكهولم بتاريخ 13 نيسان (آبريل) من عام 1983. التقى عرفات يومئذ بزعماء الاشتراكية في كل من الدانمارك (السادة أنكر يورجينين، وشيلد أوليسن) والنرويج (السيدة جروهارليم برونتلاند، والسيد تورفالد تولتينباري) وفينلندا (السيد اريكي ليكانين) والسويد (السيد أولوف بالمه، وستين أندرشون). وقال بالمه عن هذه الزيارة: (إن دعوة الأحزاب الاشتراكية في دول الشمال للسيد ياسر عرفات تشكل دفعاً خجولاً للجهود الرامية لعملية السلام… لقد مضى الزمن الطويل على دول الشمال لتعي قضية الشعب الفلسطيني).
هذا وقد عاشت السويد بكاملها قبل وأثناء زيارة القائد الفلسطيني ياسر عرفات أحوالاً غير عادية. فتدريبات رجال الأمن والحراسة مع الإجراءات الخاصة لحماية رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، لم يجر لها مثيل من قبل في تاريخ السويد. إجراءت كلفت الخزينة السويدية ملايين عدة من الدولارات. كان بالمه ورجالاته يدركون، على مايبدو الخطر الموجه من إسرائيل وأزلامها على الساحة السويدية.
تناولت وسائل الإعلام بكل أنواعها، المكتوب منها والمسموع والمرئي، زيارة ياسر عرفات على الصفحات الأولى ولعدة أيام، ومنذ التحضير لها وحتى الانتهاء منها ومن ردود أفعالها. وكان الشعب السويدي على المستويين الرسمي والشعبي منقسم إلى مؤيد ومعارض ومحايد.
مؤيد يعيش صدمة الفرحة بقدوم ياسر عرفات، واقتراب منظمة التحرير الفلسطينية من أوروبا الشمالية وأوروبا الغربية، الأمر الذي سيؤدي مع مرور الزمن إلى فتح علاقات وحوارات بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية – وهذا ما حصل فعلاً بجهود وزير الخارجية السويدية وأبو الدبلوماسية الصامتة السيد ستين أندرشون عام 1988 – وبذلك تكون دائرة المحرك السياسي قد اكتملت دولياً. فالمتتبع؛ يدرك مسيرة التحرك الدولي لمنظمة التحرير الفلسطينية للحصول على الاعتراف بها وبنضالاتها المشروعة وتحقيق أهدافها. فحصلت منظمة التحرير مثلاً على الاعتراف من التجمع العربي بها، ثم التجمع الإسلامي فالإفريقي، وتكتل وارسو للدول الشيوعية، ومجموعة دول عدم الانحياز، والآن جاء دور أوروبا الشمالية والغربية عبر الدخول من بوابة الاشتراكية الدولية بمساعدة، برونو كرايسكي وأولوف بالمه وويلي برانت وباباندريو وفرانسوا ميتران وغيرهم.
ومعارض يعيش صدمة صفعة عنيفة على الوجه، وكانت اندهاشاهم وتساؤلاتهم تصب في: كيف لأولوف بالمه أن يكون مضيفا لأكبر “إرهابي” في العالم ويدعوه إلى ستوكهولم؟ وتفجرت براكينهم. فمجموعة الضغط الصهيوني (اللوبي) في السويد، من أعلى مستوياته بين الوزراء السويديين وفي البرلمان وفي تكتل المعارضة، وإلى أدنى مستوياته الشعبية، بدأت إلقاء حممها ولم يستطع أحد ضبطها أو لملمتها، ما أدى إلى مفعول عكسي ضدها. وكان رد أولوف بالمه على هذا كله بأن سمع لنصيحة مستشاريه في الحزب، وتوجه إلى مكان تجمع مجموعة الضغط الصهيونية، من يهود ومسيحيين، في الكنيسة الكبرى (ستور شيركَن) في ستوكهولم أملا منه في شرح ما يبتغيه وإقناعهم. تجمعوا هناك ليعبروا عن سخطهم واستنكارهم لزيارة عرفات إلى السويد. ذهب بالمه إلى هناك ليشرح لهؤلاء البشر بأن خطوته هذه ليست إلا خطوة خيّرة يُقصد بها جمع طرفي النزاع، الفلسطينيين والإسرائيليين، للتوصل إلى حل سلمي في المنطقة، بحيث يصل كل شعب من هذين الشعبين إلى حقوقه المشروعة. فما كان من المجتمعين في الكنيسة إلا أن ثاروا على بالمه وشتموه بأقذع وأبذأ الكلام، واتهموه باللاسامية وعلى أنه نازي، وبصقوا عليه وهو داخل المكان المقدس، الكنيسة، وأمام عدسات المصورين من التلفزة والصحافة المكتوبة.
