عمر شعبان

لا يوجد تحوّل من سلطة إلى دولة فلسطينية، حقّاً، قبل إنهاء الانقسام الفلسطيني– الفلسطيني. وقد باتت لهذا الانقسام تداعيات وأمر واقع نتج عنه، لم يعد ممكناً معالجته بمجرد التوصل لاتفاقيات. ولعل التطور الذي برز في عهد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هو السعي العلني لتوظيف هذا الانقسام، بما يُبقي عليه، وبما يحول عمليّاً دون قيام الدولة الفلسطينية، عبر إدامة الانفصالين السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وتسعى هذه الإدارة إلى استغلال الظروف الإنسانية والاقتصادية المتردية، التي كان للانقسام دور في بروزها، لتحقيق غايات سياسية وقانونية. يرصد هذا المقال أولاً، تداعيات الانقسام الفلسطيني الداخلي، وثانياً، تحولات الموقف الأميركي منه وصولاً إلى العام 2018، التي اتضح فيها بشكل خاص السعي إلى إعادة الزمن إلى الخلف، لجعل الدولة الفلسطينية المستقلة الموحدة أكثر صعوبةً، عبر الحفاظ على الانقسام.

يربط كثير من المهتمين والكُتاّب وذوي الاختصاص مصطلح الانقسام الفلسطيني، بسيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على قطاع غزة، في أوساط حزيران (يونيو) 2007، بعد توتر وصدامات داخلية دامت عاماً تقريباً منذ الانتخابات التشريعية الثانية في كانون الثاني (يناير) 2006، وما ترتب عليه من قطع للتواصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة وتأليف حكومتين منفصلتين. ويعيد كتاب آخرون جذور الانقسام إلى أبعد من هذا التاريخ، باعتباره جاء نتيجةً لسلسلة متراكمة من الخلافات والاختلافات السياسية والأيديولوجية بين قوى منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “حماس”، منذ نشوء الأخيرة، عام 1987، وتعمَّقَت بالتدريج، حتى تمكنت هذه الخلافات والصراعات من خلخلة ركيزتي مشروع التحرر الوطني: المقاومة والتسوية، ناهيك عن انعكاسه على كافة أشكال الحياة في فلسطين[1].

منذ حدوث الانقسام، لم ينقطع الاهتمام به فلسطينيّاً وبآثاره، فقد قُدِّمت بشأنه مبادرات كثيرة لرأب الصدع، انبثقت من سلسلة اتفاقات توصل لها الجانبان، منها اتفاق القاهرة 2006م، ووثيقة الأسرى الفلسطينيين للوفاق الوطني 2006م، واتفاق مكة 2007، والورقة المصرية 2009، واتفاق القاهرة 2011، واتفاق الدوحة 2012، واتفاق الشاطئ 2014، واتفاق القاهرة 2017[2]. كل ذلك لم يفلح في تحقيق المصالحة لأسباب منها ما هو داخلي، مثل حسابات التنافس الفصائلي، وعدم الجدّية في السعي للمصالحة، ومنها ما هو خارجي يتعلق بتدخلات دول إقليمية وخارجية لعرقلة المصالحة، حيناً، ولفرض شكل معين لها، حيناً آخر، يخدم مصالحها.

أولاً: تداعيات الانقسام

كان النظام السياسي الفلسطيني يعاني مـن أزمـة تشـمل البنية والأداء قبل النتائج التي أفضت إليها الانتخابات التشريعية في 25 كانون الثاني (يناير) 2006، وجاءت سيطرة “حماس” العسكرية على قطـاع غزة لتدشن مرحلة أخرى في سياق تفاقم الأزمة وشمولها، حيث احتــدم الصــراع داخــل النظــام السياسي الفلسطيني ذاتــه على مقتضيات الشرعية والهوية وأسســها. وقد أفضت سيطرة “حماس” على غزة إلى تكريس حالـة مـن الفصـل السياسي والإداري بين الضـفة الغربية وقطـاع غـزة، ونجـمت عنـها وصـاحبتها ممارسـات شـكّلت اعتـداءً صـارخاً علـى الحُريات والحقوق ومكتسبات الشعب الفلسطيني طوال العقود الماضية[3].

