
- عن المركز
- دراسات وأبحاث
- متابعات
- مراجعات
- إصدارات المركز
- وثائق
- مركز الإعلام
- مؤتمرات
صعود وهبوط التنافس بين القوى الكبرى: مجالات النفوذ الجديدة في عهد ترامب
The Rise and Fall of Great-Power Competition
Trump’s New Spheres of Influence
مجلة Foreign Affairs الأمريكية
ترجمة وتحرير : يسار أبو خشوم
يتناول هذا المقال التحول الجذري في السياسة الخارجية الأمريكية بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025، حيث انتقل من منطق التنافس مع القوى الكبرى كروسيا والصين إلى تبني مقاربة تقوم على التواطؤ وتقاسم النفوذ معها. ويقارن المقال هذا التوجه الجديد بنموذج «وفاق القوى» الذي ساد أوروبا في القرن التاسع عشر، موضحا كيف يسعى ترامب إلى بناء نظام عالمي تُدار فيه الصراعات بين زعماء أقوياء بعيدا عن القيم الليبرالية والتحالفات التقليدية. كما يحذر المقال من المخاطر البنيوية لهذا النموذج، سواء من حيث تجاهله للأطراف الأضعف أو هشاشته في مواجهة التحديات المعقدة لعالم اليوم. فيما يلي ترجمة تلخيصية للمقال:
شهدت السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقود الأخيرة تقلبات عميقة، إلا أن أحد أكثر ثوابتها منذ الحرب الباردة كان مفهوم «التنافس بين القوى العظمى»، الذي عاد بقوة منذ إدارة دونالد ترامب الأولى، واستمر في عهد جو بايدن، ليشكّل الإطار المرجعي لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكية. بيد أن عودة ترامب إلى الرئاسة في عام 2025 أطلقت تحوّلا مفاجئا، إذ سرعان ما تراجع عن سردية التنافس التي كان من أبرز مهندسيها، واتجه نحو سردية جديدة تقوم على «التواطؤ بين الكبار»، مستندا إلى مقاربة شبيهة بوفاق القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر، حيث يتم تقاسم النفوذ وتثبيت الاستقرار عبر تفاهمات بين زعماء الدول الكبرى، على حساب القيم والمبادئ الليبرالية والنظام القائم على القانون الدولي.
من سردية التنافس إلى منطق التواطؤ
بدأ ترامب ولايته الثانية بإجراءات سريعة أطاحت بسردية التنافس مع روسيا والصين، التي لطالما شكلت محورا رئيسيا للسياسة الخارجية الأمريكية. في مقابل الخطاب الذي اعتبر روسيا والصين خصمين استراتيجيين ينبغي كبح تمددهما، بدأ ترامب بالحديث عن ضرورة الجلوس مع بوتين وشي جين بينغ لتقاسم المصالح و»إدارة» النظام العالمي بشكل مشترك. فبدلا من استثمار أدوات الردع والتحالفات التقليدية، كما في حال الناتو أو الشراكات عبر المحيط الهادئ، لجأ ترامب إلى الضغوط الاقتصادية على الحلفاء، وتقديم تنازلات رمزية للخصوم في ملفات حساسة مثل أوكرانيا وتايوان.
ويبدو هذا التحوّل أكثر من مجرد انزياح تكتيكي؛ بل هو تفكيك لمفهوم «القيادة الليبرالية»، واستبداله بمنطق «الصفقات الكبرى» التي تستند إلى تبادل المصالح لا إلى الدفاع عن قيم الديمقراطية. وهكذا لم تعد روسيا في خطاب ترامب مصدر تهديد أيديولوجي، بل شريكا محتملا في رسم حدود النظام. ولم تعد الصين قوة توسعية يجب احتواؤها، بل طرفا يمكن التفاهم معه على تقاسم النفوذ التجاري والعسكري، ولو على حساب حلفاء تقليديين مثل الفلبين أو تايوان. في هذا السياق، تتجلى المقاربة الترامبية الجديدة كمحاولة لتكرار نموذج «وفاق القوى» الأوروبي الذي نشأ بعد حروب نابليون، حين اجتمعت القوى الكبرى لضبط الفوضى وتحييد الثورات القومية.
جاذبية النموذج التاريخي وحدوده المعاصرة
يثير نموذج «التواطؤ بين الكبار» جاذبية لدى بعض صناع القرار، خاصة في ظل تراجع قدرة الغرب على فرض نظام عالمي ليبرالي جامع. ففي التاريخ، نجح «الوفاق الأوروبي» في تأجيل الحروب الكبرى لأربعة عقود، عبر تفاهمات مرنة بين الإمبراطوريات، وقواعد غير مكتوبة تحكم التدخلات وتوزيع النفوذ. وتم استحضار هذا المنطق في أكثر من مناسبة، على غرار طروحات غورباتشوف بعد الحرب الباردة، أو دعوات التعاون مع الصين والهند وروسيا في عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية.
