ماجد كيالي[*]

يغيب عن بالنا نحن الفلسطينيين أننا الشعب الوحيد في العالم، ربما، الذي لديه عدو واحد، متفق عليه، هو إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والاستيطانية وغير الشرعية والمصطنعة، لكننا مع ذلك نتعامل معها بعدة وجوه. ففلسطينيو 1948 يرون أنفسهم بمثابة مواطنين في إسرائيل، يدرسون في مدارسها ويتعلمون في جامعاتها ويشتغلون في مؤسساتها وشركاتها، ويناضلون من أجل حق المساواة الفردية والقومية فيها. وفي الضفة والقطاع المحتلين (1967) يجري التعامل بالشيكل، أي العملة الإسرائيلية، وثمة تبادل تجاري مع إسرائيل بقدر 4 بلايين دولار بالسنة، أيضاً فإن واردات الضفة وغزة من المحروقات والكهرباء والمياه هي من إسرائيل. فوق كل ذلك ثمة مشكلة في التعاطي مع إسرائيل هذه: بالمقاومة الشعبية أو المسلحة، أم بالتسوية والمفاوضات؟ بالعمليات الفدائية أم بالتفجيرية أم بالصواريخ أم بالدبلوماسية والقرارات الدولية؟ أما في الخارج فمجتمعات اللاجئين لم يعد لها دور في معادلات الصراع ضد إسرائيل، بسبب انتهاء الظاهرة المسلحة، وأيضا بسبب أفول دور منظمة التحرير، وتحول حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى سلطة.

ليس غريباً أن هذا يطرح التساؤل حول البدهية الرائجة وهي أن ثمة سردية واحدة للفلسطينيين، أو ثمة رؤية واحدة لهم، بخصوص تقديرهم لأوضاعهم وإمكانياتهم، كما بخصوص رؤيتهم لهويتهم ولمآلات أحوالهم، وطبعا بخصوص اختلافاتهم ومشتركاتهم، وهذا يشمل رؤيتهم لإسرائيل، وطرق تعاملهم معها، أو مواجهتهم لها؛ علماً أن تلك البدهية روّج لها الفكر السياسي الفصائلي لتبرير ذاته دون إخضاعها للفحص واستنتاج العبر المناسبة منها. في المقابل ثمة بدهية أخرى مناقضة، إزاء هذا الوضع غير المسبوق، لم تعرفه التجارب الأخرى، فإذا كان العدو واحدا، وطبيعته واحدة، والنظرة إليه واحدة، من كل الأوضاع، فلم هذا الاضطراب في البرامج والسياسات الفلسطينية؟!

في المادة السابقة، في العدد الماضي من هذه المجلة، وعنوانها: “أسئلة الأزمة الفلسطينية”، عرضت لما تعاني منه الحركة الوطنية الفلسطينية من أزمة شاملة في: الكيانات (المنظمة والسلطة والفصائل)، وواقع السلطة، ومشكلة الشرعية، ومخاطر تفكك مفهوم الشعب الفلسطيني، ومعضلة الخيارات السياسية، ما يستلزم مني استكمال ما كتبته في الحديث عن مكامن الخلل في الفكر السياسي الفلسطيني، وفي الأشكال الكفاحية الفلسطينية، في الحديث عن مشروع سياسي بديل يطابق بين شعب فلسطين وأرض فلسطين وقضية فلسطين، ويجيب على كل أسئلتها، بناء على التطورات الجديدة.

أساطير الفلسطينيين وبدهياتهم السياسية

تركز الفكر السياسي الفلسطيني، منذ انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية في أواسط الستينات، على عدة بدهيات رئيسة، تحكّمت بأذهان الفلسطينيين، وبنمط تفكير نخبهم وكياناتهم السياسية، أهمها: اعتبار أن قضية فلسطين هي بمثابة القضية المركزية للأمة العربية (وثمة من أضاف فوقها الأمة الإسلامية!)، والاعتقاد بأن الكفاح المسلح هو الطريق الرئيس والحتمي للصراع مع إسرائيل والقضاء عليها، وأن تحرير فلسطين، بمعنى تحرير الأرض من النهر إلى البحر، بمثابة الهدف الذي لا محيد عنه.

المشكلة أن هذه الأفكار أضحت بمثابة بدهيات أو يقينيات أو مقدسات أخرى، يحرم المسّ بها، أي مناقشتها ونقدها وتجاوزها، بالرغم من أنها تحتاج أكثر من أي شيء آخر للنقاش، بخاصة أنها لم تثبت صدقيتها، في مسيرة الفلسطينيين الكفاحية.

الفكرة هنا لا تتعلق بمشروعية هذا الطرح أو ذاك، ولا بعدالته، وإنما بمدى ملاءمته للواقع، ولأحوال الفلسطينيين، وقدراتهم وإمكاناتهم، كما بانعكاساته أو بنوعية تأثيراته فيهم، وهي إجمالاً كانت تأثيرات سلبية ومضرّة.

بالمحصلة، فإن الحديث عن مركزية قضية فلسطين لم تفـــد الفلسطينيين، ولا قضيتهم، ولا حركتهم الوطنـــية، لأن الأنظمة المعنية جعلت من ذلك مجرد وسيلة للتوظيف السياسي، في تسويغ شرعيتها الداخلية، ولتعزيز مكانتها الإقليمية. وقد شهدنا أن الأنظمة الاستبدادية سوغت مصادرتها حقـــوق مواطنــيها وحرياتهم، وتحكمها بمواردهم، بدعوى «الأمن القومي»، ومتطلبات الصراع مع إسرائيل. حتى إن هذه المسألة كانت ورقــــة ابتزاز في العلاقات البينية العربية، ووسيلة للمــــزايدة، من دون أن ننسى أن آخر حرب عربية- إسرائيلية حدثت قبل أكثر من أربعة عقود، وأن الحدود الـــعربية مع إسرائيل هي في غاية الهدوء. الأنـكى أن هــذه المقولة التي تظهر حرص الأنظــــمة على قضية فلسطين، أفضت إلى مرمطة شعبها، إلى درجة أن ثمة أنظمة تطبّع مع إسرائيل ولا «تطبّع» مع الفلسطينيين، وثمة بلدان يدخلها الإسرائيليون في حين لا يحلم الفلسطينيون بدخولها. هكذا حُرِم الفلسطينيون من جنسية ومن جواز سفر ومن حق المواطنة (باستثناء الأردن)، وتم التنكيل بهم، بدعوى الحفاظ على هويتهم وقضيتهم، كأن «وطنية» الفلسطينيين لا تشتغل إلا بامتهان كراماتهم والحطّ من أحوالهم!

