مراجعة: محمود الفطافطة[*]

ساهمت المرأة الفلسطينية في صنع تاريخها مثلما ساهم التاريخ في صنعها من خلال أحداثه الجسام. وأثبتت صلابتها من خلال سعيها المستمر للتغلب على الصعاب، وأصبح عندها الخبرة والدراية للتكيف من أجل البقاء.

ورغم غزارة ما كتُب عن المرأة الفلسطينية في معظم المراحل التاريخية، ومجمل قضاياها المتشابكة والحساسة إلا أن الأدبيات حول واقع وقضايا هذه المرأة في عهد الانتداب البريطاني لفلسطين شبه نادرة، فلا نرى إلا مقتطفات صغيرة هنا وهناك تم التطرق فيها إلى دور المرأة. أما ما ورد في الدراسات والكتابات، سواء أكانت استشراقية أم غير ذلك، فلم تُشر إلى أحوال تلك المرأة، لأن ما سُجل عن تاريخ تلك الفترة هو تاريخ الرجل الفلسطيني، ولم يكن للمرأة فيه نصيبٌ يُذكر.

هذا التهميش أو الإهمال “البحثي” للمرأة الفلسطينية في عهد الانتداب خففت من مساحته وقسوته الباحثة حنان شهابي من خلال إعدادها دراسة قيمة بعنوان: (المرأة الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني)، تلك الدراسة التي أعادت للمرأة في تلك الفترة حقها من الاهتمام البحثي؛ ليطلع على واقعها وتحدياتها وآلامها وآمالها وإنجازاتها الباحثون والأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين والعرب، وغيرهم من الذين يناصرون حق المرأة، ويسعون إلى رفع مكانتها والدفاع عن قضاياها العادلة.

يتكون الكتاب من جزأين، الجزء الأول اشتمل على أربعة فصول، وهي: الواقع الاجتماعي للمرأة الفلسطينية إبان فترة الانتداب، والمرأة الفلسطينية والتعليم، ومساهمة المرأة في الحياة الثقافية، والدور السياسي للمرأة في عهد الانتداب والحركة النسائية الفلسطينية. أما الجزء الثاني فعنون بـ”رائدات متميزات من فلسطين”، واشتمل على ثلاثة فصول، هي: رائدات الصحافة والفنون التشكيلية، رائدات في الأدب، رائدات الحركة النسائية والمؤسسات النسوية.

بين هيمنة النص وخوض المعارك!

في المقدمة تبين الباحثة أن المبرر الذي دفعها لتأليف الكتاب يرجع إلى ندرة الكتابات المتعلقة بالمرأة الفلسطينية في عهد الحكم البريطاني لفلسطين الممتد من (1918ـــــ1948)، موضحة أنه رغم الإنجازات التي قدمتها المرأة في كافة المجالات في تلك المرحلة إلا أن “الهيمنة الذكورية” في تسجيل التاريخ حالت دون أن يكون لهذه المرأة نصيب من البحث والاهتمام. وتقول: “لقد آن الأوان لأن نعود إلى روايات المرأة وتجاربها ونوثقها، مثل اهتمامنا بتوثيق روايات الرجال وتجاربهم، لئلا يضيع جزء مهم من تاريخ فلسطين”. وتضيف” إن ما تهدف إليه هذه الدراسة هو أن تساهم، ولو مساهمة بسيطة في التعويض عن تقصير المؤرخين، ولتؤكد أن للمرأة الحق في إبراز دورها الذي لا يقل أهمية عن دور الرجل في صناعة التاريخ والحضارة.

وتشير الكاتبة شهابي، في تلك المقدمة، إلى أنه كان على المرأة في ذلك الوقت أن تخوض معركتين: الأولى ضد تقاليد المجتمع التي كانت تحرمها حقوقها الاجتماعية، والثانية، وهو الأهم، تتمثل في معركتها ضد عدو البلد الأساسي، ويشمل المستوطنين الصهيونيين والإدارة الإنكليزية التي حكمت فلسطين. وهي، وإن اختارت أن تؤجل المعركة الأولى لتعطي الثانية الأولوية بحكم الأوضاع، إلا أن مشاركتها السياسية أدت إلى انطلاقها الاجتماعي بالتدريج.

يبحث الفصل الأول في وضع المجتمع الفلسطيني بصورةٍ عامة، والمجتمع النسائي بصورةٍ خاصة، ويعرض صوراً للقيود الاجتماعية الخانقة التي كانت تتحكم في حياة المرأة وتعوق تقدمها، وتفاوت تأثير تلك القيود في النساء من طبقة إلى أخرى، ومن أسرة إلى أخرى، إذ تسنى لبعض النساء الانطلاق إلى العلم والعمل والمساهمة في النشاطين الاجتماعي والسياسي، أما البعض الآخر، الذي يمثل الأغلبية العظمى من النساء، فظل حبيس العادات والتقاليد.

