تأثير الوضع الدولي على الصراع

 فيصل حوراني هذه الورقة**

أسعدتني الدعوة التي تلقيتها للمشاركة في هذا اللقاء، أنا الذي حُرِمتُ لعقود طويلة من الالتقاء بأهلي في هذه البقعة من البلاد. وقد هيأت نفسي لتحمل مشاق السفر ومهانات الحواجز ونقاط العبور التي لا بدّ منها من أجل الوصول إليكم. وشرعتُ في إعداد ورقتي للّقاء، بنية أن تحتوي ما يحفز على المناقشة. وفيما أنا منصرفٌ لإعداد هذه الورقة قرب من ختامها، وقع لزوجتي حادثٌ أدى إلى كسرٍ في قدمها ألزمها البقاء في الفراش وجعلها بحاجة إلى رعايتي على مدار الدقيقة وليس الساعة وحدها. وبهذا، وجدتني مضطرًا إلى حرمان نفسي من الحضور إليكم بنفسي، كما وجدتني مضطرًا، أيضًا، إلى تبديل نهج ورقتي. فبدل التركيز على استحضار الأسئلة التي تحفز على النقاش، قررتُ إعداد ورقة تعرض لكم موجزًا لما أردت قوله أثناء هذا النقاش. وعنى هذا أن تجيء ورقتي أطول قليلًا من الوقت المخصص لي. ودخلتُ في سباق مع الزمن والمشاغل الطارئة لأنجز هذه الورقة في وقت قصير. فمعذرة، أثق بأني سأحظى بها منكم، إذا بدت الورقة دون المستوى اللائق بلقائكم!

أودّ أن أبدأ حديثي بإيجاز الأسس التي تسند أسس تحدد الرؤية رؤيتي للوضع الدولي من حيث تأثيره على مجريات الصراع الفلسطيني– الصهيوني. وأهم هذه الأسس هي التالية:

  • القوى الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية، مع لفيفها الإمبريالي، هي العدو الأول للشعب الفلسطيني. ورفض هذه القوى للمطالب الوطنية الفلسطينية هو العامل الأول الذي يحرم هذا الشعب من التمتع بحقّه في تقرير مصيره بحرّية. أما إسرائيل التي لا تقلّ عداءً لشعب فلسطين عن سواها، فهي ليست سوى جزء من الماكينة الإمبريالية. وإذا تمتعت إسرائيل بالمساندة الخاصة التي نعرفها، فلأنها تخدم أجزاء الماكينة الأخرى وتقوم بدور لصالح هذه الأجزاء يُذكّر بدور القاتل المأجور الكفؤ وقليل الكلفة. وفي الحديث عن كفاءة إسرائيل، ترد في الحسبان قدراتها الذاتية. وفي الحديث عن قلّة الكلفة يؤخذ في الحسبان أن ما يجنيه اللفيف الإمبريالي مما تفعله إسرائيل لصالح دوله يفوق بأضعاف ما كانت هذه الدول ستجنيه لو فعلت هي بذاتها الشيء ذاته الذي تفعله إسرائيل.
  • في إطار التحالف الإمبريالي المعلوم تستحوذ الولايات المتحدة الأميركية لذاتها وحدها على ما يقترب من ربع الناتج القومي لدول العالم كافة (17 تريليون دولار من أصل 72 تريليوناً)، علمًا بأن عدد سكانها لا يبلغ حتى نسبة خمسة بالمائة من سكان العالم. وتنتج الولايات المتحدة أسلحة تكفي لإبقائها متفوقة على دول العالم كله، فتفرض بقوة سلاحها كما بالوسائل الأخرى هيمنتها على اللفيف الإمبريالي. وتطبع الولايات المتحدة دولارات ورقية دون غطاء ذي قيمة. وبهذا تستخدم الولايات المتحدة قوتها العسكرية وقوتها المالية المحمية بالعسكرية لتفرض هيمنتها على العالم بأسره. فإذا أخذنا في الاعتبار أن عشرة بالمائة من الأميركيين يستحوذون على تسعين بالمائة من ثروة بلدهم فبالإمكان أن نحدّد في نحو أدق من هم الذين يحكمون البلد ولماذا تتركز جهود إسرائيل على استرضاء هؤلاء وحدهم.