لقد تفسـخ النظـام السياسي الفلسطيني، علـى هشاشـته وضـعفه، مـا أدى إلـى تعميق ظـاهرة الانقسام السياسي والاجتماعي والإداري والجغرافـي، وحتـى الثقـافي والنفسـي، بين أبنـاء المجتمــع الواحــد، وعلــى الأرض التــي يناضل مــن أجــل إقامــة دولتــه ذات السيادة عليها[4]. وترَسَّخ الانقسام وامتد أفقيّاً وعموديّاً، فزاد النظام السياسي تَفسُّخاً، وتَفسّخَت الجُغرافيا، وشبّ جيل كامل والصورة في عينيه وذهنه أن التناقض تناقض فلسطيني- فلسطيني يسير بخط موازٍ للتناقض مع المحتل. وشكل الانقسام تهديداً للمصالح العليا للشعب الفلسطيني في عموم أماكن تواجده، ونشأ واقع أصبحت فيه لكل تجمع فلسطيني قضاياه الخاصة، وتراجع الاهتمام فيه بالقضية المركزية، قضية التحرر والاستقلال والعودة، واندفع كل تجمع للانشغال بهمومه الخاصة، وبما يواجهه من تحديات على وجوده[5]. ويمكن تقسيم تداعيات الانقسام عبر العناوين التالية:

  • التداعيات المؤسساتية:

أصبحت السلطة الفلسطينية منقسمة إلى سلطتين، إحداهما في الضفة الغربية والأخرى في قطاع غزة. وتسبب الانقسام في تعطيل الحياة الديمقراطية، فاستيلاء حركة “حماس” على السلطة بقوة السلاح في غزة، يعتبر نقيضاً للممارسة الديمقراطية، ناهيك عما تسبب به ذلك من تبعات بخلق حالة من الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني، وتعطيل آليات عمل الديمقراطية وتطورها، حيث تعطل عمل المجلس التشريعي الفلسطيني، ما أثر جوهريّاً على عملية فصل السلطات، حيث هيمنت السلطات التنفيذية على العمل السياسي والتشريعي والقضائي الفلسطيني، كما تراجعت حرية العمل الحزبي ومؤسسات المجتمع المدني وحرية التعبير في شقي الوطن الفلسطيني، وبدأت ترتسم على الأراضي الفلسطينية ملامح نظامين سياسيين مختلفين، يجسدهما وجود مؤسسات متوازية وكيانين منفصلين، واحد في قطاع غزة وآخر في الضفة الغربية.

وكنتيجة أيضاً، برزت إشكاليات متعلقة بالجهاز الإداري في قطاع غزة وصعوبات إدماج الموظفين والعاملين في القطاع، واستيعابهم في الجهاز الإداري للسلطة الفلسطينية، خاصة ما يتعلق بتحمل رواتبهم، وهو أمر ليس يسيراً على السلطة الفلسطينية، فمن الوارد عجز السلطة الفلسطينية عن الوفاء بالتزاماتها المالية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تُعاني منها السلطة الفلسطينية[6].

  • تعددية السلاح وأجهزة تنفيذ القانون:

إحدى النقاط الشائكة الرئيسية التي نشأت عن الانقسام هي قضية تعدد السلاح والأجنحة العسكرية، ومن يسيطر على الأمن في غزة، حيث بنى الجناح العسكري لحركة “حماس” وحركات المقاومة الأخرى، ترسانة هائلة من السلاح بأنواعه، بالإضافة إلى شبكة من الأنفاق المحصنة، ودخلت ثلاث حروب رئيسية بمواجهة إسرائيل. وتقول “حماس” إن استمرار سيطرتها على “أسلحة المقاومة” غير قابل للتفاوض. لكن الرئيس محمود عباس قال إنه لن يتسامح مع نسخة قد تنشأ في غزة، من “نموذج حزب الله في لبنان”، حيث تمارس هناك منظمة مدججة بالسلاح نفوذاً على حكومة ضعيفة ومؤسسات مفرغة المحتوى[7].

