مازن العجلة

 تتسم السياستان المالية والاقتصادية الفلسطينيتان منذ مطلع العام 2019 بإجراءات تقشفية صارمة، لمواجهة التراجع في المداخيل، بسبب أزمة الاقتطاعات الإسرائيلية من أموال الضرائب الفلسطينية، ولكن أيضاً بسبب تراجع المساعدات الدولية والعربية.

يتضح من تحليل اتجاهات المساعدات تراجعها من حيث الحجم، والمزيد من ربطها باشتراطات سياسية، وتوجيهها لاتجاهات سياسية، من بينها إدامة الانقسام الفلسطيني، وأخذها أشكالاً إغاثية وطارئة لعلاج آثار الاعتداءات الإسرائيلية أكثر منها لتحقيق التنمية والبناء، فضلاً عن هذا فإنّها في ظل الاحتلال الإسرائيلي وسياساته تخدم سوق هذا الاحتلال بشكل كبير.

في محصلة مشهد المساعدات الراهن، لا يبدو أنّه من الممكن التعويل عليها، حقّاً، سواء للخروج من الأزمة التقشفية الراهنة، أو في التخطيط والبناء.

 مقدمة

تهدف هذه الورقة إلى دراسة وتحليل تطورات المساعدات الخارجية، الدولية والعربية، والسياقات السياسية التي عملت خلالها والتي أفضت في النهاية إلى ضعف تأثير هذا الدعم بعد ربع قرن من تأسيس السلطة الفلسطينية، نتيجة التداعيات الخطيرة التي أفرزتها منظومة كاملة وممنهجة من الإجراءات الاستعمارية الإسرائيلية لتعزيز هذا الضعف ومنع التطور والوصول إلى اقتصاد الدولة الفلسطينية وضمان استمرار حالة التبعية للاقتصاد الإسرائيلي.

لم تكن فلسفة المساعدات بعيدة، يوماً ما، عن السياسة وأهدافها وتحالفاتها. ورغم دفع مليارات الدولارات من المانحين في سياق اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، منذ العام 1994، إلا أنّ هذه المساعدات تأثرت غالباً، بالتطورات السياسية المصاحبة والمشَكِّلة لعملية السلام، فتراجع حجمها، واختلفت مسارات تخصيصها، وأصبح اعتماد الاقتصاد الفلسطيني عليها عبئاً بدلاً من كونه وسيلة مهمة لتمويل عملية التنمية وزيادة معدلات النمو الاقتصادي الحقيقية، وتحقيق الاستقلال، بدرجة يمكن معها القول إنّ المساعدات التي رُصدت كاستحقاق لعملية السلام ولبناء مؤسسات وهياكل الدولة الفلسطينية، ورغم ما نتج عنها من تنمية مؤسسية ومادية وبشرية، إلا أنها أُفرغت من مضمونها تماماً، سواء على صعيد الكم أو الكيف أو التخصيص والتأثير.

  1. الاتجاه العام للمساعدات الخارجية.. التباين والتناقص

منذ بدايتها لم تتخذ المساعدات الخارجية اتجاهاً واضحاً في تطورها، صعوداً أو هبوطاً. وتعتبر هذه السمة أحد أهم مجالات النقد الموجه لهذه المساعدات، باعتبار أن عدم استقرارها ربما يكون قد ساهم في ضعف قدرة السلطة على التنبؤ بمساراتها وأوقاتها، الأمر الذي يؤثر على دقة الخطط والبرامج الخاصة على تطوير القدرات الإدارية للمالية العامة.

تشير الإحصاءات الخاصة بالمساعدات الخارجية خلال الفترة (1996-2018) إلى أنها تطورت بمعدلات نمو سالبة خلال 14 سنة متقطعة، بينما لم تشهد معدلات نمو موجبة إلا في تسعة أعوام. لكن أخطرها وأطولها كانت مرحلة تناقص المعونات طوال العقد السابق (2008-2019). حيث يوضح الجدول المرفق تطور حجم المساعدات الإجمالية (أي أجنبية وعربية) خلال الأعوام المذكورة، ويشير الجدول إلى أن معدل نمو المساعدات كان سالباً طوال هذه الفترة ما عدا عام 2013، حيث سجلت معدل نمو موجب وبنسبة 46%[1].