وقد اختلف وضع المرأة الريفية عن وضع المرأة المدينية من عدة نواحٍ؛ فتميزت الأولى بديناميكيتها وعملها الشاق المتواصل في الحقل والبيت، بحيث “لا نكاد نجد أي امرأه ريفية من غير عمل، الأمر الذي جعلها تتمتع بحرية نسبية في الحركة والتنقل والاختلاط، وأكسبها مكانة مهمة في العائلة”.

التعليم.. سلاح لا يمكن التنازل عنه

ويركز الفصل الثاني على الوضع التعليمي وسياسة الانتداب التعليمية التي كانت تهدف إلى تجهيل المرأة، ويبين أوجه القصور في بناء المؤسسات التعليمية النسوية، وفقر المناهج التعليمية التي وُجهت لتلائم سياسة الانتداب التي كانت ترمي إلى توجيه الفتاة لتكون ربة منزل تكرس اهتمامها لراحة زوجها وعائلتها، من دون الاهتمام بتشجيعها على الانشغال بالقضايا العامة والعمل خارج نطاق المنزل. ويتجلى هذا القصور، أيضاً، في إهمال تعليم المرأة في الريف إهمالاً ملحوظاً بحجج متنوعة، كعدم رغبة أهل الريف في تعليم بناتهم ليعملن في المنزل أو الزراعة، أو عدم توفر الكادر التعليمي.

وتذكر الكاتبة أن حكومة الانتداب أهملت تعليم المرأة كماً ونوعاً، لإدراكها أن المرأة المتعلمة هي اللبنة الأساسية لنهوض المجتمع. فكانت مدارس الإناث الحكومية محدودة العدد والمناهج، ولا تهدف إلى تهيئة الفتاة لتصبح امرأة مثقفة واعية تتفهم ما يعانيه بلدها جراء مشكلتي الفقر والجهل.

ورغم ذلك، كان حب العلم مغروساً في قلوب الفلسطينيين، إذ لجأ الأهالي إلى إرسال عدد لا يُستهان به من بناتهم إلى المدارس الخاصة، ومدارس الارساليات الأجنبية التي أُسست أولها سنة 1848. ونتيجة لهذا الاهتمام برزت شخصيات نسائية فذة في مجالات التدريس والطب والإدارة. ومن الملاحظ (وفق الكتاب) أن الفتاة المسيحية كانت المبادرة إلى العلم والعمل، نظراً إلى انطلاقها من بيئة متحررة نسبياً. وتلتها الفتاة المسلمة من طبقة النخبة التي لاقت التشجيع من أفراد أسرتها، بينما بقيت الفتاة المسلمة من الطبقة الوسطى تعاني القمع والجهل.

مثقفات رغم الفقر والتهميش!

وينتقل الفصل الثالث من الكتاب إلى البحث في بدء نهوض الحياة الثقافية في فلسطين ومدى استفادة المرأة في المدن من جو الانفتاح وبدء مساهمتها في مختلف المجالات الثقافية، إذ استطاعت المرأة الفلسطينية الاستفادة من هذا الجو الثقافي، فأخذت تتعلم، وتعمل، وتكتب الكتب، وتؤلف المسرحيات، وتؤسس المدارس، وتبدع في الفنون الشعبية المتعددة التي شكلت التراث الشعبي الفلسطيني، بما فيه من أغانٍ وموسيقى ومهارات يدوية متنوعة.

التطور الثقافي هذا تجلى بظهور الإعلاميات والأديبات والتربويات والفنانات اللواتي حظين بمكانة اجتماعية مرموقة، الأمر الذي أثار إعجاب كثيرات من الفتيات اللواتي اعتبرنهن مثالاً يُحتذى. وكان الهمّ الوطني هو الموضوع الأبرز في أعمال هذه المجموعة من المثقفات، وربما كان هذا دافعهن إلى الإبداع، فكرسن نشاطهن في سبيل تخليص وطنهن من همه الأكبر، وهو المحاولة الصهيونية للاستيلاء عليه. وقد ساهمت الصحافة مساهمة فعالة في إبراز أهمية دور المرأة المتعلمة في تنوير المجتمع وتوجيهه إلى مستقبل أفضل.