  • تعددية وإشكاليات في عمليات التشريع:

نتج عن الانقسام، اختلال وتغيير في آلية التشريع التي لم تعد تستند إلى القانون الأساسي أو النظام الداخلي للمجلس التشريعي، وبالتالي، أصبحت قوانين جديدة تقر في قطاع غزة من قبل كتلة “حماس” في المجلس التشريعي وتنشر دون الرجوع إلى رئيس السلطة الذي يملك سلطة الإصدار للنشر، وتطبق فيها فقط. وبلغ عدد التشريعات والقوانين من قبل المجلس التشريعي في غزة بعد عام 2008، ما يقارب 47 قانوناً، في سبع سنوات فقط. بالإضافة إلى 2446 قراراً[8]. وفي الضفة الغربية، أقرت قوانين وفق قرارات بقوانين صادرة عن رئيس السلطة تطبق بالضفة، وهي، وإن كانت إحدى طرق التشريع الاستثنائية، فهي محددة بشروط تم تجاوزها وعدم التقيد بها، ورتب تطبيق القوانين الجديدة وجود مراكز قانونية لا يجوز المساس بها أو التغاضي عنها في مرحلة الوحدة وما بعد المصالحة[9].

وفاقم الانقسام من إشكالية غياب سيادة القانون في مجال إعمال المنظومة التشريعية والقانونية للحقوق والحريات وإنفاذها، كـون الانقسام يشكل موضوعيّاً حالة مناقضة لحكم الـقـانـون، وهـو مـا كشفت عنه الانتهاكات التي طالت مختلف هذه الحقوق والحريات في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وهذه الحريات في تراجع مستمر حسب تقارير المراكز الحقوقية[10]. كل ذلك يعكس مجموعة دلالات، أبرزها الاتجاه نحو خلق واقع قانوني جديد ذي نزعة أيديولوجية، نتج عنه توتير النظام القانوني القائم وإرباكه، والقطع معه[11].

–       تقارب البرامج السياسية وزيادة الفجوة الثقافية والمعنوية والنفسية:

إذا كان ما احتوته وثيقة حركة “حماس” الجديدة التي أصدرتها الحركة عام 2017، يجعل برنامجها السياسي أقرب في مضمونه من البرنامج الحالي لحركة فتح، فهو ربما يُشير إلى خطوات في إطار التنافس وليس التقارب، وهو ما يتضح من اتساع الفجوة الثقافية والمعنوية والسياسية المصاحبة للانقسام. لقد فاقم الاستقطاب الحاد بين “فتح” و”حماس”، الذي ظهر في وجود قوتين متوازنتين تستند كل منهما إلى مصادر لتعزيز شرعيتها في ظل الانقسام؛ الخلافات، وتحول ذلك إلى وسيلة لإبقاء الوضع القائم على حاله، وإلى ميدان للتنافس الداخلي على مواقع القوة والنفوذ تحت الاحتلال[12]. وساهمت الخلافات وتباين المصالح المختلفة للحركتين، في إحداث مزيد من التشظي في صفوف الفلسطينيين[13]. وتحركت ديناميات التقويض الــذاتي كالعســكرة، وانعــدمت الرؤية الموحــدة، وفشــلت عمليات الانــدماج السياسي والاجتمــاعي، وانفلتت مختلف أشكال الولاءات العصبية: فئوية وجهوية وعائلية. وأصبح شائعاً استخدام العنـف والقـوة المفرطـة فـي معالجـة التناقضـات الداخلية فـي صـفوف الشعب، وانتشرت ثقافة وقيم العنف، وانتهاك حقـوق الإنسـان، وتعرضت قـدرة الإنسـان الفلسطيني علـى الصـمود للخطـر، وضـربت التعددية السیاسـیة وآليات الديمقراطية، وتفاقمت ظواهر الإقصاء والتكفير والتخوين وعدم الاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف، وذلك خلافاً لما كانت عليه الهوية الوطنية عندما كان الشعب الفلسطيني يواجه الاحتلال بالثورة والانتفاضة. ولم يعرف الوطنيون الفلسطينيون حينها هويّات فرعية مُتناحرة أو انتماء إلا لفلسطين، الأمر الذي جنبهم الوقوع في متاهات الصراعات العرقية والطائفية والجهوية التي تعاني منها اليوم كثير من الدول العربية والإسلامية، إلا أن توقُف المواجهة الساخنة مع العدو وحالة الانقسام أفرزا تداعيات سلبية على وحدة وتماسك المجتمع والهوية[14].