جدول رقم (1)

المساعدات الدولية والعربية لدعم الموازنة (2008-2018)- مليون دولار

السنة إجمالي المساعدات من الدول الأجنبية من الدول العربية
2007 1322 888 434
2008 1978 1532 446
2009 1402 940 462
2010 1210 979 231
2011 983 683 300
2012 932 643 289
2013 1358 960 398
2014 1230 819 411
2015 797 443 354
2016 766 534 232
2017 720 632 88
2018 665 352 313

                  المصدر: وزارة المالية، تقارير العمليات الشهرية

http://www.pmof.ps/pmof/internal.php?var=11&tab=01

لقد عانى الاقتصاد الفلسطيني من صدمة عميقة نتيجة الانخفاض الكبير والمتتالي لهذه المساعدات، فقد بدأ حجمها في الانخفاض بعد عام 2008، الذي وصلت فيه إلى أقصى مستوىً لها وبمبلغ 1978 مليون دولار، واستمرت في تراجعها إلى أن وصلت إلى 665 مليون دولار عام 2018، وبنسبة تراجع بلغت 66%.

لقد انعكس هذا التراجع في حجم المساعدات على نسبة مساهمتها في الإيرادات العامة الذي تراجع أيضاً تراجعاً حادّاً خلال العشر سنوات الأخيرة. فقد بلغت هذه النسبة 53% عام 2008، وبدأت بالتراجع سنة بعد أخرى إلى أن وصلت إلى 16% عام 2018. كذلك تراجعت نسبة المساعدات الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي من 32% عام 2008 إلى 5% فقط عام 2018.

وقد يعتبر تناقص الاعتماد على المساعدات وتراجع مساهمتها في الإيرادات العامة ميزة تسعى لتحقيقها السلطة الوطنية الفلسطينية، وذلك صحيح إذا تزامن مع تعزيز للقدرة الذاتية للاقتصاد التي تعتمد على قطاعات إنتاجية قوية وقطاع تجاري تصديري يخدم هذه القطاعات، وحيث إن ذلك لم يحدث في ظل منظومة خبيثة من الإجراءات الإسرائيلية التي تقوض باستمرار تعزيز هذه القدرة الذاتية، فإن هذا التراجع للمساعدات أثر سلباً على الاقتصاد الفلسطيني، حيث انعكس ذلك فوراً على نمو الناتج المحلي الذي اتسم بالتقلب كونه مرتبطاً بالأحداث السياسية ودعم المانحين الذي كان يتعذر التنبؤ به وخارج سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية، كما أشار تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)[2]. وتتجلى هيمنة الجانب السياسي على النمو الاقتصادي الفلسطيني في أن فترة الاستقرار النسبي التي امتدت من 1995 إلى 1999 شهدت أقوى أداء اقتصادي، بينما سبقت جميع فترات الانكماش الاقتصادي (2000-2002، 2006، 2014) مواجهات عسكرية. وقد تأثر النمو الاقتصادي خلال الفترة (2015-2018) بتراجع حجم المساعدات المستمر في سياق تصعيد إسرائيلي سياسي ضد السلطة الوطنية الفلسطيني، كان آخرها الخصم الجائر من أموال المقاصة، خصوصاً في العام 2019، وما ترتب عليه من توقف السلطة عن استلامها لمواجهة هذه القرصنة الإسرائيلية، التي جاءت وقد أنهى الاقتصاد الفلسطيني العام 2018 بمعدل نمو سالب بلغ 0.7%، متأثراً بحالة الركود الشديد في قطاع غزة، حيث تراجع معدل النمو ليصبح سالباً وبنسبة 7%، بينما تراجع في الضفة الغربية إلى 3%.

وغالباً ما يؤدي تشديد قيود الاحتلال مقترناً بانخفاض المساعدات المقدمة من المانحين إلى إعاقة النمو الاقتصادي. وهو يُفضي إلى تقويض الإنجازات التي حققتها السلطة الوطنية الفلسطينية في بناء المؤسسات اللازمة لاقتصادٍ ناجع الأداء تقوم عليه دولة قابلة للحياة مستقبلاً[3]. ويمكن لتشديد السياسة المالية الضروري بسبب انخفاض المساعدات الخارجية أن يؤدي، كما يحدث الآن (منذ شباط (فبراير) 2019) بسبب لجوء السلطة الاضطراري لموازنة الطوارئ التي تعتمد على سياسة تقشفية صارمة، إلى عواقب وخيمة لا يمكن التنبؤ بها، في ظل اقتصاد يعتمد على الإنفاق الحكومي الذي تدعمه المساعدات الخارجية.

