الأزمة الأوكرانية نتاج للأوهام الليبرالية

 Liberal Illusions Caused the Ukraine Crisis

 مجلة فورين بوليسي الأمريكية

 ستيفن والت

باحث أمريكي ينتمي لتيار الواقعية في العلاقات الدوليّة وهو بروفيسور في دائرة العلاقات الدولية في جامعة هارفارد

 ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢

كتب المنظّر الواقعي الأمريكي، ستيفن والت، مقاله هذا قبل شروع روسيا بالعملية العسكرية في أوكرانيا، وتوقع والت أن غزو روسيا لأوكرانيا بات حتميّا، وأن الولايات المتّحدة وحلفاءها بدأوا بالتفكير في الكيفية التي سيجعلون بها روسيا تدفع الثمن في حال مواصلتها للغزو، وأن هذه الحرب ستكون لها عواقب وخيمة بعيدة المدى على جميع الأطراف، لا سيّما على الشعب الأوكراني. ويحاجج الكاتب بشكل أساسي، في مقاله، بأن اعتماد أمريكا وحلفاؤها على الليبرالية المثالية هو الذي أوصل الأمور إلى حرب لا مفرّ منها، وكان يمكن تجنّب هذه التراجيديا لو اتبعوا الخطوط الأساسية للواقعية في العلاقات الدوليّة.

الواقعيّة والليبرالية في العلاقات الدوليّة

يوضّح والت بأن الواقعية ترى بأن الحروب تحدث لأنه لا توجد سلطة مركزية يمكنها حماية الدول من بعضها البعض ومنعها من القتال إذا اختارت القيام بذلك. بالنظر إلى أن الحرب هي احتمال دائم، تتنافس الدول على السلطة وتستخدم القوة أحيانا لمحاولة جعل نفسها أكثر أمانا أو لاكتساب مزايا أخرى. لا توجد وسيلة يمكن للدول أن تعرف بها على وجه اليقين ما قد يفعله الآخرون في المستقبل، ما يجعلها مترددة في الثقة ببعضها البعض ويشجعها على التحوط من احتمال أن تحاول دولة قوية أخرى إلحاق الضرر بها في مرحلة ما.

يضيف بأن الليبرالية ترى السياسة العالمية بشكل مختلف. بدلا من رؤية جميع القوى العظمى تواجه نفس المشكلة تقريبا – الحاجة إلى الأمان في عالم تكون فيه الحرب ممكنة دائما – تؤكد الليبرالية أن ما تفعله الدول مدفوع في الغالب بخصائصها الداخلية وطبيعة الروابط فيما بينها. إنها تقسم العالم إلى “دول جيدة” (تلك التي تجسد القيم الليبرالية) و “دول سيئة” (أي دولة أخرى تقريبا) وتؤكد أن الصراعات تنشأ في المقام الأول من الدوافع العدوانية للحكام المستبدين والديكتاتوريين وغيرهم من القادة غير الليبراليين. بالنسبة لليبراليين، يكمن الحل في إسقاط الطغاة ونشر الديمقراطية والأسواق والمؤسسات على أساس الاعتقاد بأن الديمقراطيات لا تقاتل بعضها البعض، خاصة عندما تكون مرتبطة ببعضها البعض من خلال التجارة والاستثمار ومجموعة من القواعد المتفق عليها.

تمدّد الناتو

وفقا لوالت، خلصت النخب الغربية بعد الحرب الباردة إلى أن الواقعية لم تعد ذات قيمة وأن المثل الليبرالية يجب أن توجه سلوك السياسة الخارجية، لدرجة أن البعض وصف الواقعيّة بـ “الهراء المطلق”. اعتقد المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون أن الديمقراطية الليبرالية والأسواق المفتوحة وسيادة القانون وباقي القيم الليبرالية الأخرى تنتشر كالنار في الهشيم وأن النظام العالمي سيحكمه السلام الديمقراطي وسيظل كذلك لعقود طويلة، وهذا ما عبّر عنه بشكل صريح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام ١٩٩٢.

بناء على ما سبق، أخذ الغرب في التوسّع أكثر نحو وسط وشرق أوروبا من خلال ضمّ دول جديدة لحلف الناتو، وحاجج مؤيدو هذا التوسع بأنه سيساعد في توطيد الديمقراطيات الجديدة في هذه المنطق، وخلق “منطقة سلام شاسعة” في جميع أنحاء أوروبا. من وجهة نظرهم، لا يهم أن يكون لبعض أعضاء الناتو الجدد قدرة عسكرية ضئيلة أو معدومة بالنسبة للحلف وقد يكون من الصعب الدفاع عنهم لأن السلام سيكون قويا ودائما. كما أصروا على أن النوايا الحميدة لحلف الناتو كانت بدهية وأنه سيكون من السهل إقناع موسكو بعدم القلق من زحف الناتو إلى الحدود الروسية. يقول والت، إن هذا الرأي ساذج إلى أقصى حد، لأن القضية الرئيسية بالنسبة لموسكو لا تتعلق في ماهية نوايا الناتو الآنية، بل فيما سيكون عليه الحال في المستقبل، إذا لا توجد أية ضمانات مكتوبة. كما أن مخاوف موسكو من النوايا الغربية قد ازدادت بعد غزو العراق عام ٢٠٠٣ والإطاحة بنظام القذافي عام ٢٠١١، وإعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، عام ٢٠٠٨، عن رغبته بترشيح جورجيا وأوكرانيا لعضوية حلف الناتو، الذي وصفه والت بالـ”الخطأ التاريخي”.