لقد كانت إسرائيل من أهم من اشتغل على اصطناع هوية الضفة وهوية غزة وتعزيز حالة التباين بين الطرفين لإفشال المشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة. وكان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة من طرف واحد عام 2005 أهم خطوة في هذا السياق، إلا أن أطرافاً عربية وفلسطينية عززت هذا التباين بين الضفة وغزة، وقد سعت جميع الأطراف المتواطئة في خلق تباين بين هوية غزة وهوية الضفة لخلق القطيعة بين الضفة وغزة ومحاولة تحويل الانقسام من انقسام جغرافي وسياسي إلى انقسام اجتماعي وثقافي وهو الأكثر خطورة لأنه يؤدي لتفكيك الرابطة الوطنية التي توحد الجميع.

تفاقمت أزمة الهوية عندما ربطت حركة حماس نفسها بمشروع الإسلام السياسي الذي يصطنع تعارضاً بين الهوية الوطنية والإسلام، أو بين المشروع الوطني والمشروع الإسلامي، ومع سيطرة حماس على قطاع غزة، تم تهميش وتهديد الهوية الوطنية عندما عملت حركة “حماس” على إلحاق القضية الفلسطينية بمشروع الإسلام السياسي للإخوان، وتمت إدارة الظهر للمصالحة الوطنية وللعمل الوطني لصالح تثبيت قطاع غزة كقاعدة من قواعد المشروع الإسلامي المتعدي للوطنية[15].

  • الأوضاع الاقتصادية:

تعرض اقتصاد قطاع غزة بشكل خاص، والاقتصاد الفلسطيني بشكل عام، منذ منتصف عام 2007، لضربة قاصمة نتيجة الانقسام الفلسطيني، حيث فرضت إسرائيل حصاراً شاملاً على قطاع غزة، مبررة بأن قطاع غزة أصبح تحت سيطرة حركة “حماس”، وقامت بإغلاق المعابر ومنعت وصول العديد من السلع الأساسية لقطاع غزة، كما منعت خروج السلع الصناعية والزراعية. وحتى عام 2018، ما زال الاقتصاد يعاني من سياسة الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، هذا بالإضافة إلى الحروب والهجمات العسكرية المتكررة التي عمقت الأزمة وأنتجت دماراً هائلاً في البنية التحتية وفي كافة القطاعات والأنشطة الاقتصادية[16]. ويقدر المختصون أن كلفة الانقسام والحصار بلغت في عشر سنوات (2007- 2017)، بشكل مباشر وغير مباشر، نحو 15 مليار دولار[17].

شهد العام 2018 المزيد من الصعوبات، فالاقتصاد الفلسطيني عانى تقليص المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية، لعدم استجابتها للسياسات الأميركية الهادفة إلى تقويض القضية الفلسطينية. أما سكان قطاع غزة وتجارها واقتصادها، فشهدوا أزمات متتالية، أزمة تلو الأخرى، أنهكت الاقتصاد المتعثر، وكبدته خسائر طالت أرزاق مليوني فلسطيني يعيشون فيه[18].

وحذر البنك الدولي من أن تردي الأوضاع الاقتصادية في فلسطين بات مثيراً للقلق، مشيراً إلى أن الاقتصاد في قطاع غزة دخل مرحلة الانهيار، وأن الخدمات الأساسية المقدمة للسكان معرضة للخطر في ظل شح السيولة، حيث يعاني شخص من كل اثنين من الفقر، ويصل معدل البطالة بين سكان قطاع غزة، الذين يغلب عليهم الشباب، إلى أكثر من 70%. وبلغ معدل النمو الاقتصادي سالب 6% في الربع الأول لعام 2018، وكانت المؤشرات في الأشهر التالية تشير لمزيد من التدهور.

