المسجد الإبراهيمي بين عراقة التاريخ وتحديات التهويد
إعداد الدكتورة
سارة محمد الشماس
باحثة وكاتبة في التراث والعلوم التربوية
2025م/1447
مدينة الخليل من أقدم وأقدس مدن فلسطين وتحظى بمكانة دينية وتاريخية بارزة لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث. ويتصدر المسجد الإبراهيمي معالمها الدينية باعتباره مَعلماً خالداً يحتضن قبور الأنبياء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وزوجاتهم –عليهم السلام– إضافة إلى موضع ينسب إلى النبي يوسف عليه السلام. تستمدّ هذه المكانة من رمزية دينية عميقة في العقيدة الإسلامية، كما يحتل المسجد مكانة مقدسة في الفكر الديني اليهودي لارتباطه بالنبي إبراهيم عليه السلام. ترتبط الخليل بتاريخ يمتد لأكثر من ستة آلاف عام، وقد اكتسبت قدسيتها منذ استقرار النبي إبراهيم عليه السلام ودفنه في مغارة المكفيلة. وقد تطور المسجد عبر العصور ليصبح تحفة معمارية إسلامية متميزة. ومنذ عام 1967 تواجه المدينة والمسجد انتهاكات متواصلة نتيجة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، ما أثّر على طابعهما الحضاري والسكاني. ورغم هذه التحديات تحتفظ الخليل بدورها الاقتصادي والثقافي الحيوي في الضفة الغربية، وتواصل جهودها لمقاومة مشاريع التهويد والاستيطان، حيث تواجه هذه المقدسات تهديدات مستمرة تمسّ قدسيتها وطابعها الإسلامي، ما يبرز الحاجة إلى توثيق تاريخها، وتحليل واقع الانتهاكات، واستعراض الجهود المبذولة لحمايتها. رغم المكانة الدينية والتاريخية الفريدة للمسجد، يواجه هذا المعلم الإسلامي حملة تهويد ممنهجة تنفذها سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967م بهدف تغيير طابعه المعماري والديني، وفرض رواية استعمارية بديلة تتنافى مع تاريخه العريق. وتكمن المشكلة في النقص الواضح في التوثيق الأكاديمي والتحليل القانوني لهذه الانتهاكات، إلى جانب ضعف تفعيل القرارات الدولية الرامية لحمايته¹ ² ³.
الأهمية الدينية والتاريخية والمعمارية للمسجد
يحظى المسجد الإبراهيمي بمكانة دينية فريدة لدى المسلمين، كونه يضمّ قبور الأنبياء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وزوجاتهم، عليهم السلام، ما يجعله من أقدس المواقع الدينية في فلسطين بعد المسجد الأقصى المبارك. ولذلك فإن المسجد يعدّ معلماً دينياً يرمز إلى الإرث الإيماني المشترك بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، وإن كانت السيادة الإسلامية على المكان قد استمرت قروناً طويلة دون انقطاع حتى الاحتلال الإسرائيلي عام 1967م ⁴.
تبرز المصادر التاريخية أن المسجد الإبراهيمي هو من أقدم المعالم الدينية المأهولة في العالم، يعود بناء السور الضخم المحيط بالمسجد إلى عهد الملك هيرودوس الكبير، الذي حكم بين عامي (37 و4 ق.م) أي قبل أكثر من ألفي عام، وقد حافظ على مكانته عبر العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية المتعاقبة. وعلى مدار التاريخ كانت للمسجد أدوار دينية وسياسية بارزة، لا سيّما خلال العصرين الأموي والمملوكي، حين شهدت بنيته تطويراً عمرانياً يعكس الحضور الإسلامي الراسخ في مدينة الخليل⁵.
يتميّز المسجد الإبراهيمي بطراز معماري فريد يجمع بين العناصر الرومانية والإسلامية، وتعد جدرانه الضخمة وسوره الخارجي من أبرز الشواهد على العمارة الهيرودية. كما يضمّ المسجد منبراً خشبياً ينسب إلى صلاح الدين الأيوبي، ومحراباً مملوكياً مزخرفاً، وسقفاً خشبياً مهيباً، إضافة إلى مئذنتين بنيتا في العهدين الأيوبي والمملوكي. وتعتبر هذه العناصر مجتمعة دليلاً على التراكم الحضاري للمكان، وعلى حفاظ المسلمين عليه كوقف ديني عبر القرون، حتى جاءت محاولات التهويد التي تستهدف طمس هويته الإسلامية ⁶.
السمات المعمارية البارزة للمسجد ودلالاتها التاريخية والدينية
يتميّز المسجد الإبراهيمي بطرازه المعماري الفريد الذي يعكس تراكباً حضارياً عبر العصور، حيث يدمج بين البنية الأصلية القديمة والإضافات المعمارية التي أُدخلت في العهود الإسلامية المختلفة، ما يجعله من أبرز المعالم الدينية والتاريخية في مدينة الخليل. وتتمثل أبرز سماته المعمارية في:
السور الضخم (الحير): شيّد في عهد هيرودوس الأدومي (37–4 ق.م)، من حجارة ضخمة مصقولة بدقة دون ملاط، ويبلغ ارتفاعه نحو 12 متراً، ما يعكس تقنية بناء متقدمة مشابهة لتلك التي استخدمت في الأهرامات المصرية ⁸ ⁷.
