محمد خلايلة[*]
توطئة تاريخية
قاد الصراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والمشروع الكولونيالي الاستيطاني الذي جسّدته الحركة الصهيونية، إلى نكبة الشعب الفلسطيني، الذي تحوّل بفعل الحرب من أغلبية إلى أقلية قومية، بعد أن تم طرد وتهجير زهاء 800 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين خارج وطنهم الأصل. وخلال هذه الحرب هُدم أكثر من 531 قرية وتجمعًا سكانيًا ناهيك عن إخلاء 11 حيًّا مدينيًّا خلال النكبة ما أدى إلى القضاء على المدينة الفلسطينية وهدم المراكز المدينية التي كانت تعج بالنخب والحراك الثقافي الاقتصادي وتم إفراغها من هوية سكانها الأصليين عبر تغيير المشهد الثقافي والرمزي فيها (بابه، 2006؛ كيمرلينغ وميغدال، 1990).
علاوة على ذلك فإن نكبة الشعب الفلسطيني أدت فيما أدت إليه إلى عزل الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم عن محيطهم العربي وفضائهم الثقافي، كما واعتبرت إسرائيل التواصل بين الفلسطينيين والمحيط العربي خطراً داهماً من شأنه أن يهدد وجودها (غانم ومصطفى، 2009). ومن الأهمية بمكان ذكره أنه بفعل النكبة تم تهجير قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية من البلاد إلى جانب النخبة السياسية، الفكرية، الثقافية والاقتصادية ولم يبق سوى أقلية ريفية تعيش في تجمعات سكانية قروية في الجليل، والمثلث والنقب (بشارة، 1996؛ توما، 1980؛ مناع، 2017). وقد تم وصف حالة الفلسطينيين الذين تحولوا إلى مواطنين في دولة إسرائيل بالشكل الذي بقوا عليه على أنهم مثل “الجسد دون الرأس” وذلك نتيجة أيضًا لإعاقة مسارات التطور والحداثة، وهدم المراكز المدينية، وتدمير المؤسسات والإرث الثقافي الفلسطيني وتهجير القيادة السياسيّة والنخبة الثقافية (غانم، 2015). لم تتوقف النكبة عند هذا الحد فقط بل إنها حدّت من إمكانيات التعليم العالي في العواصم العربية، التي كانت رائجة قبيل النكبة، وذلك بسبب الصراع بين الدول العربية والحركة الوطنية الفلسطينية من جهة وإسرائيل من الجهة الأخرى، وقد انخفض عدد الطلاب الفلسطينيين في الجامعات خارج البلاد من زهاء ال 1000 طالب وطالبة إلى أفراد (عرار وقصي حاج يحيى، 2016).
بقاء الفلسطينيين في إسرائيل لم يرق لأوساط سياسية عديدة فيها وعلى رأسهم مؤسس الدولة ورئيس حكومتها الأول دافيد بن غوريون الذي أراد تهجير البقية الباقية من الشعب الفلسطيني والحفاظ على دولة يهودية حصرية نقية من غير اليهود، وعلى هذا الأساس قام بن غوريون باعتبار العرب طابورًا خامسًا، وأعداء، وتعامل معهم وفق المنظار الأمني وذلك بفرض الحكم العسكري على التجمعات السكانية العربية (بويمل، 2007؛ رزين، 2010؛ كوهين، 2006).
تميزت الفترة الأولى بعد قيام الدولة، إبان الحكم العسكري، بأعداد الأكاديميين الضئيلة جدًا بسبب انهيار المؤسسات الثقافية العربية وانقطاع العرب عن محيطهم الثقافي الذي كان يؤمه المئات والآلاف من الفلسطينيين للدراسات العليا. كما وتميزت هذه الفترة بالأعداد الكبيرة من الأميين، الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، نظرًا لغياب المدارس والمؤسسات الثقافية ونسبة التسرب العالية في صفوف الطلاب بسبب الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية (بيلد وشافير، 2005).