لكن تطبيق هذا النموذج في السياق المعاصر يواجه تحديات حقيقية، أهمها تشابك الاقتصاد العالمي وتعقّد سلاسل التوريد، مما يجعل ترسيم مناطق النفوذ أمرا صعبا. كما أن المشكلات العابرة للحدود، مثل التغير المناخي والأوبئة والإرهاب لا يمكن احتواؤها في إطار نظام مغلق يقوده الكبار وحدهم. أضف إلى ذلك أن الصراعات الأيديولوجية لم تختف، بل ازدادت حدة مع صعود القومية والشعبوية، ما يجعل من التعاون المتزن أمرا صعبا، بل مستحيلا في بعض الأحيان. وهنا يُطرح التساؤل: هل يستطيع ترامب، بشخصيته الانفعالية ونزعته إلى كسر الأعراف، أن يكون قائدا توافقيا على غرار بسمارك؟ أم أنه سيسقط في فخ التهور الذي وقع فيه نابليون الثالث، الذي سعى لاستخدام «الوفاق الأوروبي» لتحقيق مجده الشخصي، فانتهى إلى عزلة وهزيمة استراتيجية؟
نظام توافقي قائم على الإقصاء
يكمن الخطر الأكبر في هذا النموذج في تجاهله التام لصوت القوى الوسطى والدول الضعيفة، بل وفي إعطاء شرعية ضمنية لتقويض سيادتها باسم «الاستقرار العالمي». فكما لم تُدعَ إسبانيا إلى طاولة مفاوضات مصيرها الاستعماري، من غير المتوقع أن يُمنح الأوكرانيون أو التايوانيون الحق في تقرير مصيرهم. بل إن ترامب أشار بوضوح إلى أن مصير كييف سيتم حسمه بتفاهمات مباشرة مع موسكو، خارج أي إطار دبلوماسي شامل. وهو منطق يشرعن قضم الأراضي، ويعزز من ثقافة «الأمر الواقع»، ويفتح الباب أمام نزاعات مستقبلية يصعب احتواؤها.
وعلى الرغم من أن سردية «الوفاق» تعد بالتعاون، إلا أنها في الواقع تخفي صراعات متجذرة، يمكن أن تنفجر عند أول خلاف حول الحدود أو المصالح. وقد أظهرت التجربة التاريخية أن هذه التفاهمات لم تصمد أمام صعود القوميات، ولا أمام طموحات القوى الصاعدة التي رأت في نظام «الكبار فقط» تهديدا لتوازن النظام العالمي. اليوم، تلعب قوى مثل الهند واليابان وتركيا والاتحاد الأوروبي أدوارا متزايدة في النظام العالمي، ولا تقبل بسهولة أن يتم تقزيمها إلى مجرد أدوات في تفاهمات ثنائية بين واشنطن وبكين أو موسكو. كما أن الشعوب التي تدفع ثمن هذه الصفقات، سواء في أوكرانيا أو فلسطين أو تايوان، لن تقبل أن تكون ضحية لمنطق استقرار مصطنع يقوم على الصفقات بدلا من العدالة.
خاتمة
يمثل التحول من منطق التنافس إلى منطق التواطؤ في السياسة الخارجية الأمريكية مظهرا من مظاهر أزمة العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة. فبينما يقدّم ترامب هذا التحول كبديل أكثر «واقعية» وفعالية، إلا أنه يغفل أن العالم اليوم أكثر تعددية وتداخلا مما كان عليه زمن «الوفاق الأوروبي». وما يبدو استقرارا على السطح قد يكون مجرد هدنة مؤقتة تخفي في طيّاتها نيرانا كامنة من التوتر والمظالم والصراعات القومية والاجتماعية. وإذا كانت سردية «الوفاق» تسعى إلى تجنب الحروب الكبرى، فإنها قد تزرع بذور الانفجار القادم، لأن النظام الذي لا ينصت فيه إلا للأقوياء سرعان ما يقابَل بالرفض والتمرد من قبل من لا يُحسب لهم حساب. وفي عالم تُصاغ فيه التحالفات من الأسفل بقدر ما تُفرض من الأعلى، تصبح السرديات الشاملة، سواء كانت تنافسية أو تواطئية، عاجزة عن احتواء ديناميات الواقع. وما لم يتبنَّ صناع القرار مقاربة أكثر شمولية وتشاركية، فإن أي «صفقة كبرى» مرشحة لأن تتحول إلى «كارثة كبرى»، تتكرر معها مآسي التاريخ في ثوب جديد.