ومحايد؛ كل هذا السلوك للمعارضين، والخارج عن كل ماهو معروف ومألوف، حرك ضمائر الطرف المحايد، الطرف الذي يؤمن بحرية التعبير والكلمة، واحترام الرأي الآخر، ليقف إلى جانب مسلك أولوف بالمه في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ذهب “المسيحيون الصهاينة” إلى أبعد من الشتيمة، فقاموا بترجمة نبوءات الكتاب المقدس وحكموا، من خلال ترجماتهم لها، على أولوف بالمه بالموت. هذا وقد وصلت إلى بالمه مئات من رسائل التهديد من بينها: (لست أنت يا بالمه من يملك السلطة، وعلى الرغم من أنك كبير …لكن الله يمكنه تحريك بالمه. إن خروجك من عالم السياسة يمكن أن يحدث وبأسرع مما تتوقع). وفي رسالة أخرى كُتب له: (يا بالمه لا تستخف بقدرة الرب، فيمكنه أن يرفعك من مركزك الذي تشغله اليوم، فلا تلعب بالنار)!.
وبالفعل لم يبق أولوف بالمه في سدة الحكم، مركزه، ولم يبق على قيد الحياة، وخرج من عالم السياسة وإلى الأبد بشكل عام. لقد تم التخطيط لقتله بتؤدة وروية. وخرج أحد الكتاب الكبار، يان جييو، ليشير إلى (أن الموساد قد نفذ عدداً من الجرائم في السويد وبمساعدة جهاز المخابرات السويدية “سابو”).
وكان تعليق الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على اغتيال صديقه أولوف بالمه أصدق القول. القول الذي تم نشره على صدر الصحيفة السويدية المسائية، جريدة المساء “آفتون بلاديت” في عددها الصادر بتاريخ 3 أيار (مايو) من عام 1987: (لقد مات أولوف بالمه بسببي).
إذاً فالمستفيد الأول من مقتل أولوف بالمه هو من قام بالاغتيال. لقد كان بالمه رجل الحياد والسلام والذي عمل وناضل من أجل الشعوب الفقيرة والمضطهدة، وناهض الاستعمار والإمبريالية والعنصرية والديكتاتوريات، وكان مكروها من جهاز المخابرات الإسرائيلية “الموساد” ومن جهاز المخابرات الأمريكية الـ: “سي آي إيه” ومن الصهاينة اليهود والمسيحيين على حد سواء. كثيرٌ من الصفات الإنسانية للأمير السويدي فولكه برنادوت تنطبق على أولوف بالمه وكلاهما اقترباً من صنع السلام وإحقاق الحق والعدل للشعب الفلسطيني. وكلاهما كانا أحباء لإسرائيل وابتعدا عنها حين فهما الحق الفلسطيني وناضلا من أجله. وبرنادوت مات في ظروف غامضة على يد اليهود الصهاينة في القدس ليتم كشف القتلة بعد مرور حوالي أربعة عقود. وأولوف بالمه مات أيضاً في ظروف غامضة قبل ثلاثة عقود. ويمكن القول اليوم بأن الفكر الذي حمله بالمه تجاه قضية فلسطين لم يمت بل بقي حياً من خلال أعضاء آخرين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي أمثال ستين اندرشون، وإيفرت سفنسون، وبيار شوري، وأنّا ليند وغيرهم كثر. وهؤلاء يعانون من ملاحقة اللوبي الصهيوني في السويد.
إذاً؛ كانت حياة أولوف بالمه واضحة لكن موته كان غامضاً!
المراجع:-
-كتاب “أولوف بالمه” حياته، أعماله ومماته، للمؤلف: هانس هاسه وآخرين، ستوكهولم 1986.
-كتاب “بالمه مرة أُخرى” لقطات من حياة رئيس حزب، للمؤلف: ديتر ستراند، مالمو 1980.
-كتاب “أن نجعل السويد عالمية” للمؤلفة: إينجا تورسون، ستوكهولم 1971.
-كتاب “ما هي إسرائيل” للمؤلف: أحمد رامي، ستوكهولم 1988.
-كتاب “وثيقة من الداخل” للمؤلف: بيار شوري، ستوكهولم 1992.
-كتاب “نحو هذا المستقبل” للمؤلف: سيجبرت أكيسلسون وآخرين 1992.
-أطروحة ماجستير بعنوان “بيجن والمصلّين” للمؤلف: ليستر فيكستروم، جامعة أوبسالا.
-عدد كبير من مقالات الصحف والمجلات السويدية والعربية، كمجلة فلسطين الثورة ومجلة الأفق. عدا ما ورد في الدراسة.
[*] باحث فلسطيني، مقيم في السويد.