عوض مسحل
توسعة “الإدارة المدنية” الإسرائيلية.. استهداف السلطة الفلسطينية في إطار اقتصادي[1]
يتناول هذا التقرير ممارسات إسرائيلية تستهدف إضعاف دور السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة الفلسطينية على المستويين الداخلي والخارجي، وتوسعة مساحة التواصل للمواطن الفلسطيني مع الجهاز الاحتلالي الإسرائيلي الذي يتولى الجزء الأكبر من شؤون الحياة اليومية في الضفة الغربية وقطاع غزة، “الإدارة المدنية”، سواء برغبة المواطن أو إذا كان مرغماً أو مضطراً لذلك، ومن خلال توسيع دور هذه الإدارة وخدماتها، وربطها بحاجاته اليومية. ويؤدي هذا التوسيع إلى استنتاجات ورؤى حول النوايا الإسرائيلية إزاء مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية والاتفاقيات الموقعة، وبخاصة بروتوكولات واتفاقيات أوسلو، الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عامي 1993 و1994.
مقدمة
جددت إسرائيل سياستها الرامية للتعامل مع ملف السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية بشكل مباشر، من خلال التوجه لإقرار خطة تعزز دور “الإدارة المدنية” وتوسعتها من خلال زيادة عدد الكوادر العاملين فيها. ونقلت صحيفة “يسرائيل هيوم” يوم الأربعاء الموافق 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2018م، أن اللجنة الفرعية في “الكنيست” لشؤون “يهودا والسامرة” (المسمى العبري للضفة الغربية)، وضعت خطة تقضي بزيادة (280) عنصراً بشريّاً للإدارة المدنية لتوسعتها[2]، ما يعكس الاتجاه لتوسعة صلاحيات ودور هذه الإدارة على حساب دور السلطة الوطنية الفلسطينية.
مؤشرات عديدة ومهمة تطرح جملة من الأسئلة، حول ما إذا كان هذا التحول هو في سياق استعداد إسرائيلي (سياسي- أمني) تحسباً لانهيار السلطة الوطنية؟ وهل هو أيضاً تخلٍّ عما جاء في بروتوكولات اتفاقية أوسلو؟ فاتفاقيتا أوسلو الأولى والثانية تعتبران إنهاءً للحكم الإسرائيلي المباشر، حيث عرفتا ورسمتا حدود العلاقة مع الجانب الإسرائيلي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وفي هذا الباب، نصت ملاحقهما على نقل صلاحيات إدارة ملف السكان المدني للسلطة وتقليص دور “الإدارة المدنية”، وبشكل تدريجي.
المؤشرات أن الهدف من وراء تفعيل وتوسعة دور الإدارة المدنية الإسرائيلية، هو إعادة توثيق الصلة والارتباط المباشر مع السكان الفلسطينيين كأمر واقع يحقق السياسات الإسرائيلية في شكل العلاقة مع حلول سلمية في إطار حكم ذاتي مسلوب الإرادة سياسيّاً، واقتصاد مدمج وتابع ضمن سيطرة أمنية إسرائيلية شاملة.
نشأة الإدارة المدنية وأدوارها
بعد حرب حزيران عام 1967م، أحكم الاحتلال الإسرائيلي قبضته على الأراضي الفلسطينية، وفرض عليها سلطة وقوانين ما يعرف بـ”الحاكم العسكري”، الذي استمر عقدين كاملين في ظل سيطرة حزب العمل على مقاليد الحكم في إسرائيل، إلى أن تشكلت أول حكومة يمينية بقيادة حزب الليكود برئاسة مناحيم بيغن ما بين الأعوام (1977-1983)م، إذ أخذ على عاتقه تغليف مسمى الحكم العسكري ووسمه بطابع سياسي مدني أكثر منه احتلاليّاً، بتقديم خدمات مغلفة بالإنسانية والأخلاقية لتخفيف وقعه أمام المجتمع الدولي، وتطويع وتكييف الفلسطينيين للتعامل مع الحكم العسكري بعيداً عما يحيط بالمسمى من مخاوف وإجراءات أمنية.
في عام 1981م، نشر القرار العسكري رقم (947)، فقام أريئيل شارون، الذي شغل منصب وزير الدفاع الإسرائيلي في حكومة بيغن اليمينية، بالإعلان عن إنشاء إدارة تابعة لوحدة التنسيق في وزارة الحرب، يدير شؤونها ضباط وجنود إسرائيليون وتكون تحت إشراف القيادة العسكرية، مسؤولة عن تطبيق السياسة الأمنية والمدنية في الأراضي الفلسطينية، وعرفت بـ”الإدارة المدنية”، وتشمل اختصاصاتها كل مناحي الحياة، من تطوير البنى التحتية وتوفير الخدمات وتلبية الاحتياجات اليومية[3].
