أحمد عز الدين أسعد*
تنطلق الهندسة الاستعمارية الصهيونية في فلسطين من كيجيتو استعماري خاص “أنا استعمر إذا أنا موجود.” الاستعمار في فلسطين استعمار استيطاني يقوم على ادعاء وتبني رواية مناقضة لمنطق التاريخ، ومخالفة لدلالات وسحنة المشهد الحضاري الفلسطيني، ومقوضة للهوية الأصلية للسكان الفلسطينيين. وللتغلب على الحكاية الفلسطينية الجامعة، “الهوية الفلسطينية”، حشدت وشحذت الحركة الصهيونية قواها للانتصار على الهوية الفلسطينية بسردياتها الكبرى (الأرض، والإنسان، والحكاية) عبر عملية استعمارية فاشية استهدفت أركان الهوية الفلسطينية الكلاسيكية ضمن عمل استعماري مخطط وممنهج. وتحاول هذه الورقة البحثية محايثة ومعاينة عمليات الصهينة والعبرنة والأسرلة التي تعرضت لها الهوية الفلسطينية بالتركيز على الهوية المقدسية؛ والهوية المقدسية هنا هي جزء عضوي من الهوية الفلسطينية وليست نقيضا لها، والمقصود بالهوية المقدسية: الفضاء والحياة المشتركة التي يعيشها السكان الواقعون والمصنفون ضمن مدينة القدس وقراها وبلداتها. إن اجتماع الذاكرة والجغرافيا والهوية في حيز بحثي واحد يموضع الباحث كفاعل حضاري ضمن حقل دراسات الفضاء الإنساني؛ وبما أن حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية حقل متوقد ومتعدد الاهتمامات والاختصاصات سيجبر الباحث على التسلح بمنهج تنافذي عابر للاختصاصات والمنهجيات ليتسنى للباحث والقارئ والمستمع بلورة فكرة معرفية واضحة المعالم والتضاريس.
أولاً: أزمة المخيلة الفلسطينية في توصيف الاستعمار
عانت المخيلة الفلسطينية أزمة طاحنة في توصيف الاستعمار في فلسطين. فشاعت الكثير من الكلمات والمصطلحات التي تصف الاستعمار وتسبغ في توصيفاتها جزءأً من الرسالة والهدف الذي يسعى الاستعمار إلى تحقيقه؛ مثلاً يدرج القول تهويد فلسطين أو تهويد القدس، كلمة تهويد تحمل دلالة دينية توراتية وتسبغ شرعنة إقامة دولة يهودية، واليهودية ديانة وليست قومية، والصحيح نعت الفعل الاستعماري الصهيوني في فلسطين ﺑ”الصهينة، العبرنة، الأسرلة.” والقائمة طويلة وكبيرة في أزمة التوصيف بحيث أضحت هناك حالة توحد في المصطلحات مثل “المعبر/المحسوم”، “الأراضي الفلسطينية/فلسطين”، وهو ما أشار إليه عالم الاجتماع والعلامة العربي عبد الرحمن بن خلدون “بولع المغلوب بالغالب؛” فالتسمية والاصطلاح الذي ينحته المستعمِر يهيمن ويسيطر على ذهنية المستعمَر. تفقد التعبيرات والدلالات الاستعمارية الاستعمار بشاعته وتجمل صورته القبيحة، “فالتهويد” تمنح العمل الاستعماري طابعأً دينياً لا طابعاً استعمارياً، بينما توحي كلمات مثل الصهينة والعبرنة والأسرلة دلالات استعمارية شوفينية توضح سياسات الاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين والقدس، كجزء جغرافي وتاريخي واقع تحت الشرط الاستعماري الإسرائيلي الذي يعمل على تهشيم الهوية المقدسية وطمسها.
