
- عن المركز
- دراسات وأبحاث
- متابعات
- مراجعات
- إصدارات المركز
- وثائق
- مركز الإعلام
- مؤتمرات
ترجمة وتحرير: يسار أبو خشوم
سوريا مجددا ضحية لجغرافيتها
Syria Is Again a Victim of Its Geography
مجلة فورين بوليسي الأمريكية
بقلم آرش ريزي نيجاد، زميل زائر في مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية
9 كانون الأول/ ديسمبر 2024
يتناول هذا المقال تأثير الجغرافيا المجزأة لسوريا في تشكيل تاريخها السياسي والاجتماعي، موضحا كيف ساهمت هذه الجغرافيا في ضعف الهوية الوطنية والهشاشة السياسية، ما جعل البلاد ميدانا للصراعات الداخلية والخارجية. يشير الكاتب إلى أن هذه الجغرافيا ليست فقط سببا في الانقسامات، بل أيضا في ظهور الأنظمة القمعية التي اعتمدت على القوة لضمان السيطرة، مؤكدا أن أي حاكم مستقبلي لسوريا لن يتمكن من تجاوز هذا الفخ الجغرافي. فيما يلي ترجمة كاملة للمقال:
بعد سيطرة "هيئة تحرير الشام" على الحرب الأهلية السورية، قد يبدو للوهلة الأولى أن البلاد مهيأة لاستعادة نوع من الاستقرار. لكن الواقع يشير إلى أن هذا الاستقرار لم يكن موجودا أصلا ليُستعاد. فبينما كانت الحرب الأهلية صراعا طائفيا وأيديولوجيا، إلا أنها كانت أيضا نتاجا مباشرا للجغرافيا الفريدة لسوريا التي لطالما أشعلت النزاعات وأبقتها مستمرة. ومع نهاية هذا الفصل من الصراع، يبدو أن البلاد تدخل فصلا جديدا من الاضطرابات.
لطالما كانت الجغرافيا دائما عائقا أمام سوريا؛ فالبلاد تفتقر إلى الحواجز الطبيعية التي تحميها، سواء داخل أراضيها أو على طول حدودها. في الغرب، يُشكل البحر الأبيض المتوسط معبرا للتجارة ولكنه أيضا بوابة للغزوات العسكرية. في الشرق، يمتد وادي نهر الفرات، وفي الجنوب تهيمن الصحارى، أما الشمال، فهو مفتوح على السهول عند سفوح جبال طوروس الجنوبية. تجعل هذه التضاريس سوريا مكشوفة من الخارج وتفتقر إلى معاقل داخلية تُستخدم كخط دفاع أخير.
إضافة إلى ذلك، فإن معظم الحدود السورية الحديثة مصطنعة، لا تستند إلى تضاريس طبيعية. فالحدود الجنوبية، مثلا، مرسومة كخط مستقيم، وكذلك الحدود الشرقية التي تبدو عشوائية. ساهمت هذه الحدود الهشة في جعل سوريا تعاني تاريخيا من ضعف استقلالها ومن أزمة هوية وطنية واضحة.
قسمت الجغرافيا المتجزئة لسوريا البلاد إلى ستة مناطق متميزة: واحة في الجنوب الغربي، بوابة تجارية في الشمال، شريط ساحلي في الغرب، هضبة وعرة في الجنوب، ممر يربط الشمال بالجنوب، وأراضٍ قاحلة منبسطة في الشرق.
خلف جبال لبنان تقع واحة تحدها الجبال من جهة والصحراء من جهة أخرى، وفي وسطها تقع دمشق. تبدو هذه المدينة كقلعة صغيرة، لكنها معزولة نسبيا بفعل محدودية طرق الوصول منها إلى سائر أنحاء البلاد. يفسر هذا الوضع الجغرافي حاجة حاكم دمشق إلى نظام سياسي عسكري ذو قبضة حديدية لفرض السيطرة على البلاد المجزأة.
أما في الشمال، فتبرز حلب كبوابة تجارية رئيسية تربط بين آسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. جعل هذا الموقع الاستراتيجي حلب على الدوام مطمعا لحكام آسيا الصغرى، سواء كانوا الرومان أو العثمانيين أو تركيا الحديثة. ضعف موقع حلب أمام القوى الخارجية، مع ثقتها بموقعها التجاري المهم، جعلها دائما المنافس الأكبر لدمشق. ولهذا، فإن السيطرة على حلب كانت وستظل الخطوة الأهم لأي حاكم يسعى للهيمنة على سوريا.