 سياسة الابتزاز

 يوضّح والت بأن مخاوف روسيا السابقة، لا تدفعنا إلى التغاضي عن سياسات بوتين الداخلية القمعية، كما أن روسيا قد تنكّرت لمذكرة بودابست لعام ١٩٩٤، التي قدمت فيها ضمانات أمنية لأوكرانيا مقابل تخليها عن ترسانتها النووية، واستولت على جزيرة القرم عام ٢٠١٤ في خطوة مخالفة بشكل صارخ للقانون الدولي. لكن في الوقت ذاته، بوتين ليس وحده المسؤول عن هذه الأزمة؛ فلا يمكن إنكار أن أوكرانيا تشكّل مصلحة حيوية لأوروبا ولحلف الناتو الذين يحاولون باستمرار استمالتها لصالحهم، ما يثير مخاوف بوتين. المسألة ليست متعلقة بطبيعة بوتين، فالقوى العظمى لا يمكن أن تظلّ غير مبالية لأي توسع استراتيجي يتمّ بجوارها.

مع ذلك، فقد جعل بوتين هذه المشكلة أكثر صعوبة بمحاولة انتزاع تنازلات كبيرة تحت تهديد السلاح. حتى لو كانت مطالبه معقولة تماما (وبعضها ليس كذلك)، فإن لدى الولايات المتحدة وبقية دول الناتو سببا وجيها لمقاومة محاولته الابتزاز. يوضّح والت هنا، بأنّ الواقعية تساعدنا على فهم السبب: في عالم تكون فيه كل دولة بمفردها في النهاية، فإن الإشارة إلى أنه يمكن ابتزازك قد تشجع المبتز على تقديم مطالب جديدة. يكمن الحلّ فيما يسميه والت بـ “الخدش المتبادل”، أي أن يقدم الطرفان تنازلات معقولة تحقق مصلحة الطرفين، لكن يبدو أن الغرب لا يريد أن يتنازل عن فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو ولو بعد حين، الأمر الذي لن تقبل به موسكو بغض النظر عن أي تنازلات أخرى يتم تقديمها.

الحلّ في الحياد

يحاجج والت بأن المخرج من هذه الأزمة يكمن في إدراك الشعب الأوكراني وقادته بأن وجود روسيا والغرب يتقاتلان على اكتساب ولاء كييف في النهاية سيكون بمثابة كارثة لبلدهم. يجب على أوكرانيا أن تأخذ زمام المبادرة وأن تعلن أنها تعتزم العمل كدولة محايدة لن تنضم إلى أي تحالف عسكري. يجب أن تتعهد رسميا بعدم الانضمام إلى الناتو أو إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا. ستظل أوكرانيا حرة في التجارة مع أي بلد والترحيب بالاستثمار من أي بلد، وينبغي أن تكون حرة في اختيار قادتها دون تدخل خارجي. إذا اتخذت كييف مثل هذه الخطوة بمفردها، فلا يمكن اتهام الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو بالاستسلام للابتزاز الروسي.

بالنسبة للأوكرانيين، فإن العيش كدولة محايدة بجوار روسيا ليس بالوضع المثالي. ولكن نظرا لموقعها الجغرافي، فهي أفضل نتيجة يمكن أن تتوقعها أوكرانيا بشكل واقعي. إنه بالتأكيد أفضل بكثير من الوضع الذي يجد الأوكرانيون أنفسهم فيه الآن. وتجدر الإشارة إلى أن أوكرانيا كانت محايدة فعليا من عام 1992 حتى عام 2008 – وهو العام الذي أعلن فيه الناتو بحماقة أن أوكرانيا ستنضم إلى الحلف. ولم تتعرض في أي وقت من الأوقات لخطر الغزو. ومع ذلك، فإن المشاعر المعادية لروسيا تتصاعد الآن في معظم أوكرانيا، ما يقلل من احتمالية اتخاذ هذا المنحدر المحتمل للخروج.

 خاتمة

في الختام، يوضّح والت بأن العنصر الأكثر مأساوية في هذه القصة التعيسة بأكملها هو أنه كان من الممكن تجنبها. ولكن ما لم يخفف صانعو السياسة في الولايات المتحدة من غطرستهم الليبرالية ويستعيدوا تقديرهم الكامل لدروس الواقعية غير المريحة والحيوية، فمن المحتمل أن يتعثّروا في أزمات مماثلة في المستقبل.

للتحميل اضغط هنا