ترجمة وتحرير: يسار أبو خشوم 

Why Realists Oppose the War in Gaza

 

(مجلّة فورين بوليسي الأمريكية)

 بقلم ستيفن والت، كاتب عامود في فورين بوليسي ومدرّس للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد

21 أيار/ مايو 2024

المنظّرون الواقعيّون في السياسة الدوليّة هم أولئك الذين يرون العالم فوضويّا لا تحكمه سلطة مركزيّة، تسعى فيه الدول إلى البقاء من خلال تعظيم قوّتها النسبيّة والسعي الدائم خلف مصالحها. وهناك اعتقاد سائد بأنّ هؤلاء الواقعيّون لا يعطون اعتبارا للأخلاق في ممارسة الدول لسياساتها. في هذا المقال، يحاول المنظّر الواقعي الأمريكي، ستيفن والت، دحض وتصحيح هذا الانطباع بتقديم جملة من الحجج في سياق الحرب الإسرائيلية الأمريكية على غزّة. فيما يلي الترجمة الكاملة للمقال:

للوهلة الأولى، قد تعتقد أن الواقعيين في السياسة الخارجية لا يهتمون بما تفعله إسرائيل في غزة. نعم، ما يحصل هو كارثة إنسانية وربما إبادة جماعية، ولكن هل السلوك الوحشي نادر في سياق السياسة الدولية؟ أليس الواقعيون هم أول من يشير إلى أنه في عالم بلا سلطة مركزية، ستتخذ الحكومات إجراءات قاسية إذا اعتقدت أنها ستستفيد ولا يوجد من يمنعها؟ انظر كيف ردت الولايات المتحدة بعد بيرل هاربر أو بعد الحادي عشر من سبتمبر، كيف تتصرف روسيا في أوكرانيا، أو كيف تتصرف القوات المتنازعة في السودان، وستفهم ما أعنيه.

ومع ذلك، فإن الواقعيين البارزين في السياسة الخارجية – بما في ذلك تشاس فريمان، وجون ميرشايمر، وشخصي المتواضع – كانوا ينتقدون بشدة تصرفات إسرائيل في غزة ودعم إدارة بايدن لذلك. أليس من الغريب أن يتحدث مناصرو النهج الصارم وغير العاطفي في السياسة العالمية فجأة عن الأخلاق؟

لا.

تنشأ بعض الالتباسات من سوء فهم شائع حول الواقعية؛ وهو أن مؤيديها يعتقدون أن الاعتبارات الأخلاقية ينبغي أن تلعب دورا ضئيلا أو معدوما في السياسة الخارجية. هذا اتهام سخيف، تدلّل عليه قراءة عابرة لكتابات الواقعيين. كتب هانز مورغنثاو كتابا كاملا يستكشف التوترات بين الفعالية السياسية والمبادئ الأخلاقية، وشدد على أن “القضايا الأخلاقية [للسياسة] ترفع صوتها وتطلب إجابة.” لم يكن إي. إتش. كار واقعيا حقيقيا، لكنه كتب عملا واقعيا كلاسيكيا أوضح فيه أنه لا يمكن استبعاد الاعتبارات الأخلاقية من الحياة السياسية. تركز جميع كتابات كينيث والتز تقريبا حول السياسة الدولية على مشكلة السلام والشروط أو السياسات التي تعززها أو تقوضها، وانتقد مرارا ميل الدول القوية لارتكاب أعمال شريرة في السعي لتحقيق أهداف مثالية. وعارض الواقعيون البارزون مثل جورج كينان، ووالتر ليبمان، ومورغنثاو، ووالتز، وأحفادهم من المفكرين، العديد من الحروب الانتقائية الأمريكية الأخيرة، على أسس استراتيجية وأخلاقية.

على غرار كافة البشر، نحن الذين نعتقد أن الواقعية توفر طريقة مفيدة للتفكير في السياسة العالمية لدينا أيضا قناعات أخلاقية ونود أن نعيش في عالم يتم فيه احترام هذه المبادئ بشكل أكثر اتساقا. في الواقع، يهتم الواقعيون بالأبعاد الأخلاقية للسياسة الدولية لأنهم يدركون مدى سهولة ارتكاب الدول والجماعات السياسية لأعمال غير أخلاقية. لا يتفاجأ الواقعيون مما يحدث في غزة – كما هو مذكور أعلاه، فعلت دول أخرى أشياء مروعة عندما شعرت أن مصالحها الحيوية في خطر – ولكن هذا لا يعني أن الواقعيين يوافقون على ما تفعله إسرائيل والولايات المتحدة.