وقد شهدت فترة الحكم العسكري الممتدة بين السنوات 1949- 1966 سياسات حكومية قمعية وغير ديمقراطية بحق الأقلية الفلسطينية التي بقيت في وطنها بعد النكبة في العام 1948 وتميزت بمرحلتين مركزيتين، حاولت من خلالها حكومات إسرائيل المتعاقبة السيطرة على الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل وإخضاعها وإجهاض أية محاولة للتنظيم السياسي على أساس قومي من خلال أنظمة الطوارئ، وتقييد التنظيم السياسي والحركة والتنقل، ومحاولة حصر الأقلية العربية في الحيز القروي، والحد من تطويره، إضافة لخنقه بمشاريع التهويد (مصطفى وغانم، 2014؛ مناع، 2008).
أما بعد جلاء الحكم العسكري في العام 1966 فقد زالت بعض التقييدات عن المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، بالمقابل شكل احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967 مقدمة لبداية فترة ما بعد الحكم العسكري. حيث كان لهذا الاحتلال انعكاسات على الفلسطينيين في إسرائيل، خصوصًا في مجال الهوية على خلفية اللقاء المتجدد بين الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر ما ساهم في تعميق المركب الفلسطيني في الهوية الجماعية للمجتمع العربي إضافة إلى خروج العديد من الطلاب للدراسة في الاتحاد السوفييتي ونشوء أحزاب سياسية جديدة على الساحة العربية في إسرائيل (الحاج، 1996; ريخس، 1993). كما وشهدت هذه الفترة تغييرًا ملحوظًا وتحسنًا بارزًا في الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية للأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل أدت إلى ظهور طبقة وسطى وبرجوازية وارتفاع في نسبة وأعداد الطلاب في المدارس وأعداد الطلاب الجامعيين (Haidar, 1990).
نشوء طبقة وسطى وارتفاع أعداد الطلاب الجامعيين كان بسبب نظام الابتعاث والمنح الدراسية التي أرسلها الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى الاتحاد السوفييتي ومعسكر الدول الاشتراكية آنذاك إضافة إلى وصول نسبة أكبر من الطلاب العرب إلى الجامعات الإسرائيلية. هذه التحولات قادت إلى تعميق الوعي الوطني في صفوف الفلسطينيين في إسرائيل وإلى بداية مرحلة تشكيل المؤسسات الوطنية التمثيلية، حيث شكلت سنوات السبعينات الأولى البذرة الأولى لنشوء شريحة من المتعلمين وتوسيع الطبقة الوسطى التي أعقبها إنشاء مؤسسات ذات طابع قومي أو قطري لتنظيم المجتمع الفلسطيني في إسرائيل مثل اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية عام 1974، والاتحاد القطري للطلاب الجامعيين العرب 1975 والاتحاد القطري للطلاب الثانويين العرب 1975، ولجنة الدفاع عن الأراضي العربية 1975، وجبهة الناصرة الديمقراطية، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في العام 1977 )أمارة، 2011; جمال، 2017(. شكلت هذه المؤسسات مرحلة جديدة في حياة المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، وقادت هذه التجربة التراكمية إلى مواجهة دامية بين الفلسطينيين في إسرائيل والدولة في 30 آذار من العام 1976، مما عرف بيوم الأرض على خلفية إعلان الإضراب العام نتيجة لاستمرار سياسة مصادرة الأراضي العربية (نخلة، 2011Ghanem, 2001 ;).
