ترجمة وتحرير: يسار أبو خشوم
ماذا لو أُقيمت إسرائيل في الصين؟
What if Israel Had Been in China?
مجلة فورين بوليسي الأمريكية
بقلم هاري ساوندرز، مؤرّخ من جامعة برينستون، مكث عاما في مقاطعة يونان الصينية.
2 حزيران/ يونيو 2024
في هذا المقال المطوّل، يستعرض الكاتب الجهود التاريخية لبعض القادة الصينيين والأمريكيين لإنشاء وطن يهودي في مقاطعة يونان الصينية خلال الثلاثينيات من القرن المنصرم، كنموذج لحل مشكلة اضطهاد اليهود في أوروبا. ويربط المقال بين هذه المحاولة والحرب الإسرائيلية على غزة، مبرزا كيفية تأثير السياسة العالمية على تحركات الدول الكبرى، وموضحا كيف يمكن للصين، كقوة عظمى ناشئة، أن تستفيد من دروس التاريخ في التعامل مع الصراعات الحديثة وتعزيز مكانتها الدولية. فيما يلي ترجمة تلخيصيّة للمقال:
في 7 أذار/ مارس 1939، قدم سون كي، أحد أعلى المسؤولين التشريعيين في الصين، تقريرا إلى مكتب الشؤون المدنية الحكومي، يقترح فيه إقامة وطن لليهود في الصين. جاءت هذه الفكرة بعد سنوات من البحث عن حلول لمشكلة اضطهاد اليهود في أوروبا، وخاصة في ظل تهديدات الإبادة النازية. كتب سون كي في تقريره: “يعاني هؤلاء الناس من كونهم بلا وطن، ولأكثر من 2600 سنة تنقّلوا دون مأوى”. كان الهدف هو تقديم ملاذ آمن لليهود المضطهدين بعيدا عن الصراع المتصاعد في فلسطين والذي تسبب في معارضة شديدة من العرب هناك.
بدأت الفكرة تتبلور عندما كتب طبيب الأسنان من بروكلين، موريس ويليام، رسالة إلى ألبرت أينشتاين في كانون الثاني/ يناير 1934، يعرض فيها فكرة إعادة توطين اليهود في الصين. اقترح ويليام أن تكون الصين هي الأمل الكبير لضحايا هتلر. ورد أينشتاين قائلا: “خطتك تبدو لي واعدة وعقلانية ويجب متابعة تحقيقها بحماس. الشعبان الصيني واليهودي، على الرغم من أي اختلافات ظاهرة في تقاليدهما، يشتركان في شيء واحد: كلاهما يمتلكان عقلية ناتجة عن ثقافات تعود إلى العصور القديمة”. كانت هذه الفكرة جزءا من محاولات طويلة الأمد للبحث عن وطن لليهود خارج فلسطين. تاريخيا، كانت هناك محاولات عديدة لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك خطة أوغندا في عام 1903، لكنها لم تحقق النجاح المطلوب، ولكن اقتراح ويليام كان فريدا من نوعه لأنه استهدف الصين التي كانت في طور التحول إلى دولة حديثة.
على الرغم من دعم بعض الشخصيات الأمريكية البارزة، لم تكن الحكومة الصينية متقبلة للفكرة بالقدر ذاته. كانت الصين تسعى آنذاك إلى تعزيز علاقاتها مع ألمانيا النازية التي كانت تقدم لها دعما عسكريا واقتصاديا. لذلك، كانت فكرة استقبال اللاجئين اليهود أمرا قد يثير غضب الألمان. ومع ذلك، ومع تزايد الضغوطات العسكرية اليابانية على الصين، بدأت الحكومة الصينية في إعادة النظر في فكرة ويليام. في كانون الثاني/ يناير 1939، وبعد سلسلة من الهزائم العسكرية أمام اليابان، أصبحت فكرة إقامة مستوطنة يهودية في مقاطعة يونان، بعيدا عن المناطق المأهولة، أكثر جاذبية، وشرعت الحكومة الصينية في البحث عن أي وسيلة ممكنة لجذب الدعم الدولي، وخاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا. كان منطق سون كي بسيطا: إذا قدمت الصين ملاذا لليهود المضطهدين، فإن اليهود في الولايات المتحدة وبريطانيا قد يضغطون على حكوماتهم لتقديم الدعم العسكري للصين ضد اليابان.
في مارس 1939، وافق الكومينتانغ (حزب سياسي صيني تأسس في عام 1912، قادته أهداف قومية وحدوية، وانتقل لاحقا إلى تايوان بعد هزيمته في الحرب الأهلية أمام الشيوعيين في عام 1949) على اقتراح سون كي وبدأ في الترويج له في الصحافة الصينية والأمريكية. لم يكن لديهم خطة تنفيذ واضحة، ولكنهم رأوا أن مجرد إعلان الدعم يمكن أن يكون كافيا لكسب تعاطف الأمريكيين. عندما علم ويليام باقتراح سون كي، انطلق إلى العمل. لم يعطه زملاؤه في الولايات المتحدة سوى تعليقات إيجابية، ومع تأييد الكومينتانغ، بدا أن فكرته قد تبصر النور أخيرا. ولكن عندما بدأ ويليام في طلب المال من الحكومة، بدت الأمور مختلفة.