المئذنتان المملوكيتان :تقعان في الركنين الجنوبي الشرقي والشمالي الغربي، ويبلغ ارتفاع كل منهما نحو 15 متراً. تتميزان بطراز مملوكي شامي يتضح في البدن المربّع وشرفة الأذان والجوسق الخشبي، ما يبرز استمرارية الإشراف الإسلامي على المسجد الإبراهيمي الشريف رغم تعاقب الأنظمة ⁹ ¹⁰.
المنبر الفاطمي: صنع عام 484هـ/1091م في عهد الخليفة المستنصر بالله، ونُقل إلى المسجد الإبراهيمي الشريف في عهد صلاح الدين الأيوبي. ويعد من أقدم المنابر الإسلامية. مصنوع من خشب الجوز المطعّم بالعاج والأبنوس، ويجسد روعة الحرفة الإسلامية¹¹ ¹².
مقامات الأنبياء وأضرحتهم الرمزية :يحتوي المسجد الإبراهيمي على أضرحة رمزية للنبي إبراهيم وأبنائه إسحاق ويعقوب وزوجاتهم عليهم السلام، وهي مرتبة بتخطيط دقيق فوق الغار المغلق، ما يعكس التقدير الإسلامي النبوي، ويعزز رمزية المكان كمدفن مقدّس ¹³ ¹⁴.
5. المسجد الجاولي: يمثل إحدى أهم الإضافات المعمارية المملوكية إلى المسجد الإبراهيمي، حيث تم بناؤه خارج السور الشرقي بين عامي 718–720هـ / 1318–1320م، على يد الأمير سنجر الجاولي، ناظر الحرمين. يتميز المسجد بتخطيط داخلي على الطراز المملوكي، ويضم قاعة فسيحة محمولة على اثني عشر عموداً حجرياً مع قبة مركزية مزخرفة بزخارف مقرنصة وشبابيك زجاجية ملوّنة توفر التهوية والضوء الطبيعي. ويعد محرابه المنحوت في الصخر والمزخرف بالرخام والأشكال الهندسية والزهرية نموذجاً فنياً مملوكياً متقناً. يبرز هذا المسجد اهتمام سلاطين المماليك بتعزيز الطابع الإسلامي لموقع الخليل، ويعد إضافة روحية ومعمارية تعزز مكانة المسجد ¹⁵ ¹⁶.
6.التقسيمات الداخلية وروعة الزخارف في المسجد
يجسد المسجد الإبراهيمي نموذجاً فريداً في تعدد تقسيماته الداخلية، التي تعكس البعد الروحي والتاريخي للمكان، حيث يضم عدة مصليات مميزة أبرزها: الحضرة الإسحاقية نسبة إلى النبي إسحاق عليه السلام، والحضرة اليعقوبية نسبة إلى النبي يعقوب عليه السلام، ومصلى المالكية المخصص لأتباع المذهب المالكي، وهي تقسيمات تؤكد احترام التقاليد المذهبية وخصوصية الأنبياء المدفونين في الموقع. تتزين هذه الأقسام بــمحاريب مملوكية وزخارف قرآنية دقيقة، نفذت بأسلوب فني رفيع تمثل في الأشرطة القرآنية المنقوشة، والزخارف النباتية والهندسية التي تزين الجدران والأقواس، فضلاً عن استخدام الرخام الطبيعي الملون بطريقة تضفي على المكان هيبة وقداسة. أما الأسقف فهي معقودة على شكل عقود متقاطعة ترتكز على دعامات مغطاة بالرخام، وتزدان بزخارف إسلامية تعرف بـ"البخاريات"، تمثل سمة معمارية مميزة للعهد المملوكي، وتعكس دقة الصنعة وجماليات الفن الإسلامي. ولا تقتصر وظيفة هذه العناصر الزخرفية على البعد الجمالي فحسب، بل تحمل دلالات دينية وروحية عميقة، حيث تساهم في ترسيخ روحانية المكان وتعظيم رمزيته، في انسجام تام مع فلسفة العمارة الإسلامية التي تمزج بين الجمال الوظيفي والخشوع التعبدي ¹⁷ ¹⁸.
الدلالات الرمزية والدينية للمسجد
تنبع قدسية المسجد الإبراهيمي من مكانته المتفردة في العقيدة الإسلامية، كونه يحتضن مغارة المكفيلة التي تعد بحسب الموروث الإسلامي والكتب السماوية الأخرى، مكان دفن النبي إبراهيم عليه السلام وأسرته، ما أكسبه رمزية دينية عالية وجعل منه مقصداً للزائرين والحجاج المسلمين منذ العصور الإسلامية المبكرة. ويعتبر هذا الارتباط الروحي العميق أحد أبرز أسباب مكانة المسجد المقدسة في وجدان المسلمين عبر العصور ¹⁹.