وما فاقم الوضع في غزة، التقليص التدريجي لبرنامج معونات الحكومة الأميركية الذي يتراوح بين 50 و60 مليون دولار سنويّاً، وتخفيضات لبرامج وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين[19]. ثم جاءت الإجراءات الحكومية الفلسطينية الرسمية، مطلع شهر نيسان (أبريل) 2017، التي تمثلت في خصم 30% من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في القطاع، وتزايدت تلك الخصومات فيما بعد حتى وصلت إلى 50%[20]. وخفّضت تلك الإجراءات القدرة الشرائية للمواطنين في القطاع، ومعها تكبد التجار خسائر كبيرة، وصلت إلى إغلاق بعضهم محالهم التجارية. ويقدر المختصون أن الإجراءات التي فرضتها السلطة الفلسطينية على غزة حرمت القطاع من نحو 20 مليون دولار أميركي شهريّاً، كانت تمثل سيولةً نقدية للقطاعات التجارية المختلفة داخل القطاع المنهك اقتصاديّاً من الأساس[21].

وقد علقت المديرة والممثلة المقيمة للبنك الدولي في الضفة الغربية وقطاع غزة، مارينا ويس، بقولها: “لقد تكالبت عوامل الحرب والعزلة والصراعات الداخلية، تاركةً اقتصاد غزة في حالة من الشلل تفاقمت معها المحن الإنسانية. إنه وضع يعاني فيه الناس الأمرّين لتلبية متطلبات الحياة الأساسية، ويكابدون أحوال الفقر المتفاقمة، واشتداد البطالة، وتدهور الخدمات العامة مثل الرعاية الصحية والمياه والصرف الصحي، إنه وضعٌ يتطلب حلولاً عاجلة وحقيقية ومستدامة”[22].

ومع أن الوضع في الضفة الغربية ليس بذات القدر من السوء، فإن النمو الذي كان حركه الاستهلاك في الماضي آخذ في التداعي، ومن المتوقع أن يتباطأ النشاط الاقتصادي بشدة في الفترة المقبلة.

ولعل مما فاقم سوء الوضع الاقتصادي الفلسطيني، عموماً، تراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية، من منطلق أن الدعم لن يكون ناجعاً في واقع الانقسام، ولن يكون نافعاً إن وجه لتيارات تقدم ولاءها للجماعة على الوطن[23]. تدعم هذا التباينات، كما في الحالات المصرية والقطرية والتركية، بشأن قطاع غزة، ودعمه. وكان التباين بالمواقف واضحاً في حرب عام 2014 على غزة، حيث عمدت قطر إلى محاولة تنظيم مؤتمر بعيداً عن الورقة المصرية التي حملت رؤية القاهرة لنزع فتيل الحرب بين “حماس” وإسرائيل. وقد أطالت هذه التباينات العربية الإقليمية أمد الحرب التي استمرت 51 يوماً، ما كبد الشعب الفلسطيني خسائر فادحة بالممتلكات بلغت 3.6 مليار دولار، والأرواح تجاوزت الـ 2147 شهيداً و10870 إصابة[24].

هذا بالإضافة إلى انشغال الدول العربية والإقليمية بمواجهة مجموعة من التحديات، كاستمرار ما تسمى الحرب على الإرهاب واستنزاف معظم طاقات الأمة العسكرية والأمنية والإعلامية والسياسية والمالية في مواجهة التهديدات الداخلية والتحديات السياسية والاقتصادية، وكذلك مواجهة تمدد النفوذ الإيراني في اليمن والعراق، ما يعني ضعف عامل الإسناد العربي والإسلامي على حدٍّ سواء للطرفين[25]. وصاحب ذلك تراجع كبير في حجم المنح المقدمة للسلطة الفلسطينية، حيث تراجعت العديد من الدول العربية عن تقديم الدعم للسلطة الفلسطينية[26].

ثانياً: التوظيف الإسرائيلي الأميركي للانقسام

الانقسام مريح لإسرائيل، فهي دائماً تسعى نحو إرباك المشهد، وتكريس شق الصف الفلسطيني.