وبكلام أكثر وضوحا فإن قضية فلسطين كانت القضية المركزية بالنسبة لشعبها، فقط، مع الاحترام للعواطف الساكنة في قلوب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، والتي لم تتحول يوماً إلى قوة مادية أو إلى فاعلية بأي اتجاه. في الغضون فقد غاب عن إدراكات فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية أن للمجتمعات العربية مشكلاتها وحاجاتها وأولوياتها أيضاً، ومن ضمنها تحقيق ذاتها في المواطنة والحرية والمساواة والعدالة، والتي تم تغييبها أو مصادرتها بدعوى الصراع مع إسرائيل، بل إن هذه الحركة سكتت، عن امتطاء هذه الأنظمة قضية شعبها، بل ربما سهلت لها ذلك.

ما غاب عن إدراكات الفلسطينيين، في هذه الحيثية، أيضاً، أن تحرير فلسطين، أو مواجهة إسرائيل، يتطلبان واقعاً آخر، لأن الأنظمة السائدة هي من الناحية العملية جزء من الواقع الذي يضمن استقرار إسرائيل، هذا أولاً. وثانياً، أن فلسطين هذه ليست فقط قطعة أرض غالية، ولا مجرد جغرافيا مهمة، وإنما هي قضية شعب، وهي جزء من قضية الحرية والحقيقة والعدالة في العالم العربي. وثالثاً، أنه من المضر لقضية الفلسطينيين وضعها مقابل أولويات وحاجات وقضايا المجتمعات العربية، أو اعتبارها أكثر أهمية منها، ما يعني أن على هذه القضايا أن تنتظر أو تؤجل، وكأن التحرير قاب قوسين أو أدنى أو كأن هذا الواقع العربي سيفضي إلى تحرير من أي نوع!

البدهية الأخرى تتعلق بالكفاح المسلح، الذي بات يُنظر إليه باعتباره الطريق الحتمي والوحيد لتحرير فلسطين. وقد نجم عن ذلك إزاحة الشعب من معادلات الصراع، لمصلحة الجماعات المسلحة المقاتلة، والمبالغة بقدرات الفلسطينيين، وتنمية أوهامهم عن حالهم، فضلاً عن تقديس الكفاح المسلح وإخراجه من دائرة الفحص والسؤال عن الجدوى. كما نجم عن ذلك تعريض الفلسطينيين لجبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية، باعتبار أن الأمر يتعلق بقوة عسكرية في مقابل قوة عسكرية.

اللافت أن حركة «فتح»، حين أطلقت الكفاح المسلح كانت إدراكاتها السياسية تتأسّس على أنه بمثابة وسيلة لإبقاء قضية فلسطين حيّة، وأنه وسيلة لتوريط الأنظمة وكشفها «التوريط الواعي»، مع تأكيدها في أدبياتها الأولى أن تحرير فلسطين يتطلب دخول الجيوش العربية في المعركة، وأن الكفاح المسلح الفلسطيني يقتصر دوره على التحريك واستنزاف إسرائيل، ما يمهد للحسم بواسطة الجيوش العربية. وبمعزل عن رأينا بهذا الكلام، وبسذاجته أو حكمته، فإن حركة «القوميين العرب»، وقتها، وهي الحركة التي خرجت من بطنها «الجبهة الشعبية» (أواخر الستينات) كانت رفضت هذا المنطق «الفتحاوي»، واعتبرته بمثابة مغامرة، وتوريطاً للنظام القومي التقدمي المتمثل بالنظام الناصري، في حينه. أما فرع حركة «الإخوان المسلمين» في فلسطين، والتي خرجت من رحمها حركة «حماس»، فيما بعد، فلم تولِ الكفاح المسلح اهتمامها، وظلت تركز على ما اعتبرته «الجهاد الأكبر»، وفق مفهومها وعقيدتها.

المشكلة أن كل الفصائل اتجهت، فيما بعد، نحو الكفاح المسلح معتبرة إياه الطريق الوحيد والحتمي للتحرير، كما ذكرنا، بل إنها أضفت عليه نوعاً من القدسية، من دون تبصّر بمستلزمات وتبعات وتداعيات هذا الشكل الكفاحي، ومن دون الاهتمام بعدم توافر إمكانياته، بخاصة مع تفوق إسرائيل الفادح ليس على الفلسطينيين فحسب وإنما على محيطها العربي. الأهم من كل ذلك أن الفصائل، بما فيها “فتح” و”حماس”، لم توضّح استراتيجيتها في الكفاح المسلح أو في التحرير حتى الآن، على رغم نصف قرن من التجربة، بل إنها لم تُخضع هذه التجربة للمراجعة والنقد، ولم يتحمل أحد مسؤولية كل التجارب والأخطاء، وتم الاستخفاف بكل أشكال النضال الأخرى، وهذا كله والفصائل مرتهنة بكفاحها المسلح إلى الدعم الخارجي المشروط والموظف من هذه الدولة أو تلك. والحاصل؛ فإن الفصائل السائدة ما زالت مصرة حتى الآن على هذا الكلام على رغم ضعفها، وافتقادها وسائل الكفاح المسلح، وعلى رغم انكشاف توظيفات المقاومة المسلحة، وعلى الرغم أنها في مرحلة سابقة تحدثت عن الانتفاضة الشعبية بوصفها الشكل الأفضل والأنجع لكفاح الفلسطينيين.

من جانب آخر، وفي خصوص هذه البدهية، فإن المشكلة تكمن في الانفصام عن الواقع، إذ إن النظام العربي لا يمكن أن يسمح بمقاتلة إسرائيل، لأن هذا يتناقض مع واقعه كنظام يحتكر السلطة، كل في بلده، ما يعني أن مرحلة السماح بالكفاح المسلح الفلسطيني كانت لغايات أو لتوظيفات لا علاقة لها بالصراع ضد إسرائيل، وأن هذا ارتبط مع السيطرة على حدود هذا الصراع، بحيث شهدنا أن الأمر كانت له علاقة بالصراع الإقليمي، وهو ما تعرّضت له التجربة الفلسطينية في لبنان لا سيما منذ العام 1976 إلى 1982.