بقوتها، قادت الولايات المتحدة الحرب العالمية الباردة ضد الاتحاد السوفييتي وبلدان المنظومة الاشتراكية الأخرى، فربحتها، فأسقطت الأساس الذي استندت إليه شعوب

** ورقة مقدمة، لمؤتمر معهد إميل توما السنوي، حول القضية الفلسطينية-حيفا، 29/11/2016.

  • العالم التواق إلى الحرية، وبضمنها الشعب الفلسطيني، وفرضت ذاتها قائدة لمحور وحيد في نظام دولي يحل محل نظام المحورين.
  • وبهيمنتها على حلفائها وأتباعها في القارات الخمس، استكملت الإمبريالية الأميركية، ومعها بالطبع إسرائيل، إنشاء الموقف الذي يجعل كلّ تحرك فلسطينيّ في اتجاه تقرير المصير خاسرًا. فالفلسطينيون المحشورون في هذا الموقف يخسرون إن تطرفوا وإن اعتدلوا، إن مارسوا العنف وإن نبذوه، إن انهمكوا في التفاوض بشروط أو بغير شروط، إن فاوضوا وإن كفّوا عن التفاوض. وبهذا، أحلّت الإمبريالية المعولمة نهج تكبيل الشعوب محل نهج التآمر على هذه الحركة، ووفرت لإسرائيل التفوق العسكري والاقتصادي الذي نشهده وجعلت هجوم الدعم العالمي المساند لحق تقرير المصير لشعب فلسطين أقلّ بما لا يقاس من حاجات هذا الشعب وأقل حتى من حجوم الاستنكار العالمي لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
  • في سعيها للهيمنة، تدرجت الولايات المتحدة في فرض هيمنتها على الطاقة ممثلة منذ بدايات القرن العشرين بالنفط والغاز. بدأ الأمر بسعي الإمبريالية الأميركية لتكون شريكًا للإمبريالية البريطانية والأخرى الفرنسية في امتلاك حقول النفط في الشرق الذي سموه الأوسط، ثم بسعيها للاستحواذ على حصص الشركاء. وتدرج الأمر نحو الهيمنة على عائدات النفط التي تخصّ الأسر الحاكمة في مواطنه، الأسر التي تتمتع بحماية المستفيدين من النفط دون أن تتمتع بحق الاستفادة منه لصالح بلدانها. وانتهى الأمر، كما صار عليه الشأن الآن، إلى سعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة على تسويق الطاقة لإباحة وصولها إلى الحلفاء وحجبها عن المنافسين والمناوئين، ولمنع الشعوب التي تقع مصادر الطاقة في بلدانها من الاستفادة من هذه العائدات لتطوير ذاتها، وكذلك الضغط على أي دولة تتجه لممارسة سياسة طاقة مستقلة.
  • ولأن نسبة كبيرة من مخزون الطاقة ووعودها موجودة في الشرق الأوسط بالذات، فقد واجه هذا الإقليم جهدًا أميركيًا مثابرًا منذ إشهار مبدأ ايزنهاور في خمسينات القرن المنصرم لفرض السطوة الأميركية عليه. وفي يقين باذلي هذا الجهد في الإدارات الأميركية المتعاقبة أن من يتحكم بالطاقة إنتاجًا وتسويقًا قادر على التحكم بمصائر بلدان العالم كافة. لهذا السبب، بالطبع مع أسباب أخرى، زادت أهمية إسرائيل واتسع دورها في خدمة أميركا. والذين توهموا أن انتهاء الحرب الباردة سيقلّص أهمية إسرائيل هذه ودورها وقعوا في خطأ كبير. إسرائيل مهيأة لزيادة دورها وليس لنقصانه.
  • تمارس الولايات المتحدة، حين يتعلق الأمر بدور إسرائيل في خدمة مصالحها هي، سياسة تبدو في ظاهر أمرها مزدوجة. السياسة ذاتها مارستها بريطانيا حين كانت إمبراطوريتها الاستعمارية هي الساعية للهيمنة على الشرق الأوسط. ولمن نسوا يمكن تذكيرهم بأن وعد بلفور البريطاني وَعَدَ الحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي ليهودها، على أن يقوم هذا الوطن في أرض فلسطين دون أن يمتد إلى شرق الأردن، مع أن شرق الأردن كان مدرجًا في مطامع الصهيونية. وقد أنيط بإسرائيل، بين مهام أخرى، مهمة منع التطور الطبيعي لبلدان الشرق الأوسط، دون أن يتاح لها أن تمتد إلى تخوم أرض النفط. فهذه البلدان لا يباح، بريطانيًا ثم أميركيًا، لقوى فعالة أن تسيطر عليها. والواقع، كما جرى صنعه وترسيخه، أن من وُلّوا شؤون مشيخات النفط وإماراته وممالكه كانوا من المحتاجين إلى حماية بريطانيا ثم أميركا ضد شعوبهم، والقابلين للخنوع، وما زالوا. وكل بلد أفضت ظروفه إلى ممارسته سياسة طاقة مستقلة تعرض للعدوان، إيران، ثم العراق، وبعدهما ليبيا، وعوقب الحكام الذين أنشأوا هذه السياسة ليس على جرائمهم بحق شعوبهم، بل على الصائب من سلوكهم.