ولكن التساؤل الذي قد يثور ونحن في معرض الحديث عن هذا التراجع الكبير في المساعدات، ما هي الدول الأكثر مساهمة في هذا الانخفاض في المساعدات؟ أم هو أيضاً اتجاه عام قد تشكل لدى الدول الرئيسية التي تشكل ثقلاً وازناً في حجم المساعدات. ولا بد من التنويه هنا أن أربعة مصادر رئيسية تساهم بحوالي 93% من حجم المساعدات (نتحدث هنا عن المساعدات المُقدمة لدعم الموازنة الجارية، حيث تتوفر بيانات عن الدول التي تقدم هذا الدعم). وتتمثل هذه المصادر الأربعة في الاتحاد الأوروبي الذي يساهم بالنسبة الأعلى من حجم هذه المساعدات (34%)، والدول العربية (30%)، والبنك الدولي (17%)، والولايات المتحدة الأميركية (12%). ورغم أهمية المساعدات المقدمة من الدول الأخرى، إلا أنها بمعيار الحجم ونسبة المساهمة ومجالات التخصيص لا تُدرج عادة في الدول المانحة الرئيسية. على سبيل المثال، فإن كلاًّ من اليابان والصين تقدمان مساعدات متنوعة ومستمرة، خاصة لتطوير البنية التحتية والتعليم وتنمية المهارات للكوادر البشرية. وقد بلغ حجم المساعدات اليابانية، وفقاً لوزارة الخارجية اليابانية، 1.9 مليار دولار منذ عام 1993[4]. ولا يبدو أن هذه المساعدات تأثرت بالإجراءات الأميركية ضد السلطة، أو تباطأ المانحون عموماً في تنفيذ التزاماتهم تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية.

مساعدات الاتحاد الأوروبي

تمثل المساعدات المقدمة من الاتحاد الأوروبي مصدراً مهمّاً وثابتاً لدعم السلطة الوطنية الفلسطينية، ويأتي هذا الالتزام انعكاساً للموقف السياسي للاتحاد الأوروبي المؤيد بشدة لحل الدولتين على أساس القرارات الدولية ذات الصلة. وتتميز المساعدات الأوروبية بالتنوع، فهي تخصص لعدة مجالات على رأسها دعم قدرات السلطة الوطنية الفلسطينية المؤسسية، ودعم الموازنة العامة، إضافة إلى ما تقدمه إلى الأونروا، ودعم مؤسسات القدس والفقراء والتعليم وغيرها. لقد ساهم الاتحاد الأوروبي بأكثر من ثلث حجم المساعدات المقدمة للموازنة الفلسطينية، وتراوح متوسط هذا الدعم حول 300 مليون دولار سنويّاً[5]. بيد أن الاتجاه نحو الانخفاض بدأ يظهر خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حيث بلغ في المتوسط 194 مليون دولار بعد أن كان 273 مليون دولار خلال السنوات الثلاث السابقة (2012-2014)[6]. ويتضمن هذا التراجع مخاوف حقيقية ذات علاقة بقوة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وكل من أميركا وإسرائيل، وبالتالي إمكانية التأثر مستقبلاً بالمواقف السياسية لهاتين الدولتين.

توقف المساعدات الأميركية

أعلنت الإدارة الأميركية توقفها عن تقديم المساعدات للأراضي الفلسطينية بكل أشكالها، تقريباً، وذلك في معرض الضغط على السلطة الوطنية الفلسطينية سياسيّاً من أجل التساوق مع الرؤية الصهيونية الأميركية لحل القضية الفلسطينية. وقد جاء هذا الإجراء الأميركي بعد سلسلة إجراءات وقرارات سياسية من ضمنها نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس (نهاية العام 2017)، ثم إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإدراج القنصلية الأميركية العامة بالقدس في سفارتها مباشرة.

في هذا السياق السياسي، جاء القرار الأميركي وقف المساعدات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ثم للسلطة الوطنية الفلسطينية، ثم لمشاريع البنية التحتية من خلال الوكالة الأميركية للتنمية (USAID)[7]. فقد أوقفت الإدارة الأميركية مساعداتها للأونروا ابتداء من شباط (فبراير) 2018، رغم أن مساهمتها كانت هي الأعلى وتشكل حوالي 40% من موازنة الأونروا، تلا ذلك وقف المساعدات المباشرة للسلطة، سواء تلك الموجهة لدعم الموازنة أو المساعدات لتطوير القدرات الأمنية، وغيرها. تبع ذلك توقف المساعدات التي تقدمها الوكالة الدولية للتنمية (USAID).