أبرز التحولات التي طرأت على المسجد عبر العصور الإسلامية وحتى الاحتلال الإسرائيلي
المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل هو أحد أقدم وأقدس المواقع الدينية في فلسطين، ويحظى بمكانة روحية وتاريخية عظيمة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، إذ يحتوي على قبور الأنبياء إبراهيم، إسحاق، ويعقوب، وزوجاتهم عليهم السلام، كما يضم مغارة المكفيلة التي تعود لآلاف السنين ²⁰ ²¹.
.1 التحولات المعمارية في العصرين الأموي والعباسي
في العصر الأموي (661–750م)، تم تحويل مقام النبي إبراهيم عليه السلام إلى مسجد، مع تنفيذ تحسينات معمارية بارزة، منها بناء سقف المسجد، وإنشاء سور له بابان، ومئذنتين مربعتين على غرار الجامع الأموي بدمشق، وتهيئة صحن مكشوف ²² ²³.
في العهد العباسي (750–1258م)، واصل الخلفاء دعم المقدسات، فتم بناء درج مزدوج ووضع قبة "يوسف" فوق الضريح المنسوب للنبي يوسف عليه السلام، كما فتح باب في السور الشرقي ²⁴.
2. النهضة المعمارية في العهدين الفاطمي والمملوكي
شهد المسجد الإبراهيمي خلال العهد الفاطمي (909–1171م) مرحلة مهمّة من العناية المعمارية والفنية، حيث أُضيف إليه منبر خشبي متميز صنع في عام 484هـ/1091م، بأمر من الوزير بدر الدين الجمالي في عهد الخليفة المستنصر بالله، ثم نقل لاحقاً إلى المسجد بأمر من السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي. وقد تميز هذا المنبر بزخارف هندسية وخطوط كوفية بارزة، ما يعكس تطور الصناعة الخشبية والفنية في ذلك العصر، ويعد اليوم من أقدم المنابر القائمة في المساجد الإسلامية. وفي العهد المملوكي (1250–1517م)، بلغت النهضة المعمارية للمسجد ذروتها، حيث أُجريت توسعات واضحة، وشيّدت مئذنتان بطراز مملوكي مميز، كما تم ترميم المقامات النبوية وتجديد الكثير من مرافق المسجد. ووقف السلطان الظاهر بيبرس قرى كاملة لتأمين موارد إعالة المسجد وخدمته، ما يدل على مدى اهتمام السلطة المملوكية بالمكانة الدينية والسياسية للمسجد. ومن أبرز الشخصيات التي ساهمت في هذا التطور، القائد سنجر الجاولي الذي أنشأ دكّة المؤذنين وقبة الغار، وزوّد المسجد بتزيينات معمارية فخمة شملت الرخام والفسيفساء، ما رسّخ الطابع المملوكي الفاخر في جدران المسجد وأروقته²⁵.
3. رعاية المسجد في ظل الحكم العثماني
دخلت الخليل والقدس تحت الحكم العثماني بعد معركة مرج دابق سنة 1516م، وبرز اهتمام العثمانيين الكبير بالمقدسات الإسلامية، حيث زار السلطان سليم الأول مدينة القدس وقدّم الهدايا، وتبعه السلطان سليمان القانوني الذي أعاد بناء سور المدينة وشيد معالم دينية بارزة، فيما أسست زوجته خرَّم سلطان تكية خاصكي سلطان لإيواء وإطعام المحتاجين ²⁶.
أما المسجد الإبراهيمي فقد نال رعاية خاصة من حيث الترميم والتوسعة وتعيينات الوقف، حيث حافظ السدنة المحليون على إدارته، وأُتيح دخوله للزوار الأجانب، تعبيراً عن الثقة بقدسيته وتنظيمه ²⁷. ومن أبرز أعمال العثمانيين داخله: نقش سورة (يس) على الإزار الحجري بخط عبد الله السلفيتي، وتزيينه بالقاشاني التركي، والأعمال الخشبية، والقناديل، والكسوة الحريرية²⁸.