  • إسرائيل، بدعم إمبريالي مثابر، تولّت استنزاف طاقات البلدان العربية المحيطة بها، خصوصًا البلدان التي تهيؤها بناها للتطور الطبيعي. هذا الدور مارسته إسرائيل بكفاءةٍ أنتجت مسلسل النكبات التي تتواتر حتى يومنا هذا. وكل من جرؤ على مناوأة إسرائيل ومناوأة المستفيدين من وجودها وسلوكها تلقى ما تلقته سورية هذه السنوات. فهذا البلد، بشعبه المناوئ المزمن للمطامع الإمبريالية، يُعاقب ويُدمّر ليس بسبب خطايا حكامه التي ما أكثرها، بل بسبب الصائب في سياسة هؤلاء الحكام. أما الشعب الفلسطيني فلا حاجة لتذكيركم بالأسباب العديدة التي جعلته يتلقى الحصة الأكبر من النكبات، لا لشيء إلا لأن إسرائيل لم يكن لها أن تنشأ وتلعب دورها في خدمة الإمبريالية ما لم تستولِ على وطنه، ولأن هذا الشعب يأبى الاقرار بنتائج الاعتداءات التي تعرض لها، ويأبى الانصياع لناهبي وطنه وحريته.
  • في غضون ذلك، وذلك هو ما استغرق العقود العشرة التي انقضت منذ وُضع وعد بلفور في التطبيق، تدرجت صلة الصهيونية ثم إسرائيل باللفيف الإمبريالي، خصوصًا البريطاني حتى منتصف الخمسينات المنقضية ثم الأميركي بعد ذلك، من موقع القاتل المأجور، الكفؤ وقليل الكلفة كما ينبغي تكرار القول، إلى موقع الشريك في صنع مصائر بلدان الشرق الأوسط وإخضاعها للهيمنة الأميركية، إلى موقع الحليف الاستراتيجي، كما هو حالها الآن. وفي غضون ذلك أيضًا، وبالاستفادة من تدرجاته، بقيت أطماع الصهيونيين على حالها القديم، واستجدت أطماع جديدة، واشتدت العدوانية الإسرائيلية إلى درجات غير مسبوقة، وذلك كلّه دون أن تتعرض إسرائيل إلى أي ضغوط فعالة من أعضاء اللفيف الإمبريالي. وتولّت بريطانيا، ثم الولايات المتحدة، تتويج مشايخ وأمراء وملوك حكموا البلدان متأخرة النمو. واختير لهذه المهمة أكثر الناس تبعية لبريطانيا ثم للولايات المتحدة وأكثرهم استعدادًا للتضامن إزاء نهب الإمبرياليين لثروات بلادهم، وأكثرهم فسادًا وولعًا بتبديد الثروات، وأكثرهم إهمالًا لاستثمار ثروات هذه البلدان لتطويرها. وبهذا ضمنت القوى التي تنهب ثروات النفط أن تظلّ هذه البلدان عاجزة عن تحقيق نمو مطّرد وعاجزة بالتالي عن اتباع سياسة طاقة مستقلة.
  • الوضع الدولي هو العامل الحاسم في تقرير مصير الصراع الفلسطيني – الصهيوني. لا يعني هذا القول أن العوامل المحلية الذاتية معدومة التأثير، بل يعني، تحديدًا، أن العامل الذاتي الفلسطيني والعامل الذاتي الإسرائيلي لا يملكان، ولا يملك أيّ منهما على حدة، التأثير الحاسم في تقرير نتائج الصراع. فإسرائيل دون الدعم الدولي الذي تتلقاه لن تعدو كونها دولة هجينة في المنطقة. والفلسطينيون حتى مع الدعم الذي يوفّره لهم بعض العرب لن يبلغوا الدرجة من القوة التي ستمكنهم من إلحاق الهزيمة بإسرائيل المتمتعة بالدعم الخارجي المتوفر لها، ما لم يتمتعوا بدعم عالمي يوازن الدعم المتوفر لإسرائيل، ولا يكفي في هذا المجال أن يتمتع الفلسطينيون بدعم سياسي من الأمم المتحدة أو من منظمات عالمية إقليمية.
  • من هنا، يصير مفهومًا لماذا ترفض إسرائيل رفضًا حاسمًا ومثابرًا أي جهد يسعى لتدويل قضية الصراع، ولماذا تكتفي هذه "الإسرائيل" بالدعم والحماية اللذين توفرهما لها الدول الإمبريالية. ومن هنا، أيضًا، يصير مفهومًا لماذا تستهدف إسرائيل استرضاء النخب المتنفذة في هذه الدول ولا تعبأ بالانتقادات التي تطال سياستها حين يعبّر عنها ناس من غير ناس النخب صاحبة القرار. ومن هنا، أيضًا، يصير مفهومًا لماذا تركّز القيادة الفلسطينية جهدها على الوضع الدولي، مع ما يعثور هذا الجهد من أخطاء وقصور ونواقص.