ارتفع عدد الطلاب الجامعيين والخريجين العرب الفلسطينيين كثيرًا بسبب البعثات الدراسية التي أرسلها الحزب الشيوعي في السبعينات والثمانينات إضافة إلى تحسن أداء جهاز التربية والتعليم العربي الذي أدى إلى اندماج أعداد كبيرة من الفلسطينيين في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية. علاوة على ذلك فقد فتحت جامعات المملكة الأردنية أبوابها للعرب الفلسطينيين بعد اتفاقية السلام التي وقعتها مع إسرائيل في العام 1994 وبلغ عدد الطلاب العرب من الداخل الفلسطيني في جامعات المملكة ذروته في أواخر التسعينات وبداية الألفين (عرار وقصي حاج يحيى، 2014). أدرك الفلسطينيون في إسرائيل، بعد توصل منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة رابين-بيرس في العام 1993 إلى توقيع اتفاقية أوسلو، بأنهم يعانون من التهميش المضاعف نظرًا لإبطال والغاء دورهم ومستقبلهم على المستويين الفلسطيني والإسرائيلي في الاتفاقيات الموقعة (الحاج، 2007). وقد ساهم هذا التهميش في التشديد على أهمية التعليم العالي لديهم كأداة للتمكين الذاتي وقد تمثل هذا التحول في بناء أكثر من 3000 مؤسسة وجمعية تعمل في شتى المجالات من أجل تمكين المجتمع العربي وحفاظًا على ثقافته وهويته الخاصة في أعقاب انهيار دولة الرفاه الاجتماعي التي عاشوا في ظلها، والمواجهة الدامية مع قوات الأمن الإسرائيلية في انتفاضة القدس والأقصى في العام 2000 التي راح ضحيتها 13 شابًا، والتمييز الحاد الذي عانت منه الأقلية العربية وسلطاتها المحلية في العام 2003 عند تسلم الليكود الحكم مجددًا بقيادة أريئيل شارون وتسلم بنيامين نتنياهو وزارة المالية (حيدر، 2010).
قادت هذه التحولات سويةً، أي ارتفاع أعداد الأكاديميين العرب في البلاد من جهة، واستفحال سياسات التمييز العنصري ضد المواطنين العرب كما برز في تقرير لجنة أور من العام 2003 من جهةٍ أخرى، إلى بلوغ الجهود الجماعية أوجها بعد صدور التصورات المستقبلية الصادرة عن الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل والتي أثارت غضب القيادات السياسية والأكاديمية في البلاد.
بناء عليه أدعي أن سياسات السيطرة الإسرائيلية، كما سأبين لاحقًا، هدفت بين جملة الأهداف المعلنة وغير المعلنة، إلى انتاج عرب خاضعين وهادئين وإنتاج نخبة سياسية أكاديمية واقتصادية تابعة، تم ذلك عبر مصادرة مواردهم المادية وعبر تدجين وعيهم السياسي وانتمائهم الوطني، إضافة إلى هندسة رأس مالهم البشري وتصميم رأس مالهم الاجتماعي. ظهرت هذه السياسات جليًا في تعامل السلطات الرسمية مع جهاز التربية والتعليم العربي كونه مسارًا محوريًا للتنشئة الاجتماعية والسياسية. وقد بين لنا هيلل كوهين في كتابه “عرب جيدون” (2006) كيف تعامل جهاز الأمن العام “الشاباك” مع التعليم العربي خصوصًا على مستوى التعيينات والمناهج الدراسية، حيث قام بتعيين مديري مدارس ومعلمين وفقًا لمواقفهم السياسية وليس وفقًا لقدراتهم وكفاءاتهم، كما وتم معاقبة معلمين عبر نقلهم إلى مدارس وبلدات بعيدة، وفصل آخرين بسبب ضلوعهم في العمل السياسي تارةً، ونظرًا لمواقفهم السياسية الوطنية تارةً أخرى، وليس بفعل مؤهلاتهم العلمية وكفاءاتهم المهنية، الأمر الذي أنتج أنظمة رقابة ذاتية وداخلية لمّا تنتهِ بعد.