4. الاحتلال البريطاني ودعم المشروع الصهيوني
بدأ الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917م بعد دخول الجنرال إدموند اللنبي القدس، ضمن مشروع استعماري حمل دلالات دينية واضحة، عبّر عنها بقوله: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، في إشارة خطيرة إلى البعد الديني الذي رافق سياسات بريطانيا في المنطقة ²⁹. عملت سلطات الانتداب البريطاني على تسهيل الهجرة اليهودية، ومنح الامتيازات للحركة الصهيونية رغم معارضة بعض التيارات اليهودية الدينية، ما مهّد عملياً لإقامة كيان استيطاني مدعوم بالقوة. وأوصت لجنة بيل الملكية عام 1936م بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، مع إخضاع الأماكن المقدسة – ومنها مدينة الخليل – لإدارة دولية تشرف عليها قوى كبرى ³⁰. وقد مثّلت هذه السياسات المنحازة دافعاً لاندلاع سلسلة من الثورات الشعبية، بدأت بثورة القدس عام 1920م، تلتها ثورة البراق عام 1929م نتيجة الاستفزازات الصهيونية عند الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى بدعم من القوات البريطانية، وأسفرت عن سقوط شهداء فلسطينيين³¹. ثم جاءت الثورة الكبرى (1936–1939م) احتجاجاً على تصاعد الهجرة اليهودية ودعم الانتداب البريطاني لها. وعلى الرغم من توصية لجنة بيل بالتقسيم، فإن الفلسطينيين رفضوا هذا الطرح رفضاً قاطعاً، وشارك أهالي مدينة الخليل بفعالية في هذه الثورات، ورفضوا المشروع الصهيوني ومخططات تهويد الأرض والمقدسات، وواجهوا أيضاً سياسات الانتداب البريطاني القمعية بشكل مباشر. ومع انسحاب بريطانيا في عام 1948م، وإعلان قيام الكيان الصهيوني على معظم الأراضي الفلسطينية، حلّت نكبة كبرى تمثّلت في تهجير نحو 800 ألف فلسطيني قسراً واحتلال مساحات واسعة من البلاد، بما فيها محيط مدينة الخليل، التي بقيت تحت الحكم الأردني حتى نكسة 1967م ووقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي ³².
وفي مواجهة هذه السياسات، سعى الفلسطينيون إلى حماية تراثهم الثقافي والديني. وفي خطوة دولية مهمة، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) قراراً عام 2017م بإدراج مدينة الخليل، بما في ذلك المسجد الإبراهيمي، ضمن قائمة مواقع التراث العالمي المعرض للخطر. وقد أثار القرار جدلاً كبيراً؛ إذ اعتبرته سلطات الاحتلال الإسرائيلي منحازاً للفلسطينيين، بزعم تجاهله ما تسميها "الأهمية الدينية اليهودية" للمدينة، بينما عدّ القرار في المقابل اعترافاً دولياً بأحقية الفلسطينيين في حماية تراثهم من محاولات التهويد والطمس.³³أعلى النموذج
أسفل النموذج
5 . الوصاية الهاشمية وجهود الأردن في حماية المسجد
بعد نكبة عام 1948م واحتلال معظم أراضي فلسطين، ضمّت المملكة الأردنية الضفة الغربية رسمياً عام 1950م، فباتت الخليل تحت سيادتها حتى عام 1967م. خلال هذه الفترة شهدت المدينة استقراراً نسبياً، واستؤنفت الحياة الدينية والمدنية في المسجد الإبراهيمي، الذي ظل يدار عبر الأوقاف الأردنية. وقد أولت الأردن اهتماماً خاصاً بالمقدسات الإسلامية في فلسطين، لا سيما القدس والمسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي ³⁴. وتميز عهد الملك عبد الله بن الحسين بمواقف معارضة للسياسات البريطانية المؤيدة للمشروع الصهيوني، وحرص على حماية القدس ومقدساتها الإسلامية. واستمر هذا التوجه في عهد الملك حسين بن طلال، الذي أكد على الوصاية الهاشمية على القدس ومقدساتها، ورفض أي مساعٍ لتدويل المدينة، معتبراً إياها مدينة عربية إسلامية. صدر في 1954م القانون الخاص بإعمار المقدسات الإسلامية في القدس، معلناً بداية "الإعمار الهاشمي الثاني" تحت رعاية ملكية مباشرة. وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967م ووقوع حريق المسجد الأقصى عام 1969م، أطلق الملك حسين مشروع "الإعمار الهاشمي الثالث"، وتم تمويل ترميم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وتبرع الملك بمبلغ ثمانية ملايين دولار لهذا الغرض، شمل أيضاً إعادة بناء منبر صلاح الدين الأيوبي³⁵. وفي خطاب أمام مجلس الأمة عام 1989م، أكّد الملك حسين مسؤولية الأردن التاريخية تجاه القدس والخليل والمقدسات الإسلامية، مؤكداً استمرار الدعم السياسي والمالي والمؤسساتي لأوقاف القدس والمسجد الإبراهيمي، وكذلك دعم أسر شهداء الانتفاضة ولجنة الدعم الأردنية- الفلسطينية المشتركة³⁶.
سياسات الاحتلال الإسرائيلي وتهويد المسجد
تمثّل الحركة الصهيونية مشروعاً استعمارياً حديثاً ذا خلفية أوروبية، استندت إلى توظيف الدين اليهودي لخدمة أهداف سياسية واستعمارية أوسع. ومنذ نشأتها ركّزت الحركة على بسط النفوذ والسيطرة على المواقع الدينية والتاريخية في فلسطين، وفي مقدمتها مدينتا القدس والخليل، لما لهما من رمزية دينية وأهمية إستراتيجية في تشكيل روايتها السياسية والدينية. وقد تبنّت هذه الحركة قيادة علمانية كثيودور هرتزل وفلاديمير جابوتينسكي، وطرحت "ترويم" القدس أداة للهيمنة الأوروبية ³⁷.