وكذلك، من هنا يصير مفهومًا لماذا مثّل الانتقال الفلسطيني من مناوأة الشرعية الدولية إلى الاتكاء عليها خطوةً متقدمة في مسار تطور الفكر والممارسة الفلسطينيين. فاستهداف

  • صياغة سياسة تستند إلى الشرعية الدولية ليس، بالنسبة إلى الفلسطينيين بالذات، حاجة يمليها الحرص على حسن السمعة، وليس حلية للزينة، بل هو سلاح أساسيّ في الصراع، من دون توفره سيظل كلّ سلاح آخر ناقص الفعالية. وهذا السلاح بالذات، سلاح الشرعية الدولية، يفترض التمسك به حتى لو بدا أن الطريق إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية قد انسد. بل إن الحاجة إلى هذا السلاح تشتد كلما انسد هذا الطريق، وذلك من أجل المساعدة على فتحه من جديد، والاستفادة من تطور إيجابي في الوضع الدولي، وتقليل مضار التطورات السلبية.

وصف الوضع الراهن

  • في ضوء هذه الأسس أود أن أنتقل بالحديث إلى الوضع كما هو مستجد الآن، بعد أن انقضى قرن على بداية الصراع الساخن، وثمانية وستون عامًا على إنشاء إسرائيل، وتسعة وأربعون عامًا على استكمال هذه الإسرائيل السيطرة على وطن الشعب الفلسطيني بكامله، وثلاثة وعشرون عامًا على إبرام اتفاق المبادئ المسمى أيضًا اتفاق أوسلو.