ومما يفاقم الموقف الناجم عن وقف المساعدات الأميركية أنّه يترافق مع مساعٍ للتأثير على الدول المانحة، لخفض مساعداتها للفلسطينيين، أو لتوجيهها في اتجاهات محددة، لها نتائج ومعانٍ سياسية، خاصة وعلى سبيل المثال من الواضح أن الرؤية الأميركية الصهيونية لتوجيه الدعم نحو قطاع غزة للتخفيف من المعاناة الإنسانية، قد تحظى بتأييد مزيد من الدول، في ظل تأييد الأمم المتحدة وبعض الدول العربية.

المساعدات العربية

يوضح الجدول السابق تطور حجم المساعدات العربية، التي بلغ أقصى حجم لها عام 2009 بمبلغ 462 مليون دولار، وهي في المتوسط بلغت 30% من حجم المساعدات الإجمالية (أجنبية وعربية). وهذه المساهمة العربية، على أهميتها، لا ترقى إلى أهمية البعد العربي سياسيّاً وإستراتيجيّاً للقضية الفلسطينية، ولا تتناسب مع مواقف التضامن المعلنة مع الشعب الفلسطيني. وهي أيضاً عانت من التذبذب وعدم الاستقرار، حيث انخفضت لتصل نسبتها من إجمالي المساعدات عام 2017 إلى 12% فقط، في الوقت الذي عانت فيه السلطة من تراجع المساعدات الأجنبية في هذا العام وبنسبة 6%. يؤكد هذا التراخي عدم تفعيل شبكة الأمان العربية لمواجهة القرصنة الإسرائيلية على الأموال الفلسطينية في (شباط) فبراير 2019، رغم اتخاذ الجامعة العربية قراراً بتفعيلها، خاصة أنه مضى على هذه الأزمة عدة أشهر، ولم تتلقَ السلطة إلا دعماً سنويّاً روتينيّاً من المملكة العربية السعودية والجزائر، وهما الدولتان الأكثر التزاماً، في العادة، بين الدول العربية في تقديم المساعدات.

ساهم كل من الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية على قطاع غزة، والانقسام، ومن ثم تردي الأوضاع الإنسانية، في تشتيت الدعم العربي، إذ دأبت قطر على تقديم الدعم لحركة حماس التي تمثل سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، من خلال دعم البنى التحتية والمساهمة في إعادة الإعمار بحوالي 500 مليون دولار، وإنشاء مدينة سكنية سُميت على اسم أمير دولة قطر السابق “مدينة الشيخ حمد”. وكذلك ساهمت الكويت بحوالي 250 مليون دولار لإعادة بناء البيوت المهدمة كليّاً في قطاع غزة. ورغم أن هذه التبرعات السخية موجهة للشعب الفلسطيني، إلا أنها واضحة التسييس خاصة القطرية منها، وهي في النهاية بعيدة عن الموازنة العامة الفلسطينية.

في هذا السياق، أيضاً، ارتبطت المساعدات القطرية بما تسمى “التفاهمات” بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة، التي أسفرت عن تقديم دعم قطري بحوالي 30 مليون دولار موجه لأغراض متعددة مثل توفير الوقود لمحطة الكهرباء ولمساعدة الفقراء وتوفير فرص عمل مؤقتة للعمال. كذلك وافقت قطر على تقديم 480 مليون دولار منها 300 مليون للسلطة الوطنية الفلسطينية[8]، وهذه المساعدات التي تمت بناء على طلب من السلطة في محاولتها مواجهة توقف أموال المقاصة، تتضمن 50 دولار منحة والباقي قرض يُصرف بواقع 21 مليون دولار شهريّاً[9].

اتجاهات ومسارات المساعدات

يتضح من التحليل السابق أن الاتجاهات المستقبلية للمساعدات الخارجية، غالباً، ستمضي بنفس الاتجاه العام للمساعدات خلال العقد السابق، ولا تشير معطيات الواقع الاقتصادي والسياسي إلى إمكانية توقع زيادات فاعلة في حجم المساعدات، ومن المتوقع أن تتراوح حول نصف مليار دولار سنويّاً، أي أنّها ستكون أقل مما كانت في الماضي، حيث إن مجمل العوامل المناوئة لتطورات إيجابية في المساعدات تحظى بوزن نسبي أكثر فعالية وأقوى تأثيراً من العوامل الداعمة لإمكانية تطورها نحو الزيادة، ويرجع ذلك إلى:

– عدم وجود بيئة سياسية ملائمة لاستئناف المفاوضات لتعزيز العملية السلمية في ظل حكومة إسرائيلية يمينية وتشجيع أميركي كامل وغير مسبوق.