تحيل قراءة النصوص التي ساهمت في صياغة الوعي الصهيوني بخصوص القدس وفلسطين. أن فلسطين فضاء بدون سكان أصليين واستمر الإنكار والإقصاء للآخر (الفلسطيني) حتى بعد أن عثر عليه في الواقع[1]. القدس في خيال الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني (الغالب) مجال وفضاء ومسرح إسرائيلي بامتياز وينسحب هذا الادعاء على باقي المدن والفضاءات والجغرافيات الفلسطينية. حيث شرعت الحركة الاستعمارية الصهيونية قبل عدوان عام 1948 في تأزيم المخيال الفلسطيني تجاه الفضاء والذاكرة الجمعية الفلسطينية؛ من خلال عمليات التسمية والتنقيب والتظليل والتزوير للفضاء العام المقدسي والفلسطيني أيضاً، لوضع السكان المقدسيين والزوار وسائر البشر المتأملين لدلالات مدينة القدس ضمن شرط ثقافي استثنائي، يحيل أن الهوية الإسرائيلية الصهيونية الاستعمارية المغلفة بنفحة دينية يهودية توراتية، بأنها هوية أصيلة في هذا التاريخ والفضاء. ويعيد الباحث الفلسطيني عبد الرحيم الشيخ فعل الصهينة والعبرنة لفلسطين إلى سنة 1870 قبل ظهور الصهيونية السياسية، وأصبح علم الآثار رياضة وطنية بالنسبة للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، وتكثف الهوس بتلك الرياضة بعد صهينة الهجرة إلى فلسطين سنة 1905، إذ أصبح علم الآثار هو المبدأ السائد في عملية تحويل فلسطين إلى إسرائيل. وتم استجلاب الأسماء العبرية البائدة وتوزيعها على المشهد الفلسطيني، مع عملية إعادة كتابة التاريخ، تاريخ اليهود في المكان الفلسطيني بناء على الفكرة الصهيونية[2]. عملت الآلة الصهيونية العبرية الإسرائيلية ضمن منطق الإبادات الثقافية في القدس حيث لم تسلم القدس من سعار الآلة الاستعمارية العسكرية والإعلامية والبحثية والسياسية، فالمعول والرصاصة والقلم كانوا شركاء في تغيير ومحو التاريخ وتداعياته وتجلياته في القدس. أزمة المخيلة الفلسطينية في توصيف الاستعمار الاستيطاني ما زالت تعاني من رضّة في الوعي المعرفي، في ظل فشل وتقاعس الفلسطينيين عن توصيف الاستعمار بمسمياته، والأنكى من ذلك؛ تساوق وانجرار الفلسطيني مع سقف اللغة والثقافة والسياسة الصهيونية التي تهندس المكان والإنسان والحكاية في القدس.
ثانياً: ما قبل النكبة وما بعدها: إطلالة سريعة على الهوية المقدسية
بعد سقوط عصر الدولة “الإمبراطورية”، وارتفاع موجة صعود الدولة “القومية؛” حدث انشغال فكري وسياسي وثقافي في موضوع الهوية وسياسات الهوية. التراث الفكري الإنساني متخم بالكتابات التي تناولت الفكرة القومية وحالة الهوية، لكن تجدر الإشارة في هذا المقام لفكرة المفكر بندكت أندرسون حول القومية؛ فالقومية عند أندرسون فكرة متخيلة؛ فالقومية في التوصيف الحداثي وما بعد الحداثي رست ورسخت كفكرة متخيلة لدى جماعة بشرية، تنتمي لرابطة أو روابط متعددة، أهم ما يوحد هذه الجماعة البشرية هو الفكرة المتخيلة “اليوتوبيا،” إضافة إلى الإرادة والثقافة المشتركتين. كما يؤكد الباحث الفلسطيني شريف كناعنة بأن الهوية ليست شيئاً ملموساً يمكن تعريفه بأبعاد وصفات واضحة، فالهوية هي كيفية تعريف الفرد لذاته، ولكن لا يمكن تعريف الفرد ذاته في فراغ، بل ينسب نفسه إلى ما يحيط به، فكل إنسان لديه (خارطة إدراكية) صورة عن العالم المحيط به بكل ما فيه، والهوية صورة الفرد عن موقعه على هذه الخارطة وعلاقاته مع كل أجزاء تلك الخارطة، وهذه العلاقات لها استمرارية عبر الزمان والمكان[3].