في البداية، تعاملت الولايات المتحدة مع السلطة الفلسطينية على أنها المسؤولة فقط داخل الأراضي الفلسطينية، لكن دون أن تُقدم على خطوات فعلية داعمة، فهي تربط تقديم المساعدات للسلطة بإجراءات التعاون الأمني بين السلطة وإسرائيل. وبينما تتلخص رؤية واشنطن لحركة “حماس” بأنّها حركة إرهابية، وأنها لا تستوفي شروط الرباعية، ولا تزال تسعى لتدمير إسرائيل، ما يجعل تصدر حركة “حماس” للحكم صعباً[27]؛ فإنّ الموقف الأميركي الإسرائيلي بات مستعدّاً للتهدئة المنفصلة مع “حماس” لمنع المصالحة. على سبيل المثال، عندما سَعَت مصر لرأب الصَّدع، بشكل مكثف، في العام 2018، سَعَت إسرائيل لتوقيع تهدئة منفصلة مع “حماس” تُكرّس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ويعكس هذا نوعين أو مرحلتين من التوظيف للانقسام.

من جهة، استغلت إسرائيل الانقسام بما يخدم مصالحها، حيث تفرغت للاستيطان في الضفة وتهويد القدس، واتخذت قرارات عنصرية كـقانون القومية، دون وجود ردود فعل إزاء سلوكها، خاصة من المجتمع الدولي. ولكن من جهة ثانية، تتأكد الآن إستراتيجية المشروع الإسرائيلي القائمة على تجزئة الشعب الفلسطيني، وتبديد هويته الوطنية، وتفتيت كيانه التمثيلي الموحد، وتسجل نجاحاً، حتى إن تكلّف هذا مد طوق النجاة لحركة “حماس”، حيث عملت إسرائيل على استكمال سياسة فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية التي شرعت بها قبل توقيع اتفاق “أوسلو”، واستمرت في تنفيذها بشكل مطّرد، وصولاً إلى تنفيذ عملية إعادة الانتشار في محيط القطاع تحت عنوان خطة فك الارتباط الأحادي (عام 2005)، التي لعبت المقاومة الفلسطينية دوراً مهمّاً في حدوثها، ولكنها استهدفت تعميق الفصل، وقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية، وبث الفتنة والانقسام والاقتتال في الصفوف الفلسطينية[28].

وشكلت هذه الإستراتيجية الأساس المادي لعملية فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، في محاولة لتكريس مشروع دولة غزة، وتحويل الضفة الغربية إلى كانتونات مقسمة ومستباحة، مكدسة بالمستوطنين الذين تضاعف عددهم في ظل تعثر المشروع الوطني، وضعف الحالة الفلسطينية نتيجة الانقسام، وبعد 25 عاماً من توقيع اتفاق أوسلو[29].

لقد ساعد الانقسام على تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية ومحورية في الشرق الأوسط، إلى مجرد اهتمامات إنسانية إغاثية ومساعدات غذائية ودعوات لرفع الحصار، وهو التعريف الذي تريد إسرائيل والإدارة الأميركية الراهنة ترويجه.

وتهدف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى استغلال الظروف الإنسانية والاقتصادية المتردية لتكرير خطتها تقديم المساعدات الإنسانية مقابل التنازلات السياسية.

وباركت إدارة ترامب محادثات القاهرة بين “حماس” والمسؤولين المصريين، بالإضافة إلى الفصائل الفلسطينية الأخرى، للتوصل إلى تهدئة، ولكن السلطة عارضت الإجراء ومنعت تنفيذه. وترى إدارة ترامب أن اتفاق التهدئة يتوافق مع مخططها للتعامل مع المشكلة الفلسطينية كأجزاء منفصلة. وهو ما عبر عنه جاريد كوشنر، مستشار ترامب حول الشرق الأوسط، في تصريحات له، قائلاً: “أعتقد أن الشعب الفلسطيني أقل اكتراثاً في نقاط الحوار بين السياسيين وأكثر اهتماماً ليرى كيف ستوفر هذه الصفقة له وللأجيال المستقبلية فرصاً جديدة، والمزيد من الوظائف ذات الأجور الأفضل وآفاق الوصول إلى حياة أفضل”[30]. وهذا -وفقاً للكاتب روبرت فيسك- هو المال مقابل السلام بدلاً من الأرض مقابل السلام، الدولارات بدلاً من العاصمة الفلسطينية في القدس، وإنهاء الاستيطان، وتنفيذ حق العودة[31]. وهكذا يتضح أن الإدارة الأميركية تستخدم الغطاء الإنساني لتمرير تسوية، يصطلح إعلاميّاً عربيّاً، على تسميتها باسم “صفقة القرن” وإنهاء الحديث حول إقامة دولة فلسطينية من خلال إزالة الأساسات اللازمة لإقامة دولة فلسطينية مستقبلية.