تنبع انتقادات الواقعيين للحرب في غزة جزئيا من تقديرهم لحدود القوة العسكرية وأهمية القومية. إنهم يدركون تماما الصعوبات التي يواجهها الغزاة الأجانب عند محاولتهم السيطرة على شعب آخر أو تدميره بالقوة المسلحة، ولهذا السبب استنتجوا أن محاولة إسرائيل تدمير حماس بالقصف والغزو البري لغزة محكوم عليها بالفشل. من الواضح بشكل متزايد أن حماس ستبقى على قيد الحياة رغم هجوم إسرائيل، وحتى إذا لم يحدث ذلك، فإن منظمات المقاومة الجديدة ستظهر طالما أن الفلسطينيين محتلون ومحرومون من حقوقهم السياسية الأساسية ويتم تجريدهم تدريجيا من أراضيهم.

وبالمثل، يعارض الواقعيون تصرفات إسرائيل (وتواطؤ الولايات المتحدة فيها) لأن هذا المزيج يقوّض موقف أمريكا العالمي. لقد أظهرت الحرب في غزة بوضوح أن التزام أمريكا بـ “نظام قائم على القواعد” لا معنى له؛ فمن الصعب تصديق أن المسؤولين الأمريكيين لا زال بإمكانهم ترديد هذه العبارة بحزم. كان تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير الذي منح “حقوقا وامتيازات” جديدة لفلسطين – والذي مر بأغلبية 143 صوتا مقابل 9 وامتناع 25 – مؤشرا كاشفا لعزلة أمريكا المتزايدة، وكذلك كان استخدام الولايات المتحدة المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن الدولي ضد قرارات تدعو لوقف إطلاق النار. تقدّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلب إصدار أوامر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (بالإضافة إلى قادة حماس يحيى السنوار، إسماعيل هنية، ومحمد دياب إبراهيم المصري). من المؤكد أن واشنطن سترفض هذه الخطوة، مما يبرز مرة أخرى عدم تماشيها مع معظم دول العالم.

تشير استطلاعات الرأي العام أيضا إلى أن شعبية الولايات المتحدة قد تراجعت بشكل حاد في الشرق الأوسط وقليلا في أوروبا، بينما ارتفع الدعم للصين وروسيا وإيران. بعد أقل من شهر من الحرب، حذر تقرير من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى المؤيد لإسرائيل قائلا: “تخسر أمريكا مقارنة بمنافسيها بسبب الحرب في غزة. نسبة العرب الذين يعتقدون أن لأمريكا دورا إيجابيا في الحرب لا تتجاوز 7٪، وتصل إلى 2٪ فقط في دول مثل الأردن. بالمقابل، نسبة العرب الذين يقولون إن للصين دورا إيجابيا في النزاع بلغت 46٪ في مصر، و34٪ في العراق، و27٪ في الأردن … يبدو أن إيران استفادت بشكل كبير من هذه الحرب. في المتوسط، نسبة الذين يقولون إن لإيران تأثيرا إيجابيا في الحرب هي 40٪، مقارنة بـ 21٪ الذين يقولون إن لها تأثيرا سلبيا. في دول مثل مصر وسوريا، نسبة الذين يقولون إن لإيران تأثيرا إيجابيا في غزة تصل إلى 50٪ و52٪ على التوالي.”

كما أن الحرب ليست رخيصة. لقد أقر الكونغرس الأمريكي مليارات الدولارات كمساعدات إضافية لمساعدة إسرائيل في تدمير غزة، بالإضافة إلى 320 مليون دولار لهذا الرصيف العائم الذي اضطرت الولايات المتحدة إلى بنائه لأن “الحليف” الذي ندعمه لم يسمح لوكالات الإغاثة بإرسال شاحنات لتقديم المساعدات الإنسانية. استخدمت القوات العسكرية الأمريكية صواريخ وقنابل باهظة الثمن ضد الحوثيين في اليمن، الذين بدأوا في ترويع السفن في وحول البحر الأحمر احتجاجا على ما تفعله إسرائيل. أعلم أن هذه المبالغ ليست كبيرة بالنسبة لدولة لديها اقتصاد بقيمة 25 تريليون دولار، ولكن سيكون من الجيد إنفاق هذا المال لمساعدة الأمريكيين بدلا من مساعدة قتل الفلسطينيين في غزة. في المرة القادمة التي يقول فيها الصقور في الكونغرس بوجوب أن يقطعوا بعض البرامج الداخلية، ذكّرهم بمدى حماسهم لدفع تكاليف حرب إسرائيل.