فوق ذلك فإن الفلسطينيين لم يسألوا أو لم يبالوا بحقيقة أن إمكاناتهم الذاتية لا تتيح لهم توسّل الكفاح المسلح، ولا تحمّل تبعاته، بدليل أن فلسطينيي 1948 لم يذهبوا إلى هذا الخيار، ولا فلسطينيي الضفة (قبل الانتفاضة الثانية 2000) ولا فلسطينيي غزة (إذ استثنينا بعض الجماعات المرتبطة بمصر أيام عبد الناصر)، ولا الفلسطينيين في سورية ولبنان الذين كانوا بالكاد يتدبّرون أمور حياتهم. والقصد أن الكفاح المسلح هو وليد عمل سياسي، ووليد الفصائل، وأنه ظل مرتهناً، بأشكاله ومستوياته، لرضا الدول الداعمة، مالياً وتسليحياً وسياسياً. والمعنى أن الكفاح المسلح (الذي أطلقته حركة «فتح») كان وليد التوافق بين جماعات فلسطينية وبعض الأنظمة العربية، التي أرادت توظيف هذه الورقة داخلياً، وفي مجال المزايدة، لتعزيز مكانتها على الصعيد العربي، هذا مع سعيها إلى ضبط العمل المسلح، وهذا أكثر شيء فعله النظام السوري في تاريخ علاقته المتوترة مع الحركة الوطنية الفلسطينية بزعامة «فتح».

المعضلة هنا أن الفكر السياسي الفصائلي نأى بنفسه عن نقد هذه التجربة، وهذا ينطبق حتى على الفصائل التي ذهبت نحو خيار المفاوضة والتسوية. إذ إن حركة «فتح» التي باتت في السلطة ما زالت في وثائق مؤتمراتها تتحدّث عن الكفاح المسلح، مع أن مياهاً كثيرة قد جرت في النهر(!) في حين كان الأجدى البحث عن طرق كفاحية بديلة، تراعي إمكانات الشعب الفلسطيني، وتضمن تنمية مجتمعات الفلسطينيين وتطورها.

أما فيما يتعلق ببدهية هدف التحرير، وبغض النظر عن شرعيته وعدالته، فمن اللافت أن المراجعة الوحيدة له التي تمّت تمثلت في الذهاب نحو القبول بدولة في أقل من ربع فلسطين، وهذا لم ينجح، كما هو معلوم. والفكرة هنا أن الحركة الوطنية الفلسطينية وضعت ذاتها بين خيارين: إما التحرير الكامل وإزالة إسرائيل، وإما القبول بإسرائيل وإقامة دولة في الضفة وغزة (22 في المئة من مساحة فلسطين)، أي أنها في الحالين تعاطت بطريقة رغبوية في صراعها مع المشروع الإسرائيلي، مركزة في ذلك على الصراع الجغرافي، أي على الحق في الأرض. وإذا تجاوزنا حقيقة تعذر هدف التحرير، في كل المراحل، ليس بسبب موازين القوى والمعطيات الدولية المواتية لإسرائيل، وإنما بسبب هشاشة الوضع العربي وضعف الفلسطينيين، فإن ذلك تعذر، أيضاً، حتى في القدرة على إجبار إسرائيل على تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في اتفاق أوسلو (1993) المجحف والجزئي والمهين.

والقصة كما هو واضح لا تتعلق بالحق ولا بالعدالة وإنما بخوض الصراعات السياسية وفق الإمكانات والممكنات، لمراكمة واقع معين، وبانتظار ظهور معطيات عربية ودولية وحتى إسرائيلية مناسبة. وإلى ذلك الحين، ربما كان الأجدى أكثر، الاشتغال على تنمية مجتمعات الفلسطينيين، وكياناتهم السياسية، وتطوير أحوالهم الاقتصادية والثقافية، بدلاً من الذهاب نحو أهداف رغبوية لم ينجم عنها إلا تآكل هذه المجتمعات وصعود إسرائيل.

أيضاً، هناك الأسطورة، أو البدهية، الفصائلية التي روّجت لاعتبار الفلسطينيين بمثابة شعب قوي وجبار ويمكن أن يزلزل الأرض من تحت أقدام إسرائيل (ولا أحد يعرف لماذا لم يحصل ذلك حتى الآن؟). معلوم أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان يحبذ استخدام مصطلح «شعب الجبارين»، بيد أنه كان يتقصدها، في الأغلب، لغايات الحماسة، ورفع المعنويات، وكدلالة على قوة إيمان الفلسطينيين بقضيتهم وبحقوقهم فقط، وليس بمعناها الحرفي. لكن التفكير الفصائلي الرغبوي استند إلى هذه المقولة ليؤسّس عليها، أو ليبرّر بها مقولاته عن تحرير فلسطين، من دون أن يبيّن كيفية تحقيق ذلك.

وفي الواقع فإن الشعب الفلسطيني هو شعب مشتّت، ويخضع لسيطرة أنظمة متعددة ومختلفة، وهو شعب ضعيف الإمكانات، وما زال يتعرض للتشريد، كما حصل مع المجتمعات الفلسطينية في لبنان والعراق وسورية مؤخراً. ومثلاً فهو لم يستطع فتح حاجز رفح مع مصر، على رغم ثلاث حروب إسرائيلية على غزة، فوق ذلك، وعلى رغم انتفاضتين وعديد من الهبّات، وما زالت النشاطات الاستيطانية والجدران الفاصلة والطرق الالتفافية تأكل من أرضه وتمنع تواصله. والمفارقة أن كل الكيانات السياسية الفلسطينية من المنظمة إلى السلطة إلى الفصائل، التي تعتمد في موازناتها ورواتبها على الدعم الخارجي، ما زالت تحتفل بانطلاقاتها كل عام، على رغم مرور نصف قرن، وعلى رغم عدم وجود إنجازات حقيقية، وفوق ذلك فهي ما زالت تؤكد قصة «شعب الجبارين» وزلزلة الأرض من تحت أقدام إسرائيل، في حين أن الأرض تتزلزل من تحت أقدام الفلسطينيين وكياناتهم السياسية والجمعية في كل مكان!

ما يمكن استخلاصه هنا أن الفلسطينيين، وبعد تجربة نصف قرن، معنيون بوعي ذاتهم، وحدود إمكاناتهم، ووعي العالم المحيط بهم، كما أنهم معنيون تحديداً بمراجعة الأساطير المذكورة ونقدها والقطع معها، ومع مجمل الفكر الفصائلي الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، بعد أن باتت هذه الفصائل بتقادمها وعجزها وجمودها قيداً على تطور الحركة النضالية للفلسطينيين وعبئاً على قضيتهم.