عملت الإدارة المدنية منذ نشأتها، وبوتيرة متصاعدة على تصميم جسم تمثيلي فلسطيني تابع يعمل وفق السياسة الإسرائيلية، فعمدت حكومة الاحتلال لتشكيل روابط القرى، نهاية السبعينيات من القرن العشرين، لتكون حلقة وصل بين الفلسطينيين و”الإدارة المدنية”، وبغرض إحلالها بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، لكن الرفض الفلسطيني أفشل هذا المشروع.
كان أول من ترأس هذه الإدارة البروفيسور الباحث مناحيم ميلسون خلال الأعوام (1981-1983)م، الذي حاول تطبيق آلية جديدة لحكم المناطق الفلسطينية، وإنشاء قيادات محلية، (روابط القرى).
الأصل أنّ دور هذه الإدارة سيتراجع، مع تقدم السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاقيات أوسلو. والموقف الرسمي الفلسطيني، أنّ عمل الإدارة المدنية قفز عن الملحق المدني في اتفاقيات أوسلو، فبموجب ذلك، تعين على الجانب الإسرائيلي تقليص عدد كادر الإدارة المدنية الإسرائيلية لا توسعتها، بل نقل لصلاحياتها تدريجيّاً لهيئة الشؤون المدنية الفلسطينية باعتبارها “حلقة الوصل بين السلطة الوطنية الفلسطينية وكافة مؤسسات السلطة المدنية مع الطرف الآخر”، والمسؤولة عن “حل الإشكاليات المختلفة بين الطرفين، كالإشراف على ملفات ذات صلة بملف السكان، والمعابر، ومنح التصاريح، ودخول البضائع، ولم الشمل الداخلي والخارجي”[4].
واتضح بشكل رسمي بدء التراجع الإسرائيلي عن تقليص دور هذه الإدارة، أثناء الهجوم الإسرائيلي، على الأراضي الفلسطينية، تحت حكم رئيس الوزراء الإسرائيلي، السابق، أريئيل شارون، عام 2002[5].
منذ تعيين الجنرال يوآف موردخاي خلال الفترة ما بين عامي (2014-2018)م، بات يمارس دوره بشكل مباشر وأوسع، خصوصاً بعد ما أنشئ موقع إلكتروني باسم وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (باللغة العربية)، ويشار لها على الموقع باسم (المنسق)، تستقبل طلبات السكان عبر نماذج إلكترونية متعددة الأغراض وتبرز دورها في عمليات التطوير والتدشين والنهوض بمشاريع متعددة، كما سيلي توضيحه لاحقاً.
الدور ذاته والصلاحيات الكاملة تولاها الجنرال كميل أبو ركن الذي عين في العام (2018)م، خلفاً لموردخاي[6].
في العام 2016م، وبعد عودة حكومة اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو، استقرت سياسة وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، أفيغدور ليبرمان ما بين العامين (2016-2018)م، على سياسة العصا والجزرة تجاه الفلسطينيين، وأشار إليها شلومو غازيت الذي شغل منصب الحاكم العسكري لمدة سبع سنوات، في كتابه “الطعم في المصيدة” ن مدى التفكير الإستراتيجي لدى حكومة الاحتلال، واستدل بالدراسات المعمقة والتجارب الحية أن المصلحة تقتضي الجمع في إدارة المناطق بين قيادة الإدارة المدنية والأمنية وعدم الفصل بينهما، ما يتيح استخدام هذه السياسة في التعامل مع السكان[7].
بعد تولي ليبرمان منصبه، أعرب في أكثر من مرة عن عدم وجود شريك فلسطيني، رافق ذلك العمل على إعادة إحياء الإدارة المدنية، التي بدأت بسلسلة مشاريع هادفة والإعلان عن عدة تسهيلات ومشاريع لحل مشكلة المياه التي تواجه جميع سكان المنطقة (الفلسطينيين والمستوطنين)، وزيادة عدد التصاريح الممنوحة في شتى المجالات تحت شعار تحسين حياة السكان[8]. كل ذلك بسياسات أحادية الجانب، دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية.