– كذلك، تشير معدلات نمو المساعدات السالبة طوال العقد السابق، وتناقص قيمتها سنة بعد أخرى، إلى استمرار هذا الاتجاه في ظل البيئة السياسية المناوئة كما أشرنا.

– لا يختلف الاتجاه العام للمساعدات العربية عما سبق، يؤكد من هذا التوقع طريقة تعامل الدول العربية مع أزمة توقف إيرادات المقاصة وما سببته من أزمات مالية حادة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وعدم تفعيلها لشبكة الأمان العربية التي أقرتها جامعة الدول العربية.

إن نزوع الاتجاه العام للمساعدات الخارجية الأجنبية والعربية للتراجع المستمر، يضع الاقتصاد الفلسطيني أمام تداعيات خطيرة، ويُضعف من صمود السلطة والمواطنين، ويُعرض منجزاتها للتآكل والتراجع، أمام الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة، سواء على الاتفاقات الموقعة أو على قدرة السلطة على اتخاذ القرار أو على الموارد الطبيعية الفلسطينية، أو على الأموال الفلسطينية (إيرادات المقاصة، حقوق العمال المالية، التسربات والتهرب، وغيرها). فضلاً عن هذه الاتجاهات الكمية، هناك تغيرات في مضامين ومجالات المساعدات، وتخصيصها في اتجاهات معينة.

  1. قصور المساعدات الخارجية: تغيرات التخصيص

هناك العديد من الانتقادات وجهت إلى المساعدات الخارجية غير ما أوضح سابقاً بخصوص عدم استقرارها وتراجع حجمها المستمر، حيث تشير هذه الانتقادات إلى وجود فرق دائم بين ما تتعهد الدول المانحة بتقديمه وبين ما تدفعه فعلاً، ناهيك عن توجيه نسب كبيرة من المساعدات لأغراض الإغاثة والحالات الطارئة بصورة متزايدة، وخاصة في أعقاب الانتفاضة الثانية منذ عام 2000، ويأتي ذلك في جزء منه كاستجابة للتخفيف من الأوضاع الإنسانية السيئة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ناحية أخرى، إشارة إلى عدم قدرة الجهات المانحة على تنفيذ مشروعات إنمائية أثناء الصراع المتزايد. وقد أثر ذلك على تخصيص هذه المساعدات نحو تغطية عجز الموازنة والاحتياجات الإنسانية على حساب الجانب الإنمائي والمشاريع التطويرية. ويرى البعض أن اهتمام المانحين انصبّ منذ بدء عملية التمويل الدولي للسلطة الفلسطينية على دعم العملية السياسية وإزالة واحتواء أسباب ومظاهر التوتر والعنف في المنطقة، وكان ذلك على حساب إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية ومستدامة وبناء دولة قابلة للحياة التي  طالما رغب الفلسطينيون في تحقيقها[10]. وهنا يمكن التركيز على موضوعين هامين، وهما: تراجع الدعم الموجه للجانب الإنمائي، وضعف التأثير الاقتصادي للمساعدات بفعل الاحتلال وإجراءاته.