كان لتشكل الدولة القومية والشعوب القومية دور في تأصيل فكرة الهوية لدى الشعوب والدول؛ فالهوية بطاقة تعريف جماعية للشعب في موطن معين؛ من خلال هذه الهوية يكون بمقدور الشعب صاحب الهوية، التمايز والاختلاف عن الشعوب الأخرى. يرى المفكر المصري حسن حنفي أن “الهوية من الضمير (هو)، يتحول إلى اسم، ومعناه أن يكون الشخص هو. هو اسم إشارة يحيل إلى (الآخر)، وليس إلى (الأنا)… الهوية تثبت الأخر قبل أن تثبت الأنا… ويماثل لفظ الهوية لفظ (الماهية) عند الفلاسفة، أي جوهر الشيء نفسه… تحدث الفلاسفة عن قانون الهوية، أن يكون الشيء مطابقاً لنفسه وليس لغيره[4].” فالهوية معيار للتمايز ودلالة على التعدد وتعريف الذات وموضعة الذات/ الشعب/ الدولة/ المؤسسة على خارطة الفعل المجتمعي. ويرى كاتب هذه السطور الهوية بأنها “فعل ثقافي اجتماعي سياسي لا يتشكّل إلا بوجود فعل/هوية أخرى للردّ عليها ومواجهتها، فوجود الهوية هدفه التميّز عن الهوية، الهويات الأخرى وتعريف نفسها. فالهوية هي وعي الذات الفردية و/أو المجتمعية عند وجود خطر يهدد هذه الهوية، وهي ليست موضوعاً متوارثاً بقدر ما هي نتاج صراع وتضاد واشتباك مع/ ضد الآخر كفاعل اجتماعي سياسي و/أو ثقافي حضاري.[5]“
الهوية المقدسية جزء من الهوية الفلسطينية، والهوية الفلسطينية جزء من الهوية السورية هوية (سوريا الكبرى). الحديث عن الهوية المقدسية لا يعني تفتيت الهوية الفلسطينية أو تفكيكها؛ إنما الغرض من ذلك؛ إبراز آليات وتقنيات الاستعمار المعاصر لفلسطين عامة والقدس خاصة، في خلق التمايزات والهويات الجغرافية والمناطقية والعائلية من أجل تسهيل عمليات الهيمنة والسيطرة وتفكيك الهوية الجمعية ليست في فلسطين وحدها وإنما في منطقة الهلال الخصيب. قسمت الإمبراطورية العثمانية سوريا الكبرى إلى مناطق إدارية متعددة تحت تسميات مختلفة (اللواء، السنجق، القضاء، الناحية، المتصرفية…) ضمن هذه التقسيمات الإدارية التي شهدتها سوريا الكبرى، تباينت التشكيلات الإدارية للقدس لعدد من العوامل أهمها: مكانة القدس الروحية لأصحاب الديانات الثلاث، وتطور النظم الإدارية العثمانية، والتهديدات التي تعرضت لها بلاد الشام مثل حملة نابليون، وتوجهات الدولة العثمانية نحو فرض نظام الحكم المركزي بعد عام 1841، والصراعات الداخلية في فلسطين بعد الحكم المصري عام 1841، واحتلال القدس مركز الريادة السياسية والإستراتيجية في المقاطعات الجنوبية من بلاد الشام، ومواجهة التغلغل الأجنبي والهجرة الصهيونية ما بين 1841-1918. راوحت التشكيلات الإدارية للقدس الأشكال التالية:
- سنجق القدس 1516-1841 يتألف من مقاطعات جبال القدس والخليل.
- ولاية القدس الشريف 1841-1864 وهو أكبر وأرفع تشكيل أُلحق بالمدينة في العهد العثماني وضم القدس والخليل ونابلس وجنين وغزة.
- متصرفية القدس 1864-1874 تألفت من مقاطعات وسط فلسطين وجنوبها وضمت القدس والخليل ونابلس وجنين وغزة، قبل أن ينفصل عنها لواء نابلس ولواء جنين عام 1869.