ومع احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية في 5 يونيو عام 1967م، أُسقط الوضع الدولي الخاص بالقدس، وفرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلية سيطرتها الفعلية من خلال توسيع حدود المدينة وضمّ أراضٍ إستراتيجية، وتغيير ديموغرافي لصالح اليهود، حتى أعلنت عن ضمها الكامل في 27 يونيو من ذات العام ³⁸. ومنذ ذلك الوقت بدأ الاحتلال الإسرائيلي بفرض وقائع تهويدية داخل المسجد الإبراهيمي، حيث اقتحمه المستوطنون وأدّوا فيه طقوساً دينية، في محاولة لتحويله إلى كنيس، ما أثار احتجاجات فلسطينية مستمرة ³⁹. وقد تصاعدت الاعتداءات بشكل ممنهج، حتى بلغت ذروتها في مجزرة صباح يوم الجمعة الموافق 25 فبراير/ شباط 1994م، التي ارتكبها المستوطن باروخ غولدشتاين أثناء صلاة الفجر، وأدت إلى استشهاد 29 فلسطينياً، وإصابة نحو 200 آخرين ⁴⁰ ⁴¹.
عقب مجزرة المسجد الإبراهيمي في 25 شباط/ فبراير 1994، أقرّت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تقسيم المسجد زمانياً ومكانياً بين المسلمين واليهود، وذلك استناداً إلى توصيات لجنة "شمغار"، ما أدى إلى تقليص الوجود الإسلامي داخل المسجد والإخلال بطابعه الديني والتاريخي⁴². وترافق هذا القرار مع إجراءات تهويدية متسارعة، شملت إزالة الآيات القرآنية، وتمزيق المصاحف، ومنع رفع الأذان، وإدخال طقوس دينية يهودية، ونصب نقاط تفتيش دائمة داخل المسجد وفي محيطه ⁴³ ⁴⁴. وفي سياق التطورات السياسية وقّعت اتفاقية (بروتوكول الخليل) عام 1997م كملحق لاتفاق أوسلو، ونصّت على تقسيم المدينة إلى منطقتين: منطقة (H1) التي تشكّل قرابة 80% من مساحة المدينة وتخضع لسيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية إدارياً وأمنياً، ومنطقة (H2) التي تضم البلدة القديمة والمسجد الإبراهيمي، وتبقى تحت السيطرة الأمنية والعسكرية الكاملة للاحتلال الإسرائيلي، حيث تنتشر فيها البؤر الاستيطانية ومواقع الاحتكاك الدائم، ما فاقم من واقع التوتر والتمييز وقيّد حرية الفلسطينيين في الوصول إلى مقدساتهم وممتلكاتهم.⁴⁵وفي الذكرى السنوية لما يسميه الصهاينة "تدمير الهيكل"، نظّم المستوطنون مظاهرات حاشدة في تل أبيب والقدس، رفعت فيها الأعلام الصهيونية وأُطلقت هتافات استفزازية في ساحة البراق، ما أشعل مواجهات دامية امتدت إلى مدينة الخليل وأسفرت عن مقتل أكثر من 60 يهودياً وجرح 50 آخرين. وقد أدّت هذه الأحداث إلى تفاقم التوتر، خاصة بعد اتفاقية أوسلو، التي منحت الاحتلال الإسرائيلي سيطرة كاملة على المدينة. ورفضت سلطات الاحتلال حينها المطالب الفلسطينية بوجود أمني في باحات المسجد، واقترحت بديلاً محدوداً يتمثل في الإشراف على المدخل فقط، لكنها عادت وتراجعت عنه لاحقاً.⁴⁶
واستمر الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ سياسات تهويدية شاملة، تمثلت في اقتراح رسمي عام 1975م من قبل وزارة الدفاع الإسرائيلية بتقسيم المسجد، ما أثار رفضاً فلسطينياً واسعاً ⁴⁷. كما خصّصت سلطات الاحتلال ميزانيات ضخمة لما يسمّى "تطوير المواقع التراثية"، بينما تمادت في إجراءاتها العدوانية بمنع الأذان، وإغلاق المسجد أمام المصلين، وفرض طوق أمني على البلدة القديمة ⁴⁸.
ورغم الاحتجاجات الواسعة التي شارك فيها أكثر من 750 ألف فلسطيني داخل الضفة وداخل أراضي 48، وما تبع ذلك من قرارات دولية، فإن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يواصل سياسة فرض الأمر الواقع على المسجد الإبراهيمي، في ظل صمت عربي وإسلامي ودولي مريب⁴⁹ ⁵⁰.
طبيعة الانتهاكات الإسرائيلية التي تطال المسجد ومحيطه
تتّسم الانتهاكات الإسرائيلية بحق المسجد الإبراهيمي ومحيطه بطبيعة ممنهجة، تستهدف طمس الهوية الإسلامية والمعمارية والتاريخية لهذا المعلم الديني، وتغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي للبلدة القديمة في الخليل، وذلك ضمن خطة استيطانية تهويدية شاملة.