علاوة على ذلك، استطاعت قلة قليلة من بين الفلسطينيين في الداخل اختراق مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية بسبب عنصرية الجهاز ومنطقه الإقصائي الذي ربط التعليم العالي بالواقع السياسي الراهن إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية السيئة التي لم تسمح لكثير من العرب بالالتحاق بالمؤسسات الأكاديمية. هذا وبالإضافة فقد كان جهاز التربية والتعليم العربي قليل الإنتاجية بسبب شح الميزانيات وعدم تبلور وعي جماهيري لأهمية التعليم العالي في ذلك الحين فقد سيطرت نفسية الهزيمة والصراع من أجل البقاء المادي على وعي الناس وسلوكياتهم. ومع ارتفاع أعداد الأكاديميين ونشوء طبقة وسطى وأحزاب سياسية صاغت الأقلية العربية مشروع تحدٍّ للهيمنة الصهيونية وحاولت بناء قاعدة مؤسساتية لتمكين المجتمع ومواجهة مشاريع الدولة اليهودية، إلا أن النجاحات الفردية الكبيرة لم ترتق إلى ولوجها في مشروع جماعي موحد يحقق الأهداف المرجوة والرؤية التي عبرت عنها مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التمثيلية في التصورات المستقبلية.
النظام الإسرائيلي وإنتاج عرب خاضعين
أبحاث ودراسات عديدة حاولت الخوض في ماهية وطبيعة النظام السياسي في إسرائيل (بشارة، 1998؛ جبارين، 2010؛ جمال، 2000؛ روحانا، 1998؛ سموحة، 2000؛ غانم، 2001؛ غانم ومصطفى، 2009؛ غانم ومصطفى، 2017؛ يفتحائيل وغانم، 2004). وصلت هذه الأبحاث إلى نتائج مختلفة بشأن طبيعة هذا النظام خصوصًا بما يتعلق بسياساته تجاه المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. في حين أن اسعد غانم، ونديم روحانا وأمل جمال يؤكدون على الجوهر الإثني-الإقصائي لإسرائيل ويصلون لنتيجة مفادها أنها دولة إثنية تحتكم إلى منطق إثني في إدارة سياساتها عبر تعزيز التفوق العرقي لمجموعة الأغلبية اليهودية ووسمها على أنها صاحبة السيادة بشكلٍ احتكاري على منظومة اتخاذ القرارات، بلورة السياسات وتوزيعة الموارد المادية (الميزانيات والأراضي بالأساس) كما أن الموارد الرمزية التي تتمثل في: العلم، والرموز، والنشيد الوطني والأعياد الرسمية تعكس الطابع اليهودي للدولة، ويعتبرون الإجراءات الديمقراطية مجرد غطاء لكسب شرعية داخلية وخارجية للتعويض عن سياساتها التمييزية والعنصرية تجاه الأقلية الأصلية. في حين أن سموحة ونويبرغ وآخرين ممن خاضوا في بحث النظام السياسي في إسرائيل اعتبروا أن هنالك قصورات عديدة في النظام السياسي الإسرائيلي تتمثل بالتمييز العنصري بحق مواطنيها العرب، وعدم وجود دستور يحدد أنظمة ومؤسسات الحكم ويحمي حقوق الأقليات، والارتباط بين الدين اليهودي ومنظومة التشريع في الدولة واستمرار الاحتلال والسيطرة على الشعب الفلسطيني في مناطق الـ67، إلا أنّه نظام ديمقراطي يمنح حق الانتخاب والترشح لكافة المواطنين، هنالك انتخابات دورية وتداول سلمي للسلطة، وهنالك فصل بين السلطات (التشريعية، التنفيذية والقضائية) واستقلالية نسبية لكل منها، إضافة إلى حقوق فردية لكافة المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية.
كما ويرى بيلد وشفير (2000؛ 2005) أن إسرائيل هي بمثابة “نظام سياسي مدمج” يقوم على دمج مبادئ ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية في آن. بناءً عليه، فبالرغم من وجود إجراءات ديمقراطية وملامح ليبرالية في إسرائيل إلا أنها خاضعة للاعتبارات الإثنية في غالبية المناحي الحياتية وتسعى جاهدة في تثبيت واقع التفوق اليهودي في كافة المستويات خصوصًا بما يتعلق بالاقتصاد، والتعليم، والموارد وسوق العمل (Jamal, 2011). وهذه الاعتبارات تقود إلى إقصاء العربي الفلسطيني وتهميشه في كافة المحافل والأصعدة: السياسية، والقانونية، والاقتصادية والاجتماعية. وتضع الأغلبية اليهودية في مركز عملية صناعة القرار وعلى رأس سلم أولويات الحكومات المتعاقبة(Ghanem, 2001) . بناءً على ما تقدم أدعي أن التمييز، والإقصاء والتهميش بحق المواطنين العرب الفلسطينيين هي صفة ملازمة ومركب بنيوي متأصل في طبيعة النظام السياسي في إسرائيل لكونه نظاماً إثنوقراطياً خصوصاً فيما يتعلق بتوزيع الميزانيات وسياسات الأراضي والتخطيط (يفتحائيل وغانم، 2004).