- متصرفية مستقلة 1874-1918 حظيت القدس بالدرجة الممتازة وفق التصنيف الإداري العثماني ونعتت بالاستقلال، بعد أن فصلت عن الولايات الشامية، ووضعت تحت إشراف رئاسة الوزراء في اسطنبول مباشرة؛ بهدف وقف حركة التغلغل الأجنبية في أراضيها. وتألفت من أربعة أقضية هي: القدس، والخليل، وغزة، ويافا، وفي عام 1869 استحدث لواء بئر السبع وضم للقدس، وألحق بها أيضا عام 1909 قضاء الناصرة لمدة قصيرة؛ بهدف توحيد الأماكن الدينية المقدسة في تشكيلة إدارية واحدة[6].
عملت الإمبراطورية العثمانية على تحويل اسم “بيت المقدس” المتداول أيام العهدين الأيوبي والمملوكي، إلى اسم “القدس الشريف،” كذلك عمموا وصف “الشريف” على جميع بلاد الشام فأصبحت تعرف باسم (شام شريف) أي بلاد الشام المشرفة[7]. كما حدد قرار التقسيم (181) الصادر عن مجلس الأمن في 27/11/1947 حدود مدينة القدس بحدود بلدية القدس والقرى والبلدان المجاورة، أبعدها شرقأً أبو ديس وأبعدها جنوباً بيت لحم، وغربا عين كارم وتشمل معها المنطقة المبنية من منطقة قالونيا. وجعلت القدس كياناً منفصلاً عن الدولتين اللتين أقرهما قرار التقسيم، ويخضع هذا الكيان لنظام دولي خاص تتولى الأمم المتحدة إدارته[8]. توحي التحولات الجيو-سياسية التي انتقلت إليها القدس في خارطة التاريخ الإنساني، أن للقدس مكانة حضارية وتاريخية وجغرافية وإنسانية وروحية لا تتمتع بها إلا بضع مدن عبر التاريخ. كما يتضح أيضاً أن تلاعب السياسة بجغرافية المدينة قديم قدم الحقب التاريخية التي تداولت على حكم هذه الجغرافيا؛ بحيث تمتد وتتقلص جغرافيا القدس وفق المشيئة السياسية للمهيمن عليها، فقداسة القدس محفوظة في مخيال وفضاء المهيمِن والمهيمَن عليه، لكن تسقط القداسة عن حدود القدس لأغراض الهيمنة والسيطرة والاحتواء والاستعمار.
ثالثاً: خارطة الخارطة الاستعمارية للقدس
تعددت الوسائل والأساليب والخطط الصهيونية التي تهدف تغيير معالم الهوية الفلسطينية بشكل عام وهوية القدس بشكل خاص. حيث سخرت الصهيونية الاستعمارية عدة مفاتيح ومراحل وطرق لإعادة تفكيك الهوية المقدسية وتركيب الهوية الاستعمارية للقدس. لم يقتصر تشكيل خارطة القدس وهويتها الاستعمارية على الجغرافيا وحسب إنما امتد التشكيل ليطال الديموغرافيا والفضاء والأسماء. ووضعت الخطط الممنهجة لتفكيك الهوية الفلسطينية مثل خطة (دال)، وخطة مشروع القدس الكبرى لتفكيك الهوية المقدسية. أعلن الصهاينة بتاريخ 14/5/1948 الجزء الغربي من القدس عاصمة لإسرائيل، وضموا إليها قرى عربية محتلة ومهدمة مثل (بيت صفافا ولفتا وعين كارم والمالحة، ودير ياسين). وفي السابع من حزيران (يونيو) 1967 تم احتلال القدس الشرقية، وفي 28/5/1967 أعلن حاييم موتسي شابيره وزير الداخلية الصهيوني ضم أحياء القدس العربية الشرقية قسراً تحت شعار القدس الموحدة[9]. هدف مشروع القدس الكبرى الذي أطلقه وزير الإسكان الصهيوني (بنيامين بن اليعازر) ورئيس بلدية القدس (إيهود اولمرت)؛ إلى تواصل السكان الإسرائيليين وتقليص التقارب والاحتكاك مع العرب، وتعزيز مكانة القدس كعاصمة لإسرائيل