على طول الساحل السوري الغربي، تمتد سلسلة من الجبال الضيقة والمنخفضة التي تطل على البحر الأبيض المتوسط، وتشكل شريطا ساحليا ضيقا لطالما كان ملاذا للأقليات الدينية مثل العلويين والمسيحيين. تعرضت هذه الأقليات تاريخيا لضغوط مستمرة من الحكام السنة البعيدين، سواء في مناطق نفوذهم عند مصب النيل أو على ضفاف بحر مرمرة. في هذا الشريط الساحلي تقع مدينتا اللاذقية وطرطوس، مما يمنح البلاد منفذا استراتيجيا وحيويا إلى العالم الخارجي. ليس من المستغرب أن يتم تشكيل التحالفات مع القوى الأجنبية البعيدة – بدءا من فرنسا في الماضي وصولا إلى روسيا اليوم – من خلال هذا الساحل. السيطرة على هذه المنطقة الساحلية ليست مجرد ضرورة جغرافية، بل هي أساس للحفاظ على الروابط مع الحلفاء الخارجيين، الذين يشكلون إحدى ركائز قوة حاكم دمشق في هذا الإقليم الهش.
في الداخل، يربط ممر يمتد موازيا لنهر العاصي بين واحة دمشق التجارية ومدينة حلب، البوابة الاقتصادية الاستراتيجية. مدينتا حمص وحماة تقعان على طول هذا الممر، الذي يعتبر شريانا حيويا للسيطرة على حلب من جهة، وللتصدي لأي ثورة ضد دمشق من جهة أخرى. غالبا ما تتخذ الثورات في سوريا هذا الممر هدفا استراتيجيا، حيث يؤدي تعطيله إلى زعزعة سلطة دمشق. ليس من قبيل المصادفة أن نهر العاصي يُطلق عليه أيضا "نهر الثورة"، في إشارة إلى دوره المتكرر في تحريك الاضطرابات.
إلى الشرق، يمتد وادي نهر الفرات، المحاط بأراضٍ شاسعة وقاحلة، جزءا من منطقة الجزيرة الكبرى، التي تشمل شمال العراق وجنوب شرق تركيا وشمال شرق سوريا. تضم هذه المنطقة ثلاث مدن رئيسية: الموصل، آمد (ديار بكر حاليا)، والرقة. تاريخيا، كانت هذه المنطقة موطنا لثلاث قبائل عربية رئيسية: ربيعة، بكر، ومضر. بعكس آمد ذات الغالبية الكردية، فإن الموصل والرقة كانتا معاقل للقبائل العربية البدوية، حيث حافظت هذه المناطق على وحدة لغوية ودينية جعلت من الموصل والرقة مرتبطتين بشكل وثيق على مر التاريخ. غالبا ما كانت الرقة تخضع لحكم الموصل أكثر من ارتباطها بدمشق، والعكس صحيح. هذا الترابط الجغرافي يعكس إمكانية ظهور كيان مستقل يمتد بين نهري دجلة والفرات في شمال بلاد ما بين النهرين.
في الجنوب، بالقرب من الحدود الأردنية، تقع منطقة جبلية وعرة تشمل جبل العرب وهضبة حوران، التي لطالما شكلت ملاذا آمنا للطوائف المضطهدة مثل الدروز. وعلى عكس المناطق الأخرى ذات الغالبية السنية في سوريا، يتميز الجنوب، إلى جانب الساحل، بتنوعه الطائفي والديني. غير أن هذا التنوع لم يثمر تحالفات مستقرة بين الأقليات المختلفة، التي غالبا ما لجأت إلى القوى البحرية البعيدة لتحقيق توازن داخلي في مواجهة الهيمنة السنية.
وهكذا، قسّمت الجغرافيا سوريا: دمشق، العاصمة المحاصرة، ذات وصول محدود إلى بقية المناطق؛ حلب، التي تأثرت تاريخيا بنفوذ القسطنطينية وإسطنبول؛ والممر غير المستقر الذي يربط حمص وحماة وإدلب بين المركز السياسي والبوابة التجارية. أما الموصل، فقد ظلت تاريخيا تحت سيطرة قوى مركزية موحدة، بينما ظل الشريط الساحلي الضيق المطل على البحر الأبيض المتوسط وجبل الدروز مناطق منفصلة تماما. ولم يكن لدمشق، العاصمة، سيطرة فعلية على حلب أو الرقة قبل قيام الدولة السورية الحديثة.