سياسات هندسة الثروة البشرية في صفوف العرب الفلسطينيين
بناءً على ما تقدم والمنطق الإثني- الإقصائي للنظام السياسي نصل إلى نتيجة بأن السياسات الإسرائيلية ارتكزت منذ بداياتها على ضبط سيرورة نمو المجتمع الفلسطيني في إسرائيل وتحديد آفاق ومسارات تطوره على المستوى السياسي، والاجتماعي والاقتصادي (بشارة، 2002). هدفت هذه السياسات إلى إخضاع المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل وإحكام السيطرة عليه للحد من إمكانية تبلور حراك احتجاجي وإقامة أطر وتنظيمات سياسية على أساس قومي تتحدى يهودية الدولة وتهدد هيمنتها (نخلة، 2011). كما ودأبت السياسات الإسرائيلية على إهمال المرافق الخدماتية والتطويرية الخاصة بالمجتمع العربي كالمؤسسات التربوية، والمرافق الصحية، والمؤسسات الجماهيرية والبنى التحتية وذلك بهدف تكريس دونية المواطنين العرب وتقوية تبعيتهم لمؤسسات الدولة والأغلبية اليهودية (الحاج وروزنفيلد، 1990). بالإضافة إلى ذلك منعت الدولة إمكانية تطور اقتصاد عربي مستقل وأبقت عليه خاضعًا وتابعًا للسوق الإسرائيلية عبر نظام التصاريح الذي ميز العقود الأولى لقيام الدولة (بويمل، 2007). بالرغم من التطور الجزئي الحاصل فإن سياسات التهميش والإهمال ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا وتتمثل في افتقار جل البلدات العربية للمناطق الصناعية وغياب المبادرات الاقتصادية والتصنيع عنها، مما يؤثر أيضًا على مدخولاتها الذاتية ويكرس أزمتها المالية ويضعف مستواها الخدماتي ويزيد من ارتباطها بالمؤسسات الرسمية ويعزز من تبعيتها للوزارات الحكومية (التاجي، 2008؛ حاج، 2013).
ومن نافل القول بأن سياسات السيطرة الإسرائيلية شملت أيضًا قضية الاحتواء والاستيعاب كي تضعف حركة الاحتجاج المناوئة لحكوماتها المتعاقبة (Lustick, 1980). حيث أنها قامت باستيعاب القيادات التقليدية داخل الأحزاب السياسية من أجل الحصول على شرعية داخل البلدات العربية وخلق قوى تناهض التيار الوطني وتحد من إمكانيات توسعه (بويمل، 2007). علاوة على ذلك فقد قامت أيضًا باحتواء النخب الناشئة والمتعلمة عبر تحديد سياسات القبول لمؤسسات التعليم العالي، نظام التعيينات في سلك خدمات الدولة عمومًا وفي جهاز التربية والتعليم العربي على وجه الخصوص واتبعت نهجًا واضحًا يهدف إلى تقوية التيار المهادن والمتعاون وإقصاء التيارات السياسية المناوئة بهدف إضعاف الحراك السياسي الاحتجاجي، وتصميم وعي المجتمع العربي وفقًا لمصالح الدولة وايديولوجيتها الرسمية وبالتالي إنتاج عرب خاضعين وهادئين (لوستيك، 1980).