طبعا، وبعد كل هذا الحديث، ثمة من سيسأل عن البديل، وبمعزل عن النوايا الطيبة أو الخبيثة، المعرفية أو غير ذلك، التي يمكن أن تقف وراء هكذا تساؤل، فإن سؤالاً كهذا ينطوي على مخادعة وتلاعب وتشكك، وهو يغطي على نزعة حراسة أو استمراء للواقع الراهن. بمعنى آخر فحتى مع عدم وجود بديل ناجز، فإن الحل لا يكمن في التشبّث بالواقع المتكلس الذي تعيشه الساحة الفلسطينية، مع إخفاق خياراتها السياسية، وترهّل كياناتها السياسية، وضياع مشروعها الوطني، وحال التدهور التي تمر بها مجتمعات الفلسطينيين. والقصد أن البديل سيأتي في وقته، وبتضافر الجهود، وفي الظروف المناسبة، لا سيما أن هذه المنطقة تعيش مخاضات هائلة لا بد أن تولّد شيئاً جديداً، لكن ذلك لا بد أن يحصل بالقطع مع المرحلة السابقة، مع أفكارها وأطرها وأشكال عملها، مع كل التقدير للتضحيات والنضالات التي بذلت في سبيلها.

مع كل ذلك فإنه يمكن صوغ محاولتين، الأولى، تتعلق بفكرة الدولة الواحدة الديمقراطية، والثانية، تتعلق بأشكال النضال، مع التأكيد أن أي مشروع سياسي، مهما كانت حدوده، يتطلب إعادة بناء الكيانات الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل) على أسس جديدة، تمثيلية وديمقراطية ومؤسسية ووطنية، لأنه من دون حامل وطني مؤهل وطنياً، لا يمكن قيام أي مشروع سياسي.

من خيار الدولتين إلى الدولة الواحدة

يحتاج الفلسطينيون اليوم، وأكثر من أية فترة مضت، إلى استعادة خيار “الدولة الواحدة الديمقراطية”، الذي يتضمّن تقويض الصهيونية الاستعمارية والعنصرية والأيديولوجية (الدينية)، وإيجاد حل للمسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، على قاعدتي الحقيقة والعدالة، ولو النسبيتين. بيد أن المشكلة تكمن في أن الطبقة السياسية السائدة، في المنظمة والسلطة والفصائل، ما زالت تحاجج بتعذّر هذا الخيار ورفضه باعتبارها خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع هو الأكثر واقعية، والأسهل والأقرب منالاً، والأكثر تماثلاً مع القرارات والإرادات الدولية.

بدهي أن هذا الكلام صحيح لكن من الناحية النظرية فقط لأنه لم يثبت البتّة من الناحية العملية، لعدة أسباب، أهمها: أولاً، أننا إزاء دولة واحدة، من الناحية الواقعية، لكن مشكلتنا أن هذه الدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وهي تشتغل وفق عدة أنظمة قانونية، فثمة قانون للإسرائيليين في إسرائيل، وقانون للمستوطنين في الضفة والقدس، وقانون للفلسطينيين في الأراضي المحتلة (1967). كما تكمن مشكلتنا في أننا لا نريد أن نرى هذا الواقع، مع تمثلاته العملية في الحياة اليومية، في كل ما يخصّ قضايا السياسة والأمن والاقتصاد والعملة والتجارة والبني التحتية والمعاملات الإدارية. على ضوء ذلك، فإن خيار الدولة المستقلة، أي خيار الانفصال عن إسرائيل، يغدو هو الخيار الأصعب والأكثر تعقيداّ، من خيار الدولة الواحدة، وليس العكس، وهذا بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين، حيث لا أكثر واقعية من الواقع ذاته، أي الواقع الذي نحن فيه.

أما ثاني الأسباب، فيتمثل في أن هذه المحاججة تتناسى أن الفلسطينيين بات لهم أربعة، من أصل خمسة عقود هي عمر حركتهم الوطنية، يطرحون هدف الدولة المستقلة من دون أن يتحقق منه شيء، وحتى أن كل تنازلاتهم، المتضمنة في اتفاق أوسلو (1993)، لم تمكّنهم من استدراج إسرائيل إلى هذا الحل، بحيث بقي الكيان الفلسطيني في الضفة بمثابة سلطة حكم ذاتي للسكان وليس الأرض، ولا لأي من المجالات السلطوية: السياسية والأمنية والاقتصادية. والسؤال: كم أربعة عقود أخرى ينبغي أن نحتاج حتى ندرك عقم هذا الخيار أو لاواقعيته في الظروف والمعطيات السائدة؟

ثالثا، أما بالنسبة للمجتمع الدولي فمن الواضح أنه لا يفعل شيئا، حتى بعد الاعتراف بمكانة فلسطين كدولة عضو (مراقب) في الأمم المتحدة، لسبب بسيط وهو أن الولايات المتحدة ما زالت تقف وراء التعنت الإسرائيلي، وأن العالم كله لا يستطيع شيئا على هذا الصعيد طالما أن إسرائيل لم تغير موقفها.

على أي حال فإن استعادة خيار الدولة الواحدة الذي كانت الحركة الوطنية الفلسطينية طرحته، أو ابتدعته، في بداياتها (أواخر الستينات)، والذي يضمن حل مجمل مظاهر القضية الفلسطينية، وتحرير اليهود من الصهيونية، لا ينبع من أفول حل الدولتين، أو ربما استحالته، فقط، بسبب الرفض الإسرائيلي، وبحكم تغلغل الاستيطان في الضفة والقدس، وبواقع التبعية الذي يربط كل شيء في الأراضي المحتلة بإسرائيل، وإنما، أيضاً، من حاجة الفلسطينيين إلى مشروع وطني يعزّز وحدتهم كشعب، ويعيد الاعتبار لقضيتهم كقضية تحرر من استعمار استيطاني وعنصري وديني، من نوع خاص، يتأسس على إزاحة أهل الأرض الأصليين، من الزمان والمكان.

ولعل ما يفترض إدراكه هنا أن حل الدولة المستقلة، في الضفة والقطاع، في المعطيات الحالية، يفتح على معضلتين أساسيتين: الأولى، تقويض مفهوم الشعب الفلسطيني، أو تغييبه، بحيث يغدو الفلسطينيون على شكل وحدات اجتماعية مختلفة، لا صلة بينها، حتى في الداخل، حيث سنجد أنفسنا إزاء فلسطينيي 48، وفلسطينيي الضفة، وفلسطينيي القدس الذين قد يأخذون وضعا خاصا، مع عدم الجزم بمعرفة ما الذي سيحصل بشأن غزة؛ هذا دون أن ننسى فلسطينيي الأردن (كمواطنين)، وفلسطيني لبنان وسوريا وباقي دول اللجوء والشتات. أما الثانية، فتتمثل بإزاحة السردية الوطنية، المتأسسة على النكبة، وتعريف الصهيونية كحركة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وتاليا، إزاحة قضية اللاجئين، ما يفضي إلى التخلي عن حقوقهم، لا سيما أن خيار الدولة المستقلة، وفقاً لاتفاق أوسلو، لم يعد يتضمن حق العودة وتقرير المصير، على النحو الذي تمثل في “البرنامج المرحلي” الذي أقر في المجلس الوطني الفلسطيني (1974). ولنا أن نتأمل بعد هذين الثمن الباهظ الذي سيدفعه الفلسطينيون مقابل كيان محدود، ولا يحقق قيام دولة مستقلة لهم، بكل معنى الكلمة، حتى في أحسن الأحوال. أي إن الأمر لن يقتصر على التنازل عن فكرة أرض فلسطين الواحدة، أو حتى التنازل عن أراض في الضفة، وإنما التنازل، أيضاً، عن وحدة الشعب، كما عن حقوقه، وعن الرواية التاريخية، وعن عنصري الحقيقة والعدالة اللازمين لأية تسوية ولو نسبية.