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 1940، وكشف استطلاعات الرأي عن تركيز الناخبين على القضايا الداخلية، اتخذت إدارة روزفلت سياسة خارجية مناهضة للهجرة. على الرغم من ضم هتلر للنمسا في آذار/ مارس 1938 وارتفاع عدد طلبات اللجوء، حافظت وزارة الخارجية الأمريكية على حصتها السنوية المحددة بـ 27730 تأشيرة للألمان. بحلول حزيران/ يونيو 1939، تجاوز عدد طلبات اللجوء المتراكمة 300000 طلب. في ذلك الشهر، اقتربت السفينة “سانت لويس”، التي كانت تقل 937 لاجئا يهوديا من هامبورغ، من ميناء ميامي، إلا أن ضباط الهجرة الأمريكيين رفضوا دخولها، مما أجبر السفينة على العودة إلى أوروبا، حيث لقي مئات من ركابها حتفهم لاحقا في المحرقة.
في هذا السياق القومي، عقد ويليام اجتماعات مع مسؤولي وزارة الخارجية في آب/ أغسطس 1939، وأحالوه إلى لجنة تقدم المشورة للرئيس روزفلت بشأن شؤون اللاجئين، لكن لا توجد سجلات لأي اجتماعات أخرى. وشكّل عجز الحكومة الأمريكية عن تقديم التمويل ضربة قاضية لمشروع نقل 100000 لاجئ من وسط أوروبا إلى الصين.
لم تتضح الظروف الدقيقة التي تخلت فيها حكومة الكومينتانغ عن المشروع. ويظهر أرشيف عام 1939 نقاشا حادا حول خطط الاستيطان في مقاطعة يونان، ومؤتمرات صحفية في شنغهاي، وتقارير من تشونغتشينغ، واجتماعات في واشنطن، تخللتها اعتراضات وتقييمات وردود. وبحلول عام 1940، تلاشت كل هذه النقاشات تماما.
في النهاية، كان هجوم بيرل هاربر، وليس تعاطف اليهود البارزين، هو الذي دفع الولايات المتحدة وبريطانيا لدعم الصين. هزم الهجوم المضاد المدعوم من الحلفاء اليابان، لكنه ترك الكومينتانغ مستنزفا بشدة. استغل الحزب الشيوعي الصيني هذا الضعف لإعادة إطلاق حملته الخاصة للسيطرة على البلاد. في عام 1949، أسس ماو تسي تونغ حكومة جديدة في بكين بينما فر سون كي ورفاقه إلى تايوان.
لا يوجد شيء يجمع الحزب الشيوعي الصيني اليوم والكومينتانغ في الثلاثينيات، إذ يمكن للزعيم الصيني شي جين بينغ أن يقتبس من ماركس ولينين الاف المرات قبل أن يعترف حتى بأدنى قدر من الدَين الفكري للكومينتانغ. ومع ذلك، فإن نهج بكين تجاه حرب إسرائيل وحماس، مع إيمانها القوي بقوة الرسائل السياسية، سيكون مألوفا جدا لسون كي وزملائه. فعندما شرعت إسرائيل بغزو غزة، أعلن وزير الخارجية الصيني وانغ يي أن الصين ستدعم على الدوام “التطلعات المشروعة للعالم العربي والإسلامي”. بعد أن شنت إيران سلسلة من الهجمات ضد إسرائيل في نيسان/ أبريل، ردد وانغ الرواية الإيرانية، ووصف الضربات بأنها عمل دفاعي. لم تصف تصريحات بكين حماس بالجماعة إرهابية، وهو إغفال من المؤكد أنه سيؤثر على علاقة التجارة التي كانت تتنامى بين الصين وإسرائيل. ومع ذلك، يحاول الدبلوماسيون الصينيون خلف الأبواب المغلقة إقناع نظرائهم الإسرائيليين بأن هذه التصريحات مجرد حديث ولا تعكس عداء فعلي من الصين تجاه إسرائيل.
إذا بدا رد الصين على حرب إسرائيل وحماس سلبيا أو غير متماسك أو غير مدروس، ينبغي أن نتذكر قلة خبرة بكين في التعامل مع التعقيدات السياسية للصهيونية. عبر التاريخ، نادرا ما اتخذت الصين موقفا واضحا بشأن قضية الدولة اليهودية. عندما حاولت الصين إنشاء مستوطنة يهودية في عام 1939، كانت تعتقد أن ولاء واشنطن للشعب اليهودي حقيقة ثابتة يمكن استغلالها. لكن هذا الرهان استند إلى فهم غير دقيق للسياسة الأمريكية، مما أدى إلى إهدار وقت وجهود ثمينة دون تحقيق النتائج المرجوة. هذا الفهم الخاطئ للعوامل السياسية والدبلوماسية جعل الصين تدرك لاحقا أن استراتيجياتها كانت غير واقعية في مواجهة التعقيدات الدولية.
في سياق محاولات الصين الحالية لإبراز نفسها كقوة عظمى بديلة، يمكن أن تكون تكلفة سوء فهم سياسات الصهيونية باهظة بشكل أكبر، إذ بات العالم اليوم أكثر تعقيدا وتداخلا، حيث تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية بشكل لا يسمح بالاعتماد على فرضيات غير مدروسة. تعكس تجربة محاولة إنشاء مستوطنة يهودية في الصين كيف يمكن للأفكار الجريئة أن تنشأ في أوقات الأزمات، ولكنها تظهر أيضا كيف يمكن للتحديات السياسية والاقتصادية أن تعرقل تحقيق حتى أكثر الخطط طموحا ونبلا. اليوم، تسعى الصين لفهم أعمق للتعقيدات الجيوسياسية والعمل بذكاء في دبلوماسيتها لتجنب الأخطاء السابقة. لذلك، عندما نتناول سياسات الصين تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يجب أن نضع في اعتبارنا تاريخها وتجاربها السابقة، وتتيح لنا هذه النظرة التاريخية فهما أعمق لأسباب تحركاتها الحالية وكيف يمكن أن تؤثر على دورها المستقبلي في السياسة العالمية.
للتحميل اضغط هنا