وكمدينة عالمية، وربط المستوطنات خارج حدود بلدية القدس مع بلدية القدس بواسطة ممرات لتحقيق أغلبية إسرائيلية بنسبة 88% مقابل أقلية فلسطينية بنسبة 12%[10]. وخطة (ألون)؛ الخطة التي تم وضعها بعد حرب 1967 والتي تدعو إلى سيطرة إسرائيل الكاملة على وادي الأردن، شريط يمتد بمحاذاة البحر الميت، ورقعة عريضة تحيط بمنطقة القدس وتقطع الضفة الغربية إلى نصفيين، وما يتبقى يترك للأردن أو للفلسطينيين[11]. إضافة إلى الخطة الهيكلية الإسرائيلية لمدينة القدس لعام 2000 حتى عام 2020، تهدف هذه الخطة بشكل أساسي إلى توحيد شطري مدينة القدس تحت السيادة والهيمنة الإسرائيلية بما يشمل المدينة القديمة وما يسمى الحوض المقدس وجميع المستوطنات التي قامت عليها يشمل توسيع مسطح مدينة القدس وخاصة في الأرض الفلسطينية ومحيطها الريفي، وزيادة الوجود السكاني الإسرائيلي إلى 70% وألاّ يتجاوز الفلسطينيون 30%، وتغيير المعالم الثقافية والحضارية والتاريخية لمدينة القدس كموقع اثري وموروث ثقافي وحضاري إسرائيلي[12].
استخدمت إسرائيل ضد السكان المقدسيين قوانين التنظيم والبناء والتخطيط الهيكلي، واحتفظت سلطات الاحتلال بالتنظيم الهيكلي في القدس الغربية، ووضعت تسعة عشر مخططاً تفصيليا في القدس الشرقية، ووضعت في كل مخطط أحكاماً خاصة به للتنظيم والبناء. لا تسمح المخططات الهيكلية تطوير البنية التحتية للقدس الشرقية، على مستوى الشوارع والطرق والمباني العامة والخدمات، والمباني المقدسية هي فريسة جرافات الاحتلال التابعة لثلاث سلطات رسمية (وزارة الداخلية، والبلدية، والحكم العسكري الإسرائيلي)[13].
تعددت أساليب المصادرة والاستعمار الصهيوني للقدس لتشمل الخرائط الهيكلية، والاستملاك بحجة القانون (قانون أملاك الغائبين)، والاستملاك بقصد إقامة المحميات الطبيعية وشق الطرق أو تمديد وتجديد خطوط الضغط العالي. كذلك تم أسرلة القدس وعبرنتها عبر خطة الأحزمة:
الحزام الأول: محاصرة البلدة القديمة وضواحيها وربطها بالجزء الغربي، من خلال إنشاء حي يهودي داخل السور الأثري والحديقة الوطنية.
الحزام الثاني: محاصرة الأحياء العربية خارج السور (مناطق بلدية القدس في العهد الأردني) بمستعمرات على شكل أقواس لعزل الكثافة السكانية العربية في الشمال والجنوب.
الحزام الثالث: حصار مدينة القدس الكبرى وفق المشاريع الإسرائيلية، لعزلها عن الضفة الغربية[14].
نهجت الدولة الاستعمارية إسرائيل إلى تكثيف الاستيطان وأسرلة المدينة. ذلك عبر عدد من الإجراءات منها: تعقيد مسالة الحصول على رخص البناء حيث تستغرق مدة الحصول على رخصة البناء خمس سنوات بكلفة 20 ألف دولار، أما الإسرائيلي فيحصل على الرخصة في ستة أشهر وبكلفة رمزية، رفض عودة النازحين المهجرين في عدوان عام 1967 إلى القدس، فرض ضريبة الأرنونا على المقدسيين، ومصادرة الأراضي التي يمكن استخدامها من قبل الفلسطينيين، عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني ومحاصرتها بالمستوطنات، هدم المنازل، وإقامة الجدران والطرق الالتفافية وتقطيع أوصال المناطق السكنية الفلسطينية[15].
