المصالح المتقاطعة بين قوى الإسلام السياسي واليمين الإسرائيلي المتطرف: تواطؤ موضوعي أم مفارقة استراتيجية؟

د. محمد الجبريني

 

رغم التناقض الظاهري والجذري في الأيديولوجيا، والخطاب، والأهداف المعلنة، ثمة تداخلات مصلحية موضوعية، وإن كانت غير مباشرة، بين قوى الإسلام السياسي – كما تتمثل في بعض الحركات الفلسطينية – وبين تيارات اليمين الديني القومي المتطرف في إسرائيل. هذا التداخل لا يعكس تحالفًا أو تنسيقًا مباشرًا، بل يمثل نمطًا من “التواطؤ الموضوعي” الذي يسهم، بقصد أو دون قصد، في تقويض فرص التسوية السياسية وتعزيز منطق الصراع المفتوح.

أولًا: تقويض مشروع الدولتين

يشترك الطرفان، على اختلاف منطلقاتهما، في رفض مبدأ التسوية على أساس حل الدولتين. فالحركات الإسلامية الراديكالية تنظر إلى الاعتراف بإسرائيل والقبول بحدود عام 1967 وبقرارات الشرعية الدولية على أنه تفريط بالحق التاريخي والديني، في حين يرى اليمين الصهيوني المتطرف في هذا الحل تهديدًا لكيانية إسرائيل التوراتية، ويعتبر الضفة الغربية جزءًا من “أرض الميعاد”. هذه الرؤية المزدوجة تُفضي إلى اصطفاف فعلي – ولو غير مقصود – ضد أي تسوية عادلة قائمة على قرارات الشرعية الدولية.

وفي هذا السياق، لم يشهد اتفاق أوسلو نهاية طبيعية كنتيجة لفشل تدريجي أو استنفاد لمساره التفاوضي، بل تمّ تقويضه بشكل ممنهج ومتعمّد. بدأت عملية إجهاضه باغتيال إسحق رابين عام 1995، مرورًا بموجة العمليات الانتحارية التي وفّرت ذريعة ذهبية لليمين الإسرائيلي لنزع الشرعية عن مسار التسوية، وانتهاءً بخلق بيئة سياسية وإعلامية ساهمت في عزل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتهيئة الأرضية لاغتياله سياسيًا وجسديًا. تواصل هذا المسار بتغذية الانقسام الفلسطيني، حيث قدمت حكومات نتنياهو المتعاقبة أشكالًا مختلفة من الدعم الضمني للحالة الإنقلابية في قطاع غزة، بما ساعد على تكريس سلطة الأمر الواقع وإضعاف المشروع الوطني الجامع. وقد بلغ هذا المسار ذروته في مغامرة السابع من أكتوبر 2023، التي حملت في طياتها نتائج كارثية يصعب التعافي منها على المدى القريب.

ثانيًا: تأطير الصراع بوصفه دينيًا وجوديًا

تسعى قوى الإسلام السياسي إلى تقديم الصراع مع إسرائيل بصفته صراعًا دينيًا بين الإسلام واليهودية، وليس صراعاً سياسيًا على الأرض والحقوق. وبالمثل، يعمل اليمين الإسرائيلي المتطرف على ترسيخ الطابع الديني للصراع، مستندًا إلى سرديات توراتية وأسطورية حول “الحق الإلهي” في الأرض. هذا التأطير المشترك يُغلق الباب أمام أي مقاربة عقلانية أو تسوية سياسية، ويُنتج خطابًا تعبويًا يُغذي سياسات الإقصاء والكراهية على الجانبين.

ثالثًا: الإسلام السياسي بوصفه مُعززًا لخطاب اليمين الصهيوني

في مفارقة بالغة الدلالة، يتحول خطاب الإسلام السياسي – خاصة حين ينزلق إلى العسكرة الدينية والمواقف الحدّية – إلى رافعة غير مباشرة لخطاب اليمين الصهيوني المتطرف. ويتجلى ذلك في عدة أوجه:
• تعزيز مقولة “لا شريك فلسطيني للسلام”: يُستخدم الخطاب المتشدد للإسلام السياسي ذريعة لتبرير السياسات الإسرائيلية المتصلبة، سواء تجاه المفاوضات أو تجاه استمرار الاحتلال.
• شرعنة الرواية الدينية للصراع: كلما اتخذ الصراع بُعدًا دينيًا، كان ذلك أدعى لترسيخ الطرح التوراتي للتيارات الصهيونية الدينية، مما يُحوّل الصراع إلى صدام لاهوتي لا يقبل التسوية.
• إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني الجامع: إذ تساهم الأدلجة الإسلامية العابرة للحدود في تهميش البعد الوطني التحرري، وتغذية الانقسام الداخلي، مما يتيح لإسرائيل المناورة مع كيانات فلسطينية منقسمة وهشة.
• إرباك المواقف الدولية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية: الخطاب غير الديمقراطي أو الراديكالي للإسلام السياسي يُستخدم لتشويه صورة القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى “تهديد حضاري”، يخدم سرديات التحالف الصهيوني – الشعبوي في الغرب.

رابعًا: إضعاف التيارات المعتدلة

يُسهم الطرفان في تهميش القوى الوطنية والعقلانية في مجتمعاتهما. فالإسلام السياسي يهمّش الحركات الوطنية الفلسطينية التي تتبنى برنامجًا سياسيًا براغماتياً، في حين يواصل اليمين الإسرائيلي تقويض ما تبقى من التيار الليبرالي داخل المجتمع الإسرائيلي. وبذلك، تتقلص المساحات المشتركة الممكنة بين الطرفين، وتُستبعد الخيارات التي تقوم على الاعتراف المتبادل والتعايش السياسي.

خامسًا: استثمار التصعيد لتحقيق مكاسب سياسية

من الملاحظ أن كل موجة من التصعيد العسكري بين إسرائيل وسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة تُسفر عن تعزيز مكانة الطرفين المتصارعين داخليًا: فحركات الإسلام السياسي تُكرّس نفسها “كقوة مقاومة”، واليمين الإسرائيلي يُقدّم نفسه كـ”درع أمني” يحمي دولة إسرائيل من “الإرهاب”. في هذا السياق، يصبح التصعيد وسيلة لتثبيت شرعية الحكم، أكثر منه نتاجًا لمعادلات صراع حقيقية.

خاتمة

إن المفارقة الأبرز في مشهد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تكمن في أن الإسلام السياسي، برغم عدائه المعلن للاحتلال، يُنتج في خطابه وسلوكه ما يعزز خطاب اليمين الإسرائيلي ويُشرعن تطرفه. هذا لا يعني، بطبيعة الحال، وجود تواطؤ مباشر أو تنسيق فعلي، بل يعكس حقيقة أشد تعقيدًا: أن التقاء الخطابات الحدّية على طرفي الصراع هو ما يمنح الصراع استمراريته، ويُجهض أي أفق للتسوية أو الاعتدال.

لذلك، فإن التحدي الجوهري اليوم لا يكمن في عملية سياسية عقلانية بين طرفين، بل في مواجهة خطابين متشددين متوازيين يتغذى كل منهما على الآخر، ويُبقي الصراع مفتوحًا على احتمالات الكارثة بدل الحل.