ترجمة وتحرير: يسار أبو خشوم
مستقبل المحكمة الجنائيّة الدوليّة يتقرّر أيضا في فلسطين
Le futur de la Cour pénale internationale se joue aussi en Palestine
جريدة لوموند الفرنسيّة
بقلم يوهان صوفي، محامٍ ومدّعٍ عام أمام المحاكم الجنائيّة الدوليّة، وهو يحقق حاليّا في جرائم الحرب في أوكرانيا بصفته مدّعيا دوليّا
٢١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٣
للحفاظ على مصداقيّتها أمام دول الجنوب العالمي، ينبغي على المحكمة الجنائيّة الدوليّة أن تجعل فلسطين أولويّة في سياستها الجنائيّة، على غرار ما فعلت مع أوكرانيا، حسب ما يرى المحامي والمدّعي العام الدولي يوهان صوفي، في مقال نشره في “لوموند”.
لم يمض سوى ربع قرن منذ تبنّي الوضع القانوني الذي أسّس للمحكمة الجنائيّة الدوليّة بدعم من العديد من الدول ومنظّمات غير حكوميّة، على الرغم من معارضة بعض القوى العظمى، وخاصّة الولايات المتحدة.
يمثّل إنشاء أوّل محكمة جنائيّة دوليّة دائمة ذات طابع عام، والتي تضمّ الآن 123 دولة عضوا، نقطة تحوّل لا يمكن إنكارها في التاريخ الحديث. إذ يشهد ذلك على الرغبة العميقة للعديد من أعضاء المجتمع الدوليّ في التخلّص من متغيّرات السياسة الواقعيّة وتفوّق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الحوكمة العالميّة.
منذ أن بدأت عمليّاتها في عام 2002، واجهت المحكمة الجنائيّة الدوليّة عديد الانتقادات بشأن عدم فعاليّتها وعجزها عن محاكمة الجناة الرئيسيّين للجرائم الدوليّة. ومع خمسة أحكام فقط في عقدين من النشاط، استهدفت كلّها مسؤولين إفريقيّين من المستوى المتوسط، تقدّم المحكمة نتائج متباينة على الأقلّ.
قرار تاريخي
في هذا السياق، تمثّل الأوضاع في أوكرانيا تغييرا حقيقيّا في النموذج الأساسي. بعد أيّام قليلة فقط من العدوان الروسي في 24 شباط/فبراير 2022، أعلن المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، كريم خان، عزمه الإسراع في إجراء التحقيقات ومتابعة الجرائم التي ارتكبت في أوكرانيا.
في 17آذار/ مارس 2023، وبعد أقلّ من عام من بداية تحقيقاتها، أصدرت المحكمة، بناءً على طلب المدّعي العام، مذكّرة اعتقال ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومفوّضة حقوق الطفل لديه، ماريا ليوفا-بيلوفا، لدورهما المزعوم في ترحيل ونقل أطفال أوكرانيّين إلى روسيا بالقوّة. تظهر هذه المبادرة الشجاعة قدرة المحكمة على مواجهة الأقوياء، بما في ذلك رئيس دولة نوويّة وعضو دائم في مجلس الأمن، عندما تكون لديها الإرادة والوسائل.
ومع ذلك، تمّ تلقّي هذا القرار التاريخي بشكل متشكّك في العديد من دول الجنوب العالمي. ومع التأكيد على تقاعس المحكمة أمام الجرائم التي ارتكبت في العراق وأفغانستان وفلسطين، يرى الكثيرون فيها مظهرا جديدا من تحيّز سياستها الجنائيّة وتوجّهها المفتوح للمصالح الاستراتيجيّة الغربيّة.