اقتصاد مدمج أم تبعية مطلقة؟
إن مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية مهدد على كافة الأصعدة في ظل التحديات الداخلية والخارجية، والممارسات الإسرائيلية تجاه السلطة ومؤسساتها ومقدراتها، ومن خلال تعزيز دور الإدارة المدنية وسياستها الناعمة المتغلغلة بتوسعة مساحة الخدمات التي تقدمها للفلسطينيين تماشياً مع مصالحها الاقتصادية، ترافقها التحديات المتعلقة بالتوجهات الأميركية والقرارات المتخذة منذ تولي الرئيس دونالد ترامب للرئاسة في العام 2017م، والحديث عما تسمى صفقة القرن، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مشروع إنساني، كل ذلك يفضي إلى تصور محدد حول النوايا الإسرائيلية من وراء العودة لتفعيل دور الإدارة المدنية في المناطق الفلسطينية، وتحويل العديد من الملفات التي كانت من اختصاص الارتباط الفلسطيني، أو الشؤون المدنية، إلى مكاتب الإدارة المدنية.
الاقتصاد الفلسطيني: 1967 – 1994
منذ بداية الاحتلال وحتى بداية تطبيق اتفاقية أوسلو عام 1994، كانت السياسة الإسرائيلية تقوم على دمج الاقتصاد الفلسطيني في الأراضي المحتلة بشكل متدرج وناعم في الاقتصاد الإسرائيلي، من خلال استدامة ضعف وتخلف الاقتصاد الفلسطيني وزيادة اعتماده على الاقتصاد الإسرائيلي.
وأبرز ملامح هذه السياسة كانت:
- تأخير وعرقلة وعدم تشجيع الاستثمار في الأراضي المحتلة، باستخدام بيروقراطية الإدارة المدنية والتشريعات العسكرية لهذا الغرض.
- إنشاء “سوق مقيدة” للمنتجات الإسرائيلية من خلال منع الاستيراد إلى الأراضي المحتلة، من دول أخرى.
- تشجيع الدخول الجماعي للفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلية، خاصة في مجالات البناء، والزراعة، والخدمات.
- الامتناع عن الاستثمار في تطوير بنى تحتية في الأراضي المحتلة، وتحويل عائدات الضرائب التي يتم جمعها من الفلسطينيين إلى الخزينة الإسرائيلية، بدلاً من استثمارها في الأراضي المحتلة.
- الإضرار بالقطاع الزراعي، كونه عنصراً رئيسيّاً في الاقتصاد الفلسطيني، من خلال تجريد الفلسطينيين من أراضيهم، وتحديد حصص المياه، ومنع تصدير المنتجات الزراعية إلى إسرائيل.
بعض الأرقام في عام 1992 (السنة التي سبقت بدء عملية أوسلو) تعكس اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على إسرائيل. ثلث القوى العاملة كان يعمل في إسرائيل، نحو 90% من الواردات مصدرها إسرائيل، و80% من الصادرات بيعت في الأسواق الإسرائيلية أو تم تصديرها عبر المعابر الإسرائيلية. الاقتصاد الفلسطيني المتخلف، الذي تمثل بغياب القطاع الصناعي الحديث، وبنسب البطالة المرتفعة والفقر، هو نتيجة بشكل أساسي للسياسة الإسرائيلية خلال أكثر من 27 عاماً من الاحتلال، والسيطرة الإسرائيلية المباشرة على الأراضي المحتلة[9].
هذه هي السياسة الإسرائيلية لإدارة “الأراضي المحتلة” عام 1967، وخصوصاً من خلال ما تعرف باسم “الإدارة المدنية”، لكن هل تغير الوضع بعد اتفاقيات أوسلو؟
الاقتصاد الفلسطيني وبروتوكول باريس الاقتصادي
مع توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993، ورغم أن هذا الاتفاق سياسي في جوهره، غير أنه كان ذا شق اقتصادي أساسي في باطنه، من خلال مرفقاته وأبرزها بروتوكول باريس الاقتصادي الذي نظم العلاقة بين الجانبين الإسرائيلي وسلطة الحكم الذاتي الوليدة، وكرس المطامع الإسرائيلية بضمان إبقاء سيطرة إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني من خلال الإبقاء على السيطرة على المعابر، والإبقاء على نسبة عمالة فلسطينية عالية في السوق الإسرائيلية، والتحكم في المناطق المصنفة بموجب الاتفاقيات بأنها (ج)، التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، والتي تشكل المناطق الأخصب، والفارغة، المناسبة للاستثمار والزراعة، حيث تقيد إسرائيل أي نشاط فلسطيني في هذه الأراضي، هذا فضلاً عن باقي أشكال السيطرة، الضرائبية، والجمركية، لكن كل هذا كان يفترض أنه مرحلة انتقالية تتراجع تدريجيّاً، مع التوصل لاتفاق نهائي (كما كان مقرراً) مع نحو العام 1999.