إن سياسات الدولة العبرية عمدت إلى تعميق السيطرة على جهاز التعليم العربي وضبط تطوره وفقا لعقيدة الدولة الأمنية وايديولوجيتها الصهيونية (أبو سعد، 2010؛ الحاج، 1996؛ كوهين، 2006). قامت هذه السياسة أيضًا على الاستثمار في جهاز التربية والتعليم اليهودي أضعاف ما استثمرته في جهاز التعليم العربي (أبو عصبة وعرار، 2010). وتظهر الفوارق في الميزانيات التي تخصصها الدولة وفي البنية التحتية من حيث معدلات أعداد الطلاب في المدرسة، ومعدل عدد الطلاب في الصف الواحد، والنقص في الصروح التربوية، والغرف الدراسية، وعدد الساعات المخصصة للطالب أسبوعيًا والمرافق العلمية والخدماتية المتطورة، حيث إن جهاز التربية والتعليم العربي يعاني من الاكتظاظ بسبب أعداد الطلاب المرتفعة، ونقص حاد في الغرف الدراسية وفي ساعات التعليم (اغبارية وجبارين، 2010). وقد بينت تقارير رسمية صادرة عن باحثين إسرائيليين وعن مؤسسات رسمية في إسرائيل أن هذه الفوارق ما زالت حاضرة وآخذة بالاتساع في بعض المعايير، خصوصًا بعد شمل الميزانيات التي تخصصها السلطات المحلية لكون السلطات المحلية العربية تعاني من أزمة مالية وواقعة في أدنى درجات السلم الاقتصادي-الاجتماعي والدعم الذي يخصصه الأهالي، لأن أكثر من نصف العائلات العربية تقبع تحت خط الفقر (أبو حبلة، 2012؛ جبارين ومصطفى، 2013؛ سيكوي وانجاز، 2014). ومن الأهمية بمكان ذكره أن هنالك أبحاثاً كثيرة تشير إلى وجود علاقة طردية بين حجم الاستثمار في العملية التربوية ومخرجات السيرورة، بمعنى أن حجم الميزانيات المخصص يؤثر على التحصيل العلمي للطلاب وعلى نوعيته. نتيجة لهذه السياسات هنالك تمثيل ضئيل للمواطنين العرب في الجامعات في البلاد في الألقاب المختلفة: الأول، والثاني والثالث وأيضًا على مستوى الهيئات الإدارية والأكاديمية في مؤسسات التعليم العالي في البلاد (زعاترة وخلايلة، 2013؛ دراسات، 2010؛ علي، 2013). بفعل هذه السياسات الرسمية- القانونية والممارسات المؤسساتية المتأصلة في البنية الثقافية والذهنية للمجتمع الإسرائيلي بقي المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل أكثر فقرًا، وأقل تعليماً ويتبوأ الدرجات الدنيا في سوق العمل الإسرائيلي (شفير، 2017).
اعتبر فوكوياما (2015) بأن النمو الاقتصادي يؤدي إلى إنتاج طبقة وسطى اقتصاديًا واجتماعيًا تتمتع بحقوق الملكية وتتميز بمستويات علمية عالية من حيث الشهادات العلمية والقدرات والكفاءات المهنية تساهم بدورها في تشكيل مجتمع مدني. وهذا الأمر لا ينحصر في تقدم اقتصادي واجتماعي بل يطال الجوانب السياسية والجماهيرية حيث أن بلورة طبقة وسطى ذات رأس مال بشري غني تزيد من التداخل في الشأن العام وتحث المواطنين على المشاركة السياسية الديمقراطية بُغية التأثير على الحيز العام (الصباغ، 2011).
كما ويعتبر بشارة (2015) أن نشوء طبقة وسطى متعلمة يساهم في إتمام عملية تحديث وعصرنة المجتمع وتجذر المفاهيم والقيم الديمقراطية. بمعنى أنه كلما ارتفعت مستويات التعليم تتوفر لدى المواطنين القدرة على المشاركة السياسية والتأثير على الشأن العام. كما بين مؤشر التنمية البشرية بأن الدول الأكثر ديمقراطية في العالم هي تلك التي ينتشر فيها التعليم ويحظى باهتمام وعناية بالغين.