ومما يدلل على مكانة الصحافة وأهميتها في تطوير الوعي الثقافي للمرأة صدور 161 ما بين الجرائد والمجلات والمطبوعات خلال الفترة 1911ـــــ1948، إلى جانب عشرات المكتبات لبيع الكتب المتنوعة لكتاب عالميين وفلسطينيين، وكان الطلب عليها كبيراً. ومن الكتب المشهورة التي ظهرت في ذلك الوقت، كتاب “المرأة العربية والقضية الفلسطينية” لمتيل مغنم، وكتاب “يقظة العرب” لجورج انطونيوس، وقد كانا مطلوبين في فلسطين وإنكلترا والولايات المتحدة وغيرها.

السياسة.. إدمان لا شفاء منه!

وفي الفصل الرابع تطرقت الكاتبة إلى الحديث عن الدور السياسي للمرأة، سواء أكان منظماً من خلال الحركة النسائية الفلسطينية، أم غير منظم من خلال نضال المرأة الفردي والعفوي في الريف والمدينة. وتوضح الكاتبة أنه لا عجب من أن تكون الصلة بين المرأة الفلسطينية والوضع السياسي في فلسطين دائماً وثيقة، لتصبح من أكثر نساء العالم انغماسا في السياسة، وأن تكون قضية الاستقلال الوطني على جدول أولوياتها. أما قضايا حقوق المرأة ونضالها من أجل التحرر والمساواة، فقد طُرحت كرافد من روافد السياسة بحيث تحققها من خلال مشاركتها النضالية. وجاء انخراط المرأة في ساحة الصراع السياسي بدافع من حسها الوطني وشعورها بالمسؤولية تجاه شعبها، فدافعت عن الأرض وحافظت على ثقة البلد الأصلية، وعلى تراثها الوطني من الاندثار والتدمير.

ويبحث هذا الفصل في اختلاف نوعية النضال الوطني للمرأة في الريف عن نضال المرأة في المدينة، فكان نضال المرأة الريفية مشهوداً، فاشتركت نساء القرى في المقاومة المسلحة، وقدمن الدعم المادي والمعنوي للثوار، الأمر الذي كان له أبلغ الأثر في استمرار الثورة. وتؤكد الباحثة أنه “لا يمكننا فهم الحركة النسائية في أثناء الانتداب إلا من خلال دراسة القوى المؤثرة التي فرضت على المرأة أن تخوض تجارب فردية وجماعية شكلت حياتها في تلك الفترة”.

هذا التأثير في مسيرة المرأة الفلسطينية طوال فترة الانتداب تأثر بثلاثة عوامل رئيسة: أولها المجتمع الفلسطيني وتقاليده وطبيعة تكوينه؛ وثانيها القضية الوطنية الفلسطينية وملابساتها؛ وثالثها سلطة الانتداب التي كانت تحكم البلد، تلك السلطة التي كانت من أهم القوى التي توجب على المرأة التعامل معها، لأنها عملت من ناحية على فرض سياستها المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني ومهدت لبناء وطن قومي لليهود في فلسطين، ومن ناحية أخرى، أهملت التعامل مع وضع المرأة المتردي وتجاهلته تجاهلاً تاماً. ورغم ذلك، ظهرت مجموعة من النساء الرائدات من الفئة المثقفة اللواتي استفدن من التغير الاجتماعي، الذي بدأ قبل فترة الانتداب وبعدها، ووضعن حجر الأساس لتشكيل الحركة النسائية الفلسطينية.

ومما هو جدير ذكره في هذا السياق، أن الحركة النسائية عمدت إلى البعد عن الانشقاقات والتحزبات التي رافقت مسيرة القيادة الوطنية من الرجال. وظلت النساء يعملن معاً ضمن الاتحادات النسائية على الرغم من الخلافات بين أزواجهن وأقاربهن، الأمر الذي يشير إلى أنهن كن أكثر وعياً وحرصاً على الوحدة الوطنية.

سير مشرقة واقتداء متواصل

إلى ذلك، خصصت المؤلفة الجزء الثاني من كتابها لترجمة حياة بعض النساء الفلسطينيات اللواتي سطرن صفحات مشرفة في تاريخ فلسطين، وقد ظهر العديد منهن منذ بداية القرن العشرين وتركن بصمات واضحة في مجالات شتى، وقد اشتركن جميعاً في تسجيل رواية الشعب الفلسطيني النضالية وعملن جاهدات لإيصال رسالتهن النبيلة التي كان همها المشترك رفع المعاناة عن وطنهن وتخليصه من كابوس الاحتلال، وأيضاً تخفيف آلام ومعاناة الطبقات الفقيرة والبائسة من الشعب، فكن مصدر إلهام لمن خلفهن من النساء.