1. الانتهاكات الأمنية والعسكرية:
منذ احتلال مدينة الخليل عام 1967م، فرضت سلطات الاحتلال إجراءات أمنية مشددة على البلدة القديمة والمسجد الإبراهيمي، تمثلت في نصب عشرات الحواجز ونقاط التفتيش، وتحويل المسجد إلى منطقة عسكرية مغلقة، يتم الدخول إليها بإجراءات مذلة، خصوصاً خلال الأعياد اليهودية، ما قيد حرية العبادة والتنقل للفلسطينيين ⁵¹.
2. الاعتداء على المصلين وتقييد حرية العبادة:
يتعرض المصلون الفلسطينيون بشكل متكرر للاعتداء من قبل قوات الاحتلال والمستوطنين، سواء من خلال المنع من الدخول، أو التدخل أثناء الصلاة، أو الاعتداءات الجسدية. كما يمنع رفع الأذان في المسجد أكثر من 50 مرة سنوياً، بدعوى "إزعاج المستوطنين"، ما يشكل انتهاكاً صارخاً للمادة (27) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تضمن حرية العبادة والكرامة الدينية ⁵².
3. مجزرة المسجد عام 1994م والتقسيم الزماني والمكاني:
في صباح يوم الجمعة 25 فبراير/ شباط 1994م، نفّذ المستوطن الإرهابي باروخ غولدشتاين مجزرة داخل المسجد أثناء صلاة الفجر، أسفرت عن استشهاد 29 مصلِّياً وأصيب أكثر من 200 آخرين بجروح. وبدلاً من معاقبة الجاني أو حماية المصلّين، قامت سلطات الاحتلال بفرض تقسيم زماني ومكاني داخل المسجد، خصصت بموجبه أكثر من 60% من مساحته لليهود، ومنعت المسلمين من دخول أجزاء واسعة منه⁵³.
4.التهويد المعماري وتغيير معالم المسجد:
أدخلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تغييرات هيكلية ومعمارية في المسجد، مثل تثبيت بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة، وفرض قيود صارمة على أعمال الترميم والصيانة التي تنفذها الجهات الإسلامية الفلسطينية والعربية، حيث تمنع تنفيذها إلا بعد الحصول على تصاريح رسمية من سلطات الاحتلال، والتي غالباً ما تمنع أو تعرقل. كما شرعت حكومة الاحتلال في بناء مصعد كهربائي يخترق ساحة المسجد من الجهة الجنوبية، في إطار مشروع تهويدي يهدد هوية المسجد وطابعه التاريخي⁵⁴.
5.الاستيطان في محيط المسجد:
منذ عام 1968م بدأ المشروع الاستيطاني في الخليل فتم إنشاء أول بؤرة قرب المسجد الإبراهيمي ثم توالت عمليات الاستيلاء على منازل الفلسطينيين المحيطة بالمسجد وتحويلها إلى بؤر استيطانية، بهدف تطويق المسجد وتغيير طابعه السكاني والبيئي. وقد وصفت منظمة العفو الدولية هذا النمط من الاستيطان بأنه انتهاك للقانون الدولي، ويكرس نظام فصل عنصري⁵⁵.
6. مخالفة الاتفاقيات الدولية:
تنتهك هذه الإجراءات مجمل الاتفاقيات الدولية المعنية بحماية التراث والمقدسات أثناء النزاعات، مثل اتفاقية لاهاي لعام 1907م، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م، والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م، والتي تنص على تحريم استهداف دور العبادة أو تغيير معالمها أو استخدامها لأغراض عسكرية ⁵⁶.
الأبعاد السياسية والقانونية لمحاولة تهويد المسجد
الأبعاد السياسية والقانونية لمحاولة تهويد المسجد الإبراهيمي تتجلى في محاولات الاحتلال الإسرائيلي لتثبيت سيطرته على مدينة الخليل عبر تغيير الواقع الديموغرافي وتقليص الوجود الفلسطيني في قلب المدينة، وذلك من خلال فرض قيود على دخول الفلسطينيين إلى المسجد وتقسيمه، إضافة إلى إقامة المستوطنات في محيطه، ما يعكس سياسة تهويد ممنهجة تهدف إلى إضعاف الصبغة الإسلامية والعربية للمدينة⁵⁷. على المستوى القانوني تعد هذه الممارسات مخالفة صريحة للاتفاقيات الدولية، لا سيما اتفاقية لاهاي 1954م المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة، واتفاقية جنيف الرابعة 1949م التي تمنع نقل السكان المدنيين إلى الأراضي المحتلة وتفرض حماية للمقدسات الدينية والتاريخية، إضافة إلى العديد من قرارات الأمم المتحدة التي تدين الاستيطان وممارسات التهويد⁵⁸. وبالتالي فإن التهويد ليس مجرد محاولة لتغيير جغرافي بل هو انتهاك سياسي وقانوني يستهدف إلغاء الهوية الفلسطينية الإسلامية للمسجد الإبراهيمي وتثبيت الاحتلال الإسرائيلي⁵⁹.