كما أن الثروة البشرية[1] للمجتمعات عمومًا وللأقليات القومية تحديدًا، هي مؤشر على قوة هذه المجموعة وحجم تأثيرها الاقتصادي والسياسي وتنضم لجملة من العوامل والمميزات التي تدل على قوة مجموعة الأقلية والتي وردت في أبحاث سابقة كالقيادة السياسية، ومستوى التنظيم والمؤسسة، ووزنها الكمي من إجمالي المواطنين، والتواصل الجغرافي بين التجمعات السكانية التي يقطنون بها، ومدى تجانس المجموعة وعوامل أخرى كثيرة لا مجال للخوض بها (جمال، 2017).
في معرض مقالي هذا أدّعي أن إسرائيل عملت على هندسة الديمغرافيا، والجغرافيا (الحيز) وهندسة رأس المال البشري للفلسطينيين في إسرائيل عبر سيرورة ممنهجة، تم التخطيط لها، لم تكن اعتباطية ونتيجة حتمية لتعاملها مع المجتمع العربي الفلسطيني في شتى المجالات والأصعدة. أدعي أيضًا أن هذه السياسة كانت وليدة للمنظار الأمني الذي يرى بالعرب عدوًا، وخطرًا ديمغرافيًا وطابورًا خامسًا يهدد وجود الدولة ويهدد طابعها وجوهرها اليهودي. مقابل هذه السياسات الممنهجة طور المجتمع الفلسطيني أدوات لمقاومة هذا الواقع ارتكزت بالأساس على انخراط الجيل الشاب في مؤسسات التعليم العالي في البلاد وخارجها.
وقد لعبت الحركة الطلابية العربية في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية تاريخيًا، دورًا بارزًا على المستوى الوطني والهوياتي حيث قامت بتنظيم الطلاب على أساس وطني عبر تعزيز الانتماء القومي العربي والوطني الفلسطيني وبث روح المسؤولية الاجتماعية. كما وكان لها دور أساسي على مستوى التنشئة الاجتماعية، كونها جمعت أعدادًا كبيرة من الطلاب الذين يأتونها من خلفيات اجتماعية متفاوتة (دينيًا، ومناطقيًا، وطبقيًا، وحزبيًا وجندريًا)، لم يسبق لهم أن التقوا في الماضي، وكانت بوتقة صهر وإطارًا للعمل الجماعي أمام مؤسسات التعليم العالي التي تميز ضد الطلاب العرب وتعمل على تهميشهم ومحو ثقافتهم (مصطفى، 2002). تراجع الحركة الطلابية في العقدين الأخيرين هو أحد العوامل التي من شأنها أن تفسر الأزمة التي يمر بها المجتمع العربي ككل. بما معناه أن هنالك ارتفاعاً بارزاً في رأس المال البشري والثقافي للأفراد من حيث أعداد الخريجين وتنوع اختصاصاتهم من جهة وتراجع رأس المال الاجتماعي على المستوى الجمعي من حيث المكانة السياسية، والاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى. بكلمات أخرى التحول الكمي من حيث أعداد الأكاديميين لم يرتق إلى أن يتحول إلى تغيير نوعي في ظروف وشروط حياة المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني.
أدعي أيضًا أن خيار العرب الفلسطينيين في إسرائيل بالانخراط في مؤسسات التعليم العالي في الجامعات داخل البلاد وخارجها ضمن الإمكانيات والخيارات الراهنة، لم يكن وليد تطور ديمغرافي فحسب، ولا يمكن حصره واقتصاره على أنه اداة للحراك الاجتماعي- الاقتصادي في دولة إثنوقراطية ترتكز على الهيمنة لمجموعة الأغلبية اليهودية وإنما يجب أن ننظر له على أنه مدخل لتحرير شخصية الفلسطيني من الارتهان والخضوع لسياسات الإقصاء، والتهميش، والتدجين والسيطرة، وتحريرها من عدم قدرتها على الفعل عبر تطوير اليات لتمكين المجتمع تمر عبر التعليم العال%