يستطيع المراقبون أن يكتشفوا بسهولة المفارقة العميقة في التحركات الأميركية الأخيرة: فمن جهة، قطعت إدارة ترامب المساعدات عن الشعب الفلسطيني، وقطعت التمويل عن مستشفيات القدس، وقطعت مساهماتها المالية السنوية لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهي منظمة إنسانية. ومن جهة أخرى، أعلنت أنها تدعم الجهود التي يمكن أن تؤدي إلى إعادة إعمار قطاع غزة، وهذا يبين أن الدعم المقدم ليس مجانيّاً.

لقد كان قطع الدعم عن “الأونروا” الأكثر ضررًا، حيث دفع منظمة الأمم المتحدة لتجميد عدد كبير من مشاريعها، وإنهاء توظيف مئات العمال الفلسطينيين والموظفين الفلسطينيين المحتاجين في قطاع غزة. وهكذا، فإن الفصل بين ما أفرزه الانقسام من واقع خصب، واتفاق التهدئة، و”صفقة القرن”، هو أحلام يقظة، فجميع الجوانب مشبوهة، من حيث توقيت الطرح والمحتوى والديناميكيات[32].

الخلاصة

يشكل استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني لفترة طويلة تهديداً آنيّاً وإستراتيجيّاً بعيد المدى، حيث أحدث تحولات مجتمعية- سياسية واقتصادية أخرى، مقصودة أو غير مقصودة، أسهمت بدورها في تعميق الانفصال بين المنطقتين وخلق فئات وأطراف ذات مصلحة في استمرار الانقسام، ما قد يجعل من الصعب استعادة الوحدة، وهو ما يهدد الحالة الفلسطينية برمتها، وهو ما باتت الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية تعمل لاستغلاله بطرق متعددة، لتثبيت فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وبالتالي منع قيام الدولة الفلسطينية، خصوصاً عبر استغلال الوضع الإنساني في قطاع غزة، لتحويل القضية الفلسطينية من قضية حقوق وطنية إلى إغاثة ومساعدات.

[1] إبراهيم أبراش، جذور الانقسام الفلسطيني ومخاطره على المشروع الوطني، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 20، العدد 78 (ربيع 2009)، ص5.

[2] للتفاصيل انظر: الجزيرة نت، أبرز الاتفاقيات بين حماس وفتح في 10 أعوام،

http://bit.ly/2QWb949

[3] بال ثينك للدراسات الإستراتيجية، ورقة سياسات بعنوان “الخروج من الأزمة الراهنة ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل”، غزة، أيلول (سبتمبر)، 2007، ص4.

[4]  المركز الفلسطيني للأبحاث والسياسات والدراسات الإستراتيجية– مسارات، وثيقة الوحدة الوطنية، فلسطين، رام الله، 2016، ص8-10.

[5]  المرجع السابق، ص165.

[6] باسم الزبيدي، الانقسام الفلسطيني جذور التشظي ومتطلبات التخطي، مجلة المستقبل العربي، العدد 446، نيسان (إبريل)، 2016، ص88.

[7] Isabel Kershner, Palestinian Rivals Face Hurdles in Unity Talks, The New York Times, 11 Oct 2017.

[8] وكالة وطن للأنباء، حماس شرعت 47 قانوناً وحكومتها أصدرت 2446 قراراً خلال 7 سنوات، 16 حزيران (يونيو) 2016. http://www.wattan.tv/video/136782.html

[9] عدنان إبراهيم الحجار، آلية التشريع في فلسطين وتأثير الانقسام الفلسطيني عليها، مجلة جامعة الأزهر بغزة، سلسلة العلوم الإنسانية 2010، المجلد 12، العدد1(A)، ص58.