أحد الأسباب الرئيسية لغياب سلطة وطنية قوية يكمن في الجغرافيا المجزأة للبلاد. وفي ظل غياب السيادة الوطنية، ظلت الهوية الوطنية السورية ضعيفة. ونتيجة لذلك، أضحت سوريا هدفا للهجمات والمؤامرات من القوى الإقليمية والدولية. الأهم من ذلك، أن البدائل المتاحة والجغرافيا المفتوحة جعلت من السهل على القوى الخارجية تهديد سلامة أراضيها. لهذا السبب، اعتمدت الحكومات المتعاقبة على القمع الحديدي لمنع الانهيار الداخلي المحتمل.
لقد ساهمت الحملات العسكرية، والتبادلات التجارية، والتفاعلات الدينية في تفاقم حالة الانقسام وعدم الاستقرار التاريخي في سوريا، وهي أرض متعددة الأعراق واللغات والأديان. وفي ظل التوترات الداخلية المستمرة بين هذه المجموعات المتنوعة على أرض ذات تاريخ يمتد لآلاف السنين، ظل إنشاء حكومة وطنية موحدة ومستقلة تحديا كبيرا. لذلك، لم يكن من المستغرب أن تسقط سوريا بالكامل تحت سيطرة إمبراطوريات كبرى مثل الآشوريين، والفرس الأخمينيين، والعرب، والعثمانيين. وفي أوقات أخرى، أصبحت سوريا ساحة صراع بين قوتين عظميين، مثل روما وفرثية، أو بيزنطة والساسانيين، أو الإلخانات والمماليك. باختصار، جسّدت سوريا دور "الأرض الحدودية" في غرب آسيا.
في ظل الاستقلال، واجهت سوريا تحديات عديدة: ضعف الهوية الوطنية وهشاشة حكومتها. وجاءت هزيمتها في حرب 1948 العربية-الإسرائيلية لتزيد من عدم استقرار الجمهورية السورية الناشئة، ما أدى إلى تصاعد الفكر القومي العربي لدرجة أن سوريا، مع مصر واليمن الشمالي لاحقا، أنشأت الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وعلى الرغم من انهيار الجمهورية العربية المتحدة والهزيمة الكارثية في حرب الأيام الستة عام 1967، لم يتراجع تأثير هذه الأيديولوجيا. ومع انقلاب حافظ الأسد وصعود حكم حزب البعث في عام 1970، حققت سوريا استقرارا سياسيا ظاهريا، لكنه كان قائما على نظام قمعي. في المجمل، شكلت السنوات الأولى من الاستقلال، التي تخللتها حكومات قصيرة العمر وغياب نظام سياسي مستقر، أرضا خصبة لظهور الأيديولوجيات الراديكالية مثل القومية العربية والإسلام السياسي لاحقا. ورغم ذلك، بدا أن نظام البعث قد نجح في معالجة هشاشة النظام السياسي.
لكن موجات الربيع العربي وصلت إلى أبواب سوريا، لتشعل حربا أهلية غذّتها ميليشيات سلفية مدعومة خارجيا وزاد من حدتها العنف الشديد من القوات السورية. هذه الحرب تسببت في نزوح جماعي ودمار كبير للبنية التحتية للبلاد. مرة أخرى، لعبت الجغرافيا دورا حاسما في الحرب الأهلية المدمرة. سيطرت "داعش" على الرقة وبسطت نفوذها على الموصل. حافظت دمشق على سيطرتها على الساحل المتوسطي لضمان دعم حليفها البعيد روسيا، بينما سيطرت المعارضة المدعومة من تركيا على حلب. وتركزت معظم المعارك حول الممر الرابط بين دمشق عبر حمص وحماة إلى بوابة حلب التجارية. انتهت المرحلة الأولى من الحرب الأهلية بانتصار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، بعد أن تمكنوا من تأمين السيطرة على هذا الممر.
لطالما كانت المنطقية الجغرافية تشير إلى أن من يسيطر على ممر حمص-حماة هو المنتصر الحاسم في سوريا. وعندما سيطر المتمردون على هذا الممر، أصبح سقوط الأسد شبه محتوم. ومع ذلك، فإن هؤلاء المتمردين، الذين استولوا الآن على دمشق، قد يظنون أن مصير سوريا أصبح في أيديهم. لكنهم سيكتشفون قريبا أنهم لن يتمكنوا أبدا من السيطرة على جغرافيا البلاد