جهود الفصائل الفلسطينية والدول العربية والمجتمع الدولي في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد
تعاملت الفصائل الفلسطينية مع الانتهاكات الإسرائيلية على المسجد الإبراهيمي بفاعلية ملحوظة من خلال تنظيم الوقفات الاحتجاجية، والإضرابات، والتصدي الميداني للاحتلال الإسرائيلي في الخليل، بالإضافة إلى التوثيق المستمر لتلك الانتهاكات بهدف رفع الصوت الفلسطيني دولياً وفضح ممارسات الاحتلال⁶⁰.
أما الدول العربية فقد سعت عبر القنوات الدبلوماسية إلى دعم القضية الفلسطينية، ورفض التهويد الإسرائيلي، من خلال إصدار بيانات إدانة، وتبني قرارات في مؤتمرات الجامعة العربية، وإبرام اتفاقيات تهدف إلى حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، والتأكيد على الطابع العربي الإسلامي للبلدة القديمة في الخليل ⁶¹.
على صعيد المجتمع الدولي قامت منظمات دولية متعددة بدعم القضية الفلسطينية، حيث دخلت فلسطين عضوية اليونسكو عام 2011م، ما أتاح لها استخدام الأدوات القانونية الدولية للطعن في مشاريع التهويد والمطالبة بحماية المقدسات، كما شكلت الأمم المتحدة لجاناً معنية بمراقبة انتهاكات الاحتلال، وصدرت عنها قرارات تدين الاستيطان وممارسات التهويد، رغم محدودية التنفيذ على الأرض ⁶² ⁶³. وقد تبنت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، مواقف لفظية تعارض الاستيطان باعتباره عائقاً أمام السلام، إلا أن هذه المواقف ظلت في إطار التصريحات دون تأثير عملي ملموس على سياسات الاحتلال ⁶⁴.
بالتالي كان التعامل الفلسطيني والعربي والدولي متبايناً بين المقاومة الشعبية والدبلوماسية، والدعم القانوني الدولي، مع وجود قصور في التنفيذ العملي نتيجة تعنت الاحتلال الإسرائيلي ⁶⁵.
مدى فاعلية الأطر القانونية والقرارات الأممية في حماية المسجد
أولاً: الموقف السياسي والدبلوماسي الدولي من مجزرة المسجد
أظهرت ردود الفعل الدولية تجاه مجزرة المسجد الإبراهيمي عام 1994م تبايناً واضحاً في المواقف، انعكس على فاعلية الأطر القانونية الدولية في حماية المقدسات. فقد حمّلت المملكة المتحدة حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بصفتها قوة احتلال مسؤولية حماية المدنيين الفلسطينيين، ودعت إلى ضرورة ضبط النفس والحيلولة دون تصعيد الأوضاع، ما يشير إلى تبنّيها موقفاً أكثر التزاماً بالقانون الدولي الإنساني ⁶⁶. في المقابل اتّخذت الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً أكثر تحفظاً، إذ سعت إلى تعطيل صدور أي قرار حاسم من مجلس الأمن الدولي، ورفضت مقترح إرسال مراقبين دوليين لحماية الفلسطينيين. كما صرّح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بأن الرد الأنسب على المجزرة هو الاستمرار في عملية السلام، بينما أشادت وزارة الخارجية الأمريكية بإجراءات الاحتلال، رغم الانتقادات الدولية الواسعة لعدم كفاية تلك الإجراءات ⁶⁷.
ثانياً: فعالية الأطر القانونية والقرارات الأممية في حماية المسجد
مثّل انضمام فلسطين إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 2011 م خطوة هامة في مواجهة سياسات التهويد، إذ أتاح هذا الانضمام المطالبة بحماية المواقع المقدسة، وخاصة المسجد الإبراهيمي، واعتباره تراثاً فلسطينياً معرضاً للخطر، وقد تُوِّج هذا المسار بإدراج البلدة القديمة في الخليل، بما فيها المسجد، ضمن قائمة التراث العالمي عام 2017م ⁶⁸ ⁶⁹.
ورغم هذا التقدُّم فإن فعالية الأطر القانونية الدولية تظل محدودة، إذ لم تلزم حكومة الاحتلال الإسرائيلية بوقف انتهاكاتها بحق المسجد، فالاتفاقيات الدولية، كـاتفاقية لاهاي لعام 1954م لحماية الممتلكات الثقافية، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م المادة (27)، والبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م المادة (53)، تلزم سلطات الاحتلال بعدم المساس بالأماكن الدينية والثقافية، كما تعزز اتفاقية التراث العالمي لعام 1972م مكانة المسجد باعتباره موقعاً ذا "قيمة استثنائية" ⁷⁰ ⁷¹.وعلى الرغم من إنشاء الأمم المتحدة عدة آليات لمتابعة الانتهاكات، منها آلية "الاتحاد من أجل السلام"، وتكليف مقررين خاصين لتوثيق الاعتداءات، فإن هذه التدابير بقيت دون أدوات تنفيذية رادعة، ما أضعف أثرها العملي على الأرض⁷². أما على الصعيد السياسي فقد ظلت المواقف الدولية، خصوصاً من الولايات المتحدة الأمريكية، تفتقر إلى الحزم. فمع أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أعلنت معارضتها للاستيطان منذ عام 1967م، إلا أن مواقفها بقيت حبيسة التصريحات دون إجراءات ملزمة. في حين اعتبرت منظمة العفو الدولية أن الاستيطان، بما فيه الاستيلاء على أجزاء من المسجد الإبراهيمي، يعد خرقاً صريحاً للقانون الدولي⁷³.