لهؤلاء المنتقدين، ينبغي التذكير بأنّ المحكمة الجنائيّة الدوليّة ليس لديها الولاية أو الوسائل للتحقيق في كافّة الجرائم التي قد تكون ضمن نطاق اختصاصها، وأنّ حجم الجرائم في أوكرانيا يبرّر بلا شك جعلها واحدة من أولويّات تحقيقاتها. ولكن هذا لا يعني أنّه يجب تجاهل هذه الانتقادات، حيث ترتكز على بعض الحقائق الواقعيّة التي، حتى وإن كانت جزءا من الصلاحيّة التقديرية للمدعي العام للمحكمة، تثير أسئلة مشروعة.
وسائل غير كافية
تقييم الحالة الذي أحيل إلى المحكمة من قبل الحكومة الفلسطينيّة في أيّار/ مايو ٢٠١٨ هو مثال حيّ على ذلك. فبينما زار المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة أوكرانيا أربع مرات خلال عام واحد، وافتتح مكتبا في كييف وأرسل إلى البلاد أكبر فريق تم نشره على الأرض من قبل المحكمة، لم يقم بزيارة إسرائيل أو فلسطين، وليس لديه نيّة فتح مكتب في الشرق الأوسط ويخصّص وسائل بشرية وماليّة غير كافية ولا تبعث الأمل في تقدّم ملحوظ فيما يخصّ تحقيقات المحكمة في فلسطين.
ومن الناحية الفعليّة، فإنّ الوضعين يشتابهان في عدّة جوانب، ففي كلتا الحالتين، دولة غير طرف في اتفاقيّة روما تضمّ أراض من دولة أخرى، بل يصل الأمر إلى إنكار وجودها. وإذا كان حجم الجرائم غير قابل للمقارنة، فإنّ المدنيّين، في أوكرانيا كما في فلسطين، يدفعون ثمن مقاومتهم للاحتلال غير القانوني.
من الناحية القانونيّة والإثباتيّة، لدى المدّعي العام للمحكمة عناصر مهمّة لجعل فلسطين أولويّة أخرى في سياسته الجنائية؛ إذ أنّ طبيعة وحجم الجرائم التي ارتكبتها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، والتي تم توثيقها على نطاق واسع من قبل الأمم المتّحدة والمنظّمات غير الحكوميّة المعترف بها، تلبّي بلا شك المعيار المطلوب من اتفاقيّة روما.
كما أنّ القضاء الإسرائيلي، الذي تمّ إضعافه بشكل كبير بفعل التعديلات الإصلاحيّة لحكومة نتنياهو، لم يظهر قط قدرته أو رغبته في التحقيق في الجرائم الدوليّة التي تعرض لها الفلسطينيّون.
ضغوطات كبيرة
ما هو أسوأ يتجلّى الآن في أنّ هذه الجرائم أصبحت جزءا من استراتيجيّة تمّ الإعلان عنها من قبل الحكومة الإسرائيليّة دون أن تثير ردود فعل أكثر من احتجاجات روتينيّة من السفارات الغربيّة. في ظل غياب أيّ أفق لحلّ سياسي، المحكمة الجنائية الدولية هي الوحيدة التي تستطيع اليوم أن تقدّم أملا في تحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين.
لتعزيز شرعيتّها وتأثيرها على المدى الطويل، ينبغي على المحكمة الجنائيّة الدوليّة تسريع تحقيقاتها في فلسطين. ستواجه هذه الخطوة بلا شكّ ضغوطات كبيرة، وربما عقوبات، من قبل جهات نافذة. ولكن المحكمة أثبتت في أوكرانيا أنّها، بالشجاعة والإرادة اللازمتين، يمكنها التغلّب على ذلك ولعب دورا مركزيا في الكفاح ضد الإفلات من العقاب وملاحقة المسؤولين الرئيسيين عن الجرائم الدوليّة، حتى عندما يقودون قوى عظمى.
عليها الآن أن تظهر نفس العزم في مناطق أخرى من العالم، وإلا فإن مصداقيّتها قد تتأثّر بشكل عميق ودائم. لجميع هذه الأسباب، يتوقّف مستقبل المحكمة الجنائيّة الدوليّة والعدالة الجنائيّة الدوليّة أيضا على فلسطين.