كما أن الحرب تستهلك كميات هائلة من وقت وطاقة واهتمام كبار المسؤولين. قام وزير الخارجية أنطوني بلينكن ومدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز برحلات متكررة إلى المنطقة وقضوا ساعات لا تحصى في معالجة هذه القضايا. وكذلك فعل مسؤولون كبار آخرون، بمن فيهم الرئيس جو بايدن نفسه. الوقت الذي يخصصه القادة الأمريكيون لنزاع بين حوالي 15 مليون شخص في إسرائيل وفلسطين هو وقت لم يتمكنوا من قضائه في زيارة الحلفاء الرئيسيين في أماكن أخرى، أو وضع سياسة أفضل في أوكرانيا، أو تطوير استراتيجية اقتصادية فعالة لآسيا، أو حشد الدعم العالمي لمعالجة تغير المناخ، أو أي عدد من القضايا الأكثر أهمية.

من هم الرابحون الكبار؟ روسيا والصين بالطبع. بالنسبة للعديد من الناس حول العالم – وخاصة في الجنوب العالمي – فإن المذبحة في غزة تؤكد اتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ المتكرر بأن “القيادة” الأمريكية العالمية تزرع الصراع والمعاناة وأن العالم سيكون أفضل في نظام متعدد الأقطاب حيث يتم تقاسم القوة بشكل أكثر توازنا. قد لا توافق على هذا الرأي، لكن الملايين من الناس يفعلون ذلك بالفعل، وسياساتنا الحالية تجعلها تبدو أكثر مصداقية. في الوقت نفسه، لا يضيع القادة الصينيون وقتهم في الطيران إلى إسرائيل ليتم إذلالهم من قبل نتنياهو؛ إنهم مشغولون بإصلاح العلاقات، وزيادة الروابط الاقتصادية، وترسيخ الشراكة “بلا حدود” مع روسيا. لابد أنهم يشكرون يوميا على التشتيت المكلف الذي فعلته الحرب في غزة بالولايات المتحدة.

 أخيرا، يعترض الواقعيون على ما تفعله إسرائيل لأنه لا يجلب للولايات المتحدة أي فوائد استراتيجية على الإطلاق. خلال الحرب الباردة كان يمكن للمرء أن يجادل بشكل معقول أن إسرائيل كانت حاجزا مفيدا ضد النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط المبالغ فيه أحيانا. ولكن الحرب الباردة انتهت قبل أكثر من 30 عاما، والدعم غير المشروط لإسرائيل لا يجعل الأمريكيين أكثر أمانا اليوم. يدّعي بعض المدافعين عن إسرائيل الآن أنها جدار قوي ضد إيران وشريك قيّم ضد الإرهاب؛ ما يفشلون في ذكره هو أن علاقتنا مع إسرائيل هي أحد الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة لها علاقة سيئة مع إيران وواحدة من الأسباب التي دفعت إرهابيين مثل القاعدة إلى مهاجمة الولايات المتحدة.

الحقيقة الواضحة هي أن قصف غزة وإعادتها إلى العصر الحجري لن يجعل الأمريكيين أكثر أمانا أو ازدهارا، وهو يتعارض تماما مع القيم التي يحب الأمريكيون الحديث عنها في العلن. على العكس، إذا كان هناك شيء قد يحصل، فهو تهديد أمن الولايات المتحدة، بظهور جيل جديد من الإرهابيين المعادين لأمريكا على شاكلة الراحل أسامة بن لادن. كما أن هذه السياسة لن تجعل إسرائيل أكثر أمانا؛ فقط الحل السياسي للنزاع يمكنه فعل ذلك.

ولهذا السبب يهز الواقعيون أمثالي رؤوسهم مما تفعله الولايات المتحدة وإسرائيل اليوم. في بعض المناسبات النادرة والرائعة، يمكن للدول أن تنتهج سياسة تعزز مصالحها الاستراتيجية وتفضيلاتها الأخلاقية في الوقت ذاته. في أوقات أخرى، تواجه اختيارات صعبة بين الاثنين ويجب عليها اتخاذ قرارات صعبة بينهما (عادة لصالح الأولى). ولكن في هذه الحالة، تعمل الولايات المتحدة بنشاط على تقويض مصالحها الاستراتيجية ودعم القتل الجماعي للأبرياء، إلى حد كبير لأن القادة الأمريكيين محاصرون في رؤية قديمة للصراع وهم متسامحون بشكل مفرط مع مجموعة مصالح قوية. بالنسبة لأي واقعي جيّد، فإن ارتكاب الشر دون سبب وجيه هو أسوأ خطيئة على الإطلاق.

 

للتحميل اضغط هنا