[10]  بعد مراجعة التقارير الحقوقية الصادرة من الهيئات، اتضحت حالة تراجع كبيرة في منظومة حقوق الإنسان بفلسطين، الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان “ديوان المظالم”، التقرير الشهري حول الانتهاكات الواقعة على حقوق الانسان والحريات، أيار 2017، https://ichr.ps
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، 2017، تقرير حول انتهاكات حرية الرأي والتعبير في السلطة الفلسطينية (1 (نيسان) أبريل 2016 وحتى 1 (نيسان) أبريل 2017)، http://pchrgaza.org/ar/?p=13395

[11] محمد أبو مطر،  أثر الانقسام السياسي الفلسطيني على مبدأ سيادة القانون في قطاع غزة، في “أثر الانقسام السياسي الفلسطيني على مبدأ سيادة القانون: معالجات من منظور القانون، والسياسة والاقتصاد” (بيرزيت: معهد الحقوق، جامعة بيرزيت، 2014)، ص88.

[12] المركز الفلسطيني للأبحاث، وثيقة الوحدة الوطنية، ص8-10.

[13] الزبيدي، الانقسام الفلسطيني، ص85.

[14] إبراهيم أبراش، تحديات الهوية والثقافة الوطنية ودور الشباب في الحفاظ عليها، الحوار المتمدن، 2017، http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=545509&r=0

[15] المرجع السابق.

[16] ماهر الطباع، قراءة في الوضع الاقتصادي الفلسطيني (2015-2016)، معهد فلسطين للدراسات الإستراتيجية، 2016، ص3.

[17] فلسطين اليوم، خسائر كارثية على جميع المستويات، بالأرقام، كم بلغت كلفة الانقسام والحصار منذ عشر سنوات، 14 أيلول (سبتمبر) 2017، https://paltoday.ps

[18] جهاد عويص، عام تفاقم الأزمة 2017 الأسوأ اقتصاديّاً على غزة، العربي الجديد، 27 كانون الأول (ديسمبر) 2017.

[19] روسيا اليوم، البنك الدولي: غزة دخلت مرحلة الانهيار الاقتصادي، 25 أيلول (سبتمبر) 2018، https://ar.rt.com/ku24

[20] عويص، عام تفاقم الأزمة.

[21] المرجع السابق.

[22] روسيا اليوم، البنك الدولي: غزة دخلت مرحلة الانهيار الاقتصادي.

[23] عبد الحميد معالي، “الإمارات والقضية الفلسطينية.. تراجع الاهتمام بالقضية لم يوقف الإيمان بها”، العرب، 2016/10/31.

https://alarab.co.uk/الإمارات-والقضية-الفلسطينية-تراجع-الاهتمام-بالقضية-لم-يوقف-الإيمان-بها

[24] عدوان غزة 2147 شهيداً و3.6 مليار دولار خسائر، الجزيرة نت، 28 آب (أغسطس) 2018، http://www.aljazeera.net/

[25] جواد الحمد، ورقة عمل: تأثير التحولات والثورات العربية على المصالحة الفلسطينية، مركز الزيتونة، 26/3/2015.

[26] لهذه الأسباب تعاني السلطة الفلسطينية تراجعاً في المنح المالية، عربي 21، 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2017.

http://bit.ly/2DBPXNd

[27] المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، عقبات جوهرية: إشكاليات تنفيذ تفاهمات حركتي فتح وحماس (تقدير موقف)، 30 أيلول (سبتمبر) 2017،

http://bit.ly/2DMHM1e

[28]  المركز الفلسطيني للأبحاث، وثيقة الوحدة الوطنية.

[29] كفاح زبون، اتفاق أوسلو.. دولة فلسطينية عالقة في «المعبر المؤقت»، الشرق الأوسط، 13 أيلول (سبتمبر) 2018.

[30] مقابلة جاريد كوشنر مع صحيفة القدس الفلسطينية، 24 حزيران (يونيو) 2018.

[31] Robert Fisk, Look closely and you’ll see Jared Kushner’s cynical ‘Deal of the Century’ for Palestinians in Action, The Independent, 2 Aug 2018.

[32] Hisham H. Ahmed, The Deal that Lurks Behind the Calm: US, Israel Seek to Exploit Palestinian Divisions and Create More of Them, MBNNEWS, 122018.

https://www.mintpressnews.com/the-deal-that-lurks-behind-the-calm-us-israel-seek-to-exploit-palestinian-divisions-and-create-more-of-them/249166/

للتحميل اضغط هنا