صفحة المنسق على شبكة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)
استغلالاً للتطور التكنولوجي والاهتمام المتزايد بمواقع التواصل الاجتماع، أنشأت “الإدارة المدنية”، برئاسة الجنرال يوآف موردخاي في العام (2016) على الفيسبوك، صفحة “المنسق” كمنصة أطلقت أهداف بوضوح بما تعرضه وتقدمه، والاهتمام الذي تحظى به من قبل المنسق وإطلالته المباشرة، والإجابة على استفسارات الفلسطينيين من خلال طاقم مختص، وثق بالفعل حجم التفاعل حول ما يطرح ولغة المخاطبة للراغبين بحل مشاكلهم، فتعززت أواصر تواصل واضحة التأثير على السكان، يبرز ذلك أيضاً بالاستجابة السريعة والإعلان على الصفحة عن موعد لسكان منطقة معينة ضمن “حملة لرفع المنع الأمني” وإخضاعها وسكانها للابتزاز، وربط ذلك بالهدوء العام والخاص، والاستغلال من قبل جهاز “الشاباك الإسرائيلي” الذي كان يسقط سطوته على أي خدمة تقدمها الإدارة المدنية[10].
تعمل صفحة “فيسبوك” (بالإضافة للموقع الإلكتروني)، بصورة ممنهجة ومتطورة تستخدم فيها كل وسائل الاتصال والتواصل باستخدام أيقونات (الفيسبوك) كاملة، إضافة إلى بث فيديوهات وضخ تحذيرات ومعلومات وإحصائيات أسبوعية أو شهرية عن النشاطات والخدمات والتسهيلات المقدمة ومدى انعكاسها وأهميتها في حياة الفلسطينيين، وقد طورت آليات العمل بوضع نماذج، لتقديم الطلبات إلكترونيّاً تيسيراً للسكان، من خلال الحصول على إجابة عن طلبه وهو في بيته دون الحاجة لتعبئة طلبات ووضع الطوابع والتنقل من مكتب إلى آخر.
تركز عمل المنسق والصفحة التي يشرف عليها على الجانب الاقتصادي والزراعي بشكل كبير، إلى جانب الاهتمام بالبنى التحتية، وهي دوائر مختصة في هيكلية الإدارة المدنية تسعى لتسريع وتسهيل عملية الدمج والتبعية للاقتصاد الفلسطيني، وأيضاً ادعاء الإدارة المدنية في منحها آلاف التصاريح للعمال الفلسطينيين الذين يتقاضون أجرة عالية مقارنة مع الأجور في الضفة الغربية.
في هذا السياق، أطلقت الإدارة المدنية في آذار (مارس) 2018 مشروعاً جديداً (Door to door) لنقل البضائع من الضفة الغربية إلى إسرائيل بشكل مباشر، تحت ذريعة مساعدة رجال الأعمال الفلسطينيين، حيث يتم نقل البضائع بشاحنة واحدة من المصنع الفلسطيني إلى معبر البضائع الإسرائيلي (فيما يبدو استعداداً للتصدير أو في بعض المجالات المحدودة التي تستورد فيها بضائع فلسطينية للسوق الإسرائيلية)، على خلاف المشروع السابق (Back to Back)، حيث كانت تتم عملية النقل بجولتين[11].
وكوسيلة اتصال أخرى، وفي سياق مساعي الإدارة المدنية التواصل مع السكان الفلسطينيين، تم الإعلان في 20 كانون الأول (ديسمبر) 2018م، على “صفحة المنسق”، عن إطلاق البث الأول لراديو المنسق وسيلةً جديدة للتواصل عبر الإنترنت.
من ضمن الإعلانات التي تطلقها أدوات التواصل هذه مثلاً، الإعلان عن افتتاح ثلاثة مراكز لرفع المنع الأمني (الشمال، والوسط، والجنوب).