تراجع المساعدات الموجهة للموازنة التطويرية

تشير إحصاءات سلطة النقد الفلسطينية الخاصة بالمالية العامة إلى أن هناك تراجعاً كبيراً وخطيراً في حجم ونسبة المساعدات المُوجهة للموازنة التطويرية، حيث بلغ حجم هذه المساعدات في المتوسط للفترة (1995-2000) 287 مليون دولار سنويّاً، وبلغ متوسط نسبتها إلى إجمالي المساعدات 95.3%، بينما كان متوسط المساعدات السنوية المُوجهة لدعم الموازنة لنفس الفترة 23 مليون دولار. لكن هذا المسار الإنمائي للمساعدات شهد انتكاسة قوية منذ العام 2000، حيث اندلعت أحداث انتفاضة الأقصى، وتزايدت اهتمامات المانحين بأولوية الاحتياجات الانسانية وزيادة دعم عجز الموازنة نتيجة الضعف الاقتصادي الناجم عن الإجراءات الإسرائيلية، حيث بدأ حجم ونسبة ما يتم توجيهه للموازنة التطويرية في التراجع، وقد وصل متوسط هذا الحجم خلال العشر سنوات الأخيرة (2009-2018) 134 مليون دولا سنويّاً، بينما تراجعت نسبته من الإجمالي إلى 14.8%[11]. يرى تقرير للأونكتاد أن هذا التغير في تخصيص المساعدات لصالح دعم الموازنة أدى إلى التغير الذي حدث لاحقاً في طبيعة العلاقات والهياكل الاقتصادية. فواقع الصراع والإغلاق قد أعاق الأنشطة التجارية الفلسطينية من ناحية، ورفع مستويات المساعدات الأجنبية التي تدفقت على الاقتصاد من ناحية أخرى. وما لحق ذلك من الاعتماد على المساعدات كمصدر رئيسي للإيرادات الحكومية يعني أن مستويات التشغيل لم تعد تعكس الطاقة الإنتاجية للاقتصاد بل مدى اهتمام الجهات المانحة بخطط توليد التشغيل. وأدى تركيز السلطة والجهات المانحة على الاحتياجات المشروعة للحالات الطارئة والإغاثة إلى سحب الاهتمام من القطاعات كثيفة التشغيل والمنتجة مثل الزراعة والصناعة. وهذا يقودنا إلى سياسة الدول المانحة تجاه القطاعات الإنتاجية، التي أُهملت تماماً في موازنات المنح والمساعدات وفي الموازنات والخطط الفلسطينية بفعل تأثير سياسات الدول المانحة، وخاصة القطاع الزراعي الذي تعاملت معه على أنه قطاع ضعيف وبالتالي فرصته في الحصول على التمويل ضعيفة، وإن كان هذا التوجه تشوبه أبعاد سياسية متأثرة بالصراع ومحابية لإسرائيل[12].

ما سبق يعني أن معظم المساعدات الدولية قد وُجهت لتمويل إنفاق غير منتج، واقتصر التمويل الموجه للاستثمار الحكومي على نحو 15% فقط، ومعظمه تركز أيضاً في مجالات الاستثمار الاجتماعي والتأهيل النسبي للبنى التحتية.

ضعف التأثير الاقتصادي للمساعدات بفعل إجراءات الاحتلال

ما فتئ الاحتلال يعطل كفاءة المساعدات الخارجية المقدمة للشعب الفلسطيني، فهو إما يقوض الأنشطة الإنتاجية الفلسطينية أو يجعلها غير قادرة على المنافسة من خلال رفع تكاليف الإنتاج والمعاملات. لقد أدى ذلك إلى تراجع كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية، حيث وصل معدل البطالة عام 2018 إلى 30%، وظل العجز التجاري الذي بلغت نسبته 40% من الناتج المحلي الاجمالي، مرتفعاً جدّاً، بينما تزايدت التبعية الاقتصادية لإسرائيل، ولم يحدث تحسن جوهري في حالة عجز الموازنة في السنوات العشر الأخيرة. لذلك، فليس من المستغرب أن تجد إحدى الدراسات[13] أن الأثر الإيجابي للمساعدات كان ضئيلًا مقارنة بأثر المعونات الخارجية في حالة بعض البلدان النامية. وقد وجد أن 36 %فقط من التغيرات في النمو الاقتصادي يمكن إرجاعها للمساعدات الدولية، كما أكدت الدراسة أن الأثر في مستويات المعيشة كان ضئيلًا جدّاً، حيث وجد أن 3% من التغيرات في النمو في الناتج المحلي للفرد ترجع للمساعدات الدولية[14].

ومن هنا يتضح أن فعالية الدعم المقدم من المانحين، قد ضَعُفَت بفعل الاحتلال، وليس بفعل عدم ملاءمة سياسات السلطة الوطنية الفلسطينية، أو ضعف التنسيق بين المانحين. فقد أدى العبء المالي الذي فرضته الأزمات الإنسانية والخسائر المالية الناجمة عن الاحتلال إلى تحويل وجهة المانحين من الجانب الإنمائي إلى العمليات الانسانية ودعم الموازنة. ويؤكد تقرير دولي هذا التحليل، موضحاً أنه مهما بلغت الأموال المخصصة للمساعدات لن تكون كافية لوضع أي اقتصاد على سكة التنمية في ظل تصاعد الضربات العسكرية وتكرارها وتدمير البنية التحتية وعزله عن الأسواق العالمية وتجزئة الأسواق المحلية والمصادرة والحرمان من الحصول على الموارد الطبيعية[15].