ثالثاً: إدراج المسجد الإبراهيمي ضمن قائمة التراث العالمي
في عام 2017م اعتمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) قراراً بإدراج البلدة القديمة في الخليل، بما في ذلك المسجد الإبراهيمي، ضمن قائمة التراث العالمي الفلسطيني المعرض للخطر، وهو ما مثّل اعترافاً دولياً رسمياً بالمكانة التاريخية والدينية للمنطقة، وأهليتها للحماية بموجب اتفاقية التراث العالمي لعام 1972م ⁷⁴. وقد قوبل هذا القرار بترحيب واسع من الجانب الفلسطيني، الذي اعتبره إنجازاً دبلوماسياً يعزز الحقوق الثقافية والدينية، ويشكل أداة قانونية لمواجهة مشاريع التهويد الإسرائيلية. في المقابل أبدت حكومة الاحتلال الإسرائيلية اعتراضاً شديداً، معتبرة أن القرار يقوّض سرديتها التاريخية والدينية بشأن ما تسميه "قبر الآباء"، كما رأت فيه تهديداً مباشراً لمشاريع الاستيطان والسيطرة على المواقع الأثرية والدينية في المدينة ⁷⁵.
رابعاً: الإطار القانوني الدولي لحماية المقدسات
يشكل القانون الدولي الإنساني إحدى الركائز الأساسية في حماية الأماكن الدينية والمقدسات الثقافية خلال فترات النزاع المسلح والاحتلال. وتعد اتفاقية لاهاي لعام 1954م الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح من أبرز الأطر القانونية التي تلزم سلطات الاحتلال بالحفاظ على سلامة المواقع الدينية والثقافية ومنع تدميرها أو استخدامها لأغراض عسكرية ⁷⁶. كما تؤكد اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م، في المادة (27)، على احترام وحماية أماكن العبادة في ظروف الاحتلال، وتعزز ذلك المادة (56) من لائحة لاهاي لعام 1907م التي تحظر مصادرة أو إتلاف المؤسسات المكرسة للديانة أو التعليم أو الأعمال الخيرية، إلى جانب المادة (53) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م، التي تحظر القيام بأي عمل عدائي ضد الأماكن التي تُشكل تراثاً ثقافياً أو دينياً للشعوب ⁷⁷.
خامساً: آليات المتابعة الأممية ورصد الانتهاكات الإسرائيلية
عندما فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرارات ملزمة بسبب استخدام حق النقض (الفيتو)، لجأت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تفعيل آلية "الاتحاد من أجل السلام"، التي تتيح لها عقد دورات استثنائية طارئة للتعامل مع تهديدات السلم والأمن الدوليين. وقد أنشئت بموجب هذه الآلية لجان أممية ومقرّرون خاصون معنيّون بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مهمّتهم توثيق الانتهاكات الإسرائيلية، ورفع تقارير دورية بشأنها. ورغم أهمية هذه الآليات في رصد الواقع الميداني، إلا أنها تفتقر إلى القوة التنفيذية الملزمة، ما قلّل من تأثيرها على الأرض، وأبقى الانتهاكات الإسرائيلية للمقدسات الدينية خارج نطاق المساءلة الفعلية⁷⁸.
سادساً: أبعاد القصور القانوني الدولي
رغم أن إدراج المسجد الإبراهيمي والبلدة القديمة في الخليل ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر عام 2017م، يمنحهما "غطاء قانونياً" وفق اتفاقية التراث العالمي لعام 1972م، إلا أن ذلك لم يوقف حكومة الاحتلال الإسرائيلية عن الاستمرار في تهويد الموقع، ما يكشف عن ضعف آليات الردع القانونية الدولية، خاصة في ظل غياب آلية تنفيذية تجبر حكومة الاحتلال الإسرائيلية على الالتزام بالقانون الدولي ⁷⁹ ⁸⁰. وسبق أن شكّلت بريطانيا عام 1929 "لجنة شو" للتحقيق في مجازر الخليل إثر ثورة البراق، وخلصت إلى ضرورة معالجة جذور التوترات، لكنها لم تترجم نتائجها إلى خطوات قانونية تنصف الفلسطينيين، ما يعكس نمطاً تاريخياً من التراخي الغربي في حماية المقدسات الإسلامية، وتحديداً المسجد الإبراهيمي⁸¹.