وأعلن في 30 كانون الأول (ديسمبر) من العام 2018م على صفحة المنسق وصول عدد متابعي الصفحة إلى (500,000) متابعة ومتابع من الفلسطينيين، رافقها التعبير عن غبطة وسعادة “المنسق” بعمل “هاشتاغ” على جدار الصفحة (#نصف_مليون_بيغلطوش)، وعززها برسائل موجهة.
يكفي استعراض صفحة الإدارة المدنية على الفيسبوك، لملاحظة سعي هذه الإدارة لنسبة أي تغير أو سياسية (خصوصاً ما قد يبدو أنه تغير إيجابي)، سواء في المجالات الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الطبية، أو حتى على مستوى الترفيه والحفلات الغنائية، لهذه الإدارة، أو ما بات يعرف على نحو واسع باسم (المنسق).
مواقف من سياسات الإدارة المدنية
اعتبر البنك الدولي السياسات الإسرائيلية، وهي سياسات الإدارة المدنية، أنها العامل الرئيس في تقويض فرص بناء اقتصاد فلسطيني تحول دون تطوره واستقراره[12]. أما مؤسسة بتسيلم الإسرائيلية، لحقوق الإنسان، فتقوم في مجمل تقاريرها برصد للانتهاكات والإجراءات التعسفية والبيروقراطية التي تقوم بها الإدارة المدنية، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتقييد حركة الفلسطينيين، ما يكبح جماح أي تطور أو نمو على الصعيد الاقتصادي، مؤكدة أن “القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وخارجها تفرض على الفلسطينيين العيش في انعدام يقين مستمر يصعّب عليهم تنفيذ أبسط المهام وتخطيط حياتهم، كما تحول دون إمكانية تطوير لاقتصاد متين”[13].
وشدد المجلسان، الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، على ضرورة الانسلاخ عن اتفاق باريس الاقتصادي والبدء بالانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية التي يحاول الاحتلال وعبر إجراءات الإدارة المدنية الناعمة والمتسللة، وذلك لتحقيق استقلال الاقتصاد الوطني، ورفض أشكال الهيمنة والابتزاز الأميركي، وقرار الحكومة الإسرائيلية باقتطاع مخصصات أسر الشهداء والأسرى والجرحى من المقاصة الفلسطينية في مخالفة فاضحة للقانون الدولي، وطلب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومؤسسات دولة فلسطين البدء في تنفيذ ذلك.[14]
واعتبرت الحكومة الفلسطينية في اجتماع مجلس وزرائها في جلسته يوم 15 آب (أغسطس) 2017، أن قرار توسعة نشاط وصلاحيات الإدارة المدنية هو تقويض لعمل السلطة الوطنية وترسيخ للاحتلال الذي يبسط سيطرته ونفوذه على الأرض. واعتبرت هذا القرار قفزاً عن كل الاتفاقات التي حددت مع الجانب الإسرائيلي عند تولي السلطة زمام إدارة الحكم الذاتي، ولذلك، طالبت الحكومة الجهات الراعية لعملية السلام بالتدخل ووقف سياسة الاحتلال الاستعماري، ومطالبة إسرائيل بالتخلي عن خطتها لمضاعفة عدد العاملين في “الإدارة المدنية”، كون ما تقوم به من سياسات التضييق والتواصل المباشر مع المواطنين ورجال الأعمال ما هو إلا “إلغاء إسرائيلي واضح لاتفاق أوسلو، وتخليها وتراجعها من طرف واحد عن الاتفاقيات الموقعة”، وأكدت الحكومة أنّ الإدارة المدنية هي “سلطة الاحتلال التي كان من المفترض حلها منذ سنوات حسب الاتفاقيات الموقعة[15].
وفي 3 كانون الثاني (يناير) 2019م، حذرت الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية، من “مغبة التعامل المباشر مع ما تسمى الإدارة المدنية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تديرها، خشية على الجمهور الفلسطيني ومؤسساته من الآثار المترتبة وحفاظاً على حقوقهم واحتياجاتهم”[16].
وكان صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير مباشراً، قال في حواره مع القناة الثانية العبرية في 20 شباط (فبراير) 2018م: “سأقول أموراً قد تغضب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أنا أعتقد أن الرئيس الحقيقي للشعب الفلسطيني هو وزير الجيش أفيغدور ليبرمان، أما رئيس الوزراء الفلسطيني فهو المنسق موردخاي”[17].