الأسرلة والصهينة القانونية مثل قانون التنظيمات القانونية والإدارية لسنة 1968، الذي يشترط تسجيل الشركات والجمعيات وأصحاب المهن وأرباب الحرف والمحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين حسب القوانين الإسرائيلية. كذلك قانون المصادرة للأغراض العامة 1943 وقانون أملاك الغائبين 1967، وقانون التعويضات 1973. إضافة إلى الأسرلة الانتخابية بمشاركة وترشح الفلسطينيين في القدس للمجلس البلدي[16].
رابعاً: تركيب الصهينة وتفكيك الفلسطنة
في فضاء القدس ازدحم التاريخ والمؤرخون لصناعة الحكاية والمشاركة في سردية الزمان. وكتابة التاريخ ليست حكراً على أحد؛ لكن المنتصرين يكتبون تاريخ الانتصار والمهزومين يكتبون تاريخ الهزيمة. اختلفت هندسة التاريخ وشطحاته على يد الحركة الصهيونية لتجعل من فلسطين منجم أحلام المركزوية الغربية وفشل مشروع التنوير الأوروبي؛ فوسمت الحركة الصهيونية فلسطين بأنها “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.” هذه العقلية الصهيونية صممت آلة للتاريخ (الاستعماري) الحديث في فلسطين يقوم على عقلية التفكيك والتقويض والمحو والطمس. بادرت الحركة الصهيونية إلى جمع فتات صورتها المتشظية في العالم والمبعثرة في قوميات وشعوب متعددة مثل (ألمانيا وروسيا واسبانيا والعراق وإيران) وغيرها من قوميات العالم؛ وشرعت الحركة الصهيونية بعملية تركيب للهوية الصهيونية وعلى التوازي شرعت في تفكيك الهوية الفلسطينية؛ نجحت الصهيونية أحيانا في قطع صيرورة تقدم الهوية الفلسطينية لكنها لم تنجح في تفكيك الهوية الفلسطينية وطمسها لأن منطق التاريخ أقوى من منطق إرهاب عصابات التاريخ وعدم النفي هذا للهوية هو ما أكد عليه الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بقوله “لا تنفي الهوية الهوية.”
عملت السياسات الاستعمارية على تقسيم القدس إلى جزئين القدس الغربية التي استعمرت عام 1948 والقدس الشرقية التي استعمرت عام 1967. هذا التقسيم ما زال مستمراً من أجل تفكيك الهوية المقدسية مع العلم أن قسمي القدس يقعان تحت الاستعمار الإسرائيلي، لكن الاستمرار في التسمية أفضى إلى خلق تمايز واختلاف بين السكان الفلسطينيين في القسمين، هذا التقسيم يشرعن عملية تفكيك الهوية المقدسية المعزولة عن الهوية الفلسطينية والمقسمة في داخل القدس. كما يحظى سكان القدس الغربية بحقوق المواطنة المنقوصة، بينما يعتبر سكان القدس الشرقية سكاناً وليسوا مواطنين في الدولة الاستعمارية. تجدر الإشارة أن عملية تفكيك الهوية المقدسية لم تقف عند هذا الحد وإنما تمركزت في هتك بنيان سرديات الهوية الفلسطينية/المقدسية المتمثلة في (الأرض، والإنسان، والحكاية).
صادرت الحركة الصهيونية العديد من المنازل في القدس، وهدمت الكثير من البيوت والمنازل والمتاجر ومازلت تهدم. كما هدمت الآلة الصهيونية قرى فلسطينية في القدس. وصادرت الأرض عبر القوانين الاستعمارية وعمليات النهب وكان للجدار العنصري إسهام كبير في ضم الأراضي الفلسطينية إلى جعبة الاحتلال الاسرائيلي. كما عمل الاستعمار الإسرائيلي على تشويه معالم التضاريس والأرض الفلسطينية وخلق بيئة حضرية مغايرة للبيئة الفلسطينية بهدف إعادة تخليق سحنة المشهد المقدسي ليتلاءم مع الهوية الاستعمارية الإسرائيلية كمساهمة استعمارية في تركيب الهوية الصهيونية وتفكيك الهوية الفلسطينية. عملت السياسة الإسرائيلية وخبراؤها الأمنو- قراطيين على تحديد مساحات كبيرة في القدس على أساس أنها مناطق خضراء يمنع البناء فيها، ومن ثم تقوم حكومة الاستعمار الإسرائيلي بالبناء في تلك المناطق الخضراء.