لذلك تحملت السياسات التقييدية الإسرائيلية بشكل جوهري مسؤولية منع وتعطيل الآليات والقنوات الاقتصادية، التي كان يمكن عبرها للمساعدات الدولية المساهمة في دعم وتطوير القدرات الذاتية  للاقتصاد الفلسطيني. يمكن تلخيص الآثار في نتيجة واحدة بسيطة، لقد أصبح الاكتفاء الذاتي أكثر صعوبة وزاد اعتماد الفلسطينيين على المساعدات.

تسرب المساعدات إلى الاقتصاد الإسرائيلي

أسهمت العلاقات المعقدة مع الاحتلال والقائمة على التبعية الاقتصادية والنقدية والمالية، في تسرب الجانب الأكبر من تلك المساعدات إلى الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك نتيجة السيطرة شبة التامة للواردات والمنتجات الإسرائيلية على السوق الفلسطينية، لتقوم هذه المساعدات في المحصلة النهائية بدفع مستويات الطلب الكلي في الاقتصاد الإسرائيلي، مقابل تعميقها لاختلالات الاقتصاد الفلسطيني[16].

يشير “شير هيفر” إلى أن متابعة جهود الدعم الدولي للمانحين والجهات المانحة أتاحت متسعاً من الوقت لمراقبة الطرق التي تتبعها السياسات الإسرائيلية لتحويل الدعم، وفهم أنشطتها التي أصبحت أحد العوامل التي تساعد على تمكين الاحتلال. من الناحية النظرية، ينبغي التمييز بين الدعم المحول) الذي يعني أن هذه الأموال لا تصل أبداً إلى الشعب الفلسطيني بسبب الإجراءات الإسرائيلية مثل الضرائب، ورسوم الموانئ، ورسوم النقل.. إلخ(، والدعم الذي يتم تخريبه )والذي يعني أن الدعم الدولي يتم استلامه من قبل الشعب الفلسطيني، ولكن بطريقة ما يدعم الاقتصاد الإسرائيلي ويساعد في تمويل الاحتلال، كشراء المنتجات الإسرائيلية). وفي معرض قياسه لهذا التسرب يشير إلى أن معظم أموال الدعم تجد طريقها عاجلاً أم آجلاً إلى الاقتصاد الإسرائيلي. وبما أن الصادرات إلى الأراضي الفلسطينية تبلغ ما يقارب 5% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية وأن تمويل معظم هذه الصادرات يتم عن طريق الدعم الدولي، يمكن الاستنتاج أن الدعم الدولي المقدم للفلسطينيين يساهم بمليارات الدولارات في الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، ويسهل على إسرائيل تحمل تكاليف استمرار الاحتلال العسكري. النتائج هنا تشير إلى استخدام 78% على الأقل من أموال الدعم الدولي للاستيراد من إسرائيل، وبالتالي تتم تغطية 18% على الأقل من تكاليف الاحتلال لصالح إسرائيل.[17]

الخلاصة

– إن أبرز السمات المتعلقة بالمساعدات الخارجية، وقد ارتبطت منذ بدايتها بالسياسة وشروطها ومتطلباتها، هو عدم استقرارها وتذبذبها سواء على صعيد الحجم أو على صعيد معدلات نموها، وقد اتضح أن هناك صعوبة سياسية ومنهجية في عكس مسارها الحالي نحو الزيادة الفاعلة، نتيجة العديد من العوامل الداعمة لتراجعها، وخاصة جمود العملية السلمية وانسداد آفاقها، وطبيعة الموقف الأميركي الجديد المناوئ للسلطة الوطنية الفلسطينية، في سياق الضغط السياسي للقبول بالرؤية الصهيو أميركية لحل الصراع.

– رغم حيوية المساعدات الدولية ودورها في تخفيف الأزمات الاقتصادية وتوليد الدخل وتخفيف حدة التشوهات الهيكلية، ومساهمتها في التطوير المؤسسي، إلا أنها لم تحقق أهدافاً تنموية إستراتيجية، فضلاً عن أنها لم تصل إلى تحقيق التنمية المستدامة. كما يكشف التحليل أنّ غالبية المساعدات تُوجه في معظمها لأغراض الإغاثة الانسانية ودعم عجز الموازنة وهي في غالبها احتياجات قصيرة الأجل. لذلك فإن المعونة تُستهلك في معظمها ولا تُستثمر، ومن ثم فهي لم تنجح في الحد من الفقر أو البطالة بشكل كبير على المدى الطويل، ولا يزال الاقتصاد الفلسطيني يعتمد على المساعدات.