هنا، يقتضي السياق تذكيركم بما صارت نتائجه معروفة بتمامها. فمفاوضات أوسلو واتفاق المبادئ الذي أفضت المفاوضات إليه وبروتوكولات تنفيذ الاتفاق، هذه كلّها تمّت في زمن انهيارات متتالية أفادت اللفيف الإمبريالي، وبضمنه إسرائيل، وأضرّت بمن يواجهون الإمبريالية وبضمنهم، بل في مقدمتهم، شعب فلسطين وحركته الوطنية. فانهيار التضامن العربي، وانهيار الاتحاد السوفييتي والسلطات الاشتراكية في دول شرق أوروبا، والوهن الذي لحق بسبب ذلك بكل القوى التقدمية المناوئة للإمبريالية في كل العالم، هذه الانهيارات كلها التي تزامنت في وقت قصير أفقدت الشعب الفلسطيني الأسانيد الصلبة التي سندت كفاحه الوطني. وغنيّ عن البيان أن اتفاقًا يُعقد في زمن انهيارات بهذا الحجم لن يأتي لصالح الطرف المتضرر منها ولن يفضي إلا إلى إضعاف هذا الطرف. وهنا، أيضًا، يقتضي السياق ذاته تذكيركم بأن منظمة التحرير الفلسطينية عارضت قرارات الشرعية الدولية قبل الانهيارات هذه، وخوّنت أو ناوأت الذين وافقوا عليها، وثابرت على هذا الموقف السلبي، ولم تتخلَ عنه إلا بعد أن سقطت الدول والقوى التي فرضت في حينه أن تتضمن هذه القرارات عددًا من مطاليب الشعب الفلسطيني، وأخصها بالذكر حق هذا الشعب في تقرير مصيره بحرية وإقامة دولة مستقلة خاصة به على أرض وطنه. فهذان المطلبان الأساسيان أملاهما التوازن الدولي الذي كان الاتحاد السوفييتي يشغل واحدة من قمتيه النوويتين. والمدهش أن قيادة الشعب الفلسطيني انتظرت إلى أن سقطت هذه القمة المساندة لها وقبلت بعد ذلك ما هو أدنى بكثير مما تمنحه قرارات الشرعية الدولية للشعب الفلسطيني.

وها هي ذي قرابة ربع قرن قد انقضت منذ مفاوضات أوسلو واتفاق المبادئ. وكانت هذه فترة كافية لإظهار بؤس المراهنة على اتفاق أوسلو. فها نحن قد انتهينا إلى ما نحن فيه. وها هي ذي إسرائيل تتذرع بهذا الاتفاق لترفض إعادة موضوع الصراع إلى المؤسسات الدولية، وتواصل في الوقت ذاته تحقيق حلها المنفرد: قضم أرض الشعب الفلسطيني، واستخدام قوتها العسكرية ونفوذ اللفيف الإمبريالي المساند لها لحماية هذا القضم، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة الخاصة به.

وفي واقع الأمر، فإن كلّ من توقع شيئًا مختلفًا منذ إبرام اتفاق أوسلو، وكلّ من راهنوا على إمكانية التوصل إلى حل متوازن، عادل وقابل للاستقرار، عبر التفاوض، كانوا مخطئين. وأكثر هؤلاء خطأً هم الذين ما زالوا يعتقدون أن بالإمكان التوصل إلى مثل هذا الحل عبر أي مفاوضات، خصوصًا أولئك الذين يعوّلون على احتمال وقوع تبدّل في مواقف الدول الإمبريالية، أو يعوّلون على دعم يحصلون عليه من الأنظمة العربية التابعة للإمبريالية والراضخة لمشيئة دولها.

وفي ظل اتفاق أوسلو، اتبعت إسرائيل نهجًا مزدوجًا، وأيدها حماتها فيه: التحلل من البنود القليلة التي تلزم إسرائيل هذه التزامات لصالح الطرف الفلسطيني؛ والاتكاء على بنود كثيرة في الاتفاق تستخدمها إسرائيل لحمل القيادة الفلسطينية على الرضوخ لمشيئتها هي والكف عن مناوأتها بأي شكل وأي مستوى. وفي غضون ذلك تواصل إسرائيل نهج قضم الأرض الفلسطينية، وتستفيد من الوضع الدولي المواتي لها الآن لتستدرج مزيدًا من الأنظمة العربية الحاكمة إلى التعاون معها، مؤججة الفتن الطائفية التي تغري هذه الأنظمة بهذا التعاون. وفيما هي تفعل ذلك، تواصل إسرائيل إحكام الوضع الذي أسهمت في صنعه، الوضع الذي أشرنا إليه، الوضع الذي لا يوفر للجانب الفلسطيني إلا الخسران. وفي يقيني أن هذا الوضع سيستمر، ما دام الوضع الدولي، بإجماله، لصالح إسرائيل، وما دامت الهيمنة على العالم معقودة للطرف الذي تنتمي إسرائيل إليه. وهذا وضع لن يتبدل ما لم ينشأ توازن دولي جديد، يشبه التوازن الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. فذلك التوازن هو الذي جاء في العام 1948 بقرار تقسيم فلسطين بين عربها واليهود وليس بتخصيص فلسطين للصهيونية ويهودها كما شاء وعد بلفور. وهذا التوازن، وقد تعزّز، هو ما أملى في العام 1967 إصدار قرار مجلس الأمن الدولي 242 الذي نص على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية التي استولى عليها جيش إسرائيل في العام 1967 وضرورة التوصل لحل عادل لمشكلة اللاجئين. بدون هذا التوازن، لم يكن لمثل هذا القرار أن يصدر بعد أن هزم جيش إسرائيل ثلاثة جيوش عربية وجعل عواصم بلدانها الثلاث مفتوحة أمامه.

الوضع الدولي القائم الآن على غياب التوازن بين مصالح الإمبريالية ومصالح مناوئيها غير مرشح للدوام إلى الأبد. ونحن نشهد منذ بعض الوقت توالي مسارات تتفاعل على امتداد كوكبنا وتؤشر إلى ما هو آت. فالنظام الدولي الذي عمدت الولايات المتحدة إلى إنشائه، وهو النظام الذي يجيز لإسرائيل أن تواصل العمل على إلغاء الوجود الوطنيّ للشعب الفلسطينيّ، يواجه تحديات تعكس تضارب المصالح بين الطماعين أنفسهم. هذا التضارب، كما هو متجسد حتى اللحظة، يُفضي إلى نتيجتين متعاكستين: ازدياد إمبرياليي النجوم الخمسة طمعًا وعدوانية وتوحشًا؛ وازدياد إمبرياليي النجوم الأقل طموحًا إلى الظفر بحصة أوفر من الثروة والنفوذ العالميين. وفي المسننات الناشئة في ساحات التضارب بين الطرفين تستطيع الشعوب المعرضة لخسارة كلّ شيء، كما هو شأن الشعب الفلسطيني، أن تجد ما تستند إليه في كفاحها من أجل حقوقها المشروعة. وكلّما شدّدت هذه الشعوب كفاحها لتستخلص شيئًا من بين أنياب إمبرياليي النجوم الخمسة يتعزز الأمل بأن توازنًا عالميًا جديدًا سوف ينشأ، توازنًا يُضعف الطماعين من كل درجة، ويفتح الباب لتقدم البشرية في المسار الذي قطمه انتصار الإمبريالية في الحرب الباردة.

كم من الوقت سينقضي قبل أن ينشأ من جديد هذا التوازن المفيد لشعوب الأرض كافة، خصوصًا الشعب الفلسطيني. ومن هو القادر على التنبؤ حين نكون في زمنٍ أبرز سماته اختلاط المواقع والإرهاصات المبشرة والأخرى المنذرة. إنه برزخ يمتد أمامنا إلى مدى يتعذر قياسه منذ الآن، برزخ نشهد بداياته الأولى دون أن نستشرف نهايته. وهو برزخ خطير، خصوصًا على الشعب الفلسطيني بالذات. لقد تعرض الشعب الفلسطيني منذ ما زاد على قرن كامل لعمليات منعه من التطور الطبيعي على أيدي قوى باغية ومقتدرة؛ تعرض لتقطيع أوصاله الجغرافية والبشرية، وللإبادة الجسدية والمعنوية. ووصل الأمر بإسرائيل وحماتها إلى ما نشهده الآن: السعي المثابر لإنهاء الوجود الوطني لهذا الشعب وتحويل أشتاته إلى جماعات سكانية لا يتوفر لهم إلا ما وفرته الإمبراطورية الرومانية لعبيدها: ما يقيم الأود إذا استكانوا، وما يقضي عليهم إذا تذمّروا. أليس هذا هو المغزى الحقيقي لشعار السلام الاقتصادي الذي تعرضه إسرائيل على الفلسطينيين.

لقد استخدمت إسرائيل كل ما في جعبة الختل، وكل ما تملكه من إمكانيات ذاتية وما تتلقاه من دعم عسكري وسياسي، وما تملكه هي وداعموها من نفوذ يمكنها من الهيمنة حتى على غرف نوم ضحاياها، لكي تدمر في نحو منهجي البنى التحتية المادية والروحية للشعب الفلسطيني، خصوصًا الماكث في الأرض المحتلة. وأضافت إسرائيل إلى هذا سعيها المنهجي هو الآخر، لتدمير البنى الفوقية أيضًا. ولقيت إسرائيل في هذا كله مساندة كاملة ومتزايدة من الولايات المتحدة ولفيفها كلّه. ولأن من المتعذر في عصرنا إبادة شعب بكامله إبادة جسدية، فإن إسرائيل وداعميها استهدفوا إلغاء السمات الوطنية لهذا الشعب.

المستقبل أمل وهواجس

هذا التوصيف الذي عرضته بهذا الإيجاز الشديد لا يعني أن تبلغ إسرائيل كل ما تستهدفه، حتى مع الإقرار بأن إسرائيل أنجزت الكثير في هذا السياق. فما زالت سمات وطنية كثيرة ناجية من الدمار. وفي البرزخ الذي تحدثت عنه تبرز بصفة خاصة أهمية الحفاظ على الناجي من السمات الوطنية والعمل على ربطه بعضه ببعض وتوسيعه، وذلك، كي يبقى لشعب فلسطين ما يمكنه من الاستفادة من التحولات الإيجابية القادمة، العاجل من هذه التحولات والآجل. وبدون الحفاظ على ما بقي وتجميعه وتطويره، سيأتي الوقت الذي يتبدل فيه الوضع الدولي الحاكم لمسار الصراع، دون أن تتوفر القوة الفلسطينية اللازمة للاستفادة منه.

للحفاظ على ما بقي، لتجميعه وتطويره، شروط لن يتحقق شيء إيجابي دون توفّرها:

أول هذه الشروط وأكثرها إلحاحًا وأقواها فعالية هو نبذ السياسة الخائبة التي اتُّبعت منذ أوسلو، سياسة استرضاء الأعداء والاتكاء على العرب المتطامنين إزاءهم التابعين لهم المفتقرين لما يحفزهم على مساندة جهد الشعب الفلسطيني لاستخلاص حقه في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة. وأنا أعلم أن القيادة الفلسطينية نبذت منذ عهد ياسر عرفات التعويل على إمكانية استخلاص شيء من إسرائيل وأن خليفة عرفات نبذ هو الآخر هذا التعويل.  لكني أعلم، أيضًا، أن التعويل على هذه أو تلك من دول الإمبريالية ما زال يراود القيادة من وقت لآخر، خصوصًا حين ترسل هذه الدولة أو تلك خرز الزجاج الملون هدية للفلسطينيين فيما هي ترسل الجواهر الحقيقية لإسرائيل.

نبذ السياسة الخائبة يوجب صياغة سياسة جديدة تعيد الحركة الوطنية الفلسطينية إلى ما كانت عليه، أي إلى كونها جزءاً من الأطراف العالمية المناوئة للإمبريالية. وهذا يوجب، بين ما يوجبه، التحالف مع الدول والقوى المناوئة للولايات المتحدة، كما يوجب التعامل مع الأنظمة العربية المتطامنة إزاء هذه الإمبريالية، بتوجيه الضغوط الشعبية على هذه الأنظمة كي تقدم ما كانت تقدمه من دعم مالي وسياسي للحركة الوطنية الفلسطينية.

الشرط الثاني الذي لا يقل أهمية عن الشرط الأول هو إصلاح الوضع الذاتي الفلسطيني. وعناوين هذا الإصلاح تتقدمها العناوين الأكثر إلحاحًا: إعادة الاعتبار لوحدة تمثيل الشعب الفلسطيني، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها كلها، وإعادة الاعتبار لأولوية مقاومة الاحتلال. الشرط الثالث هو توجيه ما يلزم من الجهد إلى الوضع الدولي. والوضع الدولي لا يقتصر على الجمعية العامة للأمم المتحدة، فهذه المؤسسة شبيهة بمؤسسة جامعة الدول العربية. فهي تجسد صورة الوضع الدولي وقواه المهيمنة مثلما تجسد الجامعة صورة الوضع العربي وقواه المهيمنة. ونحن نشهد الآن اتساعًا غير مسبوق وغير مرشح للارتداد في مواقف الناس العاديين في دول العالم كافة، في استنكار ما تفعله إسرائيل وحماتها بالفلسطينيين. ولأن هذا الاتساع لا يقابله اتساع في فعاليات دعم الفلسطينيين فإن هدف الجهد العالمي يتحدد: أن تتحوّل مظاهر استنكار الاعتداءات على الفلسطينيين إلى فعاليات دعم لهم في مواجهة هذه الاعتداءات.

الشرط الرابع هو نبذ الأوهام. فقدرة أعداء الشعب الفلسطيني أكبر من قدرة هذا الشعب حتى وهو في أمثل حالاته. وهدف إصلاح الوضع الذاتي هو هذا الذي أشرنا إليه مرارًا: استبقاء ما يكفي من القوة الفلسطينية للاستفادة من التطورات المرتقبة في الوضع الدولي. ويمكن أن يقترن بهذا الهدف هدف له صلة به وهو استعادة دور الكفاح الوطني الفلسطيني، بما هو عامل يمنع استقرار العلاقة بين الدول الإمبريالية وأنظمة الحكم التابعة لها في الشرق الأوسط. وقد ينبغي تذكيركم بوقت اضطر فيه النظام السعودي إلى الإعلان عن قطع النفط عن دول أيدت عدوان حزيران (يونيو) 1967 الإسرائيلي.

هذه الشروط، وبضمنها الإصلاح، لا تتحقق بدعوة هذا أو ذاك من القادة أو الفصائل إلى تحقيقها، ولا يصير من الممكن أن تتحقق إلا بتعميم القناعة بأن إصلاح الحال الفلسطيني، بإخراجه من الموقف الذي تتوالى فيه الخسارة، لا يتحقق بجهد طرف واحد، بل بجهود الجميع. وهذا يعني أول ما يعني أن تتعاون على تحقيقه فصائل العمل الوطني كافة، وأن يتم تعاونها وفق برنامج يستوعب الهوامش المشتركة بين الجميع ويرجئ الاختلافات.

وفي يقيني أن بين الفلسطينيين كثيرون يقبضون على جمر هذه القناعة، وهؤلاء مطالبون قبل غيرهم بأن يبذلوا أقصى جهودهم لتعميمها.

وفي الختام، أود أن أنبه إلى نقطة هامة، ما دام أن مفتاح الفلاح يتمثل في وجود برنامج للعمل الوطني الفلسطيني قائم على الهوامش المشتركة بين الجميع. وهذه النقطة هي أن مما يسهل الوصول إلى هذا البرنامج هو الاتفاق منذ الآن على ضرورة تطوير البرنامج كلما أمكن للعمل الوطني أن يكتسب قوة جديدة من خلال التطورات اللاحقة المرتقبة.

لن أفصل كثيرًا في الحديث عن الوضع الذاتي. ولكني أختم بما ينبغي قوله بالفم الملآن وبصراحة: أنا أخشى أن نظل في ما نحن فيه وأن نتكبد مزيدًا من الخسارات، إذا لم يُعد النظر كاملا ببنود السياسة الخائبة التي نعاني أضرارها الآن على كل صعيد.