تركيب الهوية الصهيونية وتفكيك الهوية الفلسطينية في القدس لم يقتصر على سردية الأرض، بل تعدى ذلك إلى سردية الإنسان. حيث تعرض الشعب الفلسطيني في القدس وقراها إلى عملية تطهير مكاني وتطهير عرقي في عدوان عام 1948 ونكسة عام 1967. قبل ذلك شرعت الحركة الصهيونية في استجلاب المزارعين والعمال الصهاينة من جميع أنحاء العالم وإسكانهم في فلسطين والقدس من أجل استعمار الأرض الفلسطينية وخلق كثافة سكانية صهيونية. عملية تدمير سردية الإنسان في القدس لم تقتصر على ذلك فقط بل اشتملت على سحب الهويات الزرقاء من بعض المقدسيين، وإصدار قرار إبعاد النواب الفلسطينيين المقدسيين من القدس ومصادقة القرار من قبل المحكمة الإسرائيلية العليا. يعيش معظم سكان القدس الذين يشكلون حوالي سدس سكان الضفة الغربية ظروفاً استثنائية صعبة بسبب سياسات وقوانين الاستعمار الإسرائيلي الذي يهيمن ويتحكم بجميع جوانب الحياة المقدسية. كما اضطر ثلث سكان القدس إلى تغيير أماكن سكناهم بسبب الجدار العنصري. كما تعرض خمس الأسر المقدسية لعملية مصادرة الأراضي[17].
تفتيت الحكاية لم يقتصر على الهوية المقدسية وحدها وإنما جاء بشكل متواتر ومتشابك مع عملية تفتيت الهوية الفلسطينية وتقويضها، عبر سياسات التسمية للمعالم الفلسطينية واستبدالها بتسميات استعمارية إسرائيلية، وعمليات تزييف المناهج المدرسية في إسرائيل، وامتد ذلك لنكوص المناهج الفلسطينية الممولة من المركزوية الأوروبية. وتركيب الحكاية الصهيونية نسج بعدد من الطرق المتشابكة مع عمليات التطهير المكاني والتطهير العرقي والتطهير الاسمي. فالحكاية الفلسطينية تعرضت للإبادة الثقافية إلى جانب الإبادة العرقية والإبادة الجغرافية؛ فالقدس فضاء هيمن عليه الاستعمار الإسرائيلي وسياساته العنصرية الفاشية القامعة للثقافة والهوية الفلسطينية، مما عزز من تغول منطق الإبادة الثقافية التي تتطور إلى الإبادة الفلسطينية الكبرى؛ بانسلاخ القدس عن دائرة الاهتمام والوجدان الفلسطيني والعربي. شرع الاستعمار الإسرائيلي منذ عام 1967 بعملية إبادة ثقافية للمؤسسات المقدسية حيث حلّت بلدية القدس العربية والمحاكم الرسمية العربية. قرارات الإبادة الثقافية وإغلاق المؤسسات المقدسية لأنها تتعارض مع وجود الاحتلال وسياساته وتعيق عمليات الأسرلة، وفي ذات الوقت تم إغلاق مؤسسات ومنع إقامة مؤسسات جديدة[18]. عمليات الإبادة الثقافية وإغلاق المؤسسات جاءت تحت ذرائع، (نشاطات معادية، وغير مشروعة، ونشاطات مؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحماية أمن الجمهور)[19].