ومن أبرز النساء الرائدات اللواتي تطرقت لهن الباحثة: في الصحافة والفنون التشكيلية: ساذج نصار، وماري شحادة، وفايزة عبد المجيد. وفي الفن التشكيلي: زلفى السعدي، وصوفي حلبي، وكريمة عبود. وفي الأدب: كلثوم عودة، وعنبرة سلام الخالدي، وأسمى طوبى، وفدوى طوقان، وسميرة عزام، ونجوى قعوار. وفي الحركة النسائية: زليخة الشهابي، وعندليب العمد، وعصام الحسيني. وفي بناء المؤسسات التربوية الخيرية: نبيهة ناصر، وإليزابيث ناصر، وهند طاهر الحسيني.

الكتاب بين التميز والمثالب

يُعتبر هذا الكتاب الأول من نوعه الذي يرصد ويحلل واقع وتحديات وإنجازات المرأة الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني لفلسطين. ونظراً لهذه الميزة، فإن الكتاب يشكل مرجعاً ضرورياً للباحثين والمهتمين بقضايا المرأة الفلسطينية عموماً، وواقعها في العهد الانتدابي لفلسطين على وجه الخصوص.

ومما يمنح الكتاب أهمية مضاعفة اتباع الباحثة منهجاً علمياً دقيقاً وواضحاً، إذ اعتمد هذا البحث على مصادر متعددة، منها الصحافة الفلسطينية التي كانت تتناول نشاطات المرأة وتدعمها كجرائد “فلسطين” و”الدفاع” و”الكرمل” و”مرآة الشرق”، والتي خصص بعضها صفحات لنشاطات المرأة وابداعاتها، وكذلك على كتب السيرة الذاتية لعدد من الرائدات الفلسطينيات ممن عشن وساهمن في أحداث تلك الفترة، اضافة إلى المجلات السياسية والاجتماعية، والوثائق الرسمية الفلسطينية، ووثائق الجمعيات النسائية الفلسطينية، والمقابلات الشخصية، فضلاً عن العديد من الكتب والمراجع المتوفرة في المكتبات.

ولم يكن من السهل ترتيب المقابلات الشخصية المفيدة نظراً إلى أن السيدات الناشطات في تلك الفترة قد رحلن في معظمهن، أو أصبحن في عمر يصعب فيه التذكر أو رواية الأحداث بشكلٍ مرض، وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاعت الباحثة أن تحصل على معلومات مفيدة من خلال إجراء حوار مع عدد ممن تبقى من هؤلاء الناشطات، الأمر الذي كان له أكبر أثر في إغناء البحث.

 وفي مقابل كل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن عملاً كهذا في محدودية صفحاته، لا يمكنه إلا أن يكتفي بتقديم صور ونماذج قليلة لإنجازات عدد محدود جداً من الناشطات الفلسطينيات اللواتي توفر العديد منهن على مدى زمن الانتداب، وسطرن إنجازاً رائعاً في المجالات المتعددة، وبرهن على أن نساء فلسطين كان لهن نشاط في مختلف المجالات وينفي عنهن ادعاءات صورتهن كأنهن كن يعشن على هامش التاريخ.

كذلك، فقد نجحت الباحثة في رسم صورة المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، كمجتمع حافل بالحياة بكل صخبها وأفراحها وهمومها، وفي تصوير حياة المرأة الفلسطينية بغناها، وتنوعها، وتناقضاتها، حزنها وفرحها، بساطتها وتطورها، وفوق ذلك كله شغفها ببهجة الحياة، وفي الوقت ذاته في مواجهتها واقع الأحوال التي كانت تحيط بالشعب الفلسطيني على النطاق الأوسع.

ورغم كل هذه الأهمية، فإن ما يُؤخذ على الكتاب عدم اعتماده على مصادر أجنبية أولية، وتحديداً الإنجليزية، لا سيما وأن المرحلة المبحوثة متعلقة بالانتداب الإنجليزي لفلسطين. كما أن القراءة التحليلية والنقدية لما تورده الباحثة محدودة، وأحياناً يغلب عليها الانحياز للمرأة على حساب الرجل، علاوة على وجود فصول أوسع حجماً من فصول أخرى.

خلاصة القول: نأمل أن يكون هذا الكتاب بمثابة “نصب تذكاري” لتصميم المرأة الفلسطينية وإصرارها على البقاء والنجاح على الرغم من الأوضاع بالغة الصعوبة التي واجهتها على كل المستويات، ولربما تتحول تلك التجارب التي خاضها العديد من الناشطات الفلسطينيات لتكون مصدر إلهام لأجيالٍ من الفتيات والفتيان الفلسطينيين والعرب، ولكل من يؤمن بالحرية والعدالة والكرامة الوطنية.

[*] باحث فلسطيني، مقيم في رام الله.