هكذا، فإن حل الدولة في الضفة والقطاع ليس حلاً واقعياً، كما بيّنت التجربة، طالما أنه ينبثق من عملية تفاوضية، ومن دون ارتباط بتغيرات موازين القوى، أو في المعطيات العربية والدولية، وحتى من دون تغيرات في رؤية إسرائيل لذاتها. هذا يعيدنا إلى تجديد المطالبة بنبذ أوهام فرضية واقعية خيار الدولة المستقلة، التي بات يرسّخها نشوء كيان فسلطيني، مع علم ونشيد ورئيس ووزارة وسفارات، إذ إن الفلسطينيين يعيشون اليوم، وبغض النظر عن طبقتهم السياسية، في إطار واقع من دولة واحدة، بعدة أنظمة قانونية، تحت الهيمنة الإسرائيلية الاستعمارية والعنصرية؛ وهذا بعد قرابة ربع قرن على عقد اتفاق أوسلو.

مع ذلك فإننا في إطار الرد على محاججة أصحاب خيار الدولة المستقلة، في رفضهم لخيار الدولة الواحدة، نؤكد أن هذا الخيار لا يطرح في مواجهة الخيار الذي يطرحونه، لأن إسرائيل هي التي تقرّر بهذا الخصوص، وليس تبنّي الفلسطينيين لهذا الخيار أو ذاك لأنهم لا يملكون، أصلاً، خيار المفاضلة بين الخيارات، كونها تفرض عليهم بحكم الأمر الواقع وموازين القوى والظروف المحيطة؛ هذا أولاً. ثانياً، أن خيار الدولة الواحدة ليس للتفاوض، وإنما هو خيار نضالي، طويل الأمد، مع أنه قد يحتاج في فترة ما لأطر تفاوضية. ثالثا، إن هذا الخيار يفترض أشكالاّ نضالية شعبية، ربما هي أقل كلفة للفلسطينيين، لكنها قد تتيح لهم تقوية مجتمعهم، وتعزيز كياناتهم السياسية، بدل الاستنزاف الذي يتعرضون له منذ نصف قرن في الداخل والخارج. رابعاً، إن خيار الدولة الواحدة هو الذي يمكن أن ينقل الصراع إلى داخل المجتمع الإسرائيلي، ويكسر تمحور الهوية الإسرائيلية من حول التهديد الوجودي، الذي استثمرت فيه الحركة الصهيونية وإسرائيل طوال العقود الماضية، من دون أن يكون ثمة تهديد وجودي لها من الناحية الفعلية. خامسا، هذا يتأتى، أيضا، من التحول من حيّز الصراع على الأرض إلى الصراع على الحقوق، إذ أن من شأن ذلك تخليق ممهدات لمشتركات نضالية بين المجتمع المستعمِر والمجتمع المستعمَر، على نحو ما جرى في تجربة الكفاح ضد نظام الأبارثيد (السابق) في جنوب إفريقيا. ففي هذه الحال فإن هذه النقلة ستحرّر الإسرائيليين من مزاعم “التهديد الوجودي”، وتاليا التحرّر في إسار الفكرة الصهيونية، كما أن هذه النقلة ستمكن الفلسطينيين من تعزيز وحدتهم كشعب، والتحول من الكفاح من أجل جزء من الأرض وجزء من الحقوق إلى الكفاح في أجل كل الأرض وكل الحقوق.

الفكرة أن الحديث هنا يدور عن الانتقال من الدولة الواحدة، الاستعمارية العنصرية (بعدة نظم قانونية)، حيث ثمة هيمنة من شعب على شعب آخر، كما تتجسّد الآن، إلى الدولة الواحدة الديمقراطية، أي دولة المواطنين الأحرار والمتساوين. ومعلوم أن هكذا حل ليس قابلاً للتطبيق في المدى المنظور، أو دفعة واحدة، وإنه سيحتاج إلى تدرّجات، وإلى تفاعلات إسرائيلية مناسبة، وإلى نوع متميّز ومضن وطويل من النضال الفلسطيني، كما يحتاج إلى إطارات دولية وعربية ملائمة، ولكنه يبقى الخيار الأكثر ملاءمة مع القيم العالمية، المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، والأكثر قبولاً على الصعيد الدولي.

على ذلك ثمة مشروعية لاستعادة خطاب الدولة الواحدة طالما أن المسألة بالنسبة للفلسطينيين تتعلق بالخطابات، أكثر من موازين القوى، لأن هذه النقلة تمكنهم من تعريف أنفسهم وبناء مفاهيمهم وأدواتهم الصراعية، وضمنه تعريف العالم بقضيتهم، وجلب التعاطف مع حقوقهم، والاشتغال على التناقضات الإسرائيلية، وتوسيع المشتركات مع مجتمع الإسرائيليين، ضد إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والدينية، من أجل دولة واحدة ديمقراطية يتساوى فيها جميع المواطنين.

ما ينبغي أن تدركه الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة أنه لا توجد واقعية أكثر من الواقع ذاته، وأن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يعيشون في إطار دولة واحدة لكن استعمارية وعنصرية، ويبقى ايجاد الرؤى والبني والأشكال التي يمكن أن تسهم في تغيير هذا الواقع.

إشكاليات الخيارات الكفاحية

في نقاش الخيارات الكفاحية للفلسطينيين، وبغضّ النظر عن إشكالياتها الكثيرة وتأثيراتها المتباينة وتداعياتها المكلفة، لا بدّ من ملاحظة مجموعة من الاعتبارات، أهمها:

أولاً، أن مقاومة الفلسطينيين لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية، وليس الخنوع، هو السلوك الطبيعي المعبّر عن رفضهم لواقع التشرد والظلم والقهر والحرمان من الحقوق والوطن والهوية، ودفاعهم عن حقهم في الوجود والعيش بحرية وكرامة. والمعنى أن وجود إسرائيل على هذا النحو، وضمنه رفضها لأي تسوية، هو سبب المقاومة، إذ إن الفلسطينيين لم يتركوا طريقا إلا وسلكوه، من المقاومة المسلحة إلى الانتفاضة والمقاومة الشعبية وصولا إلى المفاوضة ثم التحول نحو طرق أبواب الأمم المتحدة دون جدوى، وفي ظل خذلان دولي.

ثانيا،ً أن الفلسطينيين هم الضحيّة، وإسرائيل هي الطرف المستعمر، والمعتدي، والظالم، الذي يحتكر وسائل القوة والغلبة. والقصد أنه لا تجوز المساواة بين غير متساويين، أي بين المستعمِر والمستعمَر من جهة الحق، ولا حتى من جهة موازين القوى، فشتان بين استخدام الفلسطينيين للحجارة والعصي وسكاكين المطابخ وحتى البنادق، للدفاع عن أنفسهم، أو لاستعادة حقوقهم، أو لرفع كلفة الاحتلال، وبين استخدام إسرائيل الطيران والمدفعية والدبابات وكل الأسلحة المدمرة لكسر مقاومتهم وتأبيد واقع هيمنتها عليهم ومصادرتها لأرضهم وحقوقهم.

ثالثاً، مفهوم أن ما يفاقم مشكلات الفلسطينيين، في مقاومتهم، أنهم لا يواجهون مجرد دولة استعمارية، أو جيشها، فقط، وإنما يواجهون فوقها مجتمعا استعماريا استيطانيا عنصريا، تتبنى أغلبيته أيديولوجية دينية و”قومية”، تفيد بأن فلسطين هي “أرض الميعاد” خاصّته، وفي هذه المسألة يتساوى اليهودي العلماني مع اليهودي المتدين، إذ حتى اليهودية “القومية” تأسست على عنصر الدين والحق أو الوعد الإلهي؛ ولعل هذا الوضع الخاص هو ما يثير اللبس حول شرعية المقاومة وعدالة طريقها.

رابعاً، لم يعد لدى الفلسطينيين ما يضيفونه من أجل التسوية، بعد أن توافقت قيادتهم على المساومة الأكبر، بتبنيها خيار الدولة المستقلة في الضفة وغزة، أي في 22 بالمئة من أرضهم التاريخية، وحل مشكلة اللاجئين بحسب قرارات الشرعية الدولية. والمعنى أن إسرائيل هي المسؤولة عن استمرار المقاومة، بإصرارها على استمرار الاحتلال والاستيطان، وسدها الأفق أمام قيام دولة مستقلة، مع إمعانها التحكم بحياة الفلسطينيين وامتهانهم. وعليه لا يمكن، بأي حال، إنكار مشاعر الإحباط والغضب وفقدان الأمل عند الفلسطينيين، خاصة عند الأجيال الشابة، ولا حقهم في التمرد ومقاومة هذا الواقع، بشتى الطرق، وهو ما حصل مؤخراً في الهبّة أو الانتفاضة الشعبية.

مع ذلك يفترض بنا التذكير بأساسيات أخرى أيضاً، ضمنها أن المقاومة ليست عملا فرديا، ولو أنها تتضمن نوعا من ذلك، وأنها ليست مجرد ردة فعل عفوية، مع أن فيها شيئا من ذلك أيضا، وأنها لا تقتصر على العنف وإن تضمنت بعضاً منه. والحال، فمع التفهّم، والتقدير، لأعمال المقاومة الفردية بكل أشكالها، والتي لا يمكن ضبطها، والتي هي بمثابة ردة فعل شخصية وعفوية على الظلم والامتهان، مع ما تنطوي عليه من قيم الشجاعة والتضحية والتوق للتحرر، إلا أنها ليست الحل المرتجى، ولا الشكل الأنسب والأجدى، بل إنها تعبير آخر عن أزمة حركة التحرر الفلسطينية، بكل مكوناتها، أي عجزها وفواتها وأفولها، وضمنه الفجوة بينها وبين مجتمعها. ذلك أن الحراكات الفردية وردات الفعل الشعبية العفوية تأتي لتغطية الفراغ، أو للتعويض عنه، وهي حراكات تنطوي على مشكلة أخرى تتمثل في الافتقاد لاستراتيجية كفاحية، وغياب كيانية سياسية قادرة على الإدارة والاستثمار في التضحيات والبطولات الحاصلة؛ وهذه معضلة على غاية الأهمية.

أيضا، يمكن مقاربة ظاهرتي العنف الفردي- العفوي والعنف السياسي المنظم والموجه، في تجربة الكفاح الفلسطيني، إذ الأول، مع كل التقدير، نتاج احتقان اليأس والغضب والفراغ السياسي، في حين الثاني تقوده حركات سياسية، وفق استراتيجية معينة ولغايات معينة؛ بغض النظر عن مآخذنا على هذه التجربة، كما تجلّت في حيز الممارسة، منذ نصف قرن.

بيد أن ذلك يفترض منا أن ندرك أن الفصائل الفلسطينية تتحمل، أيضا، المسؤولية عن عدم وضعها النضال العنفي (الفردي أو المنظم) في مكانه المناسب، وعدم إخضاعه للمراجعة والنقد، وعدم صوغها بدائل كفاحية أخرى، تأخذ في اعتبارها إمكانيات مجتمعها، وقدرته على التحمل، والتناسب مع الظروف الدولية والعربية المحيطة، والقدرة على الاستثمار في إنجازات سياسية. تماما مثلما تتحمل المسؤولية عن رفع الكلفة البشرية للكفاح العنفي، أو المسلح، بطريقة إدارتها المزاجية والتجريبية له، مع ضعف حساسيتها، من الناحية العملية، لقيمة الحياة، وإعلائها قيمة “التضحية”، بمعزل عن الحسابات النضالية والسياسية الأخرى، علما أن أولى أساسيات القيادة هي حسن إدارة الموارد، ولا سيما البشرية، وتقليل الأكلاف.

أما فيما يخص فكرة العنف ذاتها، فإن الفصائل تتحمل المسؤولية عن الارتهان لهذا الشكل من الكفاح وحده، طوال تاريخها، رغم إخفاقاتها، وضعف إمكانياتها، الأمر الذي نجم عنه استبعاد أشكال الكفاح الشعبية، والاستهتار بأهميتها، على رغم أن أفضل تجربة كفاحية وأكثرها جدوى في تجربة الفلسطينيين تمثلت في الانتفاضة الشعبية الأولى (1987-1993). وبدهي أن ينجم عن حصر المقاومة بمجموعات من المقاتلين، أو المحترفين العسكريين،  استبعاد أو تبديد طاقات أو مجالات واسعة كامنة في المقاومة المجتمعية.

القصد هنا أن المقاومة لها أشكال عديدة، سلمية وعنيفة، وأنها مقاومة مجتمع، وليس مجموعة أفراد، وأن العنف مجرد وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، نبيلة وعادلة، سياسيا وأخلاقيا، تستهدف رفع كلفة الاحتلال، وإجبار المستعمر على الرحيل، لأن الحروب واستخدام السلاح والقوة وانتهاج القتل والاستخفاف بحياة البشر، هي من طبائع النظم التسلطية، الاستبدادية والاستعمارية، وهذا هو الفرق بين عنف المستعمِر وعنف المستعمَر.

طبعاً، لا ينطوي هذا الحديث على مفاضلة بين العنف والسلمية، إذ إن هذا الأمر يخضع للظروف، وللحالات المتعينة وللإمكانات، وللجدوى السياسية، وتحقيق الأهداف بأقل تكلفة ممكنة، لأن الحروب والمقاومات تتضمن خسائر باهظة بالأرواح والممتلكات، مع معرفتنا أن القوى الاستبدادية والمستعمرة هي التي تملك الجيوش، وهي التي تتعمّد استدراج المستعمرين والمظلومين إلى العنف، أي إلى مربعها المريح، ومكمن قوتها، كونه يحرّرها أخلاقيا وسياسيا ويسهل استخدامها آلتها العسكرية لاستنزافهم وإضعافهم وخلق العداوات والفوضى بينهم.

الآن، لعل هذا يوجب التحذير من نزعة تقديس العنف، وهو ما اعتادت عليه الفصائل، وحتى أكثرها قعودا عن ممارسة الكفاح المسلح، بحيث غدا الاقتراب منه نوعا من المحرمات، في حين أن الأمر يستوجب إخضاعه للفحص والمراجعة والمساءلة والمحاسبة والتقييم، باعتباره عملا سياسيا، مثل أي عمل آخر، لا سيما كما تجلى في التجربة الفلسطينية. والمعنى أن القصة لا تكمن في العنف بحد ذاته، وإنما في اعتماده كعقلية، وليس في استخدامه كوسيلة تقنية وإنما في تقديسه، ووضعه خارج المساءلة، كما في اختزال كفاح المجتمع به.

وقد يجدر بنا لفت الانتباه هنا إلى أن الحديث عن النضال الشعبي، والسلمي، لا يعني أنه كذلك مئة بالمئة، وهذا ما جرى في جنوب أفريقيا وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى. مع التذكير بأن أكبر تجربة تحرر من الاستعمار في التاريخ، وهي تجربة الهند، تمت بطريقة النضال الشعبي، والسلمي (وهذا ينطبق على تجربة الثورة الإيرانية)، بل إن ذلك ينطبق على تجربة التحرر من الاستعمار في البلدان العربية (باستثناء الجزائر)، مع إدراك أن هذا تم بالتزامن مع التغيرات الدولية، في تراجع مركز الدول الاستعمارية بعد الحرب الثانية، وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، والتطورات الاقتصادية، المتمثلة خاصة بالتحول من الأيدي العاملة والمواد الخام إلى العلوم والتكنولوجيا.

المشكلة أن الفلسطينيين لا يملكون ترف المفاضلة بين الخيارات، بحكم ظروفهم الخاصة، وطبيعة عدوهم (جيش ومجتمع) وعدم ملاءمة الأوضاع الدولية والعربية لكفاحهم. فهم ليسوا إزاء تجربة استعمارية على غرار بريطانية في الهند، ولا إزاء تجربة تشبه الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، حيث كان ثمة وطن أم للمستعمرين، وهي مع شبهها بالتجربة الاستيطانية العنصرية في جنوبي افريقيا (سابقا) إلا أنها تختلف لجهة قيام إسرائيل بوساطة جهد دولي، وتمتّعها بدعم وضمانة الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، لأمنها وتفوقها، ما كان يفتقد له نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الذي تعرض لعزلة كبيرة، هذا إلى جانب أن الفارق المتعلق بطرد الفلسطينيين، بحكم الطابع الإجلائي والإحلالي للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

وقصارى القول إن الفلسطينيين يواجهون مجندي ومستوطني دولة ومجتمع الاحتلال والعنصرية، وهؤلاء ليسوا ملائكة رحمة، ولا حمامات سلام ولا سياحاً مسالمين، وبدهي أن مقاومة هؤلاء أو مواجهتهم لا تتم بالورود والرياحين، وإلا فكيف جرت حرب الاستقلال أو الثورة الأمريكية؟ وكيف قاومت الشعوب الأوروبية الاحتلال النازي؟

طبعاً ثمة إشكالات تحيط بكفاح الفلسطينيين، ومسؤوليتهم تكمن في مراجعتها واستنباط الدروس منها، والمفاضلة فيما بينها بحسب ظروفهم وإمكاناتهم، لا مجرد تقديسها أو الارتهان لعفويتها. أيضاً، لنلاحظ هنا أن الفلسطينيين، مع كل ضجيجهم عن الكفاح المسلح، لم ينتجوا نظريتهم، أو استراتيجيتهم، العسكرية الخاصة، رغم التجارب التي خاضوها، ومع مسيرة عمرها نصف قرن، وهذه نقطة ضعف كبيرة، ودلالة على افتقار حركتهم الوطنية للوعي بما تريده، وللمسؤولية عما تريده، وللتبعات التي تنجم عنه.

هكذا لم نسمع من أي فصيل، لا فتح ولا حماس ولا الجبهات، عن الطريقة التي سيبني فيها قواته المسلحة، أو التي سيمارس فيها كفاحه المسلح، من الخارج أو من الداخل، في ظل أنظمة لا تقبل من مجتمعاتها ولو مجرد مظاهرة مطلبية في مرفق من مرافقها. كما لم يشرح أحد، من الفصائل، الطريقة التي سيؤمن فيها السلاح، أو الموارد المالية، لتغطية نفقات ألوف المتفرغين. طبعا يمكن لفصيل ما أن يأتي بسلاح، وموارد مالية، كما بينت التجربة، لكن ذلك ليس مجانا، إذ يستلزم الخضوع لتوظيفات سياسية، ما يعني تحميل العمل الفلسطيني فوق طاقته، وحرفه عن طريقه، واستنفاد طاقات الفلسطينيين؛ وهو ما حصل في محطات عديدة. أخيرا، لم يقل أحد كيف سيتفوق على إسرائيل التي تنفق 12 بليون دولار سنويا على الأمن والتسلح، والتي تستحوذ على أكثر الأسلحة حداثة وفتكا، مع نظم إدارة ومعلومات تعد من الأكثر تفوقا في العالم. بعد ذلك، ثمة ثلاثة مسائل، يفترض الإجابة عليها: الأولى، هل ستترك إسرائيل الفلسطينيين كي يُنشئوا جيشهم أم ستظل تشتغل على ضربهم وتدفعيهم أثمانا باهظة تصل إلى حد شلّ مجتمعهم؟ والثانية، ماذا ستفعل المقاومة المسلحة مع ضمان الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة لأمن إسرائيل واستقرارها؟ والثالثة، ماذا ستفعل هذه المقاومة، وحلفاؤها المفترضون من الدول العربية أو الإقليمية، مع السلاح النووي الإسرائيلي؟

ليس القصد التهويل، أو التسليم لإسرائيل، كما قد يظن البعض، وإنما القصد أن انتهاج خيار ما، ليس عملا مزاجيا، ولا يتأتى من مجرد العواطف أو الرغبات والأمنيات، وإنما يفترض أن يتأتى من حسابات سياسية مدروسة، “تجاوب” على كل التساؤلات، بحيث تتأسس الخيارات على الواقع والإمكانات، وعلى رؤى سياسية عقلانية تمكنها من التراكم والتثمير مستقبلا.

يجدر لفت الانتباه هنا إلى أننا نتحدث على هذا النحو بعد مسيرة مكلفة قدرها خمسون عاما، من الكفاح المسلح، في الخارج والداخل، مع انتفاضتين كبيرتين إحداهما مسلحة، وثلاثة حروب على غزة وحدها في غضون ستة أعوام (2007-2014)، نجم عنها كوارث باهظة، أخذت من أعمار الفلسطينيين وعمرانهم، من دون أن تحرر شبراً، أو تغير من موازين القوى مع إسرائيل؛ الأمر الذي لا يحجبه الحديث الاستهلاكي والساذج عن الانتصارات. ولنلاحظ أنه رغم التضحيات والبطولات التي بذلها الشعب الفلسطيني، وضمنه في لبنان والضفة وغزة، لم تتحقق إنجازات على صعيد الأرض، ولا لجهة إضعاف إسرائيل، من النواحي العسكرية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، بالعكس فهي تزداد قوة، على ما تؤكد الإحصائيات المتعلقة بها. لا بل إن المبالغة بمكانة الكفاح المسلح لم تقو مجتمعات الفلسطينيين، التي تعرضت لنزيف مستمر إن بسبب توجيه إسرائيل ضربات قاصمة لها في الداخل، بين فترة وأخرى، أو بسبب المشكلات الجمة مع بعض الأنظمة العربية، وحتى أن هذا انعكس سلبا على كياناتهم الوطنية التي غلب عليها الطابع الميلشياوي والسلطوي على حساب طابعها السياسي.

وبصراحة، وبعيدا عن العواطف والشعارات الاستهلاكية، فإن ذروة استخدام الفلسطينيين للكفاح المسلح تحققت في الانتفاضة الثانية، ونجم عنها مصرع أكثر من ألف عسكري ومدني إسرائيلي، منهم 452 إسرائيليا عام 2002 (120 في شهر آذار وحده). والنتيجة أن إسرائيل شنت حربين مدمرتين على الفلسطينيين (2002-2003) أدت إلى استعادتها السيطرة على الضفة، وتقطيع أوصالها بالنقاط الاستيطانية والحواجز، مع تدمير بناها التحتية. بالمقابل لم يستطع الفلسطينيون الاستمرار، فبدءا من 2003 حصل نضوب في مقاومتهم، فبدلا من أن يستنزفوا إسرائيل باتت هي تستنزفهم. ففي عام 2003 قتل 208 إسرائيليين، وفي 2004 قتل 117 منهم، أما في 2005 فقتل 56 وفي 2006 قتل 30 وفي 2007 قتل 13، إلى الحد الذي توقفت فيه المقاومة تقريباً في الضفة وفي غزة، وبكل أشكالها الشعبية والمسلحة.

ولنتذكر أن البطولات الفذة لكتائب القسام ولكل الكتائب، والتضحيات الجمة لأهلنا في غزة، في الحرب  الثالثة (2014)، لم تستطع فرض الهزيمة على إسرائيل، إذ إن المقاومة لم تستطع فرض الشروط التي طرحها أبو عبيدة، إذ ليس فقط لم يتم الموافقة على المطار أو الميناء، وإنما لم يتم رفع الحصار ولا حتى إدخال مواد الإعمار.

كلمة ختامية

آن للفلسطينيين أن يتجهوا لبناء مجتمعاتهم، وترسيخ كياناتهم الوطنية ومؤسساتهم الجمعية، لأن هذه العملية لا تقل في أهميتها عن مقاومة إسرائيل، بل إنها أساس لها. وآن لهم أن يبحثوا عن رؤية سياسية تطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين، وعن استراتيجية نضالية، تتلاءم مع إمكاناتهم، وظروفهم، وتمكنهم من المراكمة والاستثمار السياسي. وآن لبعض القيادات التحدث بتواضع وموضوعية عن أحوال شعبهم وواقع حركتهم الوطنية، إذ كيف يمكن بناء جيوش أو تحرير فلسطين بالكفاح المسلح في ظل هذا الانهيار أو الخراب في المشرق العربي؟ وكيف يمكن الحديث عن العودة إلى فلسطين بينما مجتمعات اللاجئين تتفكك، وبينما يخوض اللاجئون غمار البحر ذاهبين إلى أوروبا؟ وكيف نتحدث عن انتصارات وإسرائيل تتحكم بحياة الفلسطينيين في الضفة وغزة؟

فوق كل ذلك فإن الفلسطينيين استهلكوا، في تجربة نصف قرن، كل الطرق والخيارات السياسية أو الكفاحية، من الانتفاضة إلى المفاوضة، ومن المقاومة إلى التسوية، في حين استطاعت إسرائيل امتصاص كل هذه الأشكال، إن بخلق استراتيجيات مواجهة لها، أو بتدفيع الفلسطينيين ثمنا باهظا لها.

قصارى القول، نحن بحاجة إلى وقفة نقدية شجاعة، وقفة تراجع بصورة نقدية، ومسؤولة، التجربة الماضية، بكياناتها وأفكارها وأشكال عملها، هذا عمل لا بد من القيام به، وكلما كان أبكر كان أفضل.

[*] كاتب فلسطيني، مقيم في اسطنبول.