وفي وقت سابق، كان له تصريح مماثل عبر إذاعة صوت فلسطين في 25 كانون الثاني (يناير) 2016م، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أحيا الإدارة المدنية الإسرائيلية، وأن موردخاي “بات الرئيس الفعلي للشعب الفلسطيني”.[18]
وفي 16 كانون الأول (ديسمبر) 2018م، أكد محمد إشتية عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، خطورة مساعي الإدارة المدنية، مشدداً على أن ما تقوم به هو تقويض لسيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية[19].
خاتمة
عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولا سيما اليمينية منها، إلى اعتماد سياستها الإحلالية واستخدام سياسة العصا والجزرة من خلال الإدارة المدنية، التي تبسط سيطرتها على الأرض كحاكم فعلي على “المناطق المدارة” بدعم أميركي متصل بالمساعدات التي تستخدم كأداة ضغط على الفلسطينيين، ولا يمكن القفز عن حقيقة أن الإدارة المدنية كراعٍ حكومي، ومنذ نشأتها، ترسم حدود علاقة مع السكان الفلسطينيين للوصول لطرف فلسطيني يتبنى فكرة الحكم الذاتي الذي دأبت سياسة اليمين المتطرف على تبنيه.
إن مواقف المستوى القيادي والرسمي للسلطة ناجم من الإدراك الحقيقي والملموس على أرض الواقع لطبيعة وخطورة ما تقوم به الإدارة المدنية. وعلى صعيد آخر، تبدو الحاجة ماسة لإستراتيجية أكثر تفصيلاً ووضوحاً لمخطط الإدارة المدنية الاحتلالية الراهن.
[1] بني هذا التقرير على ورقة قدمها الباحث عوض مسحل ضمن برنامج تدريبي وبحثي في المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات).
[2] خطة لزيادة موظفي “الإدارة المدنية” في الضفة، وكالة أنباء معاً، 31/10/2018، (نقلاً عن يسرائيل هيوم)
[3] موقع الإدارة المدنية، وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (المنسق)، الصفحة الرئيسية (باللغة العربية).
[4] الموقع الرسمي “هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية”، باب من نحن،
[5] الإدارة المدنية الإسرائيلية: خلفية تاريخية، موقع البوابة، 22 نيسان/ إبريل،2002،
[6] موقع وحدة تنسيق أعمال الحكومة “المنسق”،
[7] شلومو غازيت، الطعم في المصيدة “السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة 1967-1997″، ترجمة عليان الهندي، (القدس: مؤسسة باب الواد للإعلام والصحافة، 2001)، ص45.
[8] موقع وحدة تنسيق أعمال الحكومة.
[9] الاقتصاد الفلسطيني:1967-1994 (باللغة العبرية – ترجة خلدون البرغوثي لأغراض هذا التقرير)، مؤسسة بتسيلم، 1 كانون الثاني (يناير)، 2011،ا استرجع بتاريخ 09/06/2019.
[10]الإدارة المدنية الإسرائيلية: خلفية تاريخية.
[11] الإدارة المدنية توسع مشروع Door to Door في محافظة الخليل، موقع المنسق،
[12] الاقتصاد الفلسطيني:1967-1994.
[13]مؤسسة بتسيلم، القيود على الحركة والتنقل، 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017
[14] قرارات الدورة السابعة والعشرين للمجلس المركزي التي عقدت بتاريخ 4-5 آذار 2015، وقرارات الدورة الثامنة والعشرين للمجلس المركزي التي عقدت بتاريخ 14-15 كانون الثاني 2018، وقرارات المجلس الوطني خلال جلسته التي عقدت خلال الفترة 30 نيسان إلى 3 أيار 2018.
[15] بيان صادر عن “مجلس الوزراء” الفلسطيني، الجلسة رقم (165)، الثلاثاء 13/06/2017.
[16] دعوة الشؤون المدنية لعدم التعامل مع “الإدارة المدنية”، وكالة معاً الإخبارية، 3 يناير (كانون الثاني) 2019،
[17] مقابلة صائب عريقات مع القناة الإسرائيلية الثانية، 20 شباط (فبراير) 2018، (على موقع يوتيوب: https://bit.ly/2D5NKrt)
[18] صائب عريقات، عبر إذاعة صوت فلسطين، من موقع شبكة راية الإعلامية، 25 كانون الثاني (يناير) 2016 https://bit.ly/2RCZQNO
[19] قيادي فتحاوي: إسرائيل تدفع بالإدارة المدنية بديلاً عن السلطة الفلسطينية، 16 كانون الأول (ديسمبر) 2018،https://bit.ly/2DS1wPZ
للتحميل اضغط هنا