في سبيل الختام: مرافعة وطنية
الخطر الذي يهدد الهوية الفلسطينية لا يقتصر على خطر اندثار وتبعثر الهوية المقدسية من الفضاء والمخيال العام. إنما الخطر الهوياتي مزدوج يشمل عملية تفكيك للهوية الفلسطينية مع تركيز بؤرة الأسرلة والصهينة والعبرنة على الهوية المقدسية، بسردياتها الثلاث الكبرى (الأرض، والإنسان، والحكاية). الجدير بالذكر أن المؤسسة الصهيونية تتبنى نهج سياسات الذاكرة وتأريخ رواية وهوية تجمع صورها من ميثولوجيا هجينة تخص السكان الأصليين ولا علاقة للمستعمِرين البيض بها، في الوقت الذي تنتهج المؤسسة الفلسطينية سياسات النسيان بالتقاعس والتساوق مع مخططات الأسرلة والعبرنة والصهينة في ظل سياسات فلسطينية نيوليبرالية تهتم بالهوية الاستهلاكية المعولمة، ولا تلقي بالاً لسياسات الجدارة والأصالة. بعد كل ذلك يتسلل سؤال إلى نص الورقة مخترقا نص الواقع وسميولوجيا الهوية المقدسية إلى فضاء السؤال المفتوح؛ ما هو أفق وصور النهوض بالهوية المقدسية كرافعة فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية للمحافظة على ديمومة هويتها العربية الإسلامية؟
الهوامش:-
* ماجستير في الدراسات العربية المعاصرة.
[1] فرحات، محمد نعيم. “القدس: فضاء يشكله المقدس والرموز!.” المقدمة؛ عدد 3، 2010: 98-99.
[2] الشيخ، عبد الرحيم. “متلازمة كولومبوس وتنقيب فلسطين: جينيالوجيا سياسات التسمية الإسرائيلية للمشهد الفلسطيني.” مجلة الدراسات الفلسطينية؛ عدد 83، 2010: 85.
[3] كناعنة، شريف. دراسات في الثقافة والتراث والهوية. تحقيق وتنقيح مصلح كناعنة. رام الله: مواطن- المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2011: 386.
[4] حنفي، حسن. “الهوية والاغتراب في الوعي العربي.” تبين؛ عدد 1، 2012: 9-11.
[5] أسعد، أحمد عز الدين. “قراءة في كتاب تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر للصف الحادي عشر.” المجلة العربية للعلوم السياسية؛ عدد 36، 2012، 174.
[6] جبارة، تيسير وآخرون. تاريخ القدس. عمان: جامعة القدس المفتوحة، 2009: 214-215.
[7] المصدر السابق: 214.
[8] http://www.palestineinarabic.com/Docs/inter_arab_res/UNGA_Res_181_A.pdf
[9] أبو جابر، إبراهيم وآخرون. قضية القدس ومستقبلها في القرن الحادي والعشرين. ط 3. عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 2002: 146-150.
[10] التفكجي، خليل. “الديمغرافيا والصراع الجيوسياسي.” في: القدس.. القدس.. القدس أوراق المؤتمر الدولي عن القدس 4-8 تشرين الأول/ أكتوبر. عمان: وزارة الثقافة، 2009: 391.
[11] كويست، بييتر لاغر. “نسيج السماء الأخيرة: التنقيب عن فلسطين بعد جدار الفصل الإسرائيلي.” حوليات القدس، عدد 3، 2005: 10.
[12] الخطة الهيكلية الإسرائيلية لمدينة القدس 2000 – 2020. حوليات القدس، عدد 9، 2010: 59.
[13] اسكافي، ابتسام. القدس الهوية والاقتلاع. رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات والنشر والأعلام، 2005: 128-129.
[14] أبو جابر، إبراهيم وآخرون. مصدر سابق: 152-155.
[15] المدني، رشاد. “الاستيطان في القدس ودوره في تهويد المدينة.” في: الاستيطان في القدس ودوره في تهويدها (مؤتمر القدس الخامس). غزة: مؤسسة القدس الدولية، 2011: 73- 74.
[16] عاشور، رضوان وأبو جاموس، محمد. “الاستيطان الصهيوني الفكر والممارسة.” في: الاستيطان في القدس ودوره في تهويدها (مؤتمر القدس الخامس). غزة: مؤسسة القدس الدولية، 2011: 203-204.
[17] شبانه، لؤي. “قراءة إحصائية في واقع القدس وموضوع التحول الديمغرافي والاجتماعي.” حوليات القدس، عدد 5، 2007: 74.
[18] عودة، يعقوب. “إغلاق مؤسسات القدس تطهير عرقي لمدينة القدس العربية.” حوليات القدس، عدد 8، 2009-2010: 35.
[19] المصدر السابق، 29.
شؤون فلسطينية، العدد 256