– نتيجة السيطرة شبة التامة للواردات والمنتجات الإسرائيلية على السوق الفلسطينية، تساهم المساعدات في المحصلة النهائية بدفع مستويات الطلب الكلي في الاقتصاد الإسرائيلي، مقابل تعميقها لاختلالات الاقتصاد الفلسطيني. وتوصلت الدراسات إلى أن هناك ترابطاً بين المساعدة الخارجية والفائض التجاري لإسرائيل مع الاراضي الفلسطينية، وهذا الفائض يُمول إلى حد كبير بأموال المساعدات، وغيرها من التحويلات النقدية الخارجية.

– من الصعب أن تستمر السلطة الوطنية الفلسطينية في الاعتماد على المساعدات الخارجية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، فقد اتضح أن المساعدات الخارجية للفلسطينيين تُقدم بناءً على المصالح السياسية بدلاً من اعتبارات التضامن. ومن ثم فهي متقلبة ومتوقفة بما يكفي للحفاظ على قيمة إنمائية ضئيلة على المدى الطويل. تحتاج السلطة إلى جهود مضنية وحملات سياسية ودبلوماسية دولية وإقليمية لحشد رأي عام دولي وأدوات أممية ودولية لإلزام إسرائيل بفتح اتفاق باريس وإدخال تعديلات جوهرية على بنوده، خاصة ما يتعلق منها بأموال المقاصة. ليُصار إلى التخلص من هذا الاتفاق تدريجيّاً، بناء على قرارات المجلس الوطني والمركزي.

الهوامش

1 كافة معدلات النمو للمساعدات في هذه الفقرة حُسبت بناء على إحصاءات سلطة النقد المنشورة على موقعها الإلكتروني على الرابط: http://www.pma.ps/Default.aspx?tabid=340&language=ar-EG

[2]  الأونكتاد، تقرير عن المساعدة المقدمة من الأونكتاد إلى الشعب الفلسطيني: التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض الفلسطينية المحتلة، جنيف، سبتمبر 2015، ص3.

[3]  الأونكتاد، تقرير عن المساعدة المقدمة من الأونكتاد إلى الشعب الفلسطيني: التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض الفلسطينية المحتلة، جنيف، ديسمبر 2016، ص8.

[4] Ministry of Foreign Affairs of Japan, Japan’s assistance to the Palestinians https://www.mofa.go.jp/region/middle_e/palestine/index.html

[5]  وزارة المالية، تقرير العمليات المالية الشهرية، http://www.pmof.ps/pmof/internal.php?var=11&tab=01

[6]  المرجع السابق.

[7] Hady Amr & others, ENDING GAZA’S PERPETUAL CRISIS: A New U.S. Approach, Brookings Institution, December 2018,p 18.

[8]  وزارة الخارجية القطرية، 7/5/ 2019. الرابط https://www.mofa.gov.qa/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%

[9]  وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا، 7/5/2019، الرابط http://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=OGxYG4a854740816710aOGxYG4

[10]Alaa Tartir, AID AND DEVELOPMENT IN PALESTINE: ANYTHING, BUT LINEAR RELATIONSHIP. CAN AID CONTRIBUTE TO DEVELOPMENT? Birzeit University Working Paper 2012/4 (ENG) Conferences & Public Events Module..

[11] هذه المعدلات محسوبة من إحصاءات سلطة النقد الفلسطينية، على الرابط http://www.pma.ps/Default.aspx?tabid=340&language=ar-EG

12 الأونكتاد، الاقتصاد الفلسطيني: وضع سياسات الاقتصاد الكلي والتجارة في ظل الاحتلال، جنيف، 2012، ص 14،22.

[13]  وزارة التخطيط، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، أثر المساعدات الدولية على التنمية الاقتصادية في فلسطين http://www.mop.ps/ar/arabic/?action=detail&id=257

14  وزارة التخطيط، المرجع السابق.

[15]  الأونكتاد، تقرير عن المساعدة المقدمة من الأونكتاد إلى الشعب الفلسطيني، 2015، مرجع سابق، ص 4.

[16]  د. نواف أبو شمالة، انعكاسات التمويل الإنمائي الدولي على اقتصادات الدول المتلقية دراسة حالة الاقتصاد الفلسطيني، المعهد العربي للتخطيط، 2013.

[17] Shir Hever, How Much International Aid to Palestinians Ends Up in the Israeli Economy?  Aid Watch, September 2015, p 